وقالَ القرطبيُّ: (لأنَّ فيهِ تسفيهَ الحقِّ سبحانَهُ، وأنَّهُ أنعمَ علَى مَن لا يَستحقُّ).
والحسَّادُ أضرابٌ:
1 - فمن الحسَّادِ مَن يسعَى لزوالِ النِّعمةِ عن المحسودِ، وذلك بالبَغْيِ عليهِ بالقولِ أو الفعلِ، ثمَّ يسعَى لنقلِ ذلك لنفسِهِ.
2 - ومنهم مَن يسعَى لزوالِ النِّعمةِ عن المحسودِ بقولِهِ وفعلِهِ مَن غيرِ نقلِهَا إلَى نفسِهِ، وهذا مِن أخبثِهِمَا.
3 - ومنهم مَن إذا حسدَ أخاهُ لم يعملْ بمقتضَى حسدِهِ ولم يبغِ علَى المحسودِ بقولٍ أو فعلٍ، وهذا له حالتانِ:
أ - أن يكونَ مغلوبًا علَى أمرِهِ في هذا الدَّاءِ، وهذا لا يأثَمُ.
ب - أن يحدِّثَ نفسَهُ بالحسدِ اختيارًا ويكونَ مُسْتَرْوِحًا بذلك، دونَ أن يُحاسِبَ نفسَهُ ويُؤَنِّبَهَا علَى ذلك، وهل يعاقَبُ علَى ذلكَ؟ فيهِ خلافٌ بينَ أهلِ العلمِ، فمنهُمْ مَن يَرَى أنَّهُ يأثمُ، ومنهم مَن لا يَرَى ذلِكَ.
4 - وبعضُهُم إذا وجدَ في نفسِهِ الحسدَ اجتهدَ علَى إزالتِهِ وأحسنَ للمحسودِ بإظهارِ فضائلِهِ أمامَ الآخرينَ، ودعَا له في ظهرِ الغيبِ، فهذا فعلٌ محمودٌ وهو دَلالةٌ علَى الإيمانِ.
الحسدُ خُلقُ أهلِ الكتابِ:
قالَ تَعالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}.
فأهلُ الكتابِ مِن يهودٍ ونصارَى يتمنَّوْنَ أن نرتدَّ عن إسلامِنَا مع علمِهِم بأنَّهُ الدِّينُ الحقُّ، ويثيرونَ الشُّبهاتِ الواهيَةَ لصدِّ النَّاسِ عن مَنهجِ اللهِ، ويُؤَلِّبونَ سلاطينَ الأرضِ علَى النَّيْلِ مَن دعاةِ الإسلامِ في مختلَفِ أقطارِ المسلمينَ، والسَّببُ في ذلك الحسدُ الَّذي تَغَلْغَلَ في سُوَيْدَاءِ قلوبِهِم المريضةِ.
وقالَ تَعالَى:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ}.
والمقصودُ بهم اليهودُ، حسدُوا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَى ما مُنَّ عليهِ به مِن الرِّسالةِ وغيرِهَا، وحسدُوا أصحابَهُ علَى الإيمانِ بهِ.
قالَ ابنُ عبَّاسٍ ومجاهِدٌ وغيرُهُمَا: (حسدُوهُ علَى النُّبوَّةِ، وأصحابَهُ علَى الإيمانِ بهِ).
ولا زالَ أبناءُ القردَةِ والخنازيرِ وأذنابُهُم يسعَوْنَ في الصّدِّ عن منهجِ اللهِ بقولِهِم وبفعلِهِم، وذلك بسببِ الحسدِ الَّذي سوَّدَ قلوبَهُمْ فأعمَاهَا عن الحقِّ.
الحسدُ يَقْضِي علَى أقوَى الرَّوابطِ:
حسدَ أبناءُ يعقوبَ أخاهم يوسفَ عليهِ السَّلامُ، وكانوا سببًا فيما تعرَّضَ إليهِ مَن محنٍ ومصائبَ.
فألقُوهُ في غيابةِ الجبِّ وعرَّضُوهُ للرِّقِّ ثمَّ السِّجنِ، والسَّببُ في ذلك حسدُوهُ علَى محبَّةِ يعقوبَ لهُ.
قالَ تَعالَى: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ قالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}.
كما أخبرَنَا سبحانَهُ بأنَّ الأخَ قتلَ أخاهُ، والسَّببُ في ذلك الحسدُ، كيفَ يَقبلُ اللهُ منه قربانًا ولم يتقبَّلْ منْهُ؟
قالَ تَعالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قالَ لأََقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَِقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
قالَ الحافظُ ابنُ كثيرٍ في تفسيرِ هذه الآياتِ الكريماتِ:
يقولُ تَعالَى مُبَيِّنًا وخيمَ عاقبةِ البغيِ والحسدِ والظُّلمِ في خبر ابنيْ آدمَ لصُلبِهِ - في قولِ الجمهورِ - وهما: هابيلُ وقابيلُ، كيفَ عدا أحدُهُمَا علَى الآخرِ، فقتلَهُ بَغْيًا عليهِ وحسدًا له، فيما وهبَهُ اللهُ مِن النِّعمةِ وتقبُّلِ القربانِ الَّذي أخلصَ فيهِ للهِ عزَّ وجلَّ، ففازَ المقتولُ بوضعِ الآثامِ والدُّخولِ إلَى الجنَّةِ، وخابَ القاتلُ ورجعَ بالصَّفقةِ الخاسرةِ في الدُّنيا والآخرةِ.
قالَ تَعالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} أيْ: واقصُصْ علَى هؤلاءِ البُغاةِ الحسدَةِ، إخوانِ الخنازيرِ والقردةِ - مِن اليهودِ وأمثالِهِم وأشباهِهِم - خبرَ ابنيْ آدمَ، وهما هابيلُ وقابيلُ فيما ذكرَ غيرُ واحدٍ مَن السَّلفِ والخلفِ.
وكانَ مِن خبرِهِمَا فيما ذكرَهُ غيرُ واحدٍ مَن السَّلفِ والخلفِ: أنَّ اللهَ تعالَى كانَ قدْ شرَعَ لآدمَ عليهِ السَّلامُ أن يزوِّجَ بناتِهِ مَن بنيهِ لضرورةِ الحالِ، ولكنْ قَالُوا كان يولَدُ له في كلِّ بطنٍ ذكرٌ وأنثَى، فكانَ يزوِّجُ أنثَى هذا البطنِ لذكرِ البطنِ الآخرِ، وكانت أختُ هابيلَ دميمةً، وأختُ قابيلَ وَضيئةً، فأرادَ أن يستأثرَ بها علَى أخيهِ، فأبَى آدمُ ذلك إلاَّ أن يُقرِّبَا قُربانًا، فمَن تُقُبِّلَ منه فهي له، فقرَّبَا فتُقُبِّلَ مِن هابيلَ ولم يُتقبَّلْ مِن قابيلَ، فكانَ مِن أمرِهِمَا ما قصَّ اللهُ في كتابِهِ.
هذه عاقبةُ الحسدِ عندمَا يَتغلغلُ في القلوبِ يؤدِّي إلَى تمزيقِ أقوَى الرَّوابطِ بينَ البشرِ، لذلك حذَّرَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمَّتَهُ مِن هذا الدَّاءِ الخبيثِ لأنَّهُ يُفَرِّقُ الجمْعَ، ويَنشرُ الشَّحناءَ والبغضاءَ بينَ الأمَّةِ، وهذا يُؤدِّي إلَى التَّفَرُّقِ والشَّتاتِ والضَّعْفِ والانهيارِ.
لذلك قالُوا: أوَّلُ ذنبٍ عُصِيَ اللهُ به في الأرضِ الحسدُ حينَ حَسدَ قابيلُ أخاهُ هابيلَ.
الحسدُ صَدَّ إبليسَ عن الإيمانِ باللهِ عزَّ وجلَّ، فهو حسدَ آدمَ عليهِ السَّلامُ علَى ما أَنْعَمَ اللهُ عزَّ وجلَّ عليهِ وسعَى لإِزالةِ هذه النّعمةِ منه، ووصلَ إلَى مرادِهِ وتسبَّبَ في شقاءِ ذريَّتِهِ، عليهِ لعنةُ اللهِ إلَى يومِ الدِّينِ.
قالَ تَعالَى:{إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}.
لذلِكَ قالُوا: الحسدُ أوَّلُ ذنبٍ عُصِيَ اللهُ بهِ في السَّماءِ وذلك حينَ حسدَ إبليسُ آدمَ عليهِ السَّلامُ.
فضلُ مَن زكَتْ نفسُهُ مَن الحسدِ:
عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: كنَّا جلوسًا معَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: ((يَطْلُعُ الآنَ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ))، فطلعَ رجلٌ مَن الأنصارِ تَنْطُفُ لحيتُهُ مَن وضوئِهِ قد علَّقَ نعليهِ بيدِهِ الشِّمالِ، فلمَّا كانَ الغدُ قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلَ ذلك، فطلعَ ذلك الرَّجلُ مثلَ المرَّةِ الأولَى، فلمَّا كانَ اليومُ الثَّالثُ قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلَ مقالَتِهِ أيضًا، فطلَعَ ذلك الرَّجلُ علَى مثلِ حالِهِ الأوَّلِ، فلمَّا قامَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو، فقالَ: إنِّي لاحَيْتُ أبي، فأَقْسَمْتُ أنِّي لا أَدْخُلُ عليهِ ثلاثًا، فإن رأيْتَ أن تُؤْوِيَنِي إليك حتَّى تَمْضِيَ فعلْتَ.
قالَ: نعم، قالَ أنسٌ: فكانَ عبدُ اللهِ يحدِّثُ أنَّهُ باتَ معهُ تلك الثَّلاثَ اللياليَ فلم يرَهُ يقومُ مَن الليلِ شيئًا، غيرَ أنَّهُ إذا تعارَّ تقلَّبَ علَى فراشِهِ ذكرَ اللهَ عزَّ وجلَّ وكبَّرَ حتَّى صلاةِ الفجرِ، قالَ عبدُ اللهِ: غيرَ أنِّي لم أَسْمَعْهُ يقولُ إلاَّ خيرًا، فلمَّا مَضَتِ الثَّلاثُ الليالي وَكِدْتُ أن أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ، قلتُ: يا عبدَ اللهِ، لم يكنْ بينِي وبينَ أبي غَضَبٌ ولا هجرَةٌ، ولكنْ سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ لك ثلاثَ مرَّاتٍ: ((يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ))، فطلعْتَ أنت الثَّلاثَ مرَّاتٍ، فأَرَدْتُ أنْ آوِيَ إليكَ فأَنْظُرَ ما عَمَلُكَ، فأقتديَ بكَ، فلم أرَكَ عَمِلْتَ كبيرَ عملٍ، فما الَّذي بلغَ بك ما قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالَ: ما هو إلاَّ ما رأيْتَ، فلمَّا ولَّيْتُ دعاني فقالَ: ما هو إلاَّ ما رأيْتَ، غيرَ أنِّي لا أجدُ في نفسِي لأحدٍ مَن المسلمينَ غِشًّا، ولا أَحْسُدُ أحدًا علَى خيرٍ أعطاهُ اللهُ إيَّاهُ، فقالَ عبدُ اللهِ: هذه الَّتي بلغَتْ بكَ.
ففي الحديثِ دَلالةٌ علَى فضلِ مَن زَكَتْ نفسُهُ مِن الحسدِ، وهذا السَّببُ في تبشيرِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الصَّحابيِّ الجليلِ بالجنَّةِ.
الحسدُ المحمودُ: أن يَتمنَّى المسلمُ ما منَّ اللهُ به علَى أخيهِ مِن نعمةٍ مِن غيرِ تمنِّي زوالِهَا عنْهُ، وهذا يُعرَفُ بالغبطةِ، ولعلَّهُ يندرجُ تحتَ بابِ المنافسةِ، قالَ تَعالَى: {وَفِي ذلِكِ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}.
وهذا النَّوعُ مِن الحسدِ مشروعٌ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ حَسَدَ إلاَّ في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتاهُ اللهُ القرآنَ فهو يتلُوهُ آناءَ الليلِ وآناءَ النَّهارِ، ورجلٍ آتاهُ اللهُ مالاً فهو يُنفقُهُ آناءَ الليلِ وآناءَ النَّهارِ)).
(2) النَّجشُ: قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلاَ تَنَاجَشـُوا))، ذهبَ جمعٌ مَن أهلِ العلمِ إلَى تفسيرِهِ بالنَّجشِ في البيعِ، وهو: أن تُعرضَ السِّلعةُ في السُّوقِ فيزيدُ في سعرِهَا مَن لا يُريدُ شراءَهَا، وإنَّمَا قَصدَ بذلك نفعَ البائعِ وضرَّ المشترِي بزيادةِ الثَّمنِ، وهذا حرامٌ.
ثَبَتَ في (الصَّحيحين): أَنـَّهُ نَهَى عَنِ النَّجشِ.
وقالَ ابنُ أبي أَوْفَى: النَّاجِشُ: آكلُ ربًا خائنٌ.
وقالَ ابنُ عبدِ البرِّ: أَجْمَعُوا علَى أنَّ فاعلَهُ عاصٍ للهِ.
واخْتَلَفُوا في حكمِ البيعِ، فمنهُمْ مَن قالَ بفسادِهِ.
ومنهم مَنْ قالَ بصحَّةِ البيعِ، وهذا ما عليهِ أكثرُ الفقهاءِ، كأبي حنيفةَ، ومالكٍ، والشَّافعيِّ، وأحمدَ في روايَةٍ عنه.
-ومِن الفقهاءِ مَن فسَّرَ النَّجشَ بأعمَّ مِن ذلك؛ لأنَّ أصلَ النَّجشِ إثارةُ الشَّيءِ بالمكرِ والحيلةِ والمخادَعَةِ، ولهذا سُمِّيَ النَّاجشُ في البيعِ بهذا، وكما يُسَمَّى الصَّيَّادُ باللغةِ ناجشًا لأنَّهُ يَصيدُ بحيلةٍ وخِداعٍ.
فمعنَى قولِهِ عندَ هؤلاء ((وَلاَ تَنَاجـَشـُوا)): أي لا تَخْدَعـُوا بعضـَكم، ولا يَخْتـَلْ بعضُكُم بعضًا بالمكرِ والاحتيالِ.
وهذا الفهمُ تَشهدُ له نصوصٌ أُخرَى، منها قولُهُ: ((مَنْ غَشـَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا)).
وقولـُهُ عزَّ وجلَّ:{وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ}.
فمَن مكرَ بإخوانِهِ فعاقبةُ مكرِهِ وخداعِهِ سوفَ تنزلُ به، وممَّا قيلَ قديمًا: (مَن حفرَ لأخيهِ حفرةً وقعَ فيها).
وقالَ القرطبيُّ معقِّبًا علَى هذه الآيَةِ: (وفي هذا أبلغُ تحذيرٍ مِن التَّخلُّقِ بهذه الأخلاقِ الذَّميمةِ).
ولكنْ ممَّا يَنْبَغِي التَّنبيهُ عليهِ أنَّ المكرَ والخداعَ في الكفَّارِ المخادِعِينَ للهِ ولرسولِهِ وللمؤمنينَ يجوزُ ولا حرجَ علَى المؤمنينَ في ذلك، ويشهدُ لذلك قولُهُ عليهِ السَّلامُ: ((الْحَرْبُ خُدْعَةٌ)).
(3) البغضاءُ:
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلاَ تَبَاغَضـُوا))، نُهِينَا أن نَقعَ بأسبابِ التَّباغضِ؛ لأنَّهُ نقيضُ الحبِّ الَّذي أمرَنَا الإسلامُ بهِ، وهو لغيرِ اللهِ عزَّ وجلَّ يكونُ حرامًا.
- حرَّمَ الإسلامُ كلَّ ما يُفضِي إلَى البغضاءِ، قالَ تعالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وفي الآيَةِ دليلٌ علَى أنَّ كلَّ ما ينشرُ البغضاءَ بينَ المسلمينَ حرامٌ، كما حرَّمَ الغيبةَ والنَّميمةَ والظُّلمَ والغشَّ؛ لأنَّ كلَّ هذا يعكِّرُ صفوَ الأخوَّةِ، وينشرُ الشَّحناءَ والبغضاءَ بين المسلمينَ، وأمرَ بكلِّ ما يفضِي إلَى المحبَّةِ، بل رخَّصَ في الكذبِ عندَ الإصلاحِ بينَ النَّاسِ.
انتشارُ المحبَّةِ والألفةِ بينَ المسلمينَ نعمةٌ عظيمةٌ، لذلك ذكَّرَ اللهُ رسولَهُ والمؤمنينَ بهذه النِّعمةِ حتَّى يقومُوا بشكرِهَا ويستقيموا عليها، قالَ تَعالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}.
وقالَ: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}.
البُغضُ في اللهِ لا يدخلُ في النَّهيِ الواردِ في الحديثِ؛ لأنَّهُ مِن أوثقِ عرَى الإيمانِ أن يَبْغضَ المؤمنُ أعداءَ اللهِ ورسولِهِ المعادينَ لدينِهِ، وأن يبغضَ الظَّلَمَةَ والفسَقَةَ علَى قدرِ فسوقِهِم وظلمِهِم، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَحَبَّ للهِ، وَأَبْغَضَ للهِ، وَأَعْطَى للهِ، وَمَنَعَ للهِ؛ فَقَد اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ)).
(4) التَّدابرُ:
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلاَ تَدَابَرُوا)).
قالَ أبو عبيدَةَ: التَّدابرُ: المصادَمةُ والْهُجرانُ، مأخوذٌ مِن أن يولِّيَ الرَّجلُ صاحبَهُ دُبُرَهُ، ويُعْرِضَ عنه بوجهِهِ، وهو التَّقاطُعُ.
والتَّدابرُ مِن أَجْلِ الدُّنيا واتِّباعِ حظوظِ النَّفسِ والهوَى لا يَحِلُّ للمسلمِ أن يَهْجُرَ أخاهُ فوقَ ثلاثةِ أيَّامٍ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ)).
أمَّا الهجرانُ مِن أجلِ الدِّينِ فيجوزُ أكثرَ مِن ثلاثةِ أيَّامٍ، نصَّ عليهِ الإمامُ أحمدُ رحمَهُ اللهُ، والحجَّةُ في ذلك قصَّةُ الثَّلاثةِ الَّذينَ خُلِّفُوا وهم: كعبُ بنُ مالكٍ، وهلالُ بنُ أميَةَ، ومُرارةُ بنُ الرَّبيعِ العُمَرِيُّ.
وهجرَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نساءَهُ شهرًا.
وذكرَ الْخَطَّابِيُّ أنَّ هجرانَ الوالدِ لولدِهِ والزَّوجِ لزوجتِهِ، وما كان في معنَى ذلك تأديبًا تجوزُ الزِّيادةُ فيهِ علَى الثَّلاثَةِ أيَّامٍ.
(5) البيعُ علَى البيعِ:
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلاَ يَبـِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ)).
قالَ النَّوويُّ في شرحِهِ للحديثِ: أنْ يَبيعَ أحدُ النَّاسِ سلعةً مِن السِّلَعِ بشرطِ الخيارِ للمشترِي، فيجيءُ آخرُ يَعْرِضُ علَى هذا أن يَفسخَ العقدَ ليَبيعَهُ مثلَ ما اشتراهُ بثَمنٍ أقلَّ.
وصورةُ الشِّراءِ علَى شراءِ الآخَرِ أن يكونَ الخيارُ للبائعِ، فيَعرضُ عليهِ بعضُ النَّاسِ فَسْخَ العقدِ علَى أن يشتريَ منه ما باعَهُ بثمنٍ أعلَى، وهذا الصَّنيعُ في حالةِ البيعِ أو الشِّراءِ صنيعٌ آثمٌ، منهيٌّ عنه، ولكنْ لو أقدَمَ عليهِ بعضُ النَّاسِ وباعَ أو اشترَى يَنعقدُ البيعُ والشِّراءُ عندَ الشَّافعيَّةِ وأبي حنيفةَ، وآخرين مِن الفقهاءِ.
والنَّهيُ هنا علَى الصَّحيحِ للتَّحريمِ وليسَ للتَّنزيهِ، والحكمةُ في التَّحريمِ لوجودِ الإضرارِ والإيذاءِ، ولِمَا يُؤَدِّي ذلك لنَشْرِ البَغضاءِ والشَّحناءِ بينَ المسلمينَ.
(6) الأخوَّةُ:
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا))، يأمرُنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن نكونَ إخوةً متحابِّينَ، وعبيدًا للهِ، مجتنبِينَ ما نهانَا اللهُ عنه مِن حسدٍ وتباغضٍ وتدابرٍ وبيعٍ علَى بعضِنَا البعضِ، ممتثلينَ ما أمرَنَا به مِن الأخذِ بالأسبابِ الَّتي توثِّقُ عرَى الأخوَّةِ والمحبَّةِ، مِن تزاورٍ، وتهادٍ، وإفشاءِ السَّلامِ، والقيامِ بأداءِ حقوقِ بعضِنَا البعضِ.
حقوقُ أخوَّةِ الإسلامِ:
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ: لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَكْذِبُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ))، يُبيِّنُ لنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهمَّ حقوقِ أخوَّةِ الإسلامِ:
1 - يَحْرُمُ علَى المسلمِ أن يظلمَ أخاهُ بأيِّ نوعٍ مِن الظُّلمِ سواءٌ بيدِهِ، أو مالِهِ، أو عرضِهِ، وسبقَ الكلامُ عن حرمةِ الظُّلمِ أثناءَ شرحِ الحديثِ الرَّابعِ والعشرينَ.
2 - يَحْرُمُ علَى المسلمِ أن يخذلَ أخاهُ وهو يقدرُ علَى نصرتِهِ، قالَ تعالَى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}، وقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا))، قالُوا: يا رسولَ اللهِ، هذا ننصرُهُ مَظلومًا، فكيف نَنصرُهُ ظالمًا؟! قالَ: ((تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ)).
3 - الصِّدقُ مع المسلمِ في الحديثِ؛ لأنَّ الصِّدقَ شعارُ المتَّقينَ، وهو طريقُ البرِّ وهو يهدِي إلَى دارِ السَّلامِ، فلا يحلُّ للمسلمِ أن يحدِّثَ أخاهُ حديثًا هو مصدِّقٌ له وهو كاذبٌ عليهِ.
4 - لا يحلُّ للمسلمِ أن يَحتقرَ أخاهُ فيقلِّلَ مِن شأنِهِ؛ لأنَّ المسلمَ له قيمةٌ عندَ اللهِ مهما كانَ أصلُهُ أو وضعُهُ الماديُّ، واحتقارُ المسلمِ ذنبٌ عظيمٌ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ))، واحتقارُ المسلمينَ علامةُ المتكبِّرِ المذمومِ عندَ اللهِ ورسولِهِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ)).
(7) التَّقوَى:
التَّقوَى: اجتنابُ غضبِ اللهِ وعقابِهِ بامتثالِ أوامرِهِ واجتنابِ نواهيهِ، وهو الميزانُ الَّذي يَتفاضَلُ به النَّاسُ عندَ اللهِ تعالَى، قالَ تَعالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}.
ومَقَرُّ التَّقوَى القلبُ، قالَ تَعالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ وَلاَ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ)). وإذا كان مقرُّ التَّقوَى القلبَ فلا يطَّلعُ علَى حقيقتِهَا إلاَّ عَلاَّمُ الغيوبِ، قالَ تَعالَى: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}.
(8) حُرمةُ المسلمِ: جَعَلَ الإسلامُ لدماءِ المسلمينَ وأعراضِهِم وأموالِهِم حُرمةً، ووَضعَ مِن التَّشريعاتِ ما يَضمَنُ لهم هذه الحقوقَ الأساسيَّةَ لقيامِ المجتمَعِ الآمِنِ، لذلك كثيرًا ما يُكرِّرُ وَعْظَهُ بِحُرمةِ الدَّمِ والمالِ والعِرضِ في الْمَجَامِعِ العامَّةِ العظيمةِ؛ وذلك لأهمِّيَّتِهَا، خَطَبَ بها في يومِ عَرفةَ، ويومِ النَّحرِ، واليومِ الثَّاني مِن أيَّامِ التَّشريقِ.
فوائدُ مِن الحديثِ:
1 - فيهِ الإشارةِ إلَى عظمِ القلبِ؛ لأنَّهُ مَنبعُ خوفِ اللهِ وخشيتِهِ.
2 - التَّقوَى والنِّيَّةُ الصَّالحةُ هو المقياسُ الَّذِي يَزِنُ اللهُ به عبادَهُ ويحكُمُ عليهِمْ بِمُقتضَاهُ.
3 - الإسلامُ: عقيدةٌ، وعبادةٌ، وأخلاقٌ، ومعامَلةٌ.
4 - الإسلامُ يُحاربُ الأخلاقَ الذَّميمةَ؛ وذلك لأثرِهَا السَّيِّئِ علَى المجتمَعِ الإسلاميِّ.