وكلُّ مُضْمَرٍ لَهُ البِنَا يَجِبْ = ولَفْظُ ما جُرَّ كَلَفْظِ مَا نُصِبْ (1)
المُضْمَرَاتُ كلُّها مَبْنِيَّةٌ؛ لِشَبَهِهَا بالحروفِ في الجُمُودِ (2)؛ ولذلك لا تُصَغَّرُ ولا تُثَنَّى ولا تُجْمَعُ، وإذا ثَبَتَ أنها مَبْنِيَّةٌ فمِنها ما يَشْتَرِكُ فيه الجرُّ والنصبُ، وهو كلُّ ضميرِ نَصْبٍ أو جَرٍّ مُتَّصِلٍ، نحوُ: أَكْرَمْتُكَ ومَرَرْتُ بِكَ، وإنَّه, ولَهُ، فالكافُ في (أَكْرَمْتُكَ) في موضِعِ نصبٍ، وفي (بِكَ) في موضعِ جرٍّ، والهاءُ في (إنَّه) في موضعِ نصبٍ، وفي (لَهُ) في موضعِ جرٍّ، ومنها ما يَشْتَرِكُ فيه الرفعُ والنصبُ والجرُّ، وهو (نا)، وأشارَ إليه بقولِهِ:
للرفعِ والنصبِ وجَرٍّ (نَا) صَلَحْ = كاعْرِفْ بِنَا فَإِنَّنَا نِلْنَا الْمِنَحْ(3)
أي: صَلَحَ لفظُ (نا) للرفعِ، نحوُ: نِلْنَا، وللنصبِ، نحوُ: فإنَّنا، وللجرِّ، نحوُ: بِنَا، وممَّا يُسْتَعْمَلُ للرفعِ والنصبِ والجرِّ الياءُ، فمثالُ الرفعِ نحوُ: (اضْرِبِي)، ومثالُ النصبِ نحوُ: (أَكْرَمَنِي)، ومثالُ الجرِّ نحوُ: (مَرَّ بِي)، ويُسْتَعْمَلُ في الثلاثةِ أيضاً (هُم)، فمثالُ الرفعِ (هم قائِمُونَ)، ومثالُ النصبِ (أَكْرَمْتُهُمْ)، ومثالُ الجرِّ (لهم).
وإنما لم يَذْكُرِ المصنِّفُ الياءَ وهم؛ لأنَّهما لا يُشْبِهَانِ (نا) من كلِّ وجهٍ؛ لأنَّ (نا) تكونُ للرفعِ والنصبِ والجرِّ، والمعنَى واحدٌ، وهي ضميرٌ متَّصِلٌ في الأحوالِ الثلاثةِ، بخلافِ الياءِ؛ فإنَّها وإنِ اسْتُعْمِلَتْ للرفعِ والنصبِ والجرِّ وكانَتْ ضميراً متَّصِلاً في الأحوالِ الثلاثةِ لم تَكُنْ بمعنًى واحدٍ في الأحوالِ الثلاثةِ؛ لأنَّها في حالِ الرفعِ للمخاطَبِ(4)، وفي حالَتَيِ النصبِ والجرِّ للمتكلِّمِ، وكذلك (هم)؛ لأنَّها وإنْ كانَتْ بمعنًى واحدٍ في الأحوالِ الثلاثةِ فلَيْسَتْ مثلَ (نا)؛ لأنَّها في حالةِ الرفعِ ضميرٌ منفصِلٌ، وفي حالَتَيِ النصبِ والجرِّ ضميرٌ متَّصِلٌ.
وألفٌ والواوُ والنونُ لِمَا = غابَ وغَيْرِهِ كَقَاما واعْلَمَا(5)
الألفُ والواوُ والنونُ من ضمائرِ الرفعِ المتَّصِلَةِ، وتكونُ للغائبِ وللمخاطَبِ، فمِثالُ الغائبِ: (الزيدانِ قامَا، والزيدونَ قامُوا، والهِندَاتُ قُمْنَ)، ومثالُ المخاطَبِ: (اعْلَمَا، واعْلَمُوا، واعْلَمْنَ)، ويَدْخُلُ تحتَ قولِ المصنِّفِ: (وغَيْرِهِ) المخاطَبُ والمتكلِّمُ، وليسَ هذا بجَيِّدٍ؛ لأنَّ هذه الثلاثةَ لا تكونُ للمتكلِّمِ أصلاً، بل إنما تكونُ للغائبِ أو المخاطَبِ كما مَثَّلْنَا.
([1]) (وكلُّ) مبتدأٌ أَوَّلُ، وكلُّ مضافٌ و(مُضْمَرٍ) مضافٌ إليه، (لَهُ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بيَجِب الآتي، (البِنَا) مبتدأٌ ثانٍ، (يَجِبْ) فعلٌ مضارعٌ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى البِنَا، والجملةُ مِن الفعلِ وفاعلِه في محلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ الثاني، وجملةُ المبتدأِ الثاني وخبرِه في محلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ الأوَّلِ، (ولفظُ) مبتدأٌ، ولفظُ مضافٌ و(ما) اسمٌ موصولٌ مضافٌ إليه مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ جرٍّ، (جُرَّ) فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى ما الموصولةِ، والجملةُ لا محلَّ لها من الإعرابِ؛ صِلَةٌ، (كَلَفْظِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرِ المبتدأِ، ولفظِ مضافٌ و(ما) اسمٌ موصولٌ مضافٌ إليه، (نُصِبْ) فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى ما المجرورةِ مَحَلاًّ بالإضافةِ، والجملةُ من الفعلِ ونائبِ فاعلِه لا مَحَلَّ لها مِن الإعرابِ؛ صِلَةُ الموصولِ.
([2]) قد عَرَفْتَ ـ فيما مضَى أوَّلَ بابِ المعرَبِ والمبنيِّ ـ أنَّ الضمائرَ مبنيَّةٌ لشَبَهِهَا بالحروفِ شَبَهاً وَضْعِيًّا؛ بسببِ كونِ أكثرِها قد وُضِعَ على حرفٍ واحدٍ أو حرفيْنِ، وحُمِلَ ما وُضِعَ على أكثرَ من ذلكَ عليه؛ حَمْلاً للأقلِّ على الأكثرِ.
وقد ذَكَرَ الشارِحُ في هذا الموضِعِ وَجهاً ثانياً من وُجُوهِ شَبَهِ الضمائرِ بالحروفِ، وهو ما سَمَّاهُ بالشَّبَهِ الجُمُودِيِّ، وهو: كونُ الضمائرِ بحيثُ لا تَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَ الأسماءِ، فلا تُثَنَّى ولا تُصَغَّرُ ولا تُجْمَعُ، وأمَّا نحوُ: (هما وهم وهُنَّ وأنتما وأنتم وأنتُنَّ)، فهذه صِيَغٌ وُضِعَتْ مِن أوَّلِ الأمرِ على هذا الوجهِ، وليسَتْ علامةُ المثنَّى والجمعِ طارئةً عليها.
ونقولُ: قد أَشْبَهَتِ الضمائرُ الحروفَ في وجهٍ ثالثٍ، وهي أنها مُفْتَقِرَةٌ في دَلالَتِها على مَعْنَاهَا أَلْبَتَّةَ إلى شيءٍ، وهو المرجِعُ في ضميرِ الغائبِ، وقرينةُ التكلُّمِ أو الخِطابِ في ضميرِ الحاضرِ.
وأَشْبَهَتْهُ في وجهٍ رابعٍ، وهو أنها اسْتَغْنَتْ بسببِ اختلافِ صِيَغِها عن أنْ تُعْرَبَ، فأنتَ تَرَى أنهم قد وَضَعُوا للرفعِ صِيغةً لا تُسْتَعْمَلُ في غيرِه، وللنصبِ صِيغَةً أُخْرَى، ولم يُجِيزُوا إلاَّ أنْ تُسْتَعْمَلَ فيه، فكانَ مُجَرَّدُ الصِّيغةِ كافياً لبيانِ موقعِ الضميرِ، فلم يَحْتَجْ للإعرابِ ليَبِينَ موقِعُه، فأَشْبَهَ الحروفَ في عدمِ الحاجةِ إلى الإعرابِ، وإنْ كانَ سببُ عدمِ الحاجةِ مُخْتَلِفاً فيهما، (وانظر: ص 15).
([3]) (للرفعِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بصَلَحَ الآتي، (والنصبِ وجرٍّ) معطوفانِ على الرفعِ، و(نا) مبتدأٌ وقد قُصِدَ لفظُه، (صَلَحْ) فعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى نَا، والجملةُ مِن صَلَحَ وفاعلِه في محلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ، (كاعْرِفْ) الكافُ حرفُ جرٍّ، والمجرورُ محذوفٌ، والتقديرُ: كقَوْلِكَ، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٍ لمبتدأٍ محذوفٍ؛ أي: وذلكَ كائنٌ كقولِكَ... إلخ، واعْرِفْ: فعلُ أمرٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه أنتَ، (بِنَا) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ باعْرِفْ، (فَإِنَّنَا) الفاءُ تعليليَّةٌ، وإنَّ: حرفُ توكيدٍ ونصبٍ، ونا: اسْمُها، (نِلْنَا) فعلٌ وفاعلٌ، والجملةُ مِن نالَ وفاعلِه في محَلِّ رفعِ خبرِ إنَّ، (المِنَحْ) مفعولٌ به لنَالَ، منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ؛ وسُكِّنَ لأجلِ الوقفِ.
([4]) كانَ على الشارحِ أنْ يقولَ: (للمخاطَبَةِ)؛ لأنَّ الياءَ في نحوِ: (اضْرِبِي) ضميرُ المؤنَّثةِ المخاطَبَةِ، ويُعْتَذَرُ عنه بأنه أرادَ الجِنْسَ.
([5]) (ألفٌ) مبتدأٌ ، وهو نكرةٌ، وسَوَّغَ الابتداءَ به عَطْفُ المعرفةِ عليها، (والواوُ والنونُ) معطوفانِ على ألفٌ، (لِمَا) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرِ المبتدأِ، (غَابَ) فعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ على ما، والجملةُ لا مَحَلَّ لها؛ صِلَةُ ما، (وغَيْرِهِ) الواوُ حرفُ عطفٍ، غيرِ: معطوفٌ على ما، وغيرِ مضافٌ والضميرُ مضافٌ إليه، (كَقَامَا) الكافُ جارٌّ لقولٍ محذوفٍ، والجارُّ والمجرورُ يَتَعَلَّقَانِ بمحذوفٍ خبرٍ لمبتدأٍ محذوفٍ؛ أي: وذلك كائنٌ كقولِكَ، وقاما: فعلٌ ماضٍ وفاعلٌ، (واعْلَمَا) الواوُ عاطفةٌ، واعْلَمَا: فعلُ أمرٍ، وألفُ الاثنيْنِ فاعِلُه، والجملةُ معطوفةٌ بالواوِ على جملةِ قَامَا.