قال الله تعالى( يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا) [النساء : 47]
نزول الآية
- عن ابن عباس ، قال : كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود ، منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد ، فقال لهم : «يا مَعْشَرَ يهود اتّقُوا الله وأسْلِمُوا ! فوالله إنكم لَتَعْلَمُونَ أنّ الّذي جِئْتُكُمْ به لحقّ » فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد . وجحدوا ما عرفوا ، وأصرّوا على الكفر ، فأنزل الله فيهم : { يا أيّها الّذينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بمَا نَزّلْنا مُصَدّقا لمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها } . . . الاَية
المراد بالذين أوتوا الكتاب
في ذلك قولان:
1-اليهود والنصارى ذكره ابن عطية وعليه يكون المراد بالكتاب التوراة والإنجيل
2-اليهود وهو قول ابن جرير . ويكون المراد بالكتاب التوراة
و القول الثاني أجود لدلالة سبب النزول على ذلك و لموافقته السياق وختام الآية
-فقد ورد في سبب النزول أنها نزلت في اليهود.
-وسياق الآية و سباقها في اليهود ؛جاء قبل هذه الآية قوله تعالى :" مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ.." ..وجاء بعدها قوله تعالى : أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.." والمعلوم أن اليهود هم الذين حسدوا النبي صلى الله عليه وسلم على نعمة النبوة والرسالة
وكذا ختام الآية فقوله :" أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ " فالمراد بهم اليهود ، نلعن هؤلاء كما لعنا الذين لعنا منهم من أصحاب السبت .
المراد ب "لِما مَعَكُمْ"
والمراد ب "ما معكم" هو التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران
قال ابن عطية :" لِما مَعَكُمْ معناه من شرع وملة، لا لما كان معهم من مبدل ومغير" اهـ
معنى الطمس
طَمَسَ يَطْمِسُ طُمُوساً دَرَسَ وامَّحَى أَثَرُه ؛ والطمس اسئتصال أثر الشيء ؛ ويأتي لازم ومتعد
يقال :"طمست الريح الأثر أي محتها" ؛ و طمس الموضعُ إذا عفا ودرس.
قال ابن فارس :" (طَمَسَ) الطَّاءُ وَالْمِيمُ وَالسِّينُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى مَحْوِ الشَّيْءِ وَمَسْحِهِ. يُقَالُ: طَمَسْتُ الْخَطَّ، وَطَمَسْتُ الْأَثَرَ. وَالشَّيْءُ طَامِسٌ أَيْضًا. وَقَدْ طَمَسَ هُوَ بِنَفْسِهِ.اهـ.
وقال الراغب في المفردات :( الطمس إزالة الأثر بالمحو ، قال تعالى : { فإذا النجوم طمست( 8 ) })اهـ
وَيُقَال: طَمَس الله على بصَرِه يطمس. وطمَسَ طُمُوساً: إِذا ذَهَب بَصَرُه.
ورجل مطموس وطميس: وهو الأعمى الذي تعفي الشق الذي بين جفني عينيه
وقد أضاف ابن جرير رحمه الله قيدا لمعنى الطمس وهو التسوية بالأرض ؛ أي محو واندراس مع تسوية بالأرض
قال رحمه الله :" وأما"الطمس"، فهو العُفُوّ والدثور في استواء. منه يقال:"طمست أعلام الطريق تطمِسُ طُموسًا"، إذا دثرت وتعفَّت، فاندفنت واستوت بالأرض، كما قال كعب بن زهير:
مِنْ كُلِّ نَضَّاحَةِ الذِّفْرَى إذَا عَرقَتْ ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأعْلام مَجْهُولُ .
يعني:"طامس الأعلام"، دائر الأعلام مندفنها. ..اهـ
واستعير لفظ الطمس للمعاني؛ فيطلق على إبطال خصائص الشيء المألوفة فيه ؛فيقال طمس القلوب أي إبطال آثار التميّز والمعرفة منها ؛ فيقال؛ رجل طامس القلب: ميته لا يعي شيئاً.
معنى الوجوه:
وجْهُ كل شَيْء: مستقبله.
والوَجْه: المُححَيَّا، وَالْجمع أوْجُهٌ ووُجُوهٌ.التي هي خلاف"الأقفاء".
ووَجْهُ الْفرس: مَا أقبل عَلَيْك من الرَّأْس من دون منابت شعر الرَّأْس.
ويستعار الوجه في المعاني فيقال : هذا وجه الثّوب. ووجه القوم، وهؤلاء وجوه البلد، ورجل وجيه: بيّن الوجاهة. وله جاه وحرمة.
المراد " نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا".
اختلف أهل العلم في ذلك ويمكن بيان مرجع الخلاف إلى اختلافهم في المراد بالوجه
المراد ب "وجوها"
اختلف أهل العلم في المراد بالوجوه على أقوال :
1- الوجه : العضو المعروف . فالحمل على الحقيقة
و اختُلف في المراد " نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا" على قولين :
-أ- جعل الوجه كالقفا
ثم اختلفوا في وجه المشابهة
*** قيل أن يجعل الوجه كالقفا خاليا من الحواس ؛ ليس فيها فم ، ولا حاجب ، ولا عين .
فيكون معنى طمس الوجه أن تعفى أثر الحواس فيها وتمحى؛ وتزال الخلقة منه فيرجع كسائر الأعضاء في الخلو من أعضاء الحواس. .
ويكون معنى" فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا" أي تعود كأقفائهما خالية من الحواس قال ابن عطية :" فيكون أرد على «الأدبار» في هذا الموضع بالمعنى، أي خلوه من الحواس دبرا لكونه عامرا بها.." ذكره الزجاج ابن عطية وابن كثير وهو قول أبي عبيدة ابن قتيبة .
قال ابن عباس: يجعلها كخفّ البعير أو كحافر الدابة . ذكره العلبي
قال ابن قتيبة :نَطْمِسَ وُجُوهاً أي نمحو ما فيها من عينين وأنف وحاجب وفم.
فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أي نصيرها كأقفائهم ."اهـ
توجيه الأقوال
أن الطمس معناه المحو يقال الريح طمَست آثارنا أي محتها ، وطَمَس الكتابَ : محاه ؛ويقال : ، ويقال : طُمِست عينُه ..فيكون معنى طمس الوجه محو أثر الحواس فيه و تسويتها حتى تصير مثل القفا
***وقيل أن يجعل الوجه منبتا للشعر كالقفا هو منبت الشعر ؛ وهذا هو معنى رده على دبره لأن منابت شعر الآدميين فِي أدبارهم، ذكره ابن عطية ولم ينسبه إلى أحد وهو اختيار الفراء
قال الفراء رحمه الله :"أن يجعل الوجه منبتا للشعر كما كان وجه القرد كذلك" اهـ
توجيه القول
احتج الفراء لهذا القول بدلالة العقل والسياق.. قال الفراء :" ..(وهذا) أشبه بالصواب لقوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ يقول: أو نسلخهم قردة..."اهـ
-لما أخبر الله تعالى أنه مسخ وجوهم قردة ؛ وأنه جعلها كالقفا كان الوصف الجامع المشترك بين القفا ووجه القردة نمو الشعر وكثافته وكثرته .
أو يقال أن الشيء الذي يتميز به مقدم الرأس و مؤخره هو الشعر ؛ فلما أخبر الله أنه جعل الوجوه كالقفا فهم منه أنه جعل فيها الشعر؛ وقال ابن سيده :" ووَجْهُ الْفرس: مَا أقبل عَلَيْك من الرَّأْس من دون منابت شعر الرَّأْس.اهـ
لهذا يجعل الفقهاء منابت الشعر حدا الوجه
وقد رد ابن جرير قول الفراء لأنه مخالف للفهم السلف للآية قال رحمه الله :"فقول لقول أهل التأويل مخالف ، وكفى بخروجه عن قول أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الخالفين على خطئه شاهدا .اهـ
-ب- تحويل الوجه إلى القفا أي قِبل ظهورهم ؛فيمشي الواحد منهم القهقري؛ وهو معنى الرد على الدبر هو قول وهو ابن عباس(68) وقتادة (104)وعطية العوفي ( 111)
فيكون معنى طمس الوجه محو الحواس فلا يبقى أثرها
ومعنى الرد على الأدبار تحويلها قبل القفا
قال قتادة :{ فَنَرُدّها عَلى أدْبارِها } قال : نحوّل وجوهها قبل ظهورها .
قال ابن كثير :" وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَلَا يَبْقَى لَهَا سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ وَلَا أَثَرٌ، وَنَرُدَّهَا مَعَ ذَلِكَ إِلَى نَاحِيَةِ الْأَدْبَارِ.اهـ
-وقيل هو خاص بالعين فقط ؛ تطمس العينين وتمحى الأبصار؛ و تزال العينين من الوجه وترد على القفا فيمشي القهقري وهو قول ابن عباس
قال ابن عباس :" أن نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقري ونجعل لأحدهم عينين في قفاه ." اهـ
تخريج الأقوال:
تخريج قول ابن عباس أخرجه ابن جرير و ابن أبي حاتم من طريق العوفي عنه
تخريج قول قتادة أخرجه ابن المنذر من طريق فضيل بن مرزوق عنه
وأخرجه عبد الرزاق و ابن جرير من طريق معمر عنه
تخريج قول عطية العوفي أخرجه ابن جرير من طريق فضيل بن مرزوق عنه
توجيه القول
معنى رد الوجه على القفا هو تحويله نحو القفا والمشي القهقري ولا يكون كذلك إلا بوجود العنيين في جهة القفا
وهذا ما فهمه كعب أول ما سمع الآية قال مالك : كان أول إسلام كعب أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا }. فوضع كعب يده على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه وقال : والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي .
2- الوجه استعارة ؛ وفي ذلك قولان
-أ- استعارة للهدى و الرشد والبصيرة وهو قول مجاهد (104)؛ والضحاك(105) والحسن 110) والسدي (127) . ومقاتل (150)
ويكون معنى " نِّطْمِسَ وُجُوهاً " أي نطمسها عن الهدى ؛ ومعنى " فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِها"، أي نردها في ضلالها.
قال ابن عطية:" تفسير ابن عطية وطمسها حتم الإضلال والصد عنها والتصيير إلى الكفر، وهو الرد على الأدبار.اهـ
قال مقاتل :" يقول : نحول الملة عن الهدى والبصيرة التي كانوا عليها من إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث ، { فنردها على أدبارها } بعد الهدى الذي كانوا عليه كفارا ضلالا.اهـ
تخريج الأقوال
تخريج قول مجاهد أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد و أخرجه عبد بن حميد كما عند السيوطي
قال مجاهد :" { أنْ نَطْمِسَ وُجُوها } عن صراط الحقّ ، { فَنَرُدّها عَلى أدْبارِهَا } في الضلالة
تخريج قول الضحاك أخرجه ابن المنذر من طريق جويبر عن الضحاك. قال : الطمس أن يرتدوا كفارا ، فلا يهتدوا أبدا .
تخريج قول الحسن أخرجه عبد الرزاق و ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق معمر عن الحسن قال: نطمسها عن الحقّ ، { فَنَرُدّها عَلى أدْبارِها } : على ضلالتها .
تخريج قول السدي أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم- مع اختلاف يسير في العبارة -من طريق أسباط عن السدي قال : فنعميها عن الحقّ ، ونرجعها كفارا .
توجيه القول
-كما أن للبدن وجه كذا للنفس وجه؛ ووجه النفس وهو ما تتوجه إليه من المقاصد ومنه { أسلمت وجهي لله } وقوله : { ومن يسلم وجهه إلى الله } ؛وقوله : { فأقم وجهك للدين حنيفا } .
والمراد بالارتداد على الأدبار معنويا وهو الزيغ والضلالة كقوله تعالى: { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم} .
ورد ابن جرير هذا القول لأن لفظ الرد لا تساعده في ذلك؛ فمعنى "الرد الشيء" هو رجوعه إلى ما كان عليه قبل؛ وهؤلاء لم يحصل لهم إيمان ولا اهتداء حتى يقال لهم سنردكم إلى غيكم وضلالكم
قال رحمه الله :" فما وجه ردّ من هو في الضلالة فيها ؟ وإنما يرد في الشيء من كان خارجا منه ، فأما من هو فيه فلا وجه لأن يقال : يردّه فيه . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان صحيحا أن الله قد تهدّد الذين ذكرهم في هذه الاَية بردّه وجوههم على أدبارهم ، كان بينا فساد تأويل من قال : معنى ذلك يهدّدهم بردّهم في ضلالتهم .اهـ
-ب- استعارة للمواضع التي هم فيها أو لوجاهة اليهود في بلاد العرب
ومعنى طمس الوجوه :: إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها ، أو الطمس بمعنى المذلة و الإهانة و زوال وجاهة اليهود في بلاد العرب ، بعد أن كانوا فيها أعزّة ذوي مال وعدّة
والمراد بالرد على الأدبار: هو رجوعهم إلى الشام من حيث أتوا أولا. وهو قول زيد بن أسلم (137) وابنه عبد الرحمان (182) وذكره الزجاج وابن عطية و ابن كثير
.قال ابن عاشور:" والكلام وعيد ، والوعيدُ حاصل ، فقد رماهم الله بالذلّ ، ثم أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأجلاهم عمر بن الخطاب إلى أذرعات .اهـ
تخريج الأقوال
تخريج قول زيد ابن أسلم أخرجه ابن جرير من طريق ابن وهب عنه قال" فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا" إلى الشام
تخريج قول عبد الرحمان ابن زيد أخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن وهب عنه قال" فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا" من حيث جاءت أدبارها أي رجعت إلى الشام من حيث جاءوا ردوا إليه
توجيه القول:
من جهة اللغة
هو من قولهم" وَلَّى مُدْبِراً ": وَلَّى عَلَى عَقِبِهِ ؛ وكذا قولهم "ارتدَّ على دُبُره" : رجع منسحبًا من حيث أتى.
و من جهة الواقع فقد حصل إجلاء اليهود من جزيرة العرب
ورد ابن جرير هذا القول لأنه مخالف للمعهود من استعمال العرب للفظ الوجوه ؛ فالمعهود المعروف عند العرب أن لفظ الوجوه تطلق على خلاف الأقفاء؛ ويجب حمل القران على المشهور المعهود من كلام العرب قال ابن جرير:"..وكتاب الله يوجه تأويله إلى الأغلب في كلام من نزل بلسانه حتى يدلّ على أنه معنيّ به غير ذلك من الوجوه التي ذكرت دليل يجب التسليم له .اهـ
وتعقب أيضا الألوسي هذا القول بأنه لا يناسب مقام التشديد الوعيد الوارد في الآية؛ كما أنه لم يوافق تعميم التهديد للجميع ؛ فالتهديد في الآية عام والذين تم إجلاؤهم طائفة من اليهود
الترجيح
رجح ابن جرير قول ابن عباس قال رحمه الله :" : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى قوله : { مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها } : من قبل أن نطمس أبصارها ونمحو آثارها فنسوّيها كالأقفاء ، فنردّها على أدبارها ، فنجعل أبصارها في أدبارها ، يعني بذلك : فنجعل الوجوه في أدبار الوجوه ، فيكون معناه : فنحوّل الوجوه أقفاء ، والأقفاء وجوها ، فيمشون القهقري ، كما قال ابن عباس وعطية ومن قال ذلك ...
وحجته في ذلك رحمه الله تعالى السياق ؛ فسياق الآية في اليهود قال رحمه الله :" وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الله جلّ ثناؤه خاطب بهذه الاَية اليهود الذين وصف صفتهم بقوله : { ألَمْ تَرَ إلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يَشْتَرُونَ الضّلالَةَ } ثم حذّرهم جلّ ثناؤه بقوله : { يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بمَا نَزّلْنا مُصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها } . . . الاَية ، بأَسه وسطوَتَه ، وتعجيل عقابه لهم إن هم لم يؤمنوا بما أمرهم بالإيمان به ، ولا شكّ أنهم كانوا لما أمرهم بالإيمان به يومئذ كفارا.اهـ
وقال ابن كثير في ترجحه بعد ان ذكر قول ابن عباس وعطية العوفي قال :" وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ، وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي صَرْفِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَرَدِّهِمْ إِلَى الْبَاطِلِ وَرُجُوعِهِمْ عَنِ الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ إِلَى سُبُلِ الضَّلَالَةِ يَهْرَعُونَ وَيَمْشُونَ الْقَهْقَرَى عَلَى أَدْبَارِهِمْ، وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا **وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ } . إِنَّ هَذَا مَثَلُ سُوءٍ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ وَمَنْعِهِمْ عَنِ الْهُدَى." اهـ
[فيدل على جمعه بين القولين، فمع الإيمان بقدرة الله عز وجل على طمس وجوههم على وجه الحقيقة، ففي هذا أيضًا صرف لهم عن الحق، ورد إلى الباطل جزاء وفاقًا لهم على إعراضهم عن الحق والكفر به]
المراد "بأصحاب السبت"
- هم أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت في الصيد. ذكره ابن عطية
- المراد باللعنة
في ذلك قولان
-القول الأول-المراد باللعنة هو مسخهم وهو قول الحسن (110) و قتادة (117) والسدي (127)..وهو قول السلف قاطبة ؛ ولم يُذكر لهم قول غيره
تخريج الأقوال:
تخريج قول الحسن أخرجه عبد الرزاق و ابن جرير وابن وأبي حاتم من طريق معمر عنه
تخريج قول قتادة أخرجه عبد الرزاق و ابن جرير و ابن المنذر من طريق معمر عنه
تخريج قول السدي أخرجه ابن جرير من طريق أسباط عنه
توجيه القول :
ما ورد في قوله تعالى :" {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} فالآية بينت أن لعن اليهود بأن جعل منهم.قردة وخنازير
فيحمل معنى آية المائدة على آية النساء
القول الثاني- اللعنة الطرد والإبعاد من رحمة الله والمراد به ما يحصل لهم من الذلة والمهانة
واليهود مازالت اللعنة تتبعهم والناس يلعنونهم في كل زمان ومكان ذكره الألوسي وابن عاشور
قال الألوسي :" ملعونون بكل لسان وفي كل زمان ، فاللعن بمعناه الظاهر ؛ والمراد من التشبيه بلعن أصحاب السبت الإغراق في وصفه "اهـ
توجيه القول
ما جاء في سورة المائدة في قوله تعالى :" مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِير.."} فالآية عطفت المسخ على اللعنة والعطف الأصل فيه المغايرة؛ فدل ذلك أن اللعن غير المسخ؛ فوجب المغايرة بين المسخ واللعنة في سورة النساء...فإن حمل الطمس على المسخ يحمل اللعن على معناه الظاهر ؛و إن حمل الطمس على الذل والإهانة يحمل اللعن على المسخ
قال ابن عاشور:"وقوله : { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } أريد باللعن هنا الخزي ، فهو غير الطمس ، فإن كان الطمس مراداً به المسخ فاللعن مراد به الذلّ ، وإن كان الطمس مراداً به الذلّ فاللعن مراد به المسخ .اهـ
وقد يرد هذا القول :أنه لا يصح الإكتفاء به لأنه مخالف لإجماع السلف من أن المراد باللعن هو المسخ..؛فلابد من جمع القولين معا
[وفي مسخهم إبعاد عن رحمة الله وغضب منه سبحانه، أعاذنا الله]
وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا
المراد بأمر الله ؛ فيه قولان
1- الأمر في الآية واحد الأمور لا واحد الأوامر ؛ ذكره ابن عطية
والمراد به ما يحل به في الآية عباده من عذاب ولعنة.
{ مَفْعُولاً } نافذاً واقعاً في الحال أو كائناً في المستقبل لا محالة
2- الأمر في الآية المأمور ؛ مصدرا وقع موقع المفعول ؛ وسمي المأمور أمر الله لأنه عن أمره كان وبأمره ، ذكره ابن جرير
والمراد به هنا أمر التكوين لا الأمر الشرعي. والمعنى : وكان ما أمر الله مفعولاً . والمعنى أنه متى أراده كان كقوله { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } .
نظير الآية
-و مما يشبه هذه الآية ، في وعيديها ، بآية يس . أعني قوله تعالى : ( ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون * ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون )
قال الله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء : 48]
نزول الآية
-عن عبد الله بن عمر ، أنه قال : لما نزلت : { يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسهِمْ } . . . الاَية ، قام رجل فقال : والشرك يا نبيّ الله . فكره ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : { إنّ اللّهِ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ باللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثما عَظِيما } . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم
-منصور بن عمران البرجمي ، قال : سمعت أبا مجلز يقول لما نزلت هذه الآية : { قال يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } الآية ، قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فتلاها على الناس ، فقام إليه رجل فقال : والشرك بالله ، فسكت ، ثم قام إليه فقال : يا رسول الله والشرك بالله ، فسكت مرتين ، أو ثلاثا ، قال : فنزلت هذه الآية : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } قال : فأثبتت هذه في الزمر ، وأثبتت هذه في النساء/ . رواه ابن المنذر
المعنى الجملي للآية
ذكر الله في هذه الآية الكريمة أنه تعالى لا يغفر الإشراك به وأنه يغفر غير ذلك لمن يشاء وأن من أشرك به فقد افترى إثمًا عظيمًا .
مناسبة الآية لما قبلها
ورد في ذلك أقوال أن الآية جاءت
-أن هذه الآية متعلقة بما قبلها وفي بيان تلك العلاقة أقوال
-- جيء بها كالتعليل للتهديد والوعيد السابق ذكره وهو طمس الوجوه والرد على الأدبار واللعنة .. والمعنى :آمنوا بالقرآن من قبل أن ينزل بكم العذاب ، لأنّ الله يغفر ما دون الإشراك به. ذكره ابن عاشور
-- أن في هذه الآية فتح لباب المغفرة التي كتبها الله على نفسه لعباده ؛ لأنه كتب على نفسه الرحمة ، ودعوة لأهل الكتاب للتوبة وترك الكفر والشرك الذي هم عليه ؛ فإن فعلوا ذلك فإن الله يفغر لهم باق الذنوب جميعا .ذكره أبو زهرة
-** الآية جاءت لبيان حال أهل الكتاب؛ وأنهم قد وقعوا في الشرك فلا يستهولنكم تسميتهم بأهل الكتاب الذي يدخل فيه الإيمان بالله والأنبياء ..قال رشيد رضا:" كأنه يقول لا يغرنكم انتماؤكم إلى الكتب والأنبياء وقد هدمتم أساس دينهم بالشرك الذي لا يغفره الله بحال من الأحوال ."
--
وقيل الآية استئناف لكلام جديد فهي جملة اعتراضية ؛ وقعت اعتراضا بين قوارع أهل الكتاب ومواعظهم ؛ وهى كالتمهيد لما بعدها لتشنيع حال من فضل الشرك على الإيمان في قوله تعالى :" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا." ذكره ابن عاشور
تفسير الآية
:" إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ "
ظاهر الآية أنها عامة في كل مشرك ؛ سواء مات على شركه أم تاب عنه ؛ فإن الله لا يغفره ؛ لكن قد ورد من النصوص ما يبين ويفسر محل كونه لا يغفر الإشراك به؛ أن ذلك إذا لم يتب المشرك من شركه ، فإن تاب غفر له كقوله تعالى :" {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } إلى قوله {... إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } وقال تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ }
وأجمع أهل العلم أن المشرك إذا مات على شركه لم يكن من أهل المغفرة التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما تقتضيه مشيئته..
وأن المشرك إذا تاب من شركه وأناب إلى ربه ومات على توبته مغفور له بإجماع. لأنه لا خلاف في أن التوبة تسقط الذنوب قال تعالى :" {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] ؛ وقوله :{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10]
فهذا الجزء من الآية " :" إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ " مجمع عليه بين طوائف أهل الإسلام.
-إذن فقوله ":" إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ "؛ المراد به من مات وهو مشرك؛فهذا لا يغفر الله له بإجماع أهل العلم والجنة محرمة عليه وهو مخلد في النار ولا خلاف في ذلك كما قال تعالى: { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ }
- وأما التائب إذا مات على توبته فهو عند أهل السنة وجمهور فقهاء الأمة من أهل الجنة مغفور له لقوله تعالى " {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا }
وكذا من باب أولى من كان محسن بإيمانه مات على ذلك ولم يقترف ذنبا فهذا في الجنة محتوم عليه حسب الخبر من الله تعالى بإجماع.
-روى جابر بن عبد الله أنه قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الموجبتين ، فقال : " من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ، ومن مات يشرك بالله دخل النار "
-ويدخل في قوله "أن يشرك "
ويدخل في قوله "أن يشرك به" المشرك وكذا الكافر؛ وأهل الكتاب على حد السواء .
وقوله " وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ "
حكي عن علي رضي الله عنه أن هذه الآية أرجى آية في القرآن قوله : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ذكره البغوي
مرجع اسم الإشارة "ذلك"
يرجع إلى الشرك والمعنى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء
والمعنى أن الذنوب التي دون الشرك داخلة تحت المشيئة .
وقوله " ما دون ذلك" فيه قدر من الإجمال ؛يدخل فيه كبائر الآثام ؛ وصغائرها .
فُحتاج في تبينه إلى نصوص أخرى من الكتاب والسنة
حكم من مات على ذنبه ولم يتب منه
المذنب إذا مات قبل توبته، فهذا موضع الخلاف، بين طوائف أهل الإسلام
وهذا المذنب الذي لم يتب له حالان: إما يكون صاحب كبائر؛ أو صاحب صغائر.
فالراجح من أقوال أهل السنة أن صحاب الصغار مغفور له ؛ وأما صحاب الكبيرة فهو داخل تحت المشيئة الله ؛ إن شاء غفر الله له وإن شاء عذبه بحسب ذنبه؛ ومشيئة الله تابعة لحكمته ؛ قال تعالى "{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا } [النساء: 31].
وقال تعالى :{وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ }
وصاحب الكبيرة إن عذب وأدخل النار فهو لا يخلد فيه بل يعذب بقدر ذنبه و يخرج منها ويدخل الجنة
-وقالت المرجئة: هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته.
وحجتهم في ذلك أن الإيمان عندهم شيء واحد ؛ ومحله القلب وهو التصديق ؛ فالمعاصي و الذنوب والآثام لا تبطل التصديق ولا تنافيه ؛ فالإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص ؛ فالعاصي عندهم باق على إيمانه بل هو كامل الإيمان؛ وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعيد كلها مخصصة في الكفار، وآيات الوعد عامة في المؤمنين، تقيّهم وعاصيهم.
وحملت المرجئة قوله تعالى " وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ " على من يشاء الإيمان ؛ فالمشيئة عندهم معلقة بالإيمان ممن يؤمن؛ لا بغفران الله لمن يغفر له
ولا وجه لما ذهبوا إليه لأنه يلزم عليه لوازم باطلة ؛من ذلك أنه يلزم يكون قوله { ويغفر ما دون ذلك } عام في كافر ومؤمن ، فإذا خصص المؤمنون بقوله { لمن يشاء } وجب أن الكافرين لا يغفر لهم ما دون ذلك ، ويجازون به
قال القاضي أبو محمد : وذلك وإن كان مما قد قيل - فهو مما لم يقصد بالآية على تأويل أحد من العلماء ، ويرد على هذا المنزع بطول التقسيم ، لأن الشرك مغفور أيضاً لمن شاء الله أن يؤمن .
-قالت المعتزلة: من مات وهو صاحب كبيرة فهو في النار ولا بد.وحجتهم في ذلك أن الإيمان كله واحد لا يتجزأ لا يقبل التبعض ؛ إذا ذهب بعضه ذهب كله، وهم يرون أن الذنوب منها كبائر ومنها صغائر
واحتجوا لقولهم بقوله تعالى :"ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً }
وجه الدلالة: أن قتل النفس كبيرة من الكبائر و الله حكم على مرتكب الكبير أنه في النار خالدا فيها ؛ فهذا دليل أن صاحب الكبيرة مخلد في النار
-وتعقب :أنه لا وجه لما ذهبوا إليه لأنه يمكن تخريج الآية على وجوه:
-أن المراد بقوله "متعمدا" مستحلاوإذا استحل أحد ما حرم الله عليه فقد كفر ، ويدل على ما قال ابن عباس : إنّا نجد الله تعالى في أمر القتل إذا ذكر القصاص لم يذكر الوعيد ، وإذا ذكر الوعيد بالنار لم يذكر القصاص ، فيظهر أن القصاص للقاتل المؤمن العاصي ، والوعيد للمستحل الذي في حكم الكافر ،
- أن الخلود إذا لم يقرن بقوله «أبداً » فجائز أن يراد به الزمن المتطاول ، إذ ذلك معهود في كلام العرب
قال الشاعر : وَهَلْ يَعِمَنْ إلاّ سعيدٌ مُخَلَّدٌ . . . قَليلُ الهمومِ ما يَبِيتُ بِأَوْجَالِ.
-أن الله أخبر أنه يغفر الذنوب جميعا :" { قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، إن الله يغفر الذنوب جميعاً } فيجب حمل آية القتل على آية الزمر و آية " إن الله لا يغفر أن يشرك به"
-وتقويةً لمذهبهم حملت المعتزلة قوله تعالى :" وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ" على التائب أي من يشاء أن يتوب.
ولا وجه لما ذهبوا إليه لأنه يلزم من قولهم أن التائب من الشرك لا يغفر الله له؛ وهذا لا زم باطل لا قائل به فدل على بطلان قولهم
-قالت الخوارج: من مات وهو صاحب كبيرة أو صغيرة فهو في النار مخلد ولا إيمان له، والحجة في ذلك أن الإيمان كله واحد لا يتجزأ لا يقبل التبعض ؛إذا ذهب بعضه ذهب كله، وأن الذنوب عندهم كلها كبائر
وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعد كلها مخصصة في المؤمن المحسن الذي لم يعص قط، والمؤمن التائب، وجعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كفارا أو مؤمنين.
والحق أن يقال: آيات الوعد ظاهرة العموم، والمراد بها الخصوص في المؤمن المحسن، وفي التائب، وفيمن سبق في علمه تعالى العفو عنه دون تعذيب من العصاة.
وأن آيات الوعيد لفظها عموم، والمراد بها الخصوص في الكفرة وفيمن سبق في علمه تعالى أنه يعذبه من العصاة.
آية سورة النساء الفيصل بين الفرق المتنازعة
- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ " نص في موضع النزاع
ذلك أن:
- قوله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ" فصل مجمع عليه.
-وقوله: "وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ" رد قاطع لا محيد عنه على المعتزلة ،فما دون الشرك مغفور ومنه الكبائر الذنوب.
-وقوله "لمن يشاء" رد قاطع على المرجئة ؛ فموجب الغفران " ما دون الشرك "إنما هو لقوم دون قوم، بخلاف ما زعموه من أنه مغفور لكل مؤمن.
قوله : ( وَمَنْ يُّشْرِكْ بِاللَّهِ )
والآية كالتعليل للحكم السابق وهو عدم مغفرة الشرك...فإن قال قائل لماذا الله لا يغفر الشرك يجاب لأن مشرك فقد افترى إثما عظيما على الله عزوجل .
معنى افترى
افترى اختلق ؛ وأصل الفري القطع
قال الراغب : الفرى قطع الجلد للخرز والإصلاح ، والإفراء للإفساد ، والافتراء فيهما ، وفي الإفساد أكثر وكذلك استعمل في القرآن في الكذب والشّرك والظّلم."اهـ.
قال ابن عطية :" والفرية : أشد مراتب الكذب قبحاً ، وهو الاختلاق للعصبية".