قال بعدها رحمه الله: "ولا نفضل أحدًا من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء".
يريد العلامة الطحاوي في هذا أن يقرر عقيدة عظيمة؛ وهي أن أفضل الناس هم الأنبياء، وأن النبي أفضل من جميع الأولياء، وأن أهل السنة والأثر والجماعة هؤلاء لا يفضلون وليا على نبي، بل كل نبي أفضل من جميع الأولياء , وأدخلها في العقيدة مع أنها مسألة تفضيل لصلتها بالنبوة وبالولاية؛ ولأنه ظهر في عصره طائفة ممن زعموا أن الولي قد يبلغ مرتبة أعظم من مرتبة النبي، وهذه الطائفة أو هذه الطائفة تشمل فئتين كبيرتين:
الفئة الأولى: الباطنية في زمنه من إخوان الصفا والإسماعيلية ومن شايعهم، وكذلك ربما دخل فيها طائفة من أهل الرفض والتشيع؛ فإنهم يفضلون بعض الأولياء على بعض الأنبياء.
والفئة الثانية من الطائفة التي تفضل الأولياء على الأنبياء: هم غلاة المتصوفة في ذلك الزمن , الذين تزعمهم الحكيم الترمذي محمد بن علي بن حسن الترمذي في كتابٍ سماه (ختم الولاية)، كما سيأتي بيانه , فأراد أن يبين مباينة أهل العقيدة الصحيحة لهذه الطائفة ولهذه الفئات جميعًا، وأننا نعتقد أن الولي مهما بلغ من الصلاح والطاعة فإنه حسنة من حسنات النبي الذي تبعه، فإنما علا مقدارُه وظهر شأنه بمتابعته للنبي، لا باستقلاله على الأنبياء جميعًا صلوات الله وسلامه.
ونذكر هنا مسائل:
المسألة الأولى:
التفضيل , تفضيل الأولياء على الأنبياء، هذا نشأ مع عقيدة عند المتصوفة ومن شابههم يعني غلاة المتصوفة، وهي ما أسموه بختم الولاية، ويعنون بختم الولاية أنه كما أن للأنبياء نبيا خاتمًا لهم , فكذلك للأولياء ولي خاتم لهم، وكما أن خاتم الأنبياء أفضل من جميع الأنبياء، فكذلك خاتم الأولياء هو أفضل من جميع الأولياء.
وعقيدة ختم الولاية ذكرها الحكيم الترمذي في كتابٍ سماه (ختم الولاية)، قد طبعت منتخبات منه قديمًا، وأسس فيها القول بأن الأولياء يختمون، وأن الولي في باطنه قد يبلغ مقامًا يتلقَّى فيه من الله جل وعلا مباشرة، وأن الولي قد يكون أفضل من النبي. وهذه لم ينص عليها ولكنها تفهم من فحوى كلامه , ولا شك أنه غلط في ذلك غلطًا فاحشًا، وإن كان هو من أهل العناية بالحديث كرواية ومن أهل الخير والصلاح كما وصفه بذلك ابن تيمية، لكنه غلط في هذه البدعة الكبرى التي ابتدعها في الأمة.
والشرور التي حدثت من القول بوحدة الوجود وتفضيل الولي على النبي، والاستقاء من الله جل وعلا مباشرة إنما حدثت بعد هذا الكتاب , وهذه النظرية الباطلة التي تبطل شريعة محمد عليه الصلاة والسلام على الحقيقة , وهذا لم يختص به الحكيم الترمذي، بل تبعه عليه أناس منهم ابن عربي في كتابه (الفصوص)، وفي كتابة (الفتوحات المكية)، ومنهم محمد بن عثمان المرغني السوداني الذي له طريقة معروفة عند أهل السودان، الطريقة الختمية، ومنهم التيجاني , هؤلاء كانوا في القرن الثالث عشر، وهو صرح، المرغني صرح في كتابه (تاج التفاسير)، صرح بهذا، بهذه العقيدة , ومنهم التيجاني عند أهل المغرب فيما يعتقدون فيه ووصف به، هؤلاء يعتقدون أن الولاية تختم، لكن ادعى ابن عربي أنه هو الذي ختم الأولياء، وادعى المرغني أنه هو الذي ختم الأولياء , وادعى أيضًا التيجاني أنه هو الذي ختم الأولياء.
المسألة الثانية:
عقيدة ختم الولاية، أو ختم الأولياء مبنية على ثلاثة أشياء:
الأول: أن النبي إنما أتى بشريعة ظاهرة , والولي جاء خاتم الأولياء، جاء بشريعة باطنة، فخاتم الأولياء في الظاهر مع النبي وفي الباطن مستقل عن النبي، لهذا يقولون: إن الأنبياء راعوا الظاهر واهتموا بالعبادات الظاهرة، وخاتم الأولياء وصفوة الأولياء اهتموا بالأخذ عن الله جل وعلا , لهذا ذكر ابن عربي في كتابه (الفصوص) لما جاء إلى حديث النبي r الذي في الصحيح، أن بنيان الأنبياء تم، ولم يبق فيه إلا موضع لبنة، قال عليه الصلاة والسلام يعني قال: ((مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل من بنى بنيانًا فكمله وأحسنه، حتى لم يبق منه إلا موضع لبنة فجعل الناس يطوفون به فيقولون: لو كملت هذه اللبنة , قال: فكنت أنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)).
قال ابن عربي قبحه الله في هذا الموطن، قال: وخاتم الأولياء يرى نفسه في قصر الولاية في موضع لبنتين، لبنة فضة في الظاهر، ولبنة ذهب في الباطن، فهو يفضل النبي في الحاجة إليه؛ لأن البنيان احتاج إلى لبنتين ذاك احتاج إلى لبنة واحدة، ولبنته الظاهرة من الفضة في متابعة النبي ظاهرًا , ولبنته الذهبية في الباطن بها يأخذ من المشكاة التي تنزل الوحي على خاتم الأنبياء. يعني: يأخذ عن الله مباشرة، أو كما جاء في كلامه.
وقد كرر هذا في مواضع في (الفصوص)، وخاصة في فص واحد، يعني كرر الكلام وعبر عنه , وهذا ليس خاصا بهذا الرجل، بل كذلك من بعده ممن شرحوا أو المرغني أو التيجاني أو من شابههم، كان كل منهم يعتقد في نفسه أنه خاتم الأولياء.
الثاني: الثاني الآن من الثلاث نقاط (اللي) بنوا عليها مذهبهم , أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء؛ لأن خاتم الأنبياء يأخذ عن الله بواسطة , وخاتم الأولياء يأخذ مباشرة، ولأن خاتم الأنبياء يأخذ الناس بما يصلح ظاهرهم، وخاتم الأولياء يصلح باطنهم , ولهذا يقول مثلاً المرغني في بعض كلامه، يقول: من رآني ومن رأى من رآني إلى خمسة أجيال فإنهم محرمون عن النار؛ لما في خاتم الأولياء من النور الذي قذفه الله جل وعلا فيه، فينبعث هذا النور فيمن رآه ورأى من رآه… إلى آخره، أو كما قال. وهذه العقيدة بها جعلوا أن للولي ما يفضل به النبي والعياذ بالله.
الثالثة: في كلاهم أن الولي والنبي بينهما فرق من جهة أن النبي جاءه الوحي اختيارًا من الله جل وعلا، وأما الولي خاتم الأولياء ففاض عليه الوحي؛ لأنه استعد لذلك بتصفية باطنه، فعنده القبول والاستعداد لأن يفاض عليه، وبهذا صار خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء.
هذه ثلاث مجملات في تلخيص كلامه.
المسألة الثالثة عند كثيرين من الفئات التي تعتقد في الأولياء، أهل السنة يعتقدون في كرامات الأولياء كما سيأتي، لكن بالاعتقاد الصحيح , لكن في فئات كثيرة، مثل الباطنية والرافضة وغلاة الصوفية يعتقدون أن أفضل المقامات مقام الولي ويليه الدرجة الثانية مقام النبي، ويليه مقام الرسول، وفيها يقول قائلهم:
مقام النبوة في برزخٍ = فويق الرسول ودون الولي
(مقام النبوة في برزخ) يعني: هو في الوسط، (فويق الرسول) الرسول تحت النبي مع أن الرسول هو أفضل من النبي، النبي تحته بقليل، يقول: فويق , يعني بينهما شيء يسير، فويق الرسول، ثم ما قال، يعني قال: (ودون الولي) يعني: بينه وبين الولي مراتب , فالأعلى عندهم الولي، ثم بعده النبي، ثم الرسول.
وهذا القول في الترتيب قال به غلاة الصوفية، وكما ذكرت لك النقل عنهم، وقال به أيضًا أئمة مذهب الاثني عشرية، مثل ما ذكرت لك في أول الكلام عن قول الخميني، حيث قال: من ضروريات مذهبنا.
الضروريات معناها الشيء الذي لا يحتاج إلى استدلال، الذي يحس بأحد الحواس الخمس، يعني ما يحتاج إلى دليل ولا برهان , الشيء الضروري لا يحتاج إلى دليل وبرهان؛ لأنه محسوس، قال: من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل.
يعني أن مقام أولياء الأئمة الاثني عشر، أنهم أعلى من مقام الأنبياء.
وهذا بلا شك طعن في القرآن , وطعن في السنة , وطعن في الصحابة، وهكذا يبلغ الأمر عند من قاله؛ لأن أفضل هذه الأمة وأحق الناس بأن يكون من الأولياء أبوبكر الصديق t وأرضاه، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم العشرة المبشرون بالجنة، وهكذا , فهؤلاء هم الأولياء، وهم سادة الأولياء والأصفياء وخير الصحابة رضوان الله عليهم، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام فضل قرنه، فقد فضل أبا بكر، وقد فضل عمر، فكيف يكون واحد من هذه الأمة يأتي ويزعم أنه أفضل من الصحابة؟ ثم يزعم أنه أفضل الأولياء وخاتم الأولياء، ثم يزعم أنه أفضل من الأنبياء.
لا شك أن هذا القول من صاحبه قد يحكم بكفر صاحبه، بل حكم كثير من العلماء بكفر من قال هذه المقالة؛ لأنها قدح في القرآن وقدح في السنة، ورفع لمقام الولي وتهجين مقام النبي والرسول، ورفع خاتم الأولياء على خاتم الأنبياء. لهذا مع اختصارٍ في المقام، لهذا ذكر الطحاوي رحمه الله هذه الجملة وركز عليها، يعني في هذه العقيدة؛ لأنها بدأت في زمانه , وهي سبب الشر في افتراق الناس مع الطرق الصوفية إلى هذا الزمان، وقال: "ولا نفضل أحدًا من الأولياء على أحدٍ من الأنبياء عليهم السلام" ما فيه ولي يمكن أن يكون أفضل من نبي، بل أفضل الناس هم الأنبياء، ثم يليهم الأولياء صحابة رسول الله r وصحابة كل نبي... إلى آخره.
قال: "ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء , {الله أعلم حيث يجعل رسالته}I.