القارئ: والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان , وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق.
الشيخ: قال الطحاوي في هذا الموضوع "والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان" يريد بالإيمان، الإيمان الذي أمر الله جل وعلا به الناس , والذي يصير به المرء معصوم الدم والمال , فعرف الإيمان بأنه الإقرار باللسان والتصديق بالجنان , وهذا التعريف من جهة مورد الإيمان وهو اللسان والجنان , ويتعلق باللسان عبادة الإقرار في الإيمان , ويتعلق بالجنان عبادة التصديق في الإيمان , وهذا التعريف من جهة المورد هو المشهور عن الطائفة التي يسميها العلماء: مرجئة الفقهاء , وهم الإمام أبو حنيفة ومن تبعه من أصحابه , ومنهم أبو جعفر الطحاوي صاحب هذه العقيدة وهذه الجملة مما وافق فيه المؤلف الطحاوي ما وافق فيه المرجئة , وقرر فيها عقيدتهم وطريقة أهل السنة , ومذهب أهل الحق خلاف هذا لأدلة كثيرة في هذا الموطن.
إذا تبين ذلك من جهة أن الطحاوي في هذا الموطن لم يقرر عقيدة أهل السنة والجماعة , وإنما ذكر معتقد طائفته وهم الحنفية في هذه المسألة , وقول المرجئة مرجئة الفقهاء , فإنا نقول: لا بد من بيان لهذا الأصل العظيم , وذلك يرتب على مطالب ثلاثة: الأول من المطالب أو المسائل: أن الإيمان لفظ مستعملٌ في اللغة قبل ورود الشرع والألفاظ لها في استعمالها قبل ورود الشرع لها حالان:
الأول: الحال العرفي.
والثاني: الحال الأصلي.
والحال العرفي جعلناه الأول لقربه، والحال الثاني الأصلي جعلناه الثاني؛ لأنه تعريف من جهة العموم , وهذا هو الذي يسميه طائفة من العلماء يسمونها الحقيقة اللغوية والحقيقة العرفية؛ فإن الألفاظ المستعملة لها حقائق لغوية حقيقة ليست مجازا , ولها حقائق عرفية يعني في استعمال أهل العرف لها , مثال ذلك: لفظ الدابة؛ فإنه في اللغة الأصلية مثل لغة العرب في الاستعمال العام دابة كل ما يدب على الأرض , سواءٌ أكان يدب على بطنه أم يدب على رجلين , أم يدب على أربع , ودل على هذا قول الله جل وعلا: ] وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُمْ [ يعني من الدواب ] مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [ ثم خصت في الاستعمال العرفي بأن الدابة هي ذات الأربع التي تركب في الاستعمال , يعني يركبها الناس أو يحرثون عليها أو … إلخ، فهذه تسمى حقيقة عرفية والمعنى الأول يُسمى حقيقة لغوية.
فإذن صارت الحقيقة العرفية أخص من الحقيقة اللغوية، اللغة دائماً تكون عامة , ثم الناس يقيدون المعنى اللغوي ببعض ما يحتاجون إليه في الاستعمال , فتكون الحقيقة العرفية دائماً أضيق من الحقيقة اللغوية، ثم لما أتى الشرع ظهرت ما سماه العلماء الحقائق الشرعية , الحقيقة الشرعية، أو ما سماه طائفة ممن ألف في فقه اللغة بالأسباب الإسلامية، الأسباب الإسلامية يعني ألفاظ جعل لها معان لأجل سبب مجيء الإسلام من الأمثلة على ذلك لفظ السجود , لفظ السجود في اللغة للخضوع والذل بحركة البدن , ثم في العرف أن السجود يكون بالانحناء , إما بركوع أو بما نسميه السجود , يعني وضع الجبهة على الأرض، ثم في الشرع السجود هو من وضع جبهته وأنفه على الأرض , قال جل وعلا لبني إسرائيل: ] ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً [ يعني راكعين؛ لأن السجود العرفي يدخل فيه الركوع , أما في شريعة الإسلام صارت الحقيقة الشرعية للسجود هي وضع الجبهة على الأرض.
هذه المقدمة مهمة في تأصيل هذه الحقائق الثلاث على مسألة الإيمان، الإيمان في أصل اللغة، اللغة مرتبطة بالاشتقاق، اللغة لها اشتقاق يجمع الكلام الذي حروفه واحدة، فالإيمان والأمن والأمان هذه كلماتها واحدة أمنٌ وأمانٌ وإيمان, فاشتقاقها من حيث الأصل واحد , ولهذا الإيمان يرجع إلى الأمن في اللغة , والأمان يرجع إلى الأمن وإلى الإيمان , فهذه الألفاظ في أصل اللغة اشتقاقها واحد , وذلك من الأمن الذي هو المصدر. ما علاقة الإيمان في اللغة بالأمن؟ يعني في دلالة اللغة؛ لأنه من آمن فقد أمن , آمن بالشيء أمن على نفسه , آمن يعني صدق , استسلم , أطاع… إلخ. فإنه يعتبر مستسلماً يعني يعتبر أمن عدوه، لو آمن بما قال عدوه صدقه فإنه يكون أمن غائلته.
إذا تبين هذا فهذه هذا الأصل اللغوي الذي هو مجيء الاشتقاق من كلمة واحدة يدلك على أن أصل كلمة الإيمان في اللغة من حيث الاشتقاق
[من الأمن، ثم في الاستعمال العرفي عرف العرب]*
الـوجـه الـثـانـي
خصت ذلك المعنى إلى أن الإيمان هو التصديق , التصديق الجازم الذي يكون معه عملٌ يأمن معه تصديق جازم يكون معه عمل يأمن معه , وهذا جاء في القرآن يعني في استعمال المعنى اللغوي للإيمان في مواضع كقوله جل وعلا في قصة يوسف مخبراً عن قول إخوة يوسف لأبيهم: ] وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [ لاحظ الأمن يعني بمصدقٍ لنا التصديق الجازم الذي يتبعه عمل أنك لا تؤاخذنا بما فعلنا ] قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً [ فما أعطاهم الأمن , كذلك قال جل وعلا في قصة إبراهيم -u-: ] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [ آمن له لوط يعني صدقه تصديقاً جازماً تبعه عملٌ له , بحيث يأمن من العذاب الذي توعد به إبراهيم قومه , كذلك في وصف النبي r في سورة براءة قال: ] وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [ يؤمن أي: يصدقهم فيما يقولون , فيأمنون معه عقوبة النبي عليه الصلاة والسلام.
إذًا فالإيمان في اللغة استعمل ويراد به التصديق الجازم الذي يكون معه عمل يأمن معه؛ لأنه فيه صلة دائما ما بين المعنى العرفي , الحقيقة العرفية والحقيقة اللغوية، جاء الشرع فأمر الناس بالإيمان , أمر الله جل وعلا الناس بالإيمان , فهذا الإيمان فيه كما ذكرنا لك أن الحقيقة العرفية تخصيص للحقيقة اللغوية , والحقيقة الشرعية أسباب زائدة فيها زيادة على الحقيقة العرفية، قد تكون تخصيصاً لها، وقد تكون رجوعا إلى أصل المعنى اللغوي , وتكون أوسع منها، فالإيمان في الشرع جاء بأنه متجه إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله.. إلخ , أركان الإيمان الستة وهذا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر عرفنا منه أنه لا يكون إلا بعمل , ولا يكون إلا بإقرار , ولا يكون إلا بتصديق , قال جل وعلا: ] آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنَزلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً [] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ [ بل: ] لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى…[ الآية ] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [.
فإذًا وصف الله جل وعلا المطلوب من المؤمن بأن المؤمن مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله , وأيضاً أنه يعمل، وأيضاً أنه يقوله بلسانه، ولهذا جعل الله جل وعلا الصلاة للدلالة على هذا الأصل جعل الصلاة هي الإيمان فقال سبحانه: ] وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [، نحن الآن نبحث من جهة (إيش؟) لغوية من جهة تأصيلية للكلمة , لا من جهة التعريف ] وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [ هذا استعمال , استعمال كلمة الإيمان ويراد بها الصلاة , فهذا.. الصلاة هي الإيمان معنى هذا: هذا تخصيص؛ لأنه تصديق فهو ليس تصديقاً فقط , بل الإيمان صار صلاةً.
إذاً هذا من جهة الاستعمال اللغوي زاد على العرف , ورجع إلى سعة اللغة , وهو تخصيص في الواقع للتصديق ببعض ما يشمله التصديق الذي يتبعه عمل , إذا تبين هذا فيظهر لك أن الإيمان في الشرع نُقل عن الإيمان في العرف , كما أن الإيمان في العرف نقل عن الإيمان في اللغة , فتأصيل الإيمان على أنه في اللغة هو إقرارٌ وتصديق ليس صحيحاً؛ لأن الإيمان في اللغة أعم من ذلك مثل ما ذكرنا لك , الإيمان ما يجلب الأمن من عمل , من إقرار، من تصديق، من تصرف، من موالاة , كل ما يجلب الأمن فهو إيمان في اللغة , قيد ذلك على نحو ما ذكرت لك من الآيات , في الشرع جاء تسمية الإقرار إيماناً , وجاء تسمية الاعتقاد إيماناً، وجاء تسمية العمل إيمانًا.
فإذًا من حيث الدلالة اللغوية والدلالة العرفية والدلالة الشرعية تبين لك أن هناك اختلاف في معنى الإيمان. المرجئة مع أهل السنة في هذه المسألة اختلفوا , وهذا الاختلاف طويل الذيول كما هو معلوم، لكنهم اتفقوا من حيث الأصول , أصول الفقه , على أن الكلمة إذا اعتراها هذه الأمور الثلاثة الحقيقة اللغوية والشرعية والعرفية , اتفق الجميع الحنفية مع الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم , اتفقوا على أن تقدم الشرعية , لماذا؟ لأن الألفاظ الشرعية تخصيص , فلا يقول الحنفية: إن الذين قالوا في الإيمان بهذا التعريف , لا يقولون: إن السجود إذا أمر به فإنه يصلح بالركوع يعني مثلاً: لو كان قرأ القارئ وهو القرآن.. وهو يمشي , ثم مرت آية سجدة فهل يركع ويكتفى بها , أم أنه يصير إلى السجود؟ قالوا: هنا في السنة السجود السجود الشرعي لماذا؟؛ لأن السجود جاء بهذا اللفظ الشرعي وبينته السنة , فإذًا يكون هو المراد , لا السجود العرفي , المسألة لها نظائر في الفقه وفي العقيدة وفي اللغة بعامة.
فإذًا نقول: اجتمعوا على أن الحقيقة الشرعية مقدمة , وثم هل تقدم اللغوية أو العرفية؟ خلافٌ بينهم , ولهذا نقول: ما دام أن الجميع اتفقوا على تقديم الحقيقة الشرعية , فما هي أدلة الحقيقة الشرعية في الإيمان؟ الأدلة على ذلك يطول الكلام عليها , ومرجعها مع تفصيلات الكلام والمذاهب في الدرس القادم , لكن نكمل المقدمة. أنا أريدك تفهم مسألة الإيمان؛ لأنها مسألة مشكلة , وكثير ممن خاض فيها في هذا العصر ما أدرك حقيقة الفرق ما بين قول أهل السنة، وقول المرجئة في هذا الباب.
المسألة الثانية.. انتهينا من الأولى.
المسألة الثانية: الإيمان في اللغة هو التصديق الجازم كما ذكرنا لك الذي يتبعه عمل يأمن معه المؤمن الغائلة أو العقوبة إلخ , وقولنا: التصديق الذي معه عمل هذا تحصيل حاصل؛ لأنه إذا كان الشيء يلزم منه العمل فإنه لا يطلق في اللغة على من صدق به مصدقاً حتى يعمل , فمن قال: أنا مصدق بهذا الشيء , واحد جاء وقال: سيارتك الآن تُسرق , قال: جزاك الله خيراً عم فيها لك فيها فلوس , ولك فيها أشياء ترى الآن تُسرق. قال: جزاك الله خيراً. وجلس ما تحرك , فهل يعتبر في اللغة مصدقاً؟ إذا كان قد صدق الخبر فإنه لا بد أن يتبعه بعمل يدل على صدقه؛ لأن الناس ما يفرطون بأموالهم ولا يفرطون بما فيه قوام حياتهم , فإذا مكث وقال: أنا مصدق وهو ما ذهب ما اتبعه عمل , فلا يسمى مصدقاً في اللغة , ليس في الشرع , لا يسمى مصدقاً في اللغة.
ودل على هذا الأصل قول الله جل وعلا في قصة إبراهيم الخليل مع ابنه إسماعيل في سورة الصافات قال: ] يا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [ لاحظ العمل , فلما.. ولما تنتبه لكلمة لما: ] فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنَادَيْنَاهُ أَن يإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [ الرؤيا , رؤيا الأنبياء حق , فإذا رآها النبي صدق بها أنها وحي من الله جل وعلا , لكن متى صار مصدقاً للرؤيا؟ لما امتثل دلالتها ] فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنَادَيْنَاهُ أَن يإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [ وهذا تصديق لغوي , وهو أيضاً تصديق شرعي.
إذاً فالإيمان في اللغة.. في العرف , في الحقيقة العرفية , ولو أرجعناه إلى التصديق فإن حقيقة التصديق أن يكون معه عمل , فلا يسمى مصدقاً , من ليس يعمل أصلاً فيما صدق به.
المسألة الثالثة:
يمكن أن يضبط ما جاء في القرآن من استعمال الإيمان في الحقيقة اللغوية والعرفية والشرعية , يمكن أن يضبط بضابط وهو أنه إذا اقتُرن بالإيمان الأمن أو كانت الدلالة عليه، فإن المراد به سعة المعنى اللغوي , وإذا عُدّي الإيمان باللام في القرآن أو في السنة فإن المراد به الإيمان العرفي –يعني اللغوي العرفي- وإذا عُدي الإيمان بالباء فإنه يراد به الإيمان الشرعي , وهذه كل واحد لها طائفة من الأدلة تدل عليها ] الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [] آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ [ , هذا دلالة على عموم المعنى اللغوي , المعنى العرفي ] وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا [ لاحظ التعدية باللام ] بِمُؤْمِنٍ لَّنَا [ , ] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [] وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ] يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [ هذا المعنى العرفي ] آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ [ لاحظ الباء عُدي بالباء للدلالة الشرعية لماذا اختلفت التعدية؟؛ لأن المطلوب اختلف كيف الإيمان اللغوي ما دام أنه تصديق , تقول العرب: صدّق لفلان تعديه باللام , صدّق لفلان , وتقول: صدَّق بكذا أيضاً فتعديه بالباء، لكن الإيمان الشرعي آمن بكذا , لاحظ التعدية ومضمن أقر بكذا , أقرَّ تتعدى بالباء في اللغة , أليس كذلك؟ أقر بكذا صحيحة , عمل بكذا صحيحة، صدقَّ بكذا صحيحة، ولهذا لما عُدي الإيمان في اللغة بالباء علمنا أنه ضُمِّن المعنى الأصلي في اللغة وزيادة تصلح للتعدية بالباء , فالمعنى اللغوي يتعدى باللام , فلماذا عُدي بالباء؟ تفريقاً ما بين الإيمان الشرعي والإيمان اللغوي , هو تضمين العمل للإيمان الذي هو زيادة على ما جاء في المعنى العرفي , هذا كثير في القرآن وفي اللغة أنه يأتي الفعل ويراد منه معنى.
ثم تختلف التعدية بالحرف فيضمن الفعل معنى فعل آخر , أنا (بضرب) له مثالاً حاضرا عندكم جميعاً , وإن كان يعني الأمثلة كثيرة , لكن لقربه منكم مثلاً تعلمون قول ابن القيم وابن تيمية وعدد من مشايخنا حفظ الله الجميع ورحم الأموات في قوله تعالى في المسجد الحرام: ] وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [ قالوا: هنا معنى الإرادة (إيش؟) الهم يعني الهم الجازم , لماذا؟ قالوا: لأن الإرادة بنفسها تتعدى الإرادة المعروفة تتعدى بنفسها تقول: أردت الذهاب , أردت المجيء , أردت القراءة , ما تقول: أردت بالقراءة , فلما قال: ] وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ [ , ما قال: ومن يرد فيه إلحادًا , قال: ] وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ [ علمنا أن كلمة يرد هذه فيها.. فعل يناسب التعدية بالباء وهو هَمَّ , هَمَّ بكذا , هم فلان بكذا , هذا الذي يناسب , ولذلك فسره الأئمة بأن المراد بالإرادة هنا الهم الجازم , فيؤاخذ عليه , ولو لم تتحقق الإرادة من كل وجه، وإنما يصدق عليه الهم , إذا هم بالفعل هم به صار داخلاً في الآية.
نرجع هنا في اللغة: ] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [ يعني صدق له , أقر له , تقول: أنا أقررت لك , إيش تقول أقررت إياك؟ لا , أقررت بكذا لكن لفلان أقررت بفلان ولا أقررت لفلان , ما قال: أقررت لفلان , ما قال ] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [ يعني صدق له أقر له إلخ , لاحظ هذا التصديق والإقرار الذي هو المعنى اللغوي , لكن جاء المعنى الشرعي في القرآن بزيادة عن التعدية باللام إلى التعدية بالباء، قال جل وعلا: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [ ما قال: آمنوا لله ولرسوله , مع أنه قال في النبي صلى الله عليه وسلم: ] وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [ , وقال في لوط: ] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [ قال: ] آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ [ إلخ ] ومن يكفر بالله وملائكته ورسله [.
فإذًا دلنا على أن هذا المعنى هو المعنى اللغوي , وزيادة عليه ما دخل فيه مما يناسب التعدية بالباء وهو العمل , تقول: علمت بكذا يعني آمنت بكذا فعملت به , آمنت بأن الأمر واقع فعملت به , يعني عملت بما آمنت , فلذلك دخلت زيادة تعدية الباء لتدلنا على أن العمل دخل في مسمى الإيمان أصلاً , وهذه يأتي لها مزيد تفصيل في الأدلة إن شاء الله تعالى , إذا تبين هذا فمن المهم في تأصيل هذه المسألة التي غلط فيها كثيرون منذُ نشأت المرجئة أن يعرف أن الإيمان في اللغة في حقيقته تصديقٌ وإقرارا , لكن تصديق معه نوع عمل وليس لازماً في حقيقته , لكن لا يسمى تصديقاً حتى يكون معه عمل يأمن به لصلته بالمعنى اللغوي العام , أما في الشرع فهو إقرار وتصديق وعمل؛ لأن الشرع جاء بزيادة عن المعنى اللغوي في هذه المسألة العظيمة.
المسألة الرابعة:
تعريف الطحاوي لهذه المسألة وهي الإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان , هذا فيه , فيه إخراج العمل أن يكون مورداً للإيمان , وقصر الإيمان من حيث المورد على الإقرار والتصديق , وهذا كما ذكرت لك مذهب مرجئة الفقهاء , والمرجئة في هذه المسألة لهم أقوال متعددة , أشهرها قولان: قول جمهور المرجئة وهو أن الإيمان هو التصديق ولا يلزم معه إقرار , ثم مرجئة الفقهاء الماتريدية وذهب إليه الماتُريدية والأشاعرة وجماعة , أن الإيمان إقرارٌ باللسان وتصديق بالجنان , وسموا مرجئة؛ لأنهم أرجؤوا العمل عن مسمى الإيمان , يعني أخروه عن مسمى الإيمان فجعلوا الإيمان متحققاً بلا عمل , واستدلوا لمذهبهم بعدة أدلة من أشهرها قول الله جل وعلا في آيات كثيرة: ] الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [ , فعطف العمل على الإيمان , وهذا من أقوى أدلتهم على هذه المسألة , قالوا: فهذا يدل على التغاير ما بين العمل وما بين الإيمان؛ لأنه لو كان عمل الصالحات في الإيمان لما قال: ] الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [ , فلما عطف العمل على الإيمان قالوا: دلنا على تأخير العمل وإرجاء العمل عن مسمى الإيمان.
والجواب عن ذلك , يعني عن هذا الاستدلال بجواب مختصر , ونرجئ الجواب المطول , الجواب عن ذلك أن اللغة فيها العطف بالواو , ويراد بالعطف بالواو التغاير , والتغاير تارة يكون تغاير ذوات , وتارة يكون تغاير صفات , وتارة يكون العطف بالواو لا لأجل التغاير , ولكن تغاير ما بين الجزء والكل , وما بين العام والخاص , ما معنى هذا؟ معناه أنك تقول مثلاً في اللغة: دخل محمدٌ وخالد , محمد ذاته غير ذات خالد , هذا له حقيقة ذات , وهذا له حقيقة، هذا يُسمى تغاير ذوات, تغاير الصفات تقول: عندي مهندٌ وصارمٌ وحسام , والذي عندك سيف واحد , يعني الذي عند العرب سيفٌ واحد لكن يقول: مهند من جهة وصفه أنه صنع في الهند , وصارمٌ من جهة شهرته وأنه يصرمه، وحسام من جهة أنه من وقع عليه حسمه وقتله. منه في القرآن قال جل وعلا في تغاير الصفات: ] الرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ [ الكتاب هو القرآن , والقرآن هو الكتاب , عطف بالواو هل لتغاير الذوات؟ الكتاب شيء والقرآن شيء؟
لا أحد يقول بهذا من المتقدمين , لا أحد يقول بهذا , فصار العطف لتغاير الصفات ] تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [ نُظر فيه إلى جهة كونه مكتوباً باقياً ] وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ [ يعني أنه يقرأ فينظر فيه إلى التلاوة والقراءة فهذا تغاير صفات.
الثالث: أن يكون العطف بالواو للتغاير ما بين الجزئي والكلي , وما بين الكلي والجزئي , فيعطف الخاص على العام, ويعطف العام على الخاص , مثاله قول الله جل وعلا في سورة البقرة: ] مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [ عدو لله وملائكته لا شك الملائكة غير الله جل وعلا , الملائكة مخلوقة والرب جل وعلا هو مالك الملك وخالق الخلق , وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ الرسل منهم رسل من الملائكة ومنهم رسل من: ] اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ [ فالرسل هنا نعم من الملائكة؛ لأن منهم الرسل من الملائكة ومنهم الرسل من البشر , فإذن هنا صار عطفا , عطف الكلي على الجزئي , ثم قال: ] وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [ جبريل وميكال من الرسل أو لا؟ من الرسل , من الملائكة؟ نعم , فعطفهم , هل حقيقة جبريل وميكال غير الملائكة؟ لا , هذا تغاير صحيح ولكن تغاير بين حقيقة الكل والجزء وليس تغاير ذوات , ولا تغاير صفات , ولا تغاير حقيقة، ومن هذا عطف الخاص على العام لأجل التغاير ما بين الجزء والكل في قوله: ] الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [] وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـنُ وُدّاً [] الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ… [ الآيات كثيرة , آمنوا وعملوا الصالحات عطف العمل على الإيمان لأجل هذا , وإلا فهو داخل في حقيقته هنا , لماذا يخص الخاص بالذكر بعد العام؟
لأجل التنبيه على شرفه , فالعرب تعطف الخاص على العام , وتغاير في هذا؛ لأجل التنبيه على شرف ما ذكر لأنك بتقول مثلاً: جاءني.. مثلاً جاءني المشايخ تقول: جاءني المشايخ وسماحة الشيخ عبدالعزيز , هذا نقول: ما هو من المشايخ , لكن هنا للتنبيه على شرفه , والمقصود جاءك المشايخ جميعاً، وجاءك المقصود أو المقدم فيهم والأكبر إلخ؛ تنبيهاً على شرفه ومنزلته إلخ.
فإذًا الاستدلال بهذا هذا جوابٌ مختصر , ونذكر لكم بقية الأدلة والإجابة عليها فيما يأتي. أنا أردت بهذا التطويل اللغوي تأصيل المسألة لكم؛ لأن مسألة الإيمان خاض فيها كثيرون في هذا العصر , كتبوا فيها كتابات , سواء في الإيمان أو في التكفير , وهم لم يدركوا حقيقة مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، فمنهم من أدخل مذاهب المرئجة في مذهب أهل السنة وقصروا الكفر على التكذيب والإيمان على التصديق إما قولاً أو باللازم، ومنهم من ذهب إلى أن الإيمان قولٌ واعتقاد , وأن العمل ليس من الإيمان أصلاً كما هو قول المرجئة والأقوال في هذا متعددة , نسأل الله جل وعلا أن يثبتني وإياكم على طريقة أئمتنا , وأن يكف عنا الشر، وأن لا يخذلنا , وأن ينور بصائرنا وبصائر أحبابنا , إنه جواد كريم. نكتفي بهذا القدر ونكمل المرة القادمة [إن شاء الله وفقكم الله وصلى الله على نبينا محمد.]*
مـجـلـس آخـر
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله حق حمده، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد..,
فأسأل الله جل جلاله أن يجمع لي ولك بين العلم والعمل، وبين الصدق في الاعتقاد والصدق في القول والصدق في الأعمال، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً، واجعل دعاءنا مسموعاً، وقلبنا لك خاشعاً خضوعا يا أرحم الراحمين.
كنا نتكلم في الدرس الأخير قبل رمضان عن مسائل الإيمان، وأذكر أنا ذكرنا بعض المسائل التي هي توطئة لشرح كلام الطحاوي رحمه الله , نبتدئ بسماع المتن، اقرأ (غير مسموع):
القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم , والحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الطحاوي رحمه الله تعالى:
والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى وملازمة الأولى، والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن وأكرمهم عند الله أطوعهم، وأتبعهم للقرآن، والإيمان هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى، ونحن مؤمنون بذلك كله لا نفرق بين أحد من رسله ونصدقهم كلهم على ما جاؤوا به، وأهل الكبائر.
الشيخ: يكفي. قال رحمه الله تعالى: "والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان"، هذه الجملة من كلامه في تعريف الإيمان المقصود بها التعريف الشرعي للإيمان عند الطحاوي رحمه الله , والذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الأئمة، أئمة أهل الحديث والسنة , أن الإيمان قول وعمل , وبعض أهل العلم يعبّر بقوله: الإيمان قول وعمل ونية , كما قالها الإمام أحمد في موضع , ويعني بالنية الإخلاص، يعني الإخلاص في القول والعمل، وهذا الأصل وهو أن الإيمان قول وعمل وُضِّحَ بقول أهل العلم: الإيمان اعتقاد بالقلب , يعني بالجنان , وقول باللسان , وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بطاعة الرحمن وينقص بطاعة الشيطان.
فشمل الإيمان إذن فيما دلت عليه الأدلة هذه الأمور الخمسة وهي: أنه اعتقاد وأنه قول وأنه عمل وأنه يزيد وأنه ينقص. وتعريف الطحاوي للإيمان بقوله: "هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان" هذا تعريف بالمقارنة مع ما سبق فيه قصور وهو موافقٌ لما عليه الإمام أبوحنيفة رحمه الله وأصحابه؛ فإنهم لم يجعلوا العمل من مسمى الإيمان وجعلوا الإيمان تصديق القلب وإقرار اللسان، وجعلوا الأعمال زائدة عن مسمى الإيمان مع كونها لابد منها ولازمة للإيمان , فقول الطحاوي هذا ليس مستقيماً مع معتقد أهل السنة والجماعة، أتباع أهل الحديث والأثر , وفيه قصور؛ لأنه أخرج الإيمان.. أخرج العمل عن تعريف الإيمان , وكون العمل من الإيمان له أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، أظن أني قدمت لكم بعضها قبل رمضان. ومنها في هذا المقام قول الله جل وعلا: ] وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [ ويعني بالإيمان الصلاة، فسمى الصلاة إيماناً والصلاة عمل , وقال أيضاً جل وعلا: ] الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [ وقال: ] آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [ دلت الآية على أن الإيمان له حقيقة هي الاعتقاد والإيمان بهذه الأركان الخمسة ] آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [ فإذا كان العمل ناشئاً عن هذه، فإنه لا يتصور الانفكاك ما بين العمل والإيمان , ولهذا في آية البقرة: ] وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [ جعل العمل هو الإيمان؛ لأنه منه , ولأنه ينشأ عنه.
فنفهم إذن أن قوله: ] إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [] الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [ ونحو ذلك، بما فيه عطف العمل على الإيمان كما قدمنا آنفاً أن هذا عطف الخاص بعد العام , وعطف الجزء بعد الكل، وهذا كثير في القرآن وفي اللغة كما قدمته لك. ومن السنة قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((آمركم بالإيمان)) لما قال لوفد عبدالقيس لما أتوه في المدينة قال: ((آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟)) ثم فسر بأركان الإيمان ثم قال: ((وأن تؤدّوا الخمس من المغنم))، وهذا أداء الخمس عمل، فجعله تفسيراً للإيمان.
كذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة , أعلاها قول: لا إله إلا الله , وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) فجعل الإيمان له قول مرتبط بالنطق، وله عمل الذي هو إماطة الأذى عن الطريق، يعني الذي هو نوع العمل، وجعل له عمل القلب وهو الحياء، ففي هذا الحديث مثل النبي عليه الصلاة والسلام شعب الإيمان بثلاثة أشياء، منها القول ومنها الاعتقاد أو عمل القلب، ومنها عمل الجوارح، ويأتي مزيد بيان لهذا الأصل في المسائل إن شاء الله تعالى.
ثم زيادة الإيمان ونقصانه، دل على الزيادة قول الله جل وعلا: ] وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً [، وكذلك قوله: ] ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم [ وكذلك قوله: ] زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ [ ونحو ذلك مما فيه زيادة. وإذا كان فيه زيادة فإنه لابد أن يكون فيه النقص بمقابل ما ترك مِمَّ يسبب الزيادة في الإيمان , ولهذا قال بعض الصحابة لما ذكر زيادة الإيمان وذكر نقصانه، قال: إذا سبّحنا الله وحمدناه وذكرناه فذلك زيادته , وإذا غفلنا فذلك نقصانه , فزيادة الإيمان ونقصانه دل عليها قول الله جل وعلا والسنة وقول الصحابة رضوان الله عليهم.
فمن هذا يتقرر أن قول الطحاوي: "الإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان" هذا يوافق قول مرجئة الفقهاء وهم أبوحنيفة النعمان بن ثابت الإمام المعروف وأصحابه , ممن أخرجوا العمل عن كونه جزءاً من الماهية , عن كونه ركناً في الإيمان. إذا تقرر هذا فإن في مسألة الإيمان مباحث كثيرة جداً؛ وذلك لكثرة الخلاف في هذه المسألة وطول الكلام عليها , وكثرة التصانيف التي صنفها السلف ومن بعدهم في هذه المسألة، لكن يمكن تقريب هذه المسألة لطالب العلم في مسائل:
الأولى: الإيمان يجمع الاعتقاد بالقلب وهو الذي يسميه المرجئة مرجئة الفقهاء أو يسميه العامة التصديق.
والثانية: قول اللسان.
والثالثة: عمل الجوارح والأركان.
والرابع: الزيادة
والخامسة: النقصان.
هذه خمسة أشياء فيها اختلف المنتسبون إلى القبلة على أقوال.
القول الأول: هو أن الإيمان تصديق فقط. وهذا هو قول جمهور الأشاعرة وهو قول أيضاً أبي منصور الماتريدي والماتريدية العامة , وهذا مبني منهم على أن القول ينشأ عن التصديق، وعلى أن العلم ينشأ عن التصديق، فنظروا إلى أصله في اللغة بحسب ظنهم , وإلى ما يترتب عليه فجعلوه التصديق فقط , واستدلوا له بعدة أدلة مما فيه أن الإيمان تصديق كقوله: ] آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [ وهذه أمور غيبية , والإيمان بها يعني التصديق بها. وغير ذلك من الأدلة التي فيها حصر الإيمان بالغيبيات والإيمان بالغيبيات يفهم على أنه التصديق. وهؤلاء يسمون المرجئة، وهم المشهورون بهذا الاسم.
ومن المرجئة طائفة غالية جداً، وهم الذين جعلوا الإيمان ليس التصديق بالقلب ولكن هو المعرفة بالقلب , وهو القول المنسوب إلى الجهمية وغلاة الصوفية كابن عربي ونحوه، ممن صنفوا في إيمان فرعون. الفئة الثانية أو الفرقة الثانية: (غير مسموع) قال: إن الإيمان قول باللسان فقط , هؤلاء يسمون الكرّاميّة بالتشديد، الكرّاميّة ينسبون إلى محمد بن كرّام، هذا يقول: الإيمان هو الإقرار باللسان , لم؟ قال: لأن الله جل وعلا جعل المنافقين مخاطبين باسم الإيمان، في آيات القرآن , فإذا نودي المؤمنون في القرآن فيدخل في الخطاب أهل النفاق والمنافقون , إنما أقرّوا بلسانهم، ولم يصدقوا بقلوبهم، فدخلوا في اسم الإيمان لهذا الأمر.
المذاهب الثالث: هو مذهب الخوارج والمعتزلة.. بل قبله، المذهب الثالث هو مذهب مرجئة الفقهاء الذين قالوا: إن الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه: إقرار باللسان وتصديق بالجنان، ويجعلون أن الناس في التصديق كما سيأتي، وفي أعمال القلوب أنهم واحد، فأعمال القلوب التي أصلها التصديق عندهم شيء واحد، والعمل ليس من الإيمان عندهم يعني من حقيقة الإيمان....
وأظن شبهتهم نص أبي حنيفة في هذه المسألة, وهو بناه على أن الذين خوطبوا بالإيمان هم المؤمنون والمنافقون, والمنافقون ليس لهم عمل، عملهم باطل, وإنما أقرّوا باللسان فقط, والمؤمنون مصدقون مقرون، فجمع لهم ما بين –يعني: بين الطائفتين- ما بين الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، يعني: في الخطاب الظاهر، وأما الأعمال فالحساب عليها آخر, ومن أدلتهم الأصل اللغوي الذي هو حسب ما قالوا: إن الإيمان هو التصديق, والإقرار أخذ من زيادة في الشريعة؛ لأنه لابد من قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
الرابع: هو قول الخوارج والمعتزلة: هو أن الإيمان اعتقاد بالجنان, أو تصديق بالجنان, وإقرار باللسان, وعمل بالجوارح، وهذا العمل عندهم بكل مأمور به, والانتهاء عن كل منهي عنه, فما أمر به وجوباً فيدخل في مسمى الإيمان بمفرده, وما نهي عنه تحريماً فيدخل في مسمى الإيمان بمفرده, يعني: أن كل واجب يدخل في مسمى الإيمان على حدة، فيكون جزءاً وركناً في الإيمان، وكل محرم يدخل في الانتهاء عنه, يدخل في مسمى الإيمان بمفرده، وبناء على ذلك قالوا: فإذا ترك واجباً؛ فإنه يكفر, وإذا فعل محرماً من الكبائر؛ فإنه يكفر؛ لأن جزء الإيمان وركن الإيمان ذهب, فعندهم أن هذا العمل جزء واحد, إذا فقد بعضه فقد جميعه, وبينهم خلاف –يعني: بين الخوارج والمعتزلة- فيمن استحق النار في الآخرة ماذا يسمى في الدنيا؟! على القول المعروف عندهم: وهو أنه في الدنيا عند الخوارج يسمى كافرا, وعند المعتزل هو في منزلة بين المنزلتين, لا يقال: مؤمن, ولا يقال: كافر. مع اتفاقهم على أنه في النار مخلد فيها؛ لانتفاء الإيمان في حقه.
الخامس: هو قول أهل الحديث والأثر، وقول صحابة رسول الله r:وهو أن الإيمان اعتقاد, ومن الاعتقاد التصديق، وقول باللسان, وهو إعلان لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعمل بالأركان، وأنه يزيد وينقص, ويعنون بالعمل جنس العمل, يعني: أن يكون عنده جنس طاعة وعمل لله جل وعلا، فالعمل عندهم الذي هو ركن الإيمان ليس شيئًا واحدًا, إذا وجد بعضه وجد جميعه، إذا ذهب بعضه ذهب جميعه، أو إذا وجد بعضه وجد [جميعه][1], بل هذا العمل مركب من أشياء كثيرة, لابد من وجود جنس العمل، وهل هذا العمل الصلاة؟! أو هو أي عمل من الأعمال الصالحة؟! امتثال الواجب طاعة, وترك المحرم طاعة, هذا ثم خلاف بين علماء الملة في المسألة المعروفة في تكفير تارك الصلاة تهاوناً أو كسلاً, الفرق ما بين مذهب أهل السنة والجماعة وما بين مذهب الخوارج والمعتزلة أن أولئك جعلوا ترك أي عمل واجب أو فعل أي عمل محرم؛ فإنه ينتفي عنه اسم الإيمان، وأهل السنة قالوا: العمل ركن وجزء من الماهية، لكن هذا العمل أبعاض، ويتفاوت, وأجزاء إذا فات بعضه أو ذهب جزء منه؛ فإنه لا يذهب كله، فيكون المراد من الاشتراط جنس العمل، يعني: أن يوجد منه عمل صالح ظاهرًا بأركانه وجوارحه, يدل على أن تصديقه الباطن، وعمل القلب الباطن على أنه استسلم به ظاهرًا، وهذا متصل بمسألة الإيمان والإسلام، فإنه لا يتصور وجود إسلام ظاهر بلا إيمان، كما أنه لا يتصور وجود إيمان باطن بلا نوع استسلام لله –جل وعلا- بالانقياد له بنوع طاعةٍ ظاهرة.
المسألة الثانية: الطحاوي هنا ترك العمل, يعني: ما ذكر العمل في مسمى الإيمان، وكما ذكرت لك, أن العمل عند أهل السنة والجماعة داخل في مسمى الإيمان, وفي ماهيته, وهو ركن من أركانه, والفرق بينهما – يعني: بين قول مرجئة الفقهاء, وهو الذي قرره الطحاوي, وبين قول أهل السنة والجماعة أتباع الحديث والأثر- الفرق بينهما من العلماء من قال: إنه صوري لا حقيقة له –يعني: لا يترتب عليه خلاف في الاعتقاد- ومنهم من قال: لا هو معنوي وحقيقي، ولبيان ذلك؛ لأن الشارح ابن أبي العز –رحمه الله - على جلالة قدره وعلو كعبه ومتابعته للسنة ولأهل السنة والحديث، فإنه قرر أن الخلاف لفظي وصوري, وسبب ذلك أن جهة النظر إلى الخلاف منفكة,[فمنهم من ينظر إلى][2] الخلاف بأثره في التكفير، ومنهم من ينظر إلى الخلاف بأثره في الاعتقاد، فمن نظر إلى الخلاف بأثره في التكفير، قال: الخلاف صوري، الخلاف لفظي؛ لأن الحنفية الذين يقولون: هو الإقرار باللسان, والتصديق بالجنان، هم متفقون مع أهل الحديث والسنة؛ مع أحمد والشافعي على أن الكفر والردة عن الإيمان تكون بالقول, وبالاعتقاد، وبالعمل، وبالشك, فهم متفقون معهم على أن من قال قولاً يخالف ما به دخل في الإيمان؛ فإنه يكفر، ومن اعتقد اعتقادا يخالف ما به دخل في الإيمان؛ فإنه يكفر، وإذا عمل عملاً ينافي ما به دخل في الإيمان؛ فإنه يكفر، وإذا شك أو ارتاب؛ فإنه يكفر، بل الحنفية في باب حكم المرتد في كتبهم الفقهية أشد في التكفير من بقية أهل السنة, مثل: الحنابلة, والشافعية, ونحوه، فهم أشد منهم, حتى إنهم كفروا بمسائل لا يكفر بها بقية الأئمة, كقول القائل مثلاً:سورة صغيرة, فإنهم يكفرون بها, أو مسيجيد أو نحو ذلك أو إلقاء كتاب فيه آيات؛ فإنهم يكفرون إلى آخر ذلك. فمن نظر مثلما نظر الشارح ونظر جماعة من العلماء, من نظر في المسألة إلى جهة الأحكام, وهو حكم الخارج من الإيمان, قال: الجميع متفقون, سواء كان العمل داخلا في المسمى, أو خارجاً من المسمى؛ فإنه يكفر بأعمال, ويكفر بترك أعمال, فإذن لا يترتب عليه على هذا النحو دخول في قول المرجئة, الذي يقولون: بلا عمل ينفع, ولا يخرج من الإيمان بأي عمل يعمله, ولا يدخلون مع الخوارج في أنهم يكفرون بأي عمل, أو بترك أي واجب, أو فعل أي محرم, فمن هذه الجهة إذا نظر إليها تُصُوِّر أن الخلاف ليس بحقيقي, بل هو لفظي وصوري.
الجهة الثانية التي ينظر إليها: وهي أن العمل عمل الجوارح والأركان, هو مما أمر الله –جل وعلا- به في أن يعتقد وجوبه, أو يعتقد تحريمه من جهة الإجمال والتفصيل، يعني: أن الأعمال التي يعملها العبد لها جهتان؛ جهة الإقرار بها, وجهة الامتثال لها، وإذا كان كذلك؛ فإن العمل بالجوارح والأركان, فإنه إذا عَمِل فإما أن نقول: إن العمل داخل في التصديق الأول، تصديق بالجنان, وإما أن نقول: إنه خارج عن التصديق بالجنان، فإذا قلنا: إنه داخل في التصديق بالجنان, يعني: العمل بالجوارح باعتبار أنه إذا أقر به امتثل؛ فإنه يكون التصديق إذن ليس تصديقاً، وإنما يكون اعتقادًا شاملاً للتصديق وللعزم على الامتثال, وهذا ما خرج عن قول وتعريف الحنفية.
والجهة الثانية: أن العمل يمتثل فعلاً، فإذا كان كذلك؛ كان التنصيص على دخول العمل في مسمى الإيمان هو مقتضى الإيمان بالآيات وبالأحاديث؛ لأن حقيقة الإيمان فيما تؤمن به من القرآن، في الأوامر والنواهي في الإجمال والتفصيل, أنك تؤمن بأن تعمل, وتؤمن بأن تنتهي, وإلا فلو لم يدخل هذا في حقيقة الإيمان؛ لم يحصل فرق ما بين الذي دخل في الإيمان بيقين, والذي دخل في الإيمان بنفاق, يبين لك ذلك أن الجهة هذه وهي جهة انفكاك العمل عن الاعتقاد، انفكاك العمل عن التصديق، هذه حقيقة داخلة فيما فرق الله –جل وعلا- به فيما بين الإسلام والإيمان، ومعلوم أن الإيمان إذا قلنا:إنه إقرار وتصديق؛ فإنه لابد له من إسلام وهو امتثال الأوامر والاستسلام لله بالطاعات, بهذا نقول: إن مسألة الخلاف هل هو لفظي أو هو حقيقي؟! راجعة إلى النظر في العمل، هل العمل داخل امتثالاً فيما أمر الله –جل وعلا- به أم لم يدخل امتثالاً فيما أمر الله –جل وعلا- به؟! والنبي r بين أنه يأمر بالإيمان، ((آمركم بالإيمان بالله وحده)). والله –جل وعلا- أمر بالإيمان: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ [ فالإيمان مأمور به، وتفاصيل الإيمان بالاتفاق بين أهل السنة وبين مرجئة الفقهاء, يدخل شعب الإيمان, يدخل فيها الأعمال الصالحة, لكنها تدخل في المسمى من جهة كونها مأمورا بها، فمن امتثل الأمر على الإجمال والتفصيل فقد حقق الإيمان, وإذا لم يمتثل الأمر على الإجمال والتفصيل؛ فإنه بعموم الأوامر لا يدخل في الإيمان, وهذه يكون فيها النظر مشكلاً من جهة هل يتصور هل يتصور أن يوجد أحد يؤمن بالإيمان يؤمن بما أنزل الله –جل وعلا- ولا يفعل خيراً البتة؟ لا يفعل خيرًا قط؟! لا يمتثل واجبًا؟! ولا ينتهي عن محرم؟! مع اتساع الزمن وإمكانه في الحقيقة هذا لا يتصور أن يكون أحد يقول: أنا مؤمن, ويكون إيمانه صحيحاً, ولا يعمل صالحًا مع إمكانه لا يعمل أي جنس من الطاعات؛ خوفاً من الله –جل وعلا- ولا ينتهي عن أي معصية؛ خوفاً من الله جل وعلا، هذا لا يتصور, ولهذا حقيقة المسألة ترجع إلى الإيمان بالأمر، الإيمان بالأمر.. الأمر بالإيمان في القرآن وفي السنة كيف يؤمن به، كيف يحققه؟! يحقق الإيمان بعمل بجنس العمل الذي يمتثل به، فرجع إذن أن الامتثال داخل في حقيقة الإيمان بأمره, وإلا فإنه حينئذ لا يكون فرقاً بين منيعمل ومن لا يعمل. لهذا نقول: إن الإيمان الحق بالنص بالدليل –يعني: بالكتاب والسنة, بالله وبرسوله r وبكتابه- لابد له من امتثال، وهذا الامتثال لا يتصور أن يكون غير موجود من مؤمن، أن يكون مؤمن ممكن أن يعمل ولا يعمل البتة، وإذا كان كذلك كان إذا جزءًا من الإيمان، أولاً لدخوله في تركيبه، والثاني أنه لا يتصور في الامتثال, يعني: للإيمان, والإيمان بالأمر أن يؤمن ولا يعمل البتة, إذن فتحصل من هذه الجهة: أن الخلاف ليس صورياً من كل جهة، بل ثم جهة فيه تكون لفظية، وثم جهة فيه تكون معنوية، وجهات المعنوية والخلاف المعنوي كثيرة متنوعة,لهذا قد ترى من كلام بعض الأئمة من يقول: إن الخلاف بين المرجئة وبين أهل السنة- مرجئة الفقهاء ليس كل المرجئة- أن الخلاف صوري؛ لأنهم يقولون: العمل شرط زائد لا يدخل في المسمى، وأهل السنة يقولون: لا هو داخل في المسمى، فيقول: إذن الخلاف صوري، من قال: الخلاف صوري فلا يظن أنه يقول به في كل صور الخلاف، وإنما يقول به من جهة النظر إلى التكفير وإلى ترتب الأحكام على من لم يعمل، أما من جهة الأمر, من جهة الآيات, والأحاديث, والاعتقاد بها والإيقان بالامتثال, فهذا لابد أن يكون الخلاف حينئذ حقيقي.
المسألة الثالثة في الزيادة والنقصان: زيادة الإيمان ونقصانه اختلف فيها العلماء على أقوال:
القول الأول: وهو قول جمهور أهل العلم من أهل السنة ومن المرجئة ومن غيرهم، قول الجمهور من جميع الطوائف: إن الإيمان يزيد وينقص.
القول الثاني: إن الإيمان يزيد ولا ينقص، وهذا منسوب إلى بعض أئمة أهل السنة؛ لأن الدليل دل على زيادته, وهذا أمر لا يدخله القياس، فلا نقول بنقصانه لعدم ورود الدليل في ذلك.
الثالث: من قال: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وهو قول طائفة من المرجئة ومن غيرهم، لا ارتباط ما بين الإرجاء والخلاف في الثلاثة أركان الأولى, وما بين القول بزيادة الإيمان ونقصانه، تارةً تجد من ذهب إلى أحد الأقوال، يقول بزيادته ونقصانه, ومن ذهب إليه لا يقول بزيادته ونقصانه, يعني: مثلاً الأشاعرة الذين هم مرجئة, والماتريدية منهم من يقول بزيادته ونقصانه, ومنهم من لا يقول بذلك، لعدم ترتبها على حقيقة الإيمان, هذا أمر زائد أدخلوه في في البحث, فإذن لا أثر في الخلاف مسألة زيادته ونقصانه على كونه مرجئا، إذا قال أحد: الإيمان ما يزيد ولا ينقص, لا يدل على كونه.. على كونه مثلاً مرجئة, لكنه يدل على أنه ليس من أهل السنة, إذا قال: الإيمان نقول بزيادته ونقصانه, لا يدل على أنه من أهل السنة والجماعة,بل قد يكون مرجئاً, فلا ارتباط ما بين مسألة الزيادة والنقصان ومسائل التعريف السالفة للإيمان.
المسألة الرابعة: عرف الإيمان بقوله:"إقرار باللسان, وتصديق بالجنان". وقلنا في التعريف: اعتقاد بالجنان, والفرق ما بين التصديق والاعتقاد أن التصديق شيء واحد –بمعنى أنه أمر واحد عبادة واحدة- وأما الاعتقاد فإنه يشمل أشياء كثيرة من أعمال القلوب, لهذا قالت طائفة من السلف في تعريف الإيمان: الإيمان قول وعمل، وهذا دقيق؛ لأنه يشمل قول القلب, وقول اللسان, وقول القلب هو تصديقه وإخلاصه لله جلا وعلا, وقول اللسان هو إعلانه الشهادة, وعمل يشمل عمل القلب وعمل الجوارح, وعمل القلب من محبة الله جلا وعلا, والتوكل عليه، والخوف منه –جل جلاله- ورجاؤه, والإنابة إليه، وخشية الرب جل جلاله, ونحو ذلك من أعمال القلوب.
فإذن ما يتصل بالقلب من أمور الإيمان ليست شيئاً واحدًا, ليس هو التصديق فقط، بل ثم أشياء كثيرة في القلب والتصديق, هو أحدها, ولهذا فإن التفاضل الزيادة والنقصان، زيادة ونقصان باعتبار العمل الظاهر، وزيادة ونقصان باعتبار عمل القلب الباطن, فالناس يتفاوتون في الإيمان, من جهة زيادته ونقصانه في أعمالهم الظاهرة, وهي أمور الإسلام من الصلاة, والزكاة, والصيام, والحج, والاستسلام لله جلا وعلافي الأوامر والانقياد ونحو ذلك, والانتهاء عن المحرمات، وكذلك أعمال القلوب، وأعمال القلوب نوعان:
أعمال واجبة الفعل, وأعمال محرمة العمل, أو واجبة الترك, أما واجبة الفعل مثل محبة الله -جلا وعلا- والإنابة إليه, والتوكل عليه, وخشيته, والخوف منه, والطمأنينة له ونحو ذلك من أعمال القلوب، وما يجب تركه ما يجب تركه من أعمال القلوب المحرمات، محرمات أعمال القلوب التي هي الكبر والبطر وتزكية النفس وسوء الظن بالله -جلا وعلا- ونحو ذلك، هذه كلها يجب تركها, فإذن أعمال القلوب مشتملة على تصديق, ومشتملة على أمور واجب أن يعملها القلب، وأمور واجب أن ينتهي عنها القلب، وهذه كلها في الحقيقة متصلة، فالتصديق متأثر زيادةً ونقصاناً بأعمال القلوب، فأعمال القلوب تؤثر على تصديقه, فأعمال القلوب الواجبة إذا زادت محبته لله جلا وعلا؛ زاد تصديقه, إذا زادت إنابته إلى الله وزاد خشوعه وخضوعه بين يدي الله؛ زاد توكله على الله –سبحانه وتعالى- زاد تصديقه, وزاد يقينه، وكذلك إذا انتهى عن المحرمات خضع لله جلا وعلا, لم يكن متكبراً ذليلاً لله جلا وعلا, غير مترفع على الخلق، محباً لسلامته سلامة قلبه, مبتعداً عما يفسد القلب، هذه كلها مؤثرة في تصديقه, فإذن رجع الأمر في زيادة الإيمان وفي نقصانه إلى زيادة الإيمان في أركانه الثلاثة، ونقصان الإيمان في أركانه الثلاثة فإذن زيادة الإيمان نقول: يزيد بطاعة الرحمن, يعني: يزيد التصديق والاعتقاد بطاعة الرحمن, يزيد الإقرار باللسان بطاعة الرحمن، يزيد العمل بالأركان أيضًا بطاعة الرحمن، فزيادة الإيمان راجعة للثلاثة جميعاً؛ لأن الزيادة تارة تكون بالعمل الظاهر؛ زيادة صلاة, زيادة صدقة, زيادة بر, زيادة جهاد في سبيل الله، طلب علم ونحو ذلك، فيرجع هذا إلى التصديق, وإلى الإقرار بزيادة. [فيكون تصديقه و][3]اعتقاده أكثر وأعظم وأمتن وأثبت. وكذلك إقرار... وهذا الإنسان يحسه من نفسه, فإنه إذا زاد إيمانه؛ زاد لهجه بذكر ربه –جلا وعلا- تهليلاً, وتسبيحًا, وتحميدًا, وتكبيرًا, وتمجيدًا,المسائل كثيرة عن.. نرجئ البقية إلى موضع آت إن شاء الله.
* ما بين المعقوفتين غير مسموع في الشريط .
* ما بين المعقوفتين غير مسموع في الشريط .
[1] هذه الكلمة غير موجودة بالشريط
[2] هذا الجزء غير موجود بالشريط
[3] هذا الجزء غير مسموع بالشريط