الشيخ: . . . قال بعد ذلك رحمه الله تعالى: "ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه قد رقم" نؤمن باللوح والقلم، اللوح والقلم تعلق بالقدر من جهة أن القدر من مراتبه الكتابة، مراتب الإيمان به الكتابة، والكتابة كانت بالقلم في اللوح , لهذا لا يتم الإيمان بالكتابة إلا بالإيمان باللوح والقلم , والله جل وعلا أقسم بالقلم فقال سبحانه: ] ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [ , والقلم هذا هو القلم الذي كتب به القضاء، وكتب به القدر في أحد وجهي التفسير، واللوح ذكره الله جل وعلا في كتابه في غير ما آية كقوله جل وعلا: ] بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ [ وسماه سبحانه كتاباً مكنوناً، فقال: ] فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَهَّرُونَ [ وسماه جل وعلا أم الكتاب فقال سبحانه: ] يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ[.
وسمي لوحاً لما فيه من البهاء والنور والإضاءة؛ لأنه يلوح بمعنى أنه يظهر ويبين لما فيه من النور، فالإيمان باللوح والقلم من الإيمان بكتابة الله جل وعلا , ونؤمن بجميع ما في اللوح رقم، كل ما كتبه الله جل وعلا نؤمن به , فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وما كتبه الله لابد أنه كائن، لهذا قال بعده: "فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه ..." إلى آخر كلامه .
إذا تبين هذا ففي مسألة اللوح والقلم عدة مسائل:
الأولى: أن اللوح جاء وصفه في حديث حسنه طائفة من أهل العلم , ويحتاج في بحث إسناده إلى مزيد نظر. فيه أن اللوح كما جاء في الحديث: ((خلق الله اللوح من درة بيضاء)) ووصفه بأن حافتيه الدر والياقوت , يعني إطار هذا اللوح أو دفتا هذا اللوح من در وياقوت , وصفحات هذا اللوح حمراء , جعل الله هذا اللوح كما وصفه بعض السلف على يمين العرش , وهو بين جبين إسرافيل لا ينظر فيه.
وجاء أيضاً أن الله خلق القلم وجعله من نور , وأن طوله ما بين السماء والأرض، وأن اللوح المحفوظ طوله ما بين السماء والأرض , وعرضه كما بين المشرق والمغرب، وهذا كما ذكرت لك يحتاج إلى مزيد بحث , لكن يذكره العلماء من أهل السنة , وتتابعوا عليه في حديث رواه يعني في أصل وصف اللوح والقلم , رواه الطبراني وغيره وحُسِّن إسناده كما ذكر لك، وقد ساقه أو ذكر الحديث شارح الطحاوية وغيره.
المسألة الثانية: أن القلم الذي كتب الله جل وعلا به القدر، كُتب به ما يتعلق بهذا العالم يعني كُتب به القدر إلى قيام الساعة , كما جاء في الحديث الصحيح حديث عبد الله بن عمرو , أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((قدّر الله مقادير الخلائق – يعني كتب مقادير الخلائق - قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة , وكان عرشه على الماء)).
فالقلم متعلقةُ كتابته باللوح المحفوظ بما هو كائن إلى قيام الساعة.
المسألة الثالثة: أن القلم لما خلقه الله جل وعلا أمره أن يكتب , فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة , كما جاء ذلك في حديث عبادة بن الصامت الذي رواه أبو داود والترمذي , والإمام أحمد , وجماعة بألفاظ متقاربة , وفيه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب , فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة)) وهذا لفظ أبي داود وغيره. وجاء أيضاً بلفظ: ((أول ما خلقَ الله القلمَ قال له اكتب فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة)).
ولهذا اختلف العلماء هنا في هل هذا الحديث على ظاهره في أن أول المخلوقات القلم , أو أن هذا الحديث له معنى آخر؟ وجعلوا هذا الحديث وحديث عبد الله بن عمرو من الأحاديث التي ينبغي الجمع بينها.
وهذا هو المسألة الثالثة وهو الجمع ما بين الحديث ـ أحد الحاضرين: الرابعة ـ الرابعة هي الجمع ما بين الحديثين , فتلحظ أن حديث عبد الله بن عمرو فيه قال: ((قدر الله مقادير الخلائق)) ولما قدر يعني كتب كان عرشه على الماء.
وفي حديث عبادة قال: ((إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب)) فيقتضي حديث عبادة أن الأمر بالكتابة كان مرتباً على ابتداء الخلق، خلق القلم وتقدير القدر كان قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة والعرش على الماء، فدل حديث عبد الله بن عمرو على وجود تقديم , وعلى وجود العرش , خلق العرش , وعلى خلق الماء، ودل حديث عبادة على أن خلق القلم تبعه قول الله جلا وعلا القلم: اكتب , فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة، وهذا الترتيب جاء بحرف الفاء الذي يدل على .. يعني في مثل هذا السياق على أن هذا بعد هذا دون تراخ زمني , لهذا اختلف العلماء في هذه المسألة؛ في الجمع بين هذين الحديثين , هل القلم هو أول المخلوقات أم العرش خلق قبله؟ على قولين للسلف فمن بعدهم:
والقول الأول: وهو قول جمهور السلف , كما نسب ذلك إليهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره , قال .. يعني القول الأول: إن العرش قبل القلم وكذلك الماء قبل القلم.
والقول الثاني: أن القلم هو أول المخلوقات والعرش والماء بعد ذلك , وهو قول طائفة من أهل العلم، والترجيح ما بين هذين القولين هو أن الأحاديث يجب الجمع بينها وعدم تعارضها، وحديث عبادة بن الصامت في قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب )) يقتضي أن الكتابة كانت بعد خلقه. وحديث عبد الله بن عمرو يقتضي تقدم وجود العرش والماء على حصول الكتابة، فدل هذان الحديثان على أن العرش والماء موجودان قبل، وأن خلق القلم تبعته الكتابة، ولهذا نسبه شيخ الإسلام إلى جمهور السلف في أن القلم موجود بعد العرش والماء، وهذا تدل عليه رواية: ((أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب))، يعني حين، أول بمعنى حين، ((أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب)) حين خلقه قال له: اكتب , وهذا هو معنى: ((إن أول ما خلقه الله القلم فقال له اكتب))؛ لأن الجمع بين الروايات أولى من تعارضها .
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه التبيان أن قوله: ((إن أول ما خلق الله القلم)) ورواية: ((أول ما خلق الله القلم)) إما أن تجعل جملتين أو جملة واحدة، وقد ذكر هذا النقل شارح الطحاوية فترجعوا إليه، وخلاصة البحث هو ما ذكرت لك من التقدير فإن قوله: ((إن أول ما خلق الله القلم)) هنا برفع القلم تكون خبر إن , يعني إن أول الذي خلق الله , إن أول المخلوقات القلمُ، فقال له اكتب وإذا كان أول المخلوقات فكيف يفسر مع حديث، ((وكان عرشه على الماء)) الذي ذكرته لك فقوله: إن أول المخلوقات , أو أول ما خلقه الله، أول الذي خلق الله يفهم على أن القلم جرى بما هو كائن إلى قيام الساعة قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة , فالقلم متعلق بما كتب في اللوح المحفوظ , متعلق بما يحدث في هذا العالم المخصوص , لا في مطلق الأشياء , ولهذا علق بأنه إلى قيام الساعة .
فإذن يفهم لما كان التعلق، تعلق الكتابة بهذا العالم , الذي جرى التقدير عليه إلى قيام الساعة , يفهم أن القلم لما تعلق بهذا العالم , كتابة لتقديره ولقدره ولآجاله ... إلى آخره فإنه من هذا العالم؛ لأن العوالم أجناس , والله جل وعلا جعل لمخلوقاته أقداراً وأجناساً , فإذن يفهم قوله: ((إن أول ما خلق الله القلم)) يعني من هذا العالم، فالقلم قبل السماوات وقبل الأرض وقبل الدخان المتعلق الذي خلق منه السماوات والأرض , وكل ما يتصل بهذا العالم المرئي المشاهد، فالقلم هو أول المخلوقات , أما العرش والماء فليسا متعلقين بهذا العالم .
فإذن إعمال الحديثين مع ما يتفق مع عقيدة أهل السنة والجماعة واضح , لا إشكال فيه , فيكون ذلك هو تقرير هذه المسألة , وقد لخص ابن القيم المسألة في نونيته وبحثها مفصلاً في كتابه التبيان في أقسام القرآن وفي غيره، فقال في النونية رحمه الله:
والناس مختلفون في القلم الذي = كُتب القضاء به من الديان
هل كان قبل العرش أو هو بعده = قولان عند أبي العلا الهمذان
والحق أن العرش قبل لأنه = عند الكتابة كان ذا أركان
وهذا القول كما ترى من تقريره مع دليله هو الصحيح , وهو الموافق لفقه النص وفقه خلق العالم وآثار فعل الله جل وعلا في ملكوته , ومتفق مع القول بأن الله جل وعلا فعال لما يريد، وأن قبل هذا العالم ثم عوالم أخرى , والله جل وعلا يخلق ما يشاء ويختار , وأنه ثم أشياء أخرى بعد قيام الساعة، والقلم متقيد بما خلقه الله جل وعلا له , والله سبحانه له الأمر كله , يقضي ما يشاء , ويحكم ما يريد سبحانه وتعالى.
المسألة الخامسة:
ذكر أو تقول: جاء في حديث أنس الذي رواه البخاري وغيره , في قصة الإسراء , أن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر عروجه إلى الله جل وعلا ليلة المعراج , ثم قال: في وصف ارتفاعه عليه الصلاة والسلام: ((ثم إني رفعت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام)) وهذه الأقلام غير القلم الذي كتب به القدر؛ فإن ذلك القلم من نور , كتب به القدر في اللوح المحفوظ , وأما هذه الأقلام فهي التي بأيدي الملائكة، أقلام يكتب بها وحي الله جل وعلا إلى ملائكته مما يوكلون به من الأشياء , فهم يكتبون أمر الله جل وعلا، وله سبحانه وتعالى كلمات لا تنقضي كما قال جل وعلا: ] وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [ , فالله جل وعلا كلماته الكونية لا تنفد , يأمر وينهى سبحانه وتعالى في ملكوته , والملائكة تكتب , فهذه الأقلام نوع آخر، ولك أن تقول: هذا هو النوع الثاني وهي أقلام الوحي التي بأيدي الملائكة يكتبون ما يوحي الله جل وعلا به في سمائه.
قال رحمه الله تعالى بعد ذلك: "فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه – يعني في اللوح - أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه , جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة , وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه , وما أصابه لم يكن ليخطئه".
وهذه العقيدة هي حقيقة الإيمان بالقضاء والقدر، يعني يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه , وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه , وأنه لو فعل ما فعل فإنه لن يحجب قضاء الله جل وعلا وقدره , لِمَ؟ لأنه لا يمكن أن يفعل خلاف ما قدر الله جل وعلا , لهذا وجب التسليم لله جل وعلا في أمره , ووجب في أمر المصائب التي لا اختيار للعبد فيها أن يسلم لله جل وعلا ذلك , وأن يؤمن بقضاء الله جل وعلا الذي يقضيه , وقضاء الله جل وعلا كما ذكرت لك هو إنفاذه ما قدر جل وعلا، وهذا القضاء له جهتان: جهة متعلقة بالله جل وعلا , وهي فعله سبحانه وتعالى، وفعله بأن يقضي صفة من صفاته , فهذه يجب على العبد أن يحبها , وأن يرضى بها؛ لأنها صفة من صفات الله جل جلاله.
وللقضاء تعلق آخر بالعبد لا بالرب , فيكون مقضياً على العبد , والمقضي على العبد نوعان: مقضي عليه من جهة المصائب , ومقضي عليه من جهة المعائب , والمصائب ربما كان لا اختيار له فيها، والمعائب فعلها بإرادته , لهذا بحث العلماء مسألة الرضا بالقضاء , وهل القضاء تسليم له؟ يعني الرضا به وتحقيق القول في هذه المسألة أن تعلم أن القضاء غير المقضي , المقضي هذا تعلق القضاء بالعبد , والقضاء هو قضاء الله جل وعلا , وهو فعله , وقد يقال فيما يتعلق بالعبد: هذا قضي عليه وصار قضاءً عليه , فيكون قضاءً بالنسبة للعبد وهو مقضي، لهذا نقول: جهة الرب جل وعلا في القضاء هذا نرضى بها ونحبها , وأما ما يقضيه الله جل وعلا على العبد فإنه ما كان من المعائب، المعاصي والآثام التي تقع منه فإنه يجب عليه ألا يرضى بها، يعني وقعت عليه , لكن يجب عليه أن يكره ذلك الذي وقع منه، ولو كان قضاءً ويجب عليه أن يسارع في الانسلاخ من آثاره بالتوبة والإنابة، فلا يحب هذا العيب , ولا هذا الذنب مع أنه قضاء , ولا يرضى به بل يسارع لتخليص نفسه منه، وأما ما كان من قبيل المصائب التي يصاب بها العبد فإن الرضا بها مستحب غير واجب، أصيب بمصيبة فإن الرضا بها مطلوب , لكنه مستحب كما قال جلا وعلا: ] وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [ قال علقمة رحمه الله: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم .
فالرضا بالمقضي الذي هو من المصائب مستحب , لا واجب , بالنظر إلى تعلقه بالعبد , وهو المقضي , أما بالنظر إلى تعلقه بالله فسواء كان من المصائب , أو من المعائب , فإنه يجب الرضا عن الله جل وعلا في أفعاله وصفاته , ومحبة أفعال الله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا يفعل ما يفعل عن حكمة عظيمة كما قال سبحانه: ] وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً [ فالله جل وعلا يقضي بحكمته ما يشاء وله الحكمة البالغة ] لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [ فإذن تلخص من ذلك أن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه , وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
ويتصل بهذا البحث .. أو نطويه؛ لأنه قد يطول علينا , ومباحث القدر طويلة ترجعون إليها إن شاء الله تعالى .