وقد أبتدا الشيخ بقضية من القضايا الكبار في منهج أهل السنة والجماعة , إلا وهي قضية الإمامة بعدالرسول عليه الصلاة فأهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى يقولون ما قاله الشيخ هنا : (( وأفضل أمته أبو بكر الصديق)) واسمه عبدالله بعثمان رضي الله عنه وارضاه شهرته تغني عن التعريف به.
فأبوبكر الصديق رضي الله عنه هو أفضل الأمة على الإطلاق عند أهل السنة والجماعة وعندهم أيضاً أنه هو الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن كيف ثبتت له الإمامة؟
اختلف العلماء في ذلك , فبعضهم قال: ثبتت لـه بالنص مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام : (( اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر))(1) ومثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام للمرأة التي سألته وواعدها من العام القابل حيث قالت : إن لم أجدك يارسول الله ؟ قال: (( إن لم تجديني فأتي أبا بكر )) (2).
ومثل قوله عليه الصلاة والسلام : (( مروا أبابكر فليصل بالناس ))(3) , ومثل قوله عليه الصلاة والسلام : (( يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر))(4) ومثل حديث القليب , حين دلى عليه صلى الله عليه وسلم رجليه في القليب فجاء أبو بكر وجلس عن يمينه, ثم جاء عمر وجلس عن شماله ففسرَّ ذلك بخلافتهم(5) . إلى آخره .
وبعض العلماء قالوا : إن خلافة أبي بكر رضي الله عنه وارضاه إنما ثبتت بمبايعة الصحابة له بعد توجيه النبي صلى الله عليه وسلم
وإشارته عليهم أن يختاروه .
وهذا القول الثاني هو الصحيح , والدليل عليه حديث عمر رضي الله عنه وأرضاه لما قيل لـه بعد أن طعن : استخلف فقال: إن أستخلف فقد أستخلف من هوخير مني, يعني أبابكر لأن أبا بكر أستخلف عمر وأن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني , يعني رسول الله عليه الصلاة والسلام فهذا دليل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يستخلف نصاً .
والدليل الثاني أنه لو كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد نص على أبي بكر لما تخلف الصحابة عن مبايعته لحظة, ولما كان هناك حاجة إلى أجتاماع السقيفة ولما جرى فيها كلام, ولبايعوا أبا بكر دون أدنى تردد, ولكن الصحابة فهموا من
إنابته بالصلاة وفهموا من بعض أحاديثه, وفهموا من كونه معه في جميع أحواله العامة , ومن كونه وزيره رضي الله عنه, أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحب أن يكون هو الخليفة من بعده , وأنه اشار إلى ذلك إشارات خفيّة فهمها عمر وبقية الصحابة حين عللوا ببعضها لما بايعوه في دار السقيفة .
ثم أن الرسول عزم على أن يكتب كتاباً ولكن الصحابة اختلفوا واشتد اللغط فقال لهم : (( قوموا))(6) , وهذه الكتابة يحتمل أن تكون كتابة تتعلق ببعض الأحكام مثل الأحكام الجدَّة والعوْل والعقل والأسير وغير ذلك من الأحكام التي تمنى الصحابة أن يكون قد بلغهم عن الرسول منها علماً , ويحتمل أنه أراد أن يكتب كتاباً يوصي فيه بأن يكون أبو بكر هو الخليفة من بعده .
وهنا ملحوظة مهمة : وهي أن بعض المبتدعة من الرافضة زعموا أن الرسول عليه الصلاة والسلام إنما اراد أن يكتب بالخلافة والوصية لعلي فقال عمر : حسبنا كتاب الله فاختلف الصحابة, فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال : (( قوموا عني)) (7) وفي لفظ : (( دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه))(8) . فقال هؤلاء الرافضة : أن هذه مؤامرة مدبرة , وأن الرسول قد أراد أن يكتب بالوصية لعلي , لكن لما علم الصحابة أنه سيكتب لعلي قاموا بهذا اللغط وفعلوا هذا الفعل لأجل الا يكتب الرسول عليه الصلاة والسلام .(9)
وهذه فرية سخيفة , ويدل على سخفها أن الرسول عليه الصلاة والسلام بدأ معه المرض يوم الأربعاء واشتد عليه يوم الخميس, ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في يوم الاثنين , فإذا كانوا قد اختلفوا عليه في تلك الساعة وهو لم يمت فيها عليه الصلاة والسلام , بل بقي حياًعدة أيام فلوكان الرسول عليه الصلاة والسلام عازماً على أن يولي علياً أو غيره لما ردَّه عن ذلك اختلافهم في تلك الساعة ولسارع إلى الكتابة في وقت آخر ولا يمكن أن يكتم الرسول عليه الصلاة والسلام شيئاً واجباً عليه وهو مما ينفع الأمة من بعده , وقد فطن بعض الرافضة المتأخرين لضعف دعوى إخوانهم فقالوا : من تأمل قضية الإمامة رأى أن الأحق بها أبو بكر لكن صاحب المشكلة عند هذا الرافضي الخبيث هو صاحب القبر يعني الرسول عليه الصلاة والسلام , حيث كان يوصي بأبي بكر ويقول : (( مروا أبابكر فليصل بالناس)) .
فهذا إقرار من بعضهم بأن اختيار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لأبي بكر بان يكون خليفة من بعده , كان أختياراً موافقاً لرغبة وأشارة رسول الله عليه الصلاة والسلام .(10)
فإن قيل : لم لم يكتب الرسول عليه الصلاة والسلام كتاباً صريحاً ينص فيه على خلافة أبي بكر؟ فالجواب ما قاله بعض العلماء : لم يكتب الرسول لأبي بكر كتاباً لأنه علم أن الصحابة لن يعدلوا به غيره, فلما علم ذلك لم يكتب لهم كتاباً.(11)
وهذا ما حصل ففي اجتماع السقيفة جرى بين الأنصار والهاجرين من حوار, ثم بويع أبو بكر , وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لم يكن مترقباً للخلافة ولا طالباً لها , والدليل أنه رضي الله عنه تكلم في اجتماع السقيفة وأحسن الكلام , وتكلم مع الأنصار وقال : أن العرب لا تدين
إلا لهذا الحي من قريش , ثم قال : واني قد رضيت لكم أحد هذين فبايعوه : عمر بن الخطاب أو أباعبيدة .
فهذا الكلام يقوله أبو بكر نفسه, فقام عمر ب الخطاب رضي الله عنه وأرضاه وقال : لقد رضيك رسول الله لديننا - يقصد الصلاة - افلا نرضاك لدنيانا؟ مدَّ يدك, فبايعه عمر وبايعه المسلمون وأجمعوا على مبايعته حتى علي رضي الله عنه وأرضاه كان من المبايعين لـه(12) وأن كان ورد في بعض الروايات أنه تاخر قليلاً جبراً لخاطر فاطمة رضي الله عنها, لأنها رضي الله عنها وارضاها ظنت أن لها ميراثاً من رسول الله عليه الصلاة والسلام فطلبته من أبي بكر , فابى أبو بكر رضي الله عنه أن يعطيها هذا الميراث لوجود نص عنده , وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :
(( إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة))(13) .
فهي رأت أن لها ميراثاً, وأبو بكر رأى أن ميراث رسول الله هو لعموم المسلمين , فلما لحقت فاطمة رضي الله عنها بأبيها ,
بايع علي رضي الله عنه وأرضاه .
وفي بعض الروايات أنه بايع قبل ذلك - كما سبقت الإشارة إليه - ويحتمل أنه بايع مرتين, فتكون الثانية مؤكدة الأولى .(14)
فعلى كلا القولين بايع علي رضي الله عنه أبا بكر وعاش مع أبا بكر وعمر وعثمان وزيراُ لهم ومؤيداً وناصحاً وقاضياً لهم , حتى كان عمر رضي الله عنه وأرضاه يقول : قضية ولا أباحسن لها يعني هذه قضية كبرى فمن لها غير أبي الحسن على بن أبي طالب رضي الله عنه .
وكانوا إخوة متآخين في الله , حتى لما جرى بينهم ما جرى فقد كانوا كلهم مجتهدين في ذلك , ولذلك لما سئل علي رضي الله عنه وأرضاه وقد جرى من الفتن بينهم ما جرى قال: إني والله لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله سبحانه وتعالى فيهم : {إخواناً على سرر متقابلين} [الحجر :47 ], لكن الذي أفسد بين المؤمنين وفرق بينهم وسبَّ صحابة نبيه هم اولئك المارقون الضالون الذين افتروا على الصحابة الكذب والبهتان من الرافضة والخوارج ونحوهم .فأفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر, ثم ((عمر الفاروق)), وعمر بن الخطاب هو الخليف بعد أبي بكر باستخلاف أبي بكر لـه, ثم ببيعة المسلمين جميعاً , فهو خليفة بإجماع المسلمين , ((ثم عثمان ذوالنورين)) وعثمان رضي الله عنه تولى الخلافة بعد ما قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه, حيث إنه لما طعن جعل الأمر شورى في ستة, وبعد أن تشاوروا اجتمعوا على عثمان رضي الله عنه, وبايعه جميع الصحابة وعلى رأسهم علي رضي الله عنهم أجمعين .
ثم قال : (( ثم علي المرتضى )) أي الخلافة من بعد عثمان لعلي رضي الله عنه وأرضاه بإجماع المسلمين, لم يخالف في ذلك أحد .
وهؤلاء الأربعة كل واحد منهم لـه من الفضل العظيم ما ذكرته كتب الفضائل وعلى رأسها الصحيحان : البخاري ومسلم فكل واحد منهما أفرد في صحيحه كتاباً عن فضائل الصحابة ابتدأه بذكر فضائل هؤلاء الأربعة فكل واحد منهم لـه من المنزلة والمكانة عند أهل السنة والجماعة ما ترغم به أنوف الروافض والنواصب وغيرهم .
ثم قال الشيخ : ((لما روى عبدالله بن عمر ر ضي الله عنهما قال: كنا نقول والنبي حي: ابو بكر ثم عمر, ثم عثمان, ثم علي , فيبلغ ذلك
النبي فلا ينكره)).(15)
هذا الحديث رواه الطبراني وأبو يعلى الموصلي وغيره وهو أثر مشهور, لكن الإشكال في عبارة المصنف في قوله: ((ثم علي)) , لأن الثابت عن هذا الصحابي أنه قال : (( كنا نخاير بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنقول : أبو بكر ثم عمر ثم عثمان )) ولم يرد ذكر علي.
ولهذا ففي بعض نسخ لمعة الاعتقاد أتت الرواية بدون قوله : ثم علي ولعلها أرجح.
وهذا الحديث يدل على فضل هؤلاء الخلفاء بتقرير النبي صلى الله عليه وسلم , وأن هذا كان مشهوراً بين الصحابة , معروفاً لا ينكره أحد , فتباً لمن طعن فيهم أو في بعضهم والله المستعان .
ثم قال الشيخ : ((وصحت الرواية عن علي رضي الله عنه انه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها ابوبكر ثم عمر ولو شئت لسميت الثالث)).(16),
ورد في بعض الروايات أنه قيل له : ثم أنت فقال علي رضي الله عنه وأرضاه تاواضعاً : وهل أنا
إلا رجل من المسلمين . وقد أجمع العلماء على تقديم أبي بكر ثم عمر ثم قال جماهير أهل السنة : إن الأفضل من بعد عمر عثمان ثم علي.
وهناك فريق - وهم قليل جداً من أهل السنة - قالوا : علي أفضل من عثمان. والقول الصحيح في هذه المسألة أن عثمان أفضل من علي ولهذا ورد عن بعض السلف رحمهم الله تعالى أنهم قالوا : من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار : لأنهم هم الذين أختاروه وقت الشورى وقدموه على علي كما في قصة مداولة عبد الرحمن بن عوف بالخلافة, حيث أخذ يستشير الصحابة و غرهم ثم قال عند البيعة : يا علي لقد رأيت الناس لا يعدلون بعثمان تعال ياعثمان امدد يدك أبايعك فبايعه فدل على أن الغالبية العظمى من أصحاب النبي كانوا يقدمون عثمان على علي رضي الله عنهم جميعاً وهذا هو الراجح.
وينبغي التفريق هنا بين مسألة التفضيل ومسألة الخلافة, بالأولى هي التي وقع فيها الخلاف اليسير بن السلف, أما الخلافة فلم يقع بينهم خلاف في تقديم عثمان على علي , ومن قدم علي فيها فهو مبتدع .
ثم قال الشيخ رحمه الله : وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من ابي بكر))(17)
وهذا الذي ذكره الشيخ مما رواه أبو نعيم في الحلية وغيره, وهو يدل على فضل الصديق, وهناك أحاديث أخرى كثيرة أصح منه إسناداً موجودة في كتب الصحاح والسنن والمسانيد وفي كتب الفضائل وهي مشهورة متواترة .
(1) اخرجه الترمذي كتاب المناقب وابن ماجه في المقمة واحمد ي المسند والحكم في المتسدرك .
(2) اخرجه البخاري كتاب فضائل الصحاة ومسلم كتاب فضائل الصحابة .
(3) اخرجه البخاري كتاب الأذان ومسلم كتاب الصلاة .
(4) اخرجه ابو داود كتاب السنة .
(5) اخرجه البخاري كتاب الفتن ومسلم كتاب فضائل الصحابة .
(6) سيأتي تخريجه إن شاء الله.
(7) اخرجه البخاري كتاب المرضى ومسلم كتاب الوصية .
(8) اخرجه البخاري كتاب المغازي ومسلم كتاب الوصية .
(9)ذكر الحافظ ابن كثير في البداية حديث إبراهيم التيمي عن ابيه قال خطبنا على ابن الي طالب رضي الله عنه فقال: من زعم أن عندنا شيئا نقرؤه ليس في كتاب الله وهذه =
(10) وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (( أن رسول الله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله )) ليس فيه ما يذم عليه عمر رضي الله عنه
(11) وربما كان اختلاف الصحابة وتنازعهم امامه عليه الصلاة والسلام سببا في عدوله عن الكتابة كما كان اختلاف بعض الصحابة سببا في عدوله عن اخبارهم بعين لللاة القدر
(12) يدل على ذلك ما رواه الحفظ ابو بكر البهقي عن الي سقيد الخدري قال: ققبض رسول الله واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة وفيهم ابو بكر وفنظر في وجوه القوم فلم ير عليا فدعا بعلي فجاء فقال : قلت : ابن عم رول الله وختنه على ابنته أن تشق عصا المسلمين انظر البداية والنهاية (5\218,219)
(13) اخرجه البخاري كتاب فضاسئل الصحابة ومسلم كتاب الجاهد والسير
(14) وعليه فتكون البيعة الت يتمت بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها بيعة ثانية , وفي ذلك قال الححا فظ ابن كثير : فهذه البيعة التي وقعت من علي لأبي بكر بعد وفاة فاطمة بيعة مؤكدة للصلح الذي وقع بينهما , وهي ثانية للبيعة التي ذكرناها أولاً يوم السقيفة كما رواه ابن خزيمة وصححه مسلم بن الحجاج , ولم يكن لما وقعت هذه البيعة الثانية اعتقد بعض الرواة أن علي لم يبايع قبلها فنفى ذلك .
(15) اخرجه الطبراني في الكبير واخرجه البخاري كتاب فضائل الصحابة .
(16) اخرجه احمد في المسند وصححه الألباني .
(17) اخرجه الطبراني في لأوسط من حيث جابر كما في (( مجمع البحرين)) .