أُنْبِئْتُ أَنَّ رَسُـــولَ اللَّهِ أَوْعَـدَنِـي والعَـفْوُ عِنْـدَ رَسُـــولِ اللَّهِ مـَأْمُــولُ
هَذَا هو الغَرَضُ المَقْصُودُ مِن هذه القَصِيدَةِ، وسَائِرُها مَقْصُودٌ لِهَذَا البَيْتِ، وهو الْتِماسُ العَفْوِ، ومَا أَحْسَنَ مَا أَعَادَ " رَسُولَ اللَّهِ " في البَيْتِ مَرَّتَيْنِ، وهَذَا بَلاغَةٌ فَائِقَةٌ، وفِي ذَلِكَ فَائِدَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ أَقَامَ المُظْهَرَ مُقَامَ المُضْمَرِ للتَّفْخِيمِ والتَّعْظِيمِ، والآخَرُ: خَاصٌّ بِهَذَا المَوْضِعِ، وهو أَنَّ العَفْوَ مِن مَكَارِمِ الأَخْلاقِ ومِمَّا أُمِرَ بهِ رَسُولُ اللَّهِ –عليهِ السلامُ- في قَوْلِه تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بالعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} فَفِي التَّصْرِيحِ بقَوْلِه: " عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ " تَحْقِيقٌ لرَجَاءِ العَفْوِ، وتَوْكِيدٌ للأَمَلِ، وتَنْبِيهٌ عَنِ العِلَّةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: ولأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ فأَنْتَ أَحَقُّ بأَنْ تَعْفُوَ وتَصْفَحَ. وفيه مَعْنًى آخَرُ لَطِيفٌ، وهو أَنَّ اعْتِرَافَهُ بأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِيمَانٌ وإِسْلامٌ، وهذا أَقْوَى مُجِيبٍ لاسْتِيجَابِ العَفْوِ وتَحْقِيقِ أَمَلِهِ مِنْهُ, وَقَالَ: " عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ " ولَمْ يَقُلْ "مِن رَسُولِ اللَّهِ "؛ لأنَّ "عِنْدَ" أَدَلُّ علَى التَّعْظِيمِ والرِّيَاسَةِ.
أَوْعَدَنِي: تَهَدَّدَنِي, و الإِيعَادُ خَاصٌّ بالشَّرِّ وهو الوَعِيدُ أيضاً: وأمَّا الوَعْدُ فيَكُونُ في الخَيْرِ والشَّرِّ جَمِيعاً. والوَعْدُ يَنْبَغِي أَنْ يُنْجَزَ, ويُذَمُّ فِي الإِخْلافِ، وأمَّا الوَعِيدُ فيُسْتَحَبُّ فيهِ الإِخْلافُ ويُسَمَّى العَفْوَ.
و"أُنْبِئْتُ" مِن الأَفْعَالِ التي تَتَعَدَّى إِلَى ثَلاثَةٍ ومَفْعُولَيْنِ تَقُولُ: " أَنْبَأَ اللَّهُ زَيْداً رَسُولَ اللَّهِ مَوْعِداً "، فَلَمَّا بَنَاهُ للمَفْعُولِ أَقَامَ زَيْداً مُقَامَ الفَاعِلِ فرَفَعَهُ، وبَقِيَ المَفْعُولانِ بِحَالِهِمَا. وأَنَّ ومَعْمُولاهَا تَسُدُّ مَسَدَّ المَعْمُولَيْنِ؛ لأنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الجُمْلَةِ الخَبَرِيَّةِ التي تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مَفْعُولَيْ " أُنْبِئْتُ ". ودَخَلْتْ لتَوْكِيدِ الكَلامِ, وَمَا يَتَعَدَّى إِلَى ثَلاثَةِ مَفَاعِيلَ أَفْعَالٌ مَعْدُودَةٌ، ويَجُوزُ فِيهَا الاقْتِصَارُ عَلَى الأَوَّلِ ولا يَجُوزُ الاقْتِصَارُ عَلَى الثَّانِي ولا الثَّالِثِ؛ لأَنَّ أَحَدَهُمَا خَبَرٌ عَنِ الآخَرِ. ولا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ الثَّانِي عَلَى الأَوَّلِ، ولا أَنْ يَقُومَ مَقَامَ الفَاعِلِ غَيْرُ الأَوَّلِ، فإِنَّ الأَوَّلَ فَاعِلٌ فِي المَعْنَى وأَمَّا الثَّانِي والثَّالِثُ فَفِي مَعْنَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ؛ لأَنَّهُمَا فِي الحَقِيقَِة جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ مُنْعَضدَةٌ مِن مُبْتَدَأٍ وخَبَرٍ، ولذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُوقَعَ مَكَانَهُمَا ذَلِكَ وتَدْخُلَ عَلَيْهِمَا أَنِ المَصْدَرِيَّةُ فتَسُدَّ مَسَدَّهُمَا؛ لأَنَّهُمَا هُمَا "كَذَا". ولَقَدْ تَعَسَّفَ مَن قَدَّرَ مَفْعولاً آخَرَ مَحْذوفاً، وجَعَلَ أَنَّ ومَا بَعْدَها فِي مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثَّانِي أَوِ الأَوَّلِ في بَابِ "ظَنَنْتُ" وكَادَ أَنْ يَكُونَ اسْتِقْصاؤُهُ مُفَارِقاً للصِّنَاعَةِ.
مَهْلاً هَـدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَـافِـلَةَ الْـ قُرْآنِ فِيـهَا مَـوَاعِـيظٌ وتَفْـصِيلُ
أَخَذَ يَسْتَعْطِفُهُ،() قَوْلُه, ويُصَرِّحُ بنِعَمِ اللَّهِ عِنْدَه المُوجِبَةِ عليهِ الشُّكْرَ والعَفْوَ، ويُقِرُّ بنُزُولِ الوَحْيِ عَلَيْهِ، ويَعْتَرِفُ بالقُرْآنِ، ويَذْكُرُ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِن الوَعْظِ وتَفْصِيلِ الحَلالِ والحَرَامِ، وفِي ذَلِكَ كُلِّه إِيمَانٌ منه بالنُّبُوَّةِ والقُرْآنِ، وارْتِجَازٌ منه بوَعْظِه، وانْتِهَاءٌ إِلَى أَمْرِه، وارْتِدَاعٌ عَنْ نَهْيِه، وإِقْرَارِه بحَلالَهِ وحَرَامِه. و"مَهْلاً " مَصْدَرٌ بمَعْنَى رِفْقاً، ووَصَلَهُ بالدُّعَاءِ لَهُ تَحَنُّناً وتَعَطُّفاً وتَلَطُّفاً وتَحَبُّباً، ودَعَا لَهُ بأَحَبِّ الأَشْيَاءِ إليه –عليهِ السَّلامُ- وجَمَعَ فِي الدُّعَاءِ لَهُ مَعَانِيَ كَثِيرَةً جَمَّةً لو قَالَ: "هَدَاكَ اللَّهُ" لفَاتَتْ. وأَصْلُ النَّافِلَةِ مَا كَانَ زَائِداً علَى الفَرْضِ, مِن ذَلِكَ قَوْلُه تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}. أي: زَائِداً لَكَ دُونَ أُمَّتِكَ؛ لأنَّه وَاجِبٌ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً. ووَلَدُ الوَلَدِ يُقَالُ لَهُ: نَافِلَةٌ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً}. والنَّفْلُ: الغَنِيمَةُ والجَمْعُ: يُقَالُ: أَنْفَالٌ، قَالَ لَبِيدٌ: " إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلٍ "
ويُرْوَى " فِيهِ مَوَاعِيظٌ". فتَكُونُ جُمْلَةً حَالِيَّةً مِن القُرْآنِ، وتَكُونُ "نَافِلَةَ" في مَعْنَى عَطِيَّةٍ ومَوْهِبَةٍ. وفِيهِ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ لاخْتِلافِ جِهَتَيْهِ. ويَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بنَافِلَةِ القُرْآنِ: تَهَجُّدَ اللَّيْلِ. يَعْنِي قَولَه تعالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} كَأَنَّهُ يَقُولُ: النَّافِلَةُ المَذْكُورَةُ في القُرْآنِ. وإِنَّمَا جَعَلَ القُرْآنَ نَافِلَةً؛ فلأنَّها مَوْهِبَةٌ مِن اللَّهِ-تعالى- لَمْ يُعْطِهَا الأَنْبِياءَ قَبْلَهُ. مِثْلُ تَهَجُّدِ اللَّيْلِ الذي هو نَافِلَةٌ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، وهِيَ نَافِلَةٌ عَلَى الصَّلَواتِ الخَمْسِ الوَاجِبَةِ عَلَى أُمَّتِهِ.
لا تـَأْخُذَّنِّي بأَقْوَالِ الوُشَــاةِ وَلَمْ أُذْنـِبْ، وَلَوْ كَثُــرَتْ فِـيَّ الأَقَـاوِيـلُ
" لا تَأْخُذَّنِّي" سُؤَالٌ وتَضَرُّعٌ فِي صُورَةِ النَّهْيِ، ووَكَّدَهَ بالنُّونِ؛ لأنَّهُ يَجرِي مَجْرَي النَّهْيِ، فإنَّ النَّهْيَ لِمَنْ هُوَ دُونَكَ، فإِنْ كَانَ لِمَنْ هُوَ مِثْلُكَ سُمِّيَ طَلَباً والْتِمَاساً، وإِنْ كَانَ لِمَنْ هُوَ فَوْقَكَ سُـمِّيَ سُؤَالاً وتَضَرُّعاً ودُعَاءً.
وقَوْلُه: " لا تَأْخُذَّنِّي بأَقْوَالِ الوُشَاةِ". مَعْنَاهُ لا تَسْتَبِحْ دَمِي بأَقْوَالِ مَن يُزَوِّقُ الكَلامَ ويَقْصِدُ الإِفْسَادَ.
وقَوْلُه: "وَلَمْ أُذْنِبْ" تَنَصُّلٌ. والجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الحَالِ، وكَذَا "وَلَوْ كَثُرَتْ فِيَّ الأَقَاوِيلُ" يَعْنِي أَنَّ أَقَاوِيلَ الوُشَاةِ مَعَ كَثْرَتِهَا فإِنَّمَا هِيَ مُزَخْرَفَةٌ. والأَقَاوِيلُ: جَمْعُ أَقْوَالٍ. وجَوَابُ "لَوْ" مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ، والأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَعْنَى " لا تَأْخُذَّنِّي" أي: وَلَوْ كَثُرَتِ الأَقَاوِيلُ فإِنِّي غَيْرُ مُؤَاخَذٍ، أي: فإِنِّي ضَارِعٌ إِلَيْكَ أَلاَّ تُؤَاخِذَنِي، فامْتَنَعَتْ مُؤَاخَذَتُه لامْتِنَاعِ كَثْرَةِ الأَقَاوِيلِ. وفِي إِخْرَاجِ القَوْلِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ مَعَانٍ غَامِضَةٌ وأَغْرَاضٌ بَلاغِيَّةٌ لا يَلِيقُ التَّطْوِيلُ بـِهَا.
إِنِّـي أَقُـومُ مَقَـاماً لَـوْ يَقُـومُ بِـهِ أَرَى وأَسْـمَعُ مَا لَــوْ يَسْــمَعُ الفِـيلُ
لَظَـلَّ يـُرْعَـدُ إِلاَّ أَنْ يَكُـونَ لَــهُ مـِنَ الرَّسُــولِ بإِذْنِ اللَّهِ تـَـنْـوِيـلُ
يَصِفُ شِدَّةَ مَا مَلَكَ قَلْبَهُ مِن الرُّعْبِ، ودَاخَلَهُ مِن الهَيْبَةِ والذُّعْرِ، يَقُولُ: أَنَا في مَقَامٍ وعلَى حَالٍ لَوْ عَرَضَتْ للفِيلِ لأَرْعَدَ خِيفَةً ومَهَابَةً. يُقَالُ: أَرْعَدَ الرَّجُلُ: إِذَا أَخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ، وأَرْعَدَ إِذَا ارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ عِنْدَ الفَزَعِ. إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِن الرَّسُولِ أَمَانٌ بإِذْنِ اللَّهِ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لا أَمْنَ إِلاَّ مِن جِهَةِ الرَّسُولِ، ولا أَمْنَ للرَّسُولِ إِلاَّ بإِذْنِ اللَّهِ.
وأَقُومُ فِعْلُ حَالٍ. يَقُولُ: إِنِّي قَدْ قُمْتُ مَقَاماً لَوْ كَانَ بِهِ الفِيلُ لأُرْعَدَ، يَصِفُ جَلالَةَ المَقَامِ وهَيْبَةَ المَجْلِسِ. "وأَرَى وأَسْمَعُ" حَالانِ مِن أَقُومُ أي: رَائِياً فِيهِ وسَامِعاً فِيهِ لو قَامَهُ الفِيلُ وَلَوْ سَمِعَهُ الفِيلُ. و"مَا" نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ أو مَوْصُولَةٌ. "ولَوْ يَسْمَعُ" صِفَتُهَا أو صِلَتُهَا، أي: شَيْئاً لَوْ سَمِعَهُ الفِيلُ أَوْ رَآهُ الفِيلُ لظَلَّ يُرْعَدُ. وفِي الكَلامِ مَحَاذِيفُ كَثِيرَةٌ، كأَنَّهُ يَقُولُ: أَرَى مَا لَوْ رَآهُ الفِيلُ [و أَسْمَعُ مَا لَوْ سَمِعَهُ الفِيلُ] لظَلَّ يُرْعَدُ، فاجْتَزَأَ بـ لَوْ وَاحِدَةٍ عَنِ اثْنَتَيْنِ، وجُعِلَ جَوَاباً لثَلاثِ " لَوَاتٍ" وَاحِدَةٌ مَحْذُوفَةٌ واثنتانِ مَلْفُوظٌ بِهِمَا.
والفِيلُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ "يَقُومُ" وفَاعِلُ "يَسْمَعُ"، ففَاعِلُ أَيِّهِمَا كَانَ فِي الآخِرِ ضَمِيرُه، ويَكُونُ هَذَا مِن بَابِ قَوْلِهِم: قَامَ وَقَعَدَ زَيْدٌ. والكُوفِيُّونَ يَرَوْنَ إِعْمَالَ الفِعْلِ الأَوَّلِ أَجْوَدَ، والبَصْرِيُّونَ يَرَوْنَ الأَجْوَدَ إِعْمَالَ الثَّانِي. وقَوْلُه: " إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ" اسْتِثْنَاءٌ مِن قَوْلِه: "لظَلَّ يُرْعَدُ" أي: إِنْ كَانَ لَهُ أَمَانٌ مِنَ الرَّسُولِ لَمْ يُرْعَدْ. و"بإِذْنِ اللَّهِ" يَتَعَلَّقُ بـ "تَنْوِيلُ", وهو مَصْدَرُ نَوَّلْتُه تَنْويلاً إِذَا أَعْطَيْتَهُ. والنَّوَالُ: العَطَاءُ، يُقَالُ: نِلْتُ لَهُ بالعَطِيَّةِ أَنُولُ نَوْلاً ونِلْتُهُ العَطِيَّةَ ونَوَّلْتُهُ أَعْطَيْتُه نَوَالاً. ويُرِيدُ بالعَطِيَّةِ الأَمَانَ واليَدَ.
حَتَّـى وَضَعْـتُ يَمِينِي لا أُنَـازِعُــهُ فِـي كَفِّ ذِي نَقِـمَـاتٍ قـِيـلُهُ القِيــلُ
لا أُنَازِعُه: لا أُجَاذِبُه. يَقُولُ: أَضَعُ يَمِينِي في كَفِّه وَضْعَ طَاعَةٍ لا وَضْعَ مُنَازَعَةٍ ومُجَاذَبَةٍ، ومَوْضِعُها النَّصْبُ عَلَى الحَالِ، وخَصَّ اليَمِينَ تَعْظِيماً لشأنِ النَّبِيِّ عليه السلامُ؛ لأنَّها التي تُعْطَى في العُهُودِ وتُلْمَسُ بِهَا العُظَمَاءُ. وخَصَّ الكَفَّ؛ لأَنَّها المَوْصُوفَةُ بالجُودِ والبَذْلِ والمُشَبَّهَةُ بالبَحْرِ. والنَّقِمَاتُ: جَمْعُ نِقْمَةٍ, وهِيَ العُقُوبَةُ مُجَازَاةً، الانْتِقَامُ: التَّعْذِيبُ مُجَازَاةً بِمَا سَبَقَ مِن سُوءِ العَمَلِ واسْتِحْقَاقاً مَعَ القُدْرَةِ والمَعْدَلَةِ.
وقَوْلُه: ذِي نَقِمَاتٍ: أي ذِي قُدْرَةٍ عَلَى المُجَازَاةِ عَلَى الإِسَاءَةِ والاسْتِقْصَاءِ فِي ذَلِكَ بِحَقٍّ ومَعْدَلَةٍ.
"قِيلُه القِيلُ": أي: إِذَا قَالَ فَعَلَ, وَصَفَهُ بالمَقْدِرَةِ والتَّصْمِيمِ ( ) للعَهْدِ، أي: قَوْلُه القَوْلُ المُحَقَّقُ المُعْتَدُّ بِهِ الذي هو بِمَنْـزِلَةِ الأَمْرِ الوَاقِعِ والخَبَرِ اليَقِينِ، وهِيَ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ في مَوْضِعِ الخَفْضِ صِفَةٌ " لذِي نَقِمَاتٍ". وحَتَّى: لانْتِهَاءِ الغَايَةِ، وابْتِدَاؤُهَا مِن كَوْنِه يُرْعَـدُ.
وذَاكَ أَهْيـَبُ عِـندِي إِذْ يـُكلِّمُنـِي وقِـيلَ: إِنـَّكَ مَنْسُــوبٌ ومَسْــئُولُ
مِن خَـادِرٍ مِن لُيُـوثِ الأُسْدِ مَسْكَنُهُ ببَـطْنِ عَـثَّرَ غِيــلٌ دُونَــهُ غِيــلُ
ويُرْوَى: " لَذَاكَ أَهْيَبُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ". وذَاكَ إِشَارَةٌ إِلَى الرَّسُولِ, "وإِذْ يُكَلِّمُنِي" حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ, "وقِيلَ إِنَّكَ"، أي: هو أَهْيَبُ عِنْدِي مُكَلَّماً ومَنْسُوباً ومَسْئولاً؛ لأَنَّهُ مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَوَقِّعاً أنْ يُكَلِّمَهُ وأَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ نَفْسِه وحَالِه، ويَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "وقِيلَ" مِن جُمْلَةِ حَدِيثِ الوُشَاةِ, كأَنَّهُم قَالُوا لَهُ: إِنَّكَ إِذَا مَثَلْتَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ نَسَبَكَ وسَأَلَكَ، فتَكُونُ "إِذْ أُكَلِّمُهُ" حَالاً مِن "أَهْيَبُ".
وقِيلَ حَالٌ مِن "أُكَلِّمُهُ" أي: أُكَلِّمُهُ فِي حَالِ مَا قِيلَ لِي كَيْتَ وكَيْتَ, وخُوِّفْتُ. "مِن خَادِرٍ" يَتَعَلَّقُ بـ "أَهْيَبُ", و"مِنَ الأُسْدِ" غَايَةٌ. وقَوْلُه:"مِن لُيُوثِ الأُسْدِ" كأَنَّهُ قَالَ: مِن أَشَدِّ الأُسُودِ, ومِن هَذِهِ للتَّبْعِيضِ. والخَادِرُ: الدَّاخِلُ في الخِدْرِ, وهِيَ الأَجَمَةُ، يُقَالُ خَدَرَ وأَخْدَرَ فَهُو خَادِرٌ ومـُخْدِرٌ. و"مَسْكَنُهُ غِيلٌ" جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ. والغِيلُ: مَوْضِعُ الأَسَدِ. وأَصْلُ الغِيلِ: الشَّجَرُ المُلْتَفُّ. يُقَالُ مِنْهُ تَغَيَّلَ الشَّجَرُ. و"دُونَهُ غِيلُ" جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ صِفَةٌ لـ"غِيلٌ" الأَوَّلِ، كأَنَّهُ فِي أَجْمَةٍ دَاخِلَ أَجَمَةٍ، وذَلِكَ أَشَدُّ لوَحْشِيَّتِه وقَسَاوَتِه, وهَذَا الغِيلُ "ببَطْنِ عَثَّرَ" وهو اسْمُ مَكَانِ مَأْسَدَةٍ، ولَيْسَ في الأَسْمَاءِ مَا جَاءَ عَلَى "فَعَّلَ" إلاَّ بذَّرَ اسْمُ مَاءٍ، وعَثَّرَ، وبَقَّمَ للصِّبْغِ، وشَلَّمَ لبَيْتِ المَقْدِسِ، وخَضَّمَ مَكَانٌ أو مَاءٌ, ويُرْوَى "مِن بَطْنِ عَثَّرَ".
يَغْـدُو فيَلْحَـمُ ضِرْغَامَيْـنِ عَيْشُــهُمَا لَحْمٌ مِنَ القَــوْمِ مَعْــفُـورٌ خـَرَادِيـلُ
يَصِفُ الأَسَدَ بالضَّرَاوَةِ والقَسْوَةِ. وقَوْلُه: "يَغْدُو" أي: يَذْهَبُ أَوَّلَ النَّهَارِ يَطْلُبُ صَيْداً لشِبْلَيْهِ. وقَوْلُه "فيَلْحَمُ" أي: يُطْعِمُهُمَا لَحْماً. ويُقَالُ: لَحَمْتُ الرَّجُلَ إِذَا أَطْعَمْتَهُ اللَّحْمَ. والأَصْمَعِيُّ يَقُولُ: أَلْحَمْتُ. والضِّرْغَامَانِ: أَسَدَانِ، ويُرِيدُ شِبْلَيْهِ. و"عَيْشُهُمَا لَحْمٌ" أي: قُوتُهُمَا لَحْمُ بَنِي آدَمَ.
مَعْفُورُ: أي مُتْرَبٌ، والعَفْرُ: التُّرَابُ. والخَرَادِيلُ: القِطَعُ. يُقَالُ: خَرْدَلْتُ اللَّحْمَ، خَرَادِلَ وخَرَادِيلَ أي: قِطَعاً. ومِنْهُ سُـمِّيَ الخَرْدَلُ لِهَذَا الصِّبَاغِ؛ لأَنَّهُ يَقْطَعُ ويَجْلُو. ويُقَالُ: خَرْدَلْتُ اللَّحْمَ إِذَا قَطَّعْتَهُ بالدَّالِ والذَّالِ جَمِيعاً.
إِذَا يُسـاوِرُ قِـرْناً لا يـَحِـلُّ لَــهُ أَنْ يَــتْرُكَ القِـرْنَ إِلاَّ وَهْــوَ مَــجْـدُولُ
أي: إِذَا كَانَ يُسَاوِرُ. والمُسَاوَرَةُ: المُوَاثَبَةُ. والسَّوْرُ: الوَثْبُ. القِرْنُ: المُقَاوِمُ في حَرْبٍ أو عِلْمٍ. والقَرْنُ بالفَتْحِ: المُمَاثِلُ في السِّنِّ. والمَجْدُولُ: المُلْقَى بالجَدَالَةِ وهي وَجْهُ الأَرْضِ.
ويُرْوَى "مَفْلُولُ" أي: مَكْسُورٌ مَهْزُومٌ. وقَوْلُه: "لا يَحِلُّ لَهُ " مَعْنَاهُ لا يُفَارِقُه ولا يَخْلُصُ مِن يَدَيْهِ، فكأنَّ نَجَاتَهُ مِنْهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ؛ لأنَّه ظَفَرَ بقِرْنٍ حَرُمَ عَلَيْهِ تَرْكُه، يُرِيدُ شِدَّةَ بأْسِه. "وهو مَجْدُولُ" جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الحَالِ.
مِنْـهُ تَـظَلُّ سِـباعُ الجَـوِّ ضَـامِـزَةً وَلاَ تُمَشِّــي بــوَادِيــهِ الأَرَاجِـــيلُ
يَصِفُ الأَسَدَ بأَنَّ السِّبَاعَ تَخَافُهُ، والرِّجَالَ لا تَقْرُبُ مَكَانَهُ خِيفَةً مِنْهُ. والجَوُّ: مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ. والجَوُّ: البَرُّ الوَاسِعُ. وضَامِزَةً: سَاكِتَةً مُمْسِكَةً: يُقَالُ: ضَمَزَ يَضْمِزُ ضَمْزاً وضُمُوزاً إِذَا سَكَتَ، وضَمَزَ البَعِيرُ:إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الجِرَّةِ، وكُلُّ مَا سَكَتَ ضَامِزٌ وضَمُوزٌ.
ولا تُمَشِّي أي: لا تَمْشِي وشَدَّدَ للتَّكْثِيرِ. وسِبَاعُ الجَوِّ: قَدْ يُرِيدُ بها ذَوَاتِ الرِّيشِ, وقَدْ يُرِيدُ بِهَا ذَوَاتِ الأَرْبَعِ، فإِنْ أَرَادَ بِهَا الطَّيْرَ فَعَلَى وَجْهِ المُبَالَغَةِ. والأَرَاجِيلُ: جَمْعُ أَرْجَالٍ جَمْعِ رِجْلٍ, وكأَنَّهُ جَمَعَ الرِّجَّالَةَ، يُرِيدُ أَنَّ النَّاسَ لا يَتَحَامُونَ مَكَانَهُ، والسِّبَاعُ تَمْسِكُ خِيفَةً. ويُرْوَى: " مِنْهُ تَظَلُّ جَمِيعُ الوَحْشِ"، وذَكَرَ تُمَشِّي بلَفْظِ التَّكْثِيرِ؛ لأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ ( )= وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ.
ولا يـَزَالُ بـوَادِيـهِ أَخُـو ثِـقَـــةٍ مـُطَّرَحُ البـَـزِّ والدِّرْسَـانِ مـَأْكُــولُ
البَزُّ: السِّلاحُ, والدِّرْسَانُ: الخُلْقانُ مِن الثِّيَابِ, وأَخُو ثِقَةٍ: هو الشُّجَاعُ الوَاثِقُ بشَجَاعَتِه، فهو يُخَاطِرُ بمُهْجَتِهِ ويَجُوزُ بوَادِيهِ، فيَفْتَرِسُه، ويُبْقِي سَلاحَهُ وثِيَابَهُ مُطَّرَحَةً, وجَعَلَهُ إِنَّمَا يَصِيدُ الشُّجَاعَ الشَّاكِي السِّلاحَ.