بابٌ جامعٌ
ذكرَ المؤلفُ في هذا البابِ أنواعاً من أعمالِ الصَّلاةِ، فرأيتُ أنْ أجعلَ كلَّ نوعٍ تحتَ بابٍ يُبيِّنُ مقصودَها، ويشيرُ إلى المعنَى المرادِ منها.
ولذا فإنِّي قدَّمتُ حديثَ أنسٍ في السجودِ على الثوبِ من الحَرِّ، ليكونَ مع حديثِ أبي هريرةَ:" إذا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ…إلخ " لتناسِبُهما، مع أنَّ المؤلِّفَ فصلَ بينهما بحديثينِ غيرِ مناسبينِ لهما.
بابُ تحيةِ المسجدِ
الحديثُ السابعُ بعدَ المائةِ
107- عن أبي قتادةَ الحارثِ بنِ رِبْعِيٍّ الأنصاريِّ، رضيَ اللَّهُ عنهُما قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ:" إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ المَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حتى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ " .
(107) المعنَى الإجماليُّ:
دخلَ سُليكٌ الْغَطفَانِيُّ المسجدَ النَّبِويَّ، يومَ الجمعةِ، والنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخطبُ فجلسَ.
فأمَرهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يَقُومَ ويأتيَ برَكْعَتَيْنِ. ثم أخْبَره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ للمَساجدِ حُرمةً وتَقديراً، فإنَّ لهَا علَى دَاخلِهَا تَحيةً، وهي أنْ لا يجلسَ حتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ. ولذا فإنَّه لم يُعذرْ، ولا هذا الذي جلسَ لِسماعِ خُطبةِ الجمعةِ مِنْ لسانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
اختلافُ الْعُلَمَاءِ:
اختلفَ الْعُلَمَاءُ في جوازِ فِعلِ الصَّلَوَاتِ ذواتِ الأسبابِ كـ (تَحيَّةِ المسجِدِ) أو (صَلاَةِ الكُسوفِ) و(الجنازةِ) و(قضاءِ الفائِتةِ)في أوقاتِ النَّهْيِ.
فذهبَ الحنفيَّةُ والمالكيَّةُ والْحَنَابِلةُ إلَى المنعِ مِنْ ذلك لأحاديثِ النَّهْيِ.
كحَدِيثِ:" لاَ صَلاَةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ولا صَلاَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ ".
وحَدِيثِ:" ثَلاَثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَنْهَانَا أنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ ".
وَذَهَبَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَطَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إلَى جَوَازِ ذلك بِلاَ كَرَاهِيَةٍ، وهُوَ رِوَايةٌ عَنِ الإمامِ أحمدَ، اخْتارهَا شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ مُسْتَدِلِّينَ بهذا الْحَدِيثِ الذي مَعنَا وأَمثَالِهِ، كحَدِيثِ:" مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرِهِ أو نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إِذَا ذَكَرَهُ ".
وحَدِيثِ: " إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آياتِ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا ".
وكُلٌّ مِنْ أدلَّةِ الطَّرفينِ عامٌّ مِنْ وجِهٍ، وخَاصٍّ مِنْ وجْهٍ آخَرَ، إلا أنَّ في إباحةِ الصَّلَوَاتِ ذواتِ الأسبابِ في هذِهِ الأوقاتِ إعْمالاً للأدلَّةِ كُلِّهَا، فَيُحملُ كُلٌّ منهَا علَى مَحمَلٍ، وإنَّ في تلكِ الإباحةِ تَكْثِيراً للعبادةِ التي لهَا سَندٌ قَوِيٌّ مِنَ الشرعِ.
وقد تقدَّمَ هذا الخلافُ في حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رقم(52). ولكِنَّا نَزيدُه هنا وُضوحاً مِنْ كَلاَمِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ فقدْ ذَكَر أَنه كانَ مُتوقِّفاً في الصَّلَوَاتِ ذواتِ الأسبابِ لِبعضِ الأدلَّةِ التي احْتَجَّ بِهِ المَانِعونَ، وبعدَ البحثِ وُجِدَ أنهما إمَّا ضَعيفةٌ أو غَيْرُ دَالَّةٍ، كقولِه:" إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ " فإنَّه عامٌّ لا خصوصَ فِيهِ، وأحاديثُ النَّهْيِ كلُّهَا مَخصوصةٌ، فوجبَ تَقديمُ العامِّ الذي لا خصوصَ فِيهِ؛ لأنَّه حُجَّةٌ باتِّفاقِ السلفِ، وقَدْ ثَبت أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمَرَ بصَلاَةِ تحيَّةِ المسجدِ للدَّاخلِ عندَ الخُطبةِ، وأما حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ في الصَّحِيحَينِ :" لاَ تَتَحَرَّوْا لِصَلاَتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ ولا غُرُوبَهَا " وهذا إنَّما يكونُ في التَّطوُّعِ الْمُطْلَقِ، وقد ثَبَتَ جوازُ بعضِ ذواتِ الأسبابِ بالنَّصِّ كَركعتَيِ الطوافِ والصَّلاَةِ المُعادةِ مع إمامِ الحَيِّ، وبَعضُهَا بالنَّصِّ والإجماعِ كالجنازةِ بعدَ العصرِ، وإذا نُظِر في مُقتضَى الجوازِ لم تُوجدْ لَهُ عِلَّةٌ إلا كونَ الصَّلاَةِ ذاتَ سببٍ. وقد استقرَّ الشرْعُ علَى أنَّ الصَّلاَةَ تُفعلُ حَسبَ الإمكانِ عندَ خَشيةِ فواتِ الوَقْتِ، وإنْ أمكنَ فِعلُهَا بعدَ الوَقْتِ علَى وجْهِ الكمالِ. وكذلك صلواتُ التطوُّعِ ذواتُ الأسبابِ.
ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1ـ مشروعيَّةُ تحيَّةِ المَسجدِ لِدَاخلِه، وذهبَ إلَى وجوبِهَا الظاهريَّةُ، لظاهرِ هذا الْحَدِيثِ. والْجُمْهُورُ ذَهبوا إلَى استحبابِهَا.
2ـ أنَّها مشروعةٌ لدَاخلِ المسجدِ في كُلِّ وَقْتٍ، ولو كانَ وَقْتَ نَهْيٍ لعُمومِ الْحَدِيثِ.
وقد تقدَّمَ الخلافُ فيهَا وفي غيرِها مِنْ ذواتِ الأسبابِ.
3ـ استحبابُ الوضوءِ لداخلِ المسجدِ، لئلا تَفوتَه هذهِ الصَّلاَةُ المأمورِ بهَا.
4ـ قيَّدَ الْعُلَمَاءُ المسجدَ الحرامَ بأنَّ تحِيَّتَه الطَّوافُ. لكن مَنْ لَمْ يُرِدِ الطوافَ أو يَشُقُّ عَلَيْهِ، فلا يَنبغِي أنْ يدعَ الصَّلاَةَ، بل يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.
بابُ النهيِ عن الكلامِ في الصَّلاةِ
الحديثُ الثامنُ بعدَ المائةِ
108- عن زيدِ بنِ أَرْقَمَ رضيَ اللَّهُ عنهُ قالَ:" كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاَةِ، يُكلِّمْ الرَّجُلُ مِنَّا صَاحِبَهُ، وَهُوَ إلَى جَنْبِهِ في الصَّلاَةِ، حتى نَزَلَتْ: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) فأُمِرْنَا بِالسُّكَوتِ، وَنُهِينَا عَن الْكلامِ " .
(108) غريبُ الْحَدِيث:
" قَانِتينَ ": للقُنوتِ عِدَّةُ معانٍ، منهَا: الطاعةُ، والخشوعُ، والدُّعَاءُ وطولُ القيامِ والسكوتُ، وهو الْمُرَادُ هنا، فقد فَهِم مِنْهُ الصَّحَابَةُ نَهْيَهُم عَنِ الكلامِ في الصَّلاَةِ وأمَرَهم بالسكوتِ. واللامُ في قولِهِ " عَنِ الكلامِ " للعَهْدِ إذْ يُقصدُ بهَا الكلامُ الذي كانوا يتَحدَّثون بِهِ.
المعنَى الإجماليُّ:
ذكَرَ زيدُ بنُ أرقمَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أنَّ الْمُسْلِمِينَ كانوا في بَدْءِ أمْرِهم يتكلَّمون في الصَّلاَةِ بقدرِ حاجَتِهم إلَى الكلامِ، فقد كانَ أحدُهم يُكلِّمُ صَاحِبَه بجانِبِه في حاجتِهِ، وكان علَى مَسمَعٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يُنكرْ عليهم.
ولمَّا كانَ في الصَّلاَةِ شُغلٌ بمناجاةِ اللَّهِ عَنِ الكلامِ مع المَخْلوقينَ، أمَرَهُم اللَّهُ تباركَ وتَعَالَى بالمحافظةِ علَى الصَّلاَةِ وأمَرهم بالسكوتِ ونَهاهُم عَنِ الكلامِ، فأنزلَ اللَّهُ تَعَالَى: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطى وَقُومُواْ للِّهِ قَانِتِينَ) سورةُ البقرةِ، آيةُ 238.
فعرفَ الصَّحَابَةُ منهَا نَهيَهُم عَنِ الكلامِ في الصَّلاَةِ فانْتَهَوْا، رَضِي اللَّهُ عَنْهُم.
اختلافُ الْعُلَمَاءِ:
أجمع الْعُلَمَاءُ علَى بطلانِ صَلاَةِ مَنْ تَكلَّم فيهَا عامداً لغيرِ مَصلحتِهَا، عَالِماً بالتحريمِ. واخْْتَلَفُوا في الساهِي، والجاهلِ، والمُكرَهِ، والنائمِ، والمُحذِّرِ للضريرِ، والمُتكلِّمِ لِمصلحَتِهَا.
فذهبَ الْحَنَابِلةُ إلَى بُطلانِ الصَّلاَةِ في كُلِّ هذا، عملاً بهذا الْحَدِيثِ الذي معنا، وحَدِيثِ " كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ في الصَّلاَةِ فَتَرُدَّ عَلَيْنَا، قَالَ: "إنَّ في الصَّلاَةِ لَشُغْلًا " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ـ وغيرِهما مِنَ الأدلَّةِ , وذهبَ الإمامانِ: مالكٌ والشَّافعيُّ إلَى صحَّةِ صَلاَةِ المتكَلِّمِ جَاهلاً، أو ناسياً أنَّه في الصَّلاَةِ، أو ظَاناًّ أنَّ صَلاَتَه تَمَّت فَسلَّم وتَكلَّم، سواءٌ كانَ الكلامُ في شأنِ الصَّلاَةِ، أو لم يَكُن في شَأْنِهَا، وَسَواءٌ كانَ المُتَكَلِّمُ إماماً أو مأموماً، فإنَّ الصَّلاَةَ صحيحةٌ تَامَّةٌ، يُبنَى آخرُهَا علَى أوَّلِهَا.
وما ذهبَ إِلَيْهِ الإمامانِ: مالكٌ، والشَّافعيُّ، مِنْ عدمِ قَطْعِ الصَّلاَةِ بكلامِ الجاهلِ، والسَّاهِي، والمُحذِّرِ، والمتكَلِّمِ لِمصلحَتِهَا بعدَ السلامِ قبلَ إتمامِهَا، ذهبَ إِلَيْهِ ـ أيضاً ـ الإمامُ أحمدُ في رواياتٍ قَويَّةٍ صحيحةٍ عَنْهُ، وهو اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ.
وأدلَّةُ ذلك قويةٌ واضحةٌ.
منهَا: حَدِيثُ ذي اليدينِ , وكلامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذي اليدينِ وأبي بكرٍ وعُمَرَ؛ وسَرَعانِ الناسِ الذين خرجُوا مِنَ المسجدِ، يُردِّدون بينهم قَصُرَتِ الصَّلاَةُ.
وما رواه مُسْلِمٌ عَنْ معاويةَ بْنِ الحكمِ: " بَيْنَمَا أَنَا أُصلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ عَطَسَ رجلٌ مِنَ القومِ، فقلتُ: يَرحمُكَ اللَّهُ فَرَمَاني القومُ بأبصارِهمْ، فقلتُ، وَاثَكْلاَهُ، ما شَأنُكُمْ تَنظرونَ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِِيهِمْ علَى أَفْخَاذِهِم فَمَا رَأيتُهم يُصَمِّتُونِي لكِنِّي سَكتُّ فلما صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. قَالَ:(( إنَّ هذهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ )) فلم يَأمُرْه بالإعادةِ.
وحَدِيثُ: (( عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ )) إلَى غيرِ ذلك مِنَ الأدلَّةِ الصَّريحةِ الصحيحةِ.
وحَدِيثُ البابِ ونحوُه، محمولٌ علَى العامدِ العالمِ بالتحريمِ. واختلفَ الْعُلَمَاءُ في النفخِ والنَّحنَحةِ، والتَّأوُّهِ، والأنينِ، والانتحابِ ونحوِ ذلك.
فذهبَ بعضُهم ـ وهو المشهورُ مِنْ مذهبِ الْحَنَابِلةِ والشَّافعيَّةِ ـ إلَى أنَّه يُبطِلُ الصَّلاَةَ إذا انْتظمَ مِنْهُ حَرفانِ.
فإِنْ لَمْ يَنتظمْ مِنْهُ حرفانِ، أو كانَ الانتحابُ مِنْ خشيةِ اللَّهِ، أو التَّنحنحُ لحاجةٍ، فمذْهَبُ الْحَنَابِلةِ أنَّه لا يُبطلُ الصَّلاَةَ واختارَ الشيخُ تقيُّ الدينِ عدمَ الإبطالِ بهذهِ الأشياءِ، ولو بانَ منهَا حرفانِ؛ لأنَّهَا ليستْ مِنْ جنسِ الكلامِ، فلا يُمكنُ قِياسُهَا علَى الكلامِ.
وحُكِيَ عدمُ البطلانِ روايةً عَنِ الإمامينِ: مالكٍ وأحمدَ. مُسْتَدِلِّينَ بحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: " كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ مَدْخَلاَنِ باللَّيْلِ والنَّهَارِ. فإذا دخلْتُ عَلَيْهِ وهو يُصَلِّي تَنَحْنَحَ " رواه أحمدُ، وابنُ ماجَهْ.
وقد نَفخَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صَلاَةِ الكسوفِ. وقالَ مُهَنَّا: رَأَيْتُ أبا عَبْدِ اللَّهِ يَتنحنحُ في الصَّلاَةِ.
وهذهِ الأشياءُ ليست كَلاَماً، ولا تُنافي الصَّلاَةَ. ذكَرَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ أنَّ هذا المَبحثَ يَنقسمُ إلَى ثلاثةِ أقسامٍ: فهناك الكلماتُ التي تدلُّ علَى معنًى فيهَا مِثلُ: "يدٍ" و"فَمٍ" وغيرِ ذلكَ , وهناك كلِماتٌ تدلُّ علَى معنًى في غيرِهَا مثلِ: عَنْ ومَنْ وفي وما هو بِسبيلِهَا.
وهذان النوعانِ مِنَ الكلامِ يَدلاَّنِ علَى معنًى بالوضعِ , وَقد أجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَََى إفسادِ هَذا القَسْمِ للصَّلاَة إََِنَْ لَمْ يكنْ لَهُ عذرٌ شرعيٌّ. أمَّا القِسمُ الثاني في الكلامِ فهو ما لَهُ معنًى بالطَّبعِ كالتأوُّهِ والبُكاءِ والأنينِ , والأظهرُ أنَّه لا يُبطِلُ الصَّلاَةَ؛ لأنَّه ليس كَلاَماً في اللغةِ التيِ خاطَبنا بهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أمَّا القسمُ الثالثُ وهو النحنحةُ فقد وَردَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: " كُنتُ إذا دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهْوَ يُصَلِّي تَنحنحَ لِي " ونُقِل عَنِ الإمامِ أحمدَ رِوايتانِ فِيهِ إحدَاهما الإبطالُ، واختيارُ الشيخِ تقيِّ الدينِ عدمُ الإبطالِ بحالٍ.
قَالَ شيخُ الإسلامِ في الاختياراتِ: والأظهرُ أنَّ الصَّلاَةَ تَبطُلُ بالقهقَهةِ إذا كانَ فيهَا أصواتٌ عالِيةٌ تُنافي الخشوعَ الواجبَ في الصَّلاَةِ ,
وفيهَا مِنَ الاستخفافِ والتلاعُبِ ما يُناقضُ المقصودَ مِنَ الصَّلاَةِ. فَأُبطِلت لذلك، لا لكونِهَا كَلاَماً ,
قَالَ ابْنُ المنذرِ: أجمَعوا علَى أنَّ الضحِكَ يُفسدُ الصَّلاَةَ.
ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1ـ كانَ الكلامُ في الصَّلاَةِ أَوَّلَ الإسلامِ مُباحاً بقدرِ الحاجةِ إِلَيْهِ.
2ـ تحريمُ الكلامِ في الصَّلاَةِ بعدَ نزولِ قولِه تَعَالَى: (وَقُومُواْ للِّهِ قَانِتِينَ) مِنَ العامدِ، وهو الذي يَعلمُ أنَّه في صَلاَةٍ، وأنَّ الكلامَ فيهَا مُحرَّمٌ.
3ـ أنَّ الكلامَ ـ مع حُرمتِهِ ـ مُفسِدٌ للصَّلاَةِ؛ لأنَّ النَّهْيَ يَقتضِي الفسادَ.
4ـ أنَّ القُنوتَ المذكورَ في هذِهِ الآيةِ، مُرادٌ بِهِ السكوتُ، كما فَهِمه الصَّحَابَةُ، وعملوا بُمقتضاه في زمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
5ـ أنَّ المعنىَ الذي حُرِّم مِنْ أجلِهِ الكلامُ، هو طلبُ الإقبالِ علَى اللَّهِ في هذِهِ العبادةِ، والتلذُّذُ بمناجاتِه فَلْيُحْرصْ علَى هذا المعنَى السَّامي.
6ـ صراحةُ النسخِ في مثلِ هذا الْحَدِيثِ الذي جَمع بينَ الناسخِ والمنسوخِ.
بابُ الإبرادِ في الظُّهرِ من شدَّةِ الحَرِّ
الحديثُ التاسعُ بعدَ المائةِ
109- عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ، وأبي هريرةَ رضيَ اللَّهُ عنهُمْ، عن رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ قالَ: (( إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأبْرِدُوا عَن الصَّلاَةِ، فإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ منْ فَيْحِ جَهَنَّمَ )) .
(109) غريبُ الْحَدِيثِ:
" أَبْرِدُوا " –يُقالُ: أَبْرَدَ إذا دخَلَ في وَقْتِ البردِ كـ" أَنْجَد لمَنْ دَخَل " نَجْداً و " أتْهَمَ " لمَن دخلَ تِهامةَ.
" مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ " انتشارُ حرِّهَا وغَليانُهَا، و " مِنْ " هنا للجنسِ لا للتبعِيضِ أي: مِنْ جنسِ فيحِ جهنَّمَ.
قَالَ المِزِّيُّ: وهو مِثلُ ما رُوِي عَنْ عَائِشَةَ بإسنادٍ جيِّدٍ: " مَنْ أَرَادَ أنْ يَسْمَعَ خَرِيرَ الْكَوْثَرِ، فَلْيَجْعَلْ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ " أي: مَنْ أرادَ أنْ يسمعَ مثلَ خريرِ الكوثرِ.
المعنَى الإجماليُّ:
رَوحُ الصَّلاَةِ ولُبُّهَا، الخشوعُ وإحضارُ القلبِ فيهَا؛
لذا نُدِبَ للمُصلِّي أنْ يدخلَ فيهَا، وقد فَرغَ مِنَ الأعمالِ الشاغِلةِ عنهَا. وعَملَ الوسائلَ المُعِينَةَ علَى الاستحضارِ فيها؛
ولذلك فضَّلَ الشَّارِعُ أنْ يُؤخِّرَ صَلاَةَ الظُّهْرِ عندَ اشتدادِ الحَرِّ إلَى وَقْتِ البَرْدِ لئلا يَشغلَه الحَرُّ و الغَمُّ، عَنِ الخشوعِ مع ما فَى ذاك مِنَ التسهيلِ والتَّيسيرِ فَى حقِّ الذين يَخرجونَ يُؤدُّونهَا فَى المساجدِ تَحت وَهجِ الشَّمسِ لهذهِ المعانِي الجَلِيلةِ شُرِعَ تأخيرُ هذهِ الصَّلاَةِ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا وصارَ هذا الْحَدِيثُ مُخصِّصاً للأحاديثِ الواردةِ فَى فضلِ أَوَّلِ الوَقْتِ.
ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1-استحبابُ تأخيرِ صَلاَةِ الظُّهْرِ في شدَّةِ الحرِّ إلَى أنْ يَبردَ الوَقْتُ. وتَنكسرَ الحرارةُ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: ليسَ في الإبرادِ في الشريعةِ تحَدِيدٌ، وبيَّنَ الصنعانيُّ أنَّ الأقربَ في الاستدلالِ علَى بيانِ مِقدارِهَا ما أخرجَهُ الشيخانِ مِنْ حَدِيثِ أبي ذرٍّ قَالَ:" كُنَّا في سفرٍ مع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرَادَ المُؤَذِّنُ أنْ يُؤَذِّنَ للظُّهرِ، فَقَالَ: أَبْرِدْ، ثُمَّ أَرَادَ أنْ يُؤَذِّنَ فقالَ لَهُ: أَبْرِدْ حتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ " فهو يُرشدُ إلَى قدْرِ الإبرادِ وأنه ظُهورُ الفيءِ للجُدرانِ ونحوِهَا.
2- أنَّ الحِكمةَ في ذلك، هو طلبُ راحةِ الْمُصَلِّي، ليكونَ أحضرَ لقلْبِه وأبعدَ لَهُ عَنِ القلقِ.
3-أنَّ الحُكمَ يدورُ مع عِلَّتِهِ، فمتَى وُجِد الحَرُّ في بلدٍ، وجِدَت فضيلةُ التأخيرِ ,
وأما البلادُ الباردةُ – فلفَقْدِهَا هذهِ العِلَّةَ – لا يُستحبُّ تأخيرُ الصَّلاَةِ فيهَا.
4- ظاهرُ الْحَدِيثِ، والمفهومُ مِنَ الحكمةِ في هذا التأخيرِ، أنَّ الحُكمَ عامٌّ في حقِّ مَنْ يؤدِّي الصَّلاَةَ جماعةً في المسجدِ، ومَنْ يؤدِّيهَا مُنفرداً في البيتِ؛ لأنهم يَشتركونَ في حصولِ القلقِ مِنَ الحَرِّ.
5- أنَّه يُشرعُ للمصَلِّي أنْ يؤدِّيَ الصَّلاَةَ بعيداً عَنْ كُلِّ شاغلٍ عنهَا ومُلْهٍ فيهَا.
فائدةٌ:
قَالَ شيخُنا عبدُ الرحمنِ بنُ ناصرِ بنِ سَعديٍّ عندَ كَلاَمٍ لَهُ علَى هذا الْحَدِيثِ:
ولا مُنافاةَ بينَ هذا وبينَ الأسبابِ المحسوسةِ، فإنهَا كلَّهَا مِنْ أسبابِ الحرِّ والبردِ كما في الكسوفِ وغيرِه.
فينبغي للإنسانِ أنْ يُثبتَ الأسبابَ الغيبِيَّةَ التي ذَكرَهَا الشَّارِعُ، ويؤمِنَ بهَا ويُثبتَ الأسبابَ المُشاهَدَةَ المحسوسةَ. فَمَن كَذَّب أحدَهما، فقد أخْطَأ.
***
الحديثُ العاشرُ بعدَ المائةِ
110- عن أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ قالَ:" كُنَّا نُصَلِّي مَع رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فإذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهتَهُ مِنَ الأَرْضِ، بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ " .
(110) المعنَى الإجماليُّ:
كانتْ عادةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يُصَلِّيَ بأصحابِهِ صَلاَةَ الظُّهْرِ مِنْ أيَّامِ الحرِّ، وحرارةُ الأرضِ ما تزالُ باقِيةً، مما يَحملُ المصلِّينَ علَى أنَّهم إذا لم يَستطيعوا أنْ يُمكِّنوا جِباهَهم في الأرضِ بَسَطوا ثِيابَهم، فسجَدُوا عليهَا، لِتقِيهم حرَّ الأرضِ.
ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1- أنَّ وَقْتَ صَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابِه الظُّهْرَ في أيامِ الحرِّ، وهو بعدَ انكسارِ حرارةِ الشَّمْسِ وبقاءِ آثارِهَا في الأرضِ.
2-جوازُ السُّجُودِ علَى حائلٍ مِنْ ثوبٍ وغيرِه عندَ الحاجةِ إِلَيْهِ، مِنْ حَرٍّ، وبرْدٍ، وشَوكٍ، ونحوِ ذلك.
وبعضُ الْعُلَمَاءِ فَصَّل في السُّجُودِ علَى الحائلِ فقال: إنْ كانَ مُنفصِلًا عَنِ الْمُصَلِّي كالسجادةِ ونحوِهَا جازَ ولو بلا حاجةٍ، بلا كراهةٍ، وإنْ كانَ مُتصِلًا بِهِ كطرفِ ثوبِه فيُكرهُ إلا مع الحاجةِ.
التوفيقُ بينَ الحَدِيثينِ:
ظاهرُ هذين الحَدِيثَينِ المُتقدِّمينِ التَّعارضُ، ولذا حاولَ الْعُلَمَاءُ التوفيقَ بينهما وأحْسنُ ما قِيلَ في ذلك ما ذهبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أنَّ الأفضلَ في شدَّةِ الحرِّ الإبرادَ كما في حَدِيثِ أنسٍ: أنَّهم كانوا يُبْرِدون بالصَّلاَةِ، ولكنْ حرارةُ الأرضِ باقيةٌ؛ لأنَّ بَرْدَهَا يتأخَّرُ في شدَّةِ الحرِّ كَثِيراً فيحتاجونَ إلَى السُّجُودِ علَى حائلٍ.
وليس الْمُرَادُ بالإبرادِ المطلوبِ أنْ تَبْرَدَ الأرضُ، بل الْمُرَادُ أنْ تَنكسرَ حِدَّةُ حرارةِ الشمسِ وتبرُدُ الأجسامُ.
بابُ قضاءِ الصَّلاةِ الفائِتةِ وتعجِيلِهَا
الحديثُ الحادي عشرَ بعدَ المائةِ
111- عن أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: (( مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لاَ كَفَّارَةَ لهَا إِلا ذَلِكَ ))، وَتَلاَ قولَهُ تعالى: (وأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي).
ولمسلمٍ (( مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَكَفّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا )) .
(111) المعنَى الإجماليُّ:
الصَّلاَةُ لهَا وَقْتٌ محدَّدٌ في أوَّلِهِ وآخِرِه، لا يجوزُ تقديمُ الصَّلاَةِ قبلَه، كما لا يجوزُ تَأخيرُهَا عَنْهُ في حقِّ العامدِ،
فإذا نامَ عَنِ الصَّلاَةِ، أو نَسِيهَا حتَّى خرجَ وَقْتُهَا، فقد سقطَ عَنْهُ الإثمُ لعُذرِه ,
وعليهِ أنْ يُبادِرَ إلَى قَضائِهَا عندَ ذِكْرِهِ لهَا , ولا يجوزُ تأخيرُهَا , فإنَّ كفَّارةَ ما وقع لهَا مِنَ التأخيرِ المُبادرةُ في قضائِهَا؛ ولذا قَالَ تَعَالَى: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي) سورةُ طه، آية14.
فتلاوةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذهِ الآيةَ عندَ ذكرِ هذا الحُكمِ، يُفيدُ أنَّ الْمُرَادَ مِنْ معناهَا أنْ تُقامَ الصَّلاَةُ عندَ تَذكُّرِهَا.
اختلافُ الْعُلَمَاءِ:
اختلفَ الْعُلَمَاءُ: هلْ تَجبُ المُبادرةُ إلَى فِعلِهَا عندَ ذِكْرِهَا، أو يجوزُ تأخيرُها؟
ذهبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إلَى وجوبِ المُبادرةِ ومنهم الأَئِمَّةُ الثلاثةُ: أبو حنيفةَ، ومالكٌ، وأحمدُ، وأتْباعُهم.
وذهبَ الشَّافعيُّ إلَى استحبابِ قَضائِهَا علَى الفورِ ويجوزُ تأخيرُهَا. واستدلَّ الشَّافعيُّ بأنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينَ نَامَ هو وأصحابُه ـ لم يُصلُّوهَا في المكانِ الذي نامُوا فِيهِ، بل أَمرَهم، فَاقْتَادوا رواحِلَهم إلَى مكانٍ آخرَ، فصَلَّى فِيهِ، ولو كانَ القضاءُ واجباً علَى الفوْرِ، لصَلَّوْه في مكانِهم.
واحتج الْجُمْهُورُ بحَدِيثِ البابِ، حيث رَتَّب الصَّلاَةَ علَى الذِّكْرِ.
وأجابُوا عَنِ استدلالِ الشَّافعيِّ بأنه ليس معنَى الفوريَّةِ عدمَ التأخرِ قليلاً لبعضِ الأغراضِ التي تُكمِّلُ الصَّلاَةَ وتُزكِّيهَا، فإنَّه يجوزُ التأخيرُ اليسيرُ لانتظارِ الْجَمَاعةِ، أو تِكثيرِهَا ونحوِ ذلك.
هذا وقد أطالَ في هذا " ابنُ القيِّمِ " رحمه اللَّهُ في كتابِ " الصَّلاَةِ " وفنَّد الرَّأْيَ القائلَ بجوازِ التأخيرِ. واخْْتَلَفُوا في تارِكهَا عَمداً حتَّى خَرجَ وَقْتُهَا: هلْ يَقضيهَا أو لا؟
وسأُلَخِّصُ هذا الموضوعَ مِنْ كَلاَمِ "ابنِ القيِّمِ " في كتابِ " الصَّلاَةِ " فقد أطالَ الكلامَ فِيهِ:
قد اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ علَى حصولِ الإثمِ العظيمِ الذي يلْحقُ مَنْ أخَّرهَا لغيرِ عُذرٍ حتَّى خَرجَ وَقْتُهَا ,
ولكن ذهبَ الأَئِمَّةُ الأربعةُ إلَى وجوبِ القضاءِ عَلَيْهِ مع استحقاقِهِ العقوبةَ إلا أنْ يعفوَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقالت طائفةٌ مِنَ السلفِ والخلَفِ: مَنْ تَعمَّدَ تأخيرَ الصَّلاَةِ عَنْ وَقْتِهَا مِنْ غيرِ عُذرٍ، فلا سبيلَ لَهُ إلَى قضائِهَا أبداً، ولا يُقبلُ مِنْهُ، وعليهِ أنْ يتوبَ توبةً نصوحاً، فيُكثرُ مِنَ الاستغفارِ ونوافلِ الصَّلَوَاتِ.
استدلَّ مُوجِبو القضاءِ، بأنه إذا كانَ القضاءُ واجباً علَى النَّاسي والنائمِ، وهما مَعذورانِ، فإيجابُه علَى غيرِ المعذورِ العاصي مِنْ بابِ أوْلَى ,
وأيضاً، فإنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى العصرَ بعدَ المغرب ِيومَ الخندقِ هو وأصحابُه، ومعلومٌ أنهم كانوا غيرَ نَائمينَ ولا سَاهينَ، ولو حصلَ السهوُ مِنْ بعضِهم، ما حصلَ منهم جميعاً.
وانتصرَ لوجوبِ القضاءِ أبو عُمَرَ بنُ عبدِ البَرِّ.
ومِنَ الذاهِبينَ إلَى عدمِ القضاءِ: الظاهريَّةُ، وشيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ، وابنُ القيِّمِ، وقد أطال في كتابِ "الصَّلاَةِ " في سَوقِ الأدلةِ، ورَدِّ حُججِ المُخالفينَ.
ومِن تلك الأدلَّةِ: المفهومُ مِنْ هذا الْحَدِيثِ، فإنَّ مَنطوقَهُ وجوبُ القضاءِ علَى النائمِ والناسي، ومفهومُه أنَّه لا يَجبُ علَى غيرِهما، وأنَّ أوامرَ الشرعِ علَى قِسمينِ:
1ـ مُطلقةٌ. 2ـ ومُؤقَّتةٌ، كالجمعةِ، ويومِ عرفَةَ.
فمِثلُ هذهِ العباداتِ، لا تُقبلُ إلا في أوقاتِهَا، ومنهَا: الصَّلاَةُ المؤخَّرةُ عَنْ وَقْتِهَا بلا عُذرٍ.
وقولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ " ولو كانَ فِعلهَا بعدَ المغربِ صَحيحاً مُطلقاً، لكان مُدرِكاً، سواءٌ أدركَ رَكعةً أو أَقلَّ مِنْ ركعةٍ، أم لم يُدركْ شيئاً، والمُقاتلونَ أُمِروا بالصَّلاَةِ في شِدَّةِ القتالِ، كلُّ ذلك حِرصاً علَى فِعلهَا في وَقْتِهَا، ولو كانَ هناك رُخصةٌ لأخَّرُوهَا، ليُؤدُّوهَا بشروطِهَا وأركانِهَا، التي لا يُمكِنُ القيامُ بهَا مع قيامِ القِتالِ، مما دلَّ علَى تقديمِ الوَقْتِ علَى جميعِ ما يَجبُ للصَّلاَةِ، وما يُشترطُ فيهَا.
وأما عدمُ قبولِ قَضائهَا مِنَ المُفرِّطِ في تأخيرِهَا بعدَ الوَقْتِ، فليسَ لأنَّه أخَفُّ مِنَ المَعذورينَ، فإنَّ المَعْذُورينَ ليس عليهم لاَئِمَةٌ.
وإنَّما لم تُقبلْ مِنْهُ، عقوبةً لَهُ وتغليظاً عَلَيْهِ. وقَد بسطَ ـ رحمه اللَّهُ ـ القولَ فيهَا، فمَن أرادَ استقْصَاءَ ذلك فَليرجعْ إِلَيْهِ.
وأما كَلاَمُ شيخِ الإسلامِ في الموضوعِ، فقد قَالَ في الاختياراتِ: وتارِكُ الصَّلاَةِ عَمداً، لا يُشرعُ لَهُ قضاؤهَا، ولا تَصِحُّ مِنْهُ، بل يُكثِرُ مِنَ التطوعِ وهو قولُ طائفةٍ مِنَ السلف: كأبي عبدِ الرحمنِ صاحبِ الشَّافعيِّ، وداودَ وأتباعِه، وليس في الأدلَّةِ ما يُخالفُ هذا بل يُوافِقُه. وقد مالَ إلَى هذا القولِ الشيخُ صِدِّيقُ حَسَنٍ في كتابِهِ الرَّوضةِ النَّديَّةِ.
وهذا ما أردْتُ تَلخيصَه في هذِهِ المسألةِ واللَّهُ أَعْلَمُ بالصَّوابِ.
ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ مِنَ الأحكامِ:
1ـ وجوبُ قضاءِ الصَّلاَةِ علَى الناسي والنائمِ عندَ ذِكْرهَا.
2ـ وجوبُ المُبادرةِ إلَى فِعْلِهَا؛ لأنَّ تأخيرَهَا بعدَ تَذكُّرِها تفريطٌ فيهَا.
3ـ عدمُ الإثمِ عَلَى مَنْ أخَّرهَا لعُذرٍ مِنْ نحوِ نِسيانٍ ونومٍ، ما لَم يُفرِّطْ في ذلك، بأنْ ينامَ بعدَ دخولِ الوَقْتِ، أو أنْ يَعلمَ مِنْ نَفسِهِ عدمَ الانتباهِ في الوَقْتِ فلا يَتَّخذَ لَهُ سبباً يُوقِظُه في وَقْتِهَا.
والكَفَّارةُ المذكورةُ، ليست عَنْ ذنبٍ ارْتُكِب، وإنَّما معنَى هذهِ الكَفَّارةِ أنَّه لا يُجزِيءُ عَنْ تَرْكِهَا فعلُ غيرِهَا، مِنْ إطعامٍ، وعِتقٍ ونحوِ ذلك، فلا بُدَّ مِنَ الإتيانِ بهَا.
بابُ جوازِ إمامةِ المُتنفِّلِ بالمُفترِضِ
الحديثُ الثانيَ عشرَ بعدَ المائةِ
112- عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رضيَ اللَّهُ عنهُما " أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ، كانَ يُصَلِّي مَعَ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ الآخِرَةَ، ثمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ، فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلكَ الصَّلاَةَ ".
(112) المعنَى الإجماليُّ:
كانتْ منازلُ بني سَلَمَةَ، جماعةِ مُعاذِ بن جبلٍ الأنصاريِّ خارجَ المدينةِ.
وكان مُعاذٌ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ شديدَ الرغبةِ في الخيرِ، فكانَ يحرصُ علَى شهودِ الصَّلاَةِ مع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم بعدَ أنْ يؤدِّيَ الفريضةَ خلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَخرجُ إلَى قومِهِ فيُصَلِّي بهم تلك الصَّلاَةَ، فتكونُ نافِلةً بحقِّه، فريضةً بحقِّ قَومِه، وكان ذلك بعلمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيقِرُّه عَلَيْهِ.
اختلافُ الْعُلَمَاءِ:
اخْتُلفَ في صحَّةِ إمامَةِ المُتنفِّلِ بالمفْتَرِضِ.
فذهبَ الزُّهرِيُّ، ومالكٌ، والحنفيَّةُ: إلَى عدمِ صحَّةِ ذلك، وهو المشهورُ عَنِ الإمامِ أحمدَ، واختارَه أكثرُ أصحابِه، مُسْتَدِلِّينَ بقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( إنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فلا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ )) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واختلافُ نِيَّةِ المأمومِ عَنْهُ، اختلافٌ عَلَيْهِ.
وذهبَ عطاءٌ، والأوزاعيُّ، والشَّافعيُّ، وأبو ثورٍ، وهو روايةٌ قَويةٌ عَنِ الإمامِ أحمدَ: أنَّهَا تصحُّ، واختارهَا شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ مُسْتَدِلِّينَ بحَدِيثِ مُعاذٍ الذي معنا، فإنَّه كانَ يُصَلِّي الفريضةَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي مَسجدِهِ، ثم يَخرجُ إلَى قومِهِ فيُصَلِّي بهم.
ومِنَ المعلومِ أنَّ إحدَى صَلاَتَيْه نفلٌ، فلا بد أنْ تَكُونَ الأخيرةُ لوجوهٍ كثيرةٍ.
منهَا: أنَّ الأُولىَ التي بَرئتْ بهَا الذِّمَّةُ، هي صَلاَتُه مع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومنهَا: أنَّه ما كانَ لِيجعلَ صَلاَتَهُ مع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي مسجدهِ هي النَّافِلَةَ، وصَلاَتَه مع قومِهِ في مسجدِهم هي الفريضةَ.
وقد أطالَ ابنُ حزمٍ في نصرِ هذا القولِ، ودحْضِ حُججِ أصحابِ الرأيِ الأَوَّلِ بما ليس عَلَيْهِ مِنْ مزيدٍ.
ومن أدلَّةِ مُصحِّحي صَلاَةِ المفترضِ خَلْفَ المُتنَفِّلِ: أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " صَلَّى بطائفةٍ مِنْ أصحابِهِ في صَلاَةِ الخوفِ رَكْعَتَيْنِ، ثم سَلَّم، ثم صَلَّى بالطائفةِ الأخرَى رَكْعَتَيْنِ، ثم سَلَّم ". رواه أبو داودَ. وهو في صَلاَتِهِ الثانيةِ مُتنفِّلٌ.
وليس في هذا مُخالفةٌ للإمامِ؛ لأنَّ المُخالفةَ المنهِيَّ عنهَا في الْحَدِيثِ أنْ لا يُقتدَى بِهِ في تنفُّلاتِهِ ورَفْعِه وخَفْضِه، فإنَّه
بعدَ أنْ قَالَ: (( إنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ))
قَالَ: (( فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَلاَ تُكَبِّرُوا حتَّى يُكَبِّرَ )).إلخ.
ومِنَ المؤيِّدينَ لهذا القولِ، شيخُنا عبدُ الرحمنِ بنُ ناصرٍ بنِ سَعديٍّ، رحمَه اللَّهُ.
ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1ـ جوازُ إمامةِ المُتنفِّلِ بالمُفترضِ، وأنه ليس مِنَ المخالفةِ المنهيِّ عنهَا.
2ـ جوازُ إمامةِ المفترضِ بالمتنفِّلِ بطريق الأولَى.
3ـ جوازُ إعادةِ الصَّلاَةِ المكتوبةِ، لا سيَّما إذ كانَ هناكَ مصلحةٌ، بأنْ يكونَ قَارئاً فيؤمُّ غيرَ قارئٍ، أو يَدخلَ المسجدَ بعدَ أنَّ صَلَّى منفرداً فيجدُ جماعةً فصَلاَتُه معهم تُكملُ نَقصَ صَلاَتِه الأولَى وحدَه.
بابُ حُكْمِ ستْرِ أحدِ العاتقَيْنِ في الصَّلاةِ
الحديثُ الثالثَ عشرَ بعدَ المائةِ
113- عن أبي هريرةَ رضيَ اللَّهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: (( لاَ يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ )) .
(113) المعنَى الإجماليُّ:
المطلوبُ مِنَ الْمُصَلِّي أنْ يكونَ علَى أحسنِ هيئةٍ، فقد قَالَ تَعَالَى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) سورةُ الأعرافِ، آيةُ 31.
ولذا فإنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَثَّ الْمُصَلِّيَ أنَّ لا يُصَلِّيَ وعَاتِقاهُ مكشوفانِ مع وجودِ ما يَستُرهما، أو أحدُهما بِهِ، ونهَى عَنِ الصَّلاَةِ في هذِهِ الحالِ وهو واقفٌ بينَ يديِ اللَّهِ يُناجِيه.
اختلافُ الْعُلَمَاءِ:
ذهبَ الإمامُ أحمدُ في المشهورِ عَنْهُ، إلَى وجوبِ سَتْرِ أحدِ العَاتِقين في الصَّلاَةِ، مع وجوبِ السُّترةِ، أخذاً بظاهرِ هذا الْحَدِيثِ الذي معنا ,
وبعضُ أصحابِه خَصَّ ذلك بالفرضِ دونَ النَّافِلَةِ، فإنْ صَلَّى بلا سُترةٍ لعاتِقَيه أو أحدِهما لم تَصِحَّ صَلاَتُه.
وذهبَ الْجُمْهُورُ ـ ومنهم الأَئِمَّةُ الثلاثةُ ـ إلَى الاستحبابِ، وأنَّ النَّهْيَ في الْحَدِيثِ ليس للتحريمِ، مُسْتَدِلِّينَ بما في الصَّحِيحَينِ عَنْ جابرٍ " وإنْ كانَ ضيِّقاً اتَّزَرَ بِهِ " وحمَلوا النَّهْيَ علَى التنزيِهِ والكراهةِ.
الأحكامُ:
1ـ النَّهْيُ عَنِ الصَّلاَةِ بدونِ سترِ العاتقِ. قَالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ: سترُ العاتقِ لحقِّ الصَّلاَةِ، فيجوزُ لَهُ كشفُ مَنكِبَيه خارجَ الصَّلاَةِ، وحينئذٍ فقد يَسترُ الْمُصَلِّي في الصَّلاَةِ ما يجوزُ إبداؤه في غيرِ الصَّلاَةِ.
2ـ استحبابُ سترِهِما أو أحدِهما في الصَّلاَةِ مع وجودِ السُّتْرةِ.
3ـ استحبابُ كونِ الْمُصَلِّي علَى هيئةٍ حَسنةٍ.
بابُ ما جاءَ في الثَّوْمِ والبَصَلِ ونحْوِهما
الحديثُ الرابعَ عشرَ بعدَ المائةِ
114- عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رضيَ اللَّهُ عنهُما، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ قالَ: (( مَنْ أَكَلَ ثُوماً أَوْ بَصَلاً، فَلْيَعْتَزلْنَا - أَوْ لِيَعْتَزلْ مَسْجِدَنَا - وَلَيْقْعُدْ فِي بَيْتِهِ )).
وَأُتِيَ بِقِدْرٍ فِيه خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحاً. فَسَأَلَ؟ فأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فقالَ: " قَرِّبُوها " - إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كانَ معه - فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قالَ: " كُلْ، فإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لاَ تُنَاجِي " .
(114) غريبُ الْحَدِيثِ:
"قِدرٌ ": هو الوعاءُ الذي يُطبخُ فِيهِ.
"خَضِراتٌ ": واحدَتُه خَضِرةٌ وهي البَقْلةِ الخضراءِ.
"البُقولُ ": جَمعُ بَقْلٍ وهو كلُّ نباتٍ اخضَرَّتْ بِهِ الأرضُ. عَنِ ابْنِ فارسٍ.
" أُناجِي ": قَالَ ابْنُ فارسٍ اللغويُّ: النجْوَى: السِّرُّ بينَ اثنيْنِ. ونَاجَيْتُه: اخْتصَصْتُه بِمُناجَاتي. ويريدُ بذلك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُناجاتَه مع رَبِّهِ، واختصاصَه رَبَّه بذلك.
***
الحديثُ الخامسَ عشرَ بعدَ المائةِ
115- عن جابرٍ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ قالَ: (( مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ، أَو الثُّومَ، أَو الْكُرَّاثَ، فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فإنَّ الملائِكَةَ تَتأذَّى مِمَّا يَتَأذَّى مِنْهُ بَنُو الإنسانِ )) وفى روايةٍ (( بَنُوْ آدَمَ )) (115).
(115) المعنَى الإجماليُّ:
المطلوبُ أنْ يكونَ الْمُصَلِّي علَى أحسنِ رائحةٍ وأطيبِهَا، لا سيَّما إذا كانَ يُريدُ أداءَ صَلاَتِهِ في المجامعِ العامَّةِ.
ولذا أمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْ أكلَ ثُوماً أو بصَلًا نِيئَيْن أنْ يَتجَنَّبَ مساجدَ الْمُسْلِمِين، ويُؤدِّي صَلاَتَه في بيتِهِ، حتَّى تذهبَ عَنْهُ الرائحةُ الكريهةُ، التي يتأذَى منهَا المصَلُّونَ والملائكةُ المُقرَّبون.
ولما جِيءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِدْرٍ مِنْ خضراواتٍ وبُقولٍ، فوجَد لهَا ريحاً كريهةً، أمَرَ أنْ تُقرَّبَ إلَى مَنْ حَضر عندَه مِنْ أصحابِهِ، فلما رأَى الحاضرُ كَراهتَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهَا، ظَنَّ أنَّهَا مُحرَّمةٌ، فَتردَّدَ في أَكْلِهَا، فأخبَرَه أنَّهَا ليست بمُحرَّمةٍ، وأنه لم يَكرَهْهَا لأجلِ حُرمتِهَا ,
وأمرَهُ بالأكلِ وأخبَرَه أنَّ المانعَ لَهُ مِنْ أَكْلِهَا أنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ اتصالٌ مع ربِّهِ، ومناجاةٌ لا يَصلُ إِلَيْها أحدٌ، فيجبُ أنْ يكونَ علَى أحسنِ حالٍ، لدَى القُربِ مِنْ ربِّهِ، جل وعلا.
الأحكامُ مِنَ الحَدِيثينِ:
1ـ النَّهْيُ عَنْ إتيانِ المساجدِ لمَن أكلَ ثُوماً، أو بصَلًا، أو كُرَّاثاً.
2ـ يلحقُ بهذهِ الأشياءِ، كلُّ ذي رائحةٍ كريهةٍ تتأذَّى منهَا الملائكةُ أو المُصلُّونَ.
كرائحةِ التَّبغِ الذي يَتعاطاهُ المُدخِّنونَ، فعَلَى مَنْ ابْتُلِيَ بِهِ ألا يَتعاطاهُ عندَ ذهَابِهِ إلَى المسجدِ وأنْ يُنظِّفَ أسنانَهُ وفَمَه حتَّى يَقطعَ رائحَتَهُ أو يخفِّفَهَا.
3ـ كراهةُ أكلِ هذهِ الأشياءِ لمَن عَلَيْهِ حضورُ الصَّلاَةِ في المسجدِ، لئلا تَفوتَه الْجَمَاعةُ في المسجدِ، ما لم يَأكلْهَا حِيلةً عَنْ إسقاطِ الحضورِ فَيحرُمُ.
4ـ حِكمةُ النَّهْيِ عَنْ إتيانِ المساجدِ، ألا يتأذَّى بهَا الملائكةُ والمُصَلُّونَ.
5ـ النَّهْيُ عَنِ الإيذاءِ بكُلِّ وسيلةٍ. وهذهِ وسيلةٌ منصوصٌ عليهَا، فالإلحاقُ بهَا صحيحٌ مَقِيسٌ.
6ـ أنَّ الامتناعَ عَنْ أكْلِ الثومِ ونحوِه ليس لتحْريمِه بدليلِ أمرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأكْلِهَا، فامتناعُهُ عَنْ أكْلِهَا لا يدلُّ علَى التحريمِ.
فائدةٌ:
قد استدلَّ بعضُ الْعُلَمَاءِ علَى إباحةِ أكْلِ هذهِ الأشياءِ، بأنَّ صَلاَةَ الْجَمَاعةِ فَرضُ كفايةٍ ,
ووجْهُ الدلالةِ، أنَّهَا لو كانت فَرضَ عينٍ، لوجَبَ اجتنابُ هذهِ الأشياءِ المانعةِ مِنْ حضورِ الْجَمَاعةِ في المساجدِ.
والحقُّ أنَّه لا وجْهَ لاستدلالِهِم؛ لأنَّ فِعلَ المُباحاتِ، التي يَترتَّبُ عليهَا سقوطُ واجبٍ لا بأسَ بهَا، ما لم يُتَّخذْ حِيلةً لإسقاطِ ذلك الواجبِ، كالسَّفرِ المُباحِ في رمضانَ، فإنَّه يُبِيحُ الفِطرَ في نهارِ رمضانَ، ولا حرَجَ في ذلك ما دامَ أنَّه لم يُسافرْ لِيتوصَّلَ بِهِ إلَى الإفطارِ.