(1)
الْمَردودُ:
أي: الضعيفُ، ويكونُ ضَعْفُهُ بأحَدِ أَمرَيْنِ:
1-
إمَّا بسَبَبِ انقطاعٍ في الإسنادِ.
2-
أوْ يكونُ بسَببِ طَعْنٍ في الرَّاوِي.
أوَّلاً: السَقْطُ في الإسنادِ: لهُ أنواعٌ:
(2)
1- الْمُعَلَّقُ:
الانقطاعُ مِنْ جِهةِ مُصَنِّفِ الكتابِ.
تعريفُهُ:
ما سَقَطَ مِنْ أوَّلِ إسنادِهِ راوٍ فأَكثرُ.
مثالٌ:
إذا قالَ البُخاريُّ: حدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قالَ: حدَّثَنا سُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ قالَ: حدَّثَني يَحْيَى بنُ سعيدٍ الأَنصارِيُّ، عنْ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ التَّيْمِيِّ، عنْ عَلقمةَ بنِ وَقَّاصٍ الليثيِّ، عنْ عمرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ...))فلوْ حَذَفَ البُخاريُّ الْحُمَيْدِيَّ فقالَ: عنْ سُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ، فهذا يُعتَبَرُ مُعَلَّقاً.
- وكذا لوْ قالَ الْمُصَنِّفُ: قالَ عمرُ بنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ:((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) فهذا يُعْتَبَرُ مُعَلَّقاً.
- وكذا لوْ قالَ المصنِّفُ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) فهذا يُعْتَبَرُ مُعَلَّقاً.
مسألةٌ:
لوْ حَذَفَ المصنِّفُ شَيْخَهُ، وكان شيخُ شيخِهِ شَيْخاً للمُصَنِّفِ؛ فمَثَلاً: لوْ كانَ البُخاريُّ يَرْوِي عن الإمامِ أحمدَ أحاديثَ عَديدةً، لكنَّ حديثاً مِن الأحاديثِ ما سَمِعَهُ منهُ، وإنَّما سَمِعَهُ مِنْ أبي حاتمٍ الرازيِّ، فيُسْقِطُ أبا حاتمٍ ويقولُ: قالَ الإمامُ أحمدُ: حُدِّثْنَا عنْ فُلانٍ... فَهَلْ يُسَمَّى مُعَلَّقاً، أمْ يُسَمَّى مُدَلَّساً؟
الراجحُ:
إذالم يكُنْ صاحبُ الكتابِ مُدَلِّساً؛ فهذا يُسَمَّى مُعَلَّقاً،والبُخاريُّ يُعَلِّقُ أحاديثَ بهذهِ الطريقةِ في صحيحِهِ.
ولهذا حَصَلَ التنازُعُ في حديثِ: ((لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَّ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ))؛ لأنَّ البُخاريَّ قالَ: قالَ هشامُ بنُ عَمَّارٍ، وهشامُ بنُ عَمَّارٍ هوَ شَيْخُهُ، لكنَّهُ لمْ يَقُلْ: حدَّثَني هشامُ بنُ عَمَّارٍ، فابنُ حَزْمٍ قالَ: (وهذا الْحَدِيثُ غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ البُخاريَّ لم يَذْكُر الْحَدِيثَ بالإسنادِ الْمُتَّصِلِ، وإنَّما علَّقَهُ عنْ شيخِهِ هِشامِ بنِ عمَّارٍ، ورُدَّ عليهِ بأنَّ البُخاريَّ غيرُ مُدَلِّسٍ).
وقولُ البُخاريِّ: قالَ هِشامُ بنُ عَمَّارٍ، ليسَ معناهُ أنَّهُ لم يَسْمَعْهُ منهُ، وإنَّما استَعْمَلَ صِيغةَ (قالَ)؛ لأنَّهُ لم يَأْخُذِ الْحَدِيثَ عنهُ في مَجْلِسِ التحديثِ، وإنَّما أخَذَهُ عنهُ في مَجالِ الْمُذاكَرَةِ إلى غيرِ ذلكَ مِن الرُّدودِ، معَ أنَّ الْحَدِيثَ أخْرَجَهُ غيرُ البُخاريِّ بإسنادٍ صحيحٍ.
وسببُ رَدِّ ابنِ حَزْمٍ للحديثِ، أنَّ البُخاريَّ يَستخدِمُ صِيغةَ (قالَ) في الْمُعَلَّقِ.
2- الْمُعْضَـل:
هوَ ما سَقَطَ مِنْ سَنَدِهِ رَاوِيَانِ فأَكْثَرُ على التوالِي. والأكثَرُ أنَّ ذلكَ السَّقْطَ يكونُ في وَسَطِ السَّنَدِ.
مُلاحظةٌ:
قدْ يَشْتَرِكُ الْمُعَلَّقُ، والْمُعْضِلُ، والْمُعْضَلُ.
مَثَلاً:
لوْ قالَ البُخاريُّ في حديثِ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)): قالَ سُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ؛ فهذا لا يُسَمَّى مُعْضَلاً؛ لأنَّ الساقِطَ راوٍ واحدٌ فقطْ؛ لكنْ لوْ قالَ البُخاريُّ: قالَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ؛ فهذا يُسَمَّى مُعَلَّقاً، ويُسَمَّى مُعْضَلاً؛ لأنَّهُ سَقَطَ مِنْ سَنَدِهِ أكثَرُ مِنْ واحدٍ، وكلُّهُم على التوالِي.
- ولوْ قالَ البُخاريُّ: حَدَّثَني الْحُمَيْديُّ أنَّ عُمَرَ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ...))فهذا يُسَمَّى مُعْضِلاً فقطْ، لكنَّهُ ليسَ مُعَلَّقاً؛ لأنَّ شَيْخَ الْمُصَنِّفِ مَوجودٌ.
(
3)3- الْحَدِيثُ الْمُرْسَلُ:
هوَ عكْسُ الْمُعَلَّقِ، فبَدَلاً مِنْ أنْ يكونَ مِنْ جِهةِ صاحبِ الكتابِ يكونُ مِنْ جِهةِ الصَّحَابِيِّ.
تعريفُ الْمُرْسَلِ:
هوَ ما رَوَاهُ التابِعِيُّ وأضافَهُ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ.
أوْ نقولُ:
هوَ ما سَقَطَ مِنْ إسنادِهِ مَنْ بعْدَ التابِعِيِّ.
مُلاحَظَةٌ هامَّةٌ:
-
هذا الساقِطُ يُحْتَمَلُ أنْ يكونَ صَحَابِيًّا فقطْ.
-
ويُحْتَمَلُ أنْ يكونَ الساقِطُ أكثَرَ مِنْ صَحَابِيٌٍّّ.
-
وقدْ يكونُ الساقِطُ صَحَابِيًّا وتابِعِيًّا.
-
ويُمْكِنُ أنْ يكونَ الساقِطُ أكثرَ مِنْ تابِعِيٍّ، وهذا التابِعِيُّ قدْ يكونُ ضَعيفاً، وقدْ يكونُ ثِقَةً، فإذا وَجَدْنَا التابعِيَّ ضَعيفاً صارَ الْحَدِيثُ ضَعيفاً.
وإنْ كانَ التابِعِيُّ (ثِقةً) فيُمْكِنُ أنْ يكونَ هذا التابِعِيُّ الثِّقَةُ أخَذَ الْحَدِيثَ عنْ تابِعِيٍّ آخَرَ، والتابعِيُّ الآخَرُ يُمْكِنُ أنْ يكونَ ضَعِيفاً؛ فإنْ كانَ كذلكَ فالْحَدِيثُ ضَعيفٌ، وإنْ كانَ ثِقَةً فيُمْكِنُ أنْ يكونَ أخَذَهُ مِنْ تابِعِيٍّ آخَرَ، وهكذا.
وأكثَرُ مَا وُجِدَ مِنْ رِوايَةِ بعْضِ التابعينَ عنْ بَعْضِ بَعْضٍ حديثِ حديثُ أبِي أيُّوبَ الأنصارِيِّ، هذا الْحَدِيثُ يَرويهِ مَنصورُ بنُ الْمُعْتَمِرِ، عنْ هِلالِ بنِ يَسَافٍ، عن الربيعِ بنِ خُثَيْمٍ، عنْ عمرِو بنِ مَيمونٍ، عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي لَيْلَى، عن امرأةٍ مِن الأنصارِ، عنْ أبِي أيُّوبَ الأنصاريِّ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: ((أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ؟!
فَإِنَّهُ مَنْ قَرَأَ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}فِي لَيْلَةٍ فَقَدْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ)).
فأَبُو أيُّوبَ الأنصاريُّ صَحَابِيٌّ، ومنصورُ بنُ الْمُعْتَمِرِ هوَ مِنْ صِغارِ التابعينَ، وهلالٌ تابِعِيٌّ، والربيعُ وعمرٌو وعبدُ الرحمنِ تابِعِيُّونَ، والمرأةُ الأنصارِيَّةُ على هذا الاحتمالِ تابعِيَّةٌ، لكنَّ التِّرْمِذِيَّ نَصَّ وذَكَرَ أنَّ امرأةَ أبي أيُّوبَ صَحَابِيَّةٌ.
قالَ النَّسَائِيُّ عنْ هذا الْحَدِيثِ: (هذا أَطْوَلُ إسنادٍ وُجِدَ في الدُّنيا).
حتَّى الإمامُ أحمدُ الذي يكونُ أَحياناً بينَهُ وبينَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ ثلاثةُ رُواةٍ، صارَ في هذا الْحَدِيثِ بينَهُ وبينَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ تِسعةُ رُواةٍ.
ومِنْ عَجَبِهم بهذا الْحَدِيثِ ألَّفَ الْخَطيبُ البَغداديُّ رِسالةً بعُنوانِ (حديثُ الستَّةِ مِن التابعينَ)، أوْرَدَ جميعَ طُرُقِ هذا الْحَدِيثِ.
حُكْمُ الْمُرْسَلِ:
لأَجْلِ هذهِ الْمَسألةِ - وهيَ أنْ يكونَ التابِعِيُّ قدْ يَرْوِي عنْ تابِعِيٍّ آخَرَ - كانَ رأيُ جُمهورِ الْمُحَدِّثِينَ على أنَّ الْحَدِيثَ الْمُرْسَلَ حديثٌ ضعيفٌ؛ لأنَّهُ فقَدَ شرْطاً مِنْ شُروطِ صِحَّةِ السنَدِ، وهوَ شَرْطُ الاِتِّصَالِ.
بعضُ الذينَ قَبِلُوا الْحَدِيثَ الْمُرْسَلَ قالُوا: لا؛ لأنَّ هناكَ إحتمالاً قويًّا جدًّا أنْ يكونَ هذا الساقِطُ صَحَابِيًّا.
قالُوا:
لوْ كُنَّا وَثِقْنَا أنَّ هذا الساقِطَ صحابِيٌّ لقَبِلْنَا الْحَدِيثَ؛ لأنَّ الصحابةَ كلَّهُم عُدولٌ؛ لكنَّنا نَتَوَقَّفُ؛ لأنَّ الساقِطَ يُحْتَمَلُ أنْ يَكونَ تَابِعيًّا، والتابِعِيُّونَ فيهم ثِقاتٌ، وفيهم ضُعَفَاءُ؛ لأَجْلِ هذا الاحتمالِ رَدَدْنَا الْحَدِيثَ الْمُرْسَلَ.
اختلافُ العُلماءِ في الْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ:
وقد اخْتَلَفَ العُلماءُ إلى ثلاثةِ أقوالٍ:
1-
جُمْهُورُ الْمُحَدِّثِينَ قالُوا:
الْحَدِيثُ الْمُرْسَلُ حديثٌ ضَعيفٌ، وهذا الرأيُ لبَعضِ الفُقهاءِ الأُصُولِيِّينَ.
2-
أبو حَنيفةَ، ومالِكٌ، ورِوايَةٌ عنْ أحمدَ، قَبِلُوا الْحَدِيثَ الْمُرْسَلَ بشَرْطِ أنْ يكونَ المُرْسِلُ مِمَّنْ لا يَرْوِي إلاَّ عنْ ثِقَةٍ، وهذا هوَ الْمَذْهَبُ الْمُتَسَاهِلُ.
3-
مَذْهَبُ الشافعيِّ - ويُعْتَبَرُ وَسَطاً بينَ الْمَذْهَبَيْنِ السابِقَيْنِ- فقالَ: الْحَدِيثُ المُرْسَلُ عِندي مَردودٌ إلاَّ بشَرْطٍ مِنْ هذهِ الشُّروطِ التاليَةِ:
أ-
شرْطٌ في الْمُرْسِلِ - الرَّاوِي - : أنْ يكونَ مِنْ كِبارِ التابعينَ، مِثْلَ: سعيدِ بنِ الْمُسَيِّبِ، فلوْ جاءَ عنْ صِغارِ التابعينَ مِثلِ: قَتادةَ، أو الزُّهْرِيِّ، فالشافعيُّ لا يَقْبَلُهُ.
ب-
في الْمُرْسَلِ الْمُرْسِلِ أيضاً: أنْ لا يَرْوِيَ إلاَّ عنْ ثِقَةٍ، فلوْ تَبَيَّنَ أنَّ بعضَ شُيُوخَهُ شُيُوخِهِ ضُعفاءُ، فالشافعيُّ يَرُدُّ حديثَ ذلكَ الذي أَرْسَلَ.
ج_
في الْمُرْسَلِ الْمُرْسِلِ أيضاً: أنْ يكونَ هوَ ثِقَةً في نَفْسِهِ؛ بحيثُ إذا شارَكَ الثِّقاتَ الثِّقاتِ الْمَأْمُونِينَ لم يُخَالِفْهُم.
لكنْ لو اكْتَمَلَتْ هذهِ الشُّروطُ الثلاثةُ في روايَةِ الْمُرْسِلِ فهذا لا يَكْفِي؛ بلْ لا بُدَّ أنْ يُضَمَّ إليها شُروطٌ.
مِنْ أحَدِ هذهِ الشُّرُوطِ في الْمَتْنِ الْمَرْوِيِّ، يعني الْحَدِيثَ الْمُرْسَلَ.
وهذهِ الشُّروطُ هيَ:
1-
أنْ يَرِدَ هذا الْحَدِيثُ مَوْصُولاً مِنْ طريقٍ آخَرَ، ولوْ كانَ ضَعيفاً.
2-
أوْ يَرِدَ مُرْسَلاً لكنْ مِنْ غيرِ طريقِ مَنْ أَرْسَلَهُ، وبشرْطِ أنْ يكونَ الْمُرْسِلُ الثاني أَخَذَ عنْ غيرِ شيوخِ الْمُرْسِلِ الأَوَّلِ.
مثلاً:
لوْ قالَ سعيدُ بنُ الْمُسَيِّبِ، وهوَ تابِعِيٌّ: (نَهَى رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ عنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِأَصْلِهِ)، ثمَّ جاءَ هذا الْحَدِيثُ مِنْ طريقِ تابِعِيٍّ آخَرَ، وَلْيَكُنْ أَبَا عُثمانَ النَّهْدِيَّ، فيُمْكِنُ قَبولُهُ بشَرْطِ: أنْ تَنْظُرَ إلى شُيوخِ أبي عُثمانَ النَّهْدِيِّ، هلْ فيهم أحَدٌ أَخَذَ عنهم سعيدُ بنُ الْمُسَيِّبِ؟
فإذا نَظَرْتَ ووَجَدْتَ أنَّ هناكَ قيْسَ بنَ أبي حازِمٍ، روَى عنهُ سعيدُ بنُ الْمُسَيِّبِ، وأبو عُثمانَ النَّهْدِيُّ؛ فالشافعيُّ لا يَقْبَلُهُ لاحتمالِ أنْ يكونَ سعيدُ بنُ الْمُسَيِّبِ، وأبو عثمانَ النَّهْدِيُّ، قدْ رَوَيَا هذا الْحَدِيثَ عنْ قَيْسِ ابنِ أبي حازِمٍ؛ وبالتالِي نحنُ لا نَعْرِفُ هلْ أَخَذَ قَيْسُ بنُ أبي حازِمٍ هذا الْحَدِيثَ عنْ صَحَابِيٍّ، أوْ أَخَذَهُ عنْ تابِعِيٍّ آخَرَ؟
وقدْ يكونُ التابِعِيُّ الآخَرُ ضَعيفاً.
لكنْ لوْ جاءَ مِنْ طريقِ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، ونَظَرْتُ ونَظَرْتَ فإذا شُيوخُ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ لم يَأْخُذْ عنهم سعيدُ بنُ الْمُسَيِّبِ؛ فهنا يُمْكِنُ أنْ أَضُمَّ الْحَدِيثَيْنِ إلى بعضِهما؛ فيَصِيرَ الْحَدِيثُ مَقبولاً،؛ أيْ: يُعْمَلُ بهِ.
وبتَقَاسِيمِ الْمُتَأَخِّرِينَ يُصْبِحُ الْحَدِيثُ الحسَنَ لغيرِهِ.
3-
لوْ لم يَرِدْ مَوْصُولاً أوْ مُرْسَلاً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فلا بَأْسَ أنْ يُعَضِّدَهُ قولُ صحابيٍّ.
مثلاً: حديثٌ يَرويهِ سعيدُ بنُ الْمُسَيِّبِ: (أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ نَهَى عنْ بَيْعِ الحيوانِ أو اللَّحْمِ بأَصْلِهِ)، وُجِدَ أنَّ هذا الْحَدِيثَ عَمِلَ بهِ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ؛ فصارَ هذا الْحَدِيثُ مَقبولاً عندَ الشَّافِعِيِّ.
4-
لوْ لمْ يُوجَدْ مَوصولاً، ولا مُرْسَلاً مِنْ وجهٍ آخَرَ، ولم يُعَضِّدْهُ قولُ صَحَابِيٍّ، فيُمْكنُ أنْ نَتَنَزَّلِ إلى شرْطٍ آخَرَ، وهوَ أنْ يكونَ عليهِ عَمَلُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ، وهذا مِن الشروطِ الضعيفةِ في مَذْهَبِ الشافعيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الرَّاجِحُ:
قولُ الشافعيِّ معَ التَّحَفُّظِ على الشرْطِ الرابعِ (الأخيرِ).
فَـائـدةٌ:
إذا سَقَطَ فِي الْحَدِيثِ بينَ التابِعِيِّ والنبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ اثنانِ أوْ أكثَرُ، وهم على التوالِي، فهذا الْحَدِيثُ يُسَمَّى
مُرْسَلاً، أوْ مُعْضَلاً، والأَوْلَى أنْ يُقالَ: مُعْضَلٌ.
مسألةٌ:
لماذا يُرْسِلُونَ الْحَدِيثَ؟
أوْ لماذا لا يَذْكُرُونَ الْحَدِيثَ بإسنادِهِ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ؟
إمَّا أنْ يكونَ الواحدُ منهم أخَذَ الْحَدِيثَ بِناءً على أَمْرٍ ما اشْتَهَرَ في وَقْتِهِ، فهوَ يَعْرِفُ أنَّ هذا حديثٌ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ، لكنْ لا يَعْرِفُ مَنْ رَواهُ، ولا يَعرِفُ إِسنادَهُ، ولا يَذْكُرُ مَنْ حَدَّثَهُ بهِ؛ لأَجْلِ هذا تَوَقَّفَ العُلماءُ في قَبولِ الْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ.
وتَوَقَّفُوا كَذَلِكَ لأَجْلِ أمْرٍ آخَرَ، وهوَ أنْ يكونَ فِعلاً يَذْكُرُ مَنْ حَدَّثَهُ، لكن الذي حَدَّثَهُ إمَّا ضَعيفٌ، أوْ نَقَلَهُ عنهُ راوٍ ضَعيفٌ، وبهذهِ الصُّورةِ قدْ يقولُ قائلٌ: لِمَاذَا لا يَذْكُرُ الْحَدِيثَ بكَامِلِهِ؟
والجوابُ على هذا: أنَّهُ قدْ يَدْفَعُهم إلى هذا بعضُ الأُمورِ؛ فأحياناً لا يكونُ الواحدُ منهم ذَكَرَ الْحَدِيثَ على سبيلِ الرِّوايَةِ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ، وإنَّما ذَكَرَهُ على سبيلِ
الوَعْظِ أو الْمُنَاقَشَةِ العِلْمِيَّةِ.
(1)
4- الْمُنْقَطِعُ:
والفَرْقُ بينَ الْمُعْضَلِ والْمُنْقَطِعِ: عدَمُ التَّوَالِي فقطْ.
تعريفُ الْحَدِيثِ الْمُنْقَطِعِ:
ما سَقَطَ مِنْ وَسَطِ إسنادِهِ راوٍ أوْ أَكْثَرُ، لكنْ لا على التوالِي.
ومِنْ أنواعِ الانقطاعِ:
- إذا رَوَى التابِعِيُّ حَديثاً مِن الأحاديثِ عنْ صحابِيٍّ مُعَيَّنٍ، ولكنَّ هذا التابِعِيَّ لم يَلْقَ الصَّحَابِيَّ، ولم يَسْمَعْ منهُ، وقدْ يكونُ فيهِ انقطاعٌ بَيْنَ التابِعِيِّ والصحابِيِّ؛ فهذا مِنْ أنواعِ الانقطاعِ، ولكنْ جَرَى تعبيرُ العُلماءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وكثيرٍ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ على أنَّ هذا مُرْسَلٌ.
وتَجِدُ أنَّهُم حينَما يَذْكُرُونَ هذا التابِعِيَّ يقولونَ: رَوَى عنْ فُلانٍ وفُلانٍ، وأَرْسَلَ عنْ فُلانٍ وفُلانٍ.
فمَثَلاً:
يَأْتُونَ إلى أبي إسحاقَ السَّبِيعِيِّ، ويقولونَ: أبو إسحاقَ السَّبِيعِيُّ، عن ابنِ مسعودٍ مُرْسَلٌ؛ لأنَّهُ لم يُدْرِكِ ابنَ مَسعودٍ.
مَسألةٌ
:
كيفَ نَعْرِفُ الْحَدِيثَ الْمُنْقَطِعَ؟
(2)
أَقُولُ:
هذا هوَ الذي أشارَ إليهِ الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ حينَما قالَ: (ثمَّ قدْ يكونُ واضحاً أوْ خَفِيًّا)، فالانقطاعُ يكونُ أَحْيَاناً واضحاً، وأَحْيَاناً يكونُ خَفِيًّا.
فالانقطاعُ حينَما يكونُ جلِيًّا يُدْرِكُهُ كلُّ أَحَدٍ.
والسَّقْطُ الواضحُ يُدْرَكُ بعَدَمِ التَّلاقِي بينَ الراوي وشيخِهِ بكونِهِ لم يُدْرِكْ عَصْرَهُ، أوْ أَدْرَكَ جُزْءاً مِنْ حياةِ الراوي؛ فهذا ما يُعَبَّرُ عنهُ بالسَّقْطِ الْخَفِيِّ، ولا يُدْرِكُهُ كلُّ أَحَدٍ، وإنَّما يُدْرِكُهُ فَطَاحِلَةُ العُلماءِ.
أنـواعُ السَّقْطِ الْخَفِيِّ:
1-
الْمُدَلَّسُ.
2-
الْمُرْسَلُ الْخَفِيُّ.
1
-
الْمُدَلَّسُ:
هوَ مِنْ أعْسَرِ أنواعِ الْحَدِيثِ، وهوَ مِن السَّقْطِ الْخَفِيِّ.
مَوْقِفُ العُلماءِ مِن الْمُدَلِّسِ:
للعُلماءِ فيمَنْ يُدَلِّسُ مَوْقِفٌ، قالَ
الشافعيُّ: (مَنْ دَلَّسَ لنا مَرَّةً فقدْ أَبَانَ لنا عَوْرَتَهُ).
أيْ: أنَّهُم إذا ضَبَطُوا على رَاوٍ مِن الرُّواةِ أنَّهُ أَسْقَطَ - ولوْ مَرَّةً واحدةً - مَا بَيْنَهُ وبينَ شَيْخِهِ راوٍ؛ فيقولونَ: هذا الراوي يُدَلِّسُ، فإذا صَرَّحَ بسَمَاعِهِ مِنْ شيخِهِ كأنْ قالَ:
حَدَّثَنِي، أوْ سَمِعْتُ فُلاناً، أوْ أَخْبَرَنِي، أوْ نَحْوَها مِن العِباراتِ التي لا تَحْتَمِلُ الشكَّ، فإنَّهُم يَقْبَلُونَ حديثَهُ إذا كانَ ثِقَةً، وإنْ كانَ غيرَ ثِقَةٍ فهذا مَردودٌ مِن الأَصْلِ.
وإنْ جاءَ بعِبَارَةٍ مُوهِمَةٍ تَحْتَمِلُ أنَّهُ سَمِعَ مِنْ شَيْخِهِ الْحَدِيثَ، وتَحْتَمِلُ أنَّهُ لم يَسْمَعْهُ منهُ، مثلُ: أنْ يَقولَ: عنْ فُلانٍ، أوْ قالَ فُلانٌ، أوْ أنَّ فُلاناً قالَ؛ فيَقولونَ: نحنُ نَتَوَقَّفُ عنْ قَبولِ حديثِ الراوي؛ لأنَّ شَرْطاً مِنْ شُروطِ صِحَّةِ الإسنادِ لم يَتَحَقَّقْ، أَلا وهوَ اتِّصَالُ السنَدِ؛ لأنَّ أحاديثَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ مَبْنِيَّةٌ على الْحَيْطَةِ.
- ويُقْبَلُ حَدِيثُهُ بشَرْطِ:
أنْ يُصَرِّحَ بالتحديثِ عنْ شيخِهِ، أوْ تَأْتِيَنَا قَرينةٌ أُخْرَى تُفيدُ أنَّ هذا الْحَدِيثَ مِن الأحاديثِ التي يُمْكِنُ أنْ تُقْبَلَ مِنْ هذا الراوِي.
مِثالُ ذلكَ:سُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ ضُبِطَ عليهِ أنَّهُ دَلَّسَ، لكنْ لَمَّا حَقَّقُوا في طَريقةِ تَدليسِهِ قالُوا: إنَّهُ لا يُدَلِّسُ إلاَّ عنْ ثِقَةٍ، وهذا لا يُعْرَفُ لأَحَدٍ في الدُّنيا إلاَّ لسُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ.
قالُوا: إنَّهُ قالَ عن الزُّهْرِيِّ، والزُّهْرِيُّ شَيْخُهُ، وسَمِعَ منهُ سُفيانُ كثيراً مِن الأحاديثِ؛ فحِينَمَا قالَ: عن الزُّهْرِيِّ، كانَ العُلماءُ في ذلكَ الزمانِ عندَهم حَساسِيَةٌ مِنْ عَدَمِ التصريحِ بالتحديثِ؛ فلِمَاذَا لم يَقُلْ: حدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، فسَأَلُوهُ فقالُوا لهُ: سَمِعْتَهُ مِن الزُّهْرِيِّ؟
فسَكَتَ، ثمَّ أَعَادُوا مَرَّةً ثانيَةً، فقالَ: عن الزُّهْرِيِّ، فهُنا أَلَحُّوا في السؤالِ وأَعادُوهُ عليهِ مَرَّةً ثانيَةً، وسَكَتَ كما سَكَتَ في الأُولَى، وأَعَادَ فأَعَادُوا عليهِ السُّؤالَ، فحينَما رَآهُمْ يُلِحُّونَ عليهِ قالَ: لا (أيْ: لم أَسْمَعْهُ مِن الزُّهْرِيِّ)، ولكنْ حدَّثَنِي عبدُ الرَّزَّاقِ، عنْ مَعْمَرٍ، عن الزُّهْرِيِّ.
فأصبَحَ بينَهُ وبينَ شيخِهِ اثنانِ، فعَبْدُ الرزَّاقِ تِلميذُهُ، لكنَّهُ حينَما لم يَسْمَعْ هذا الْحَدِيثَ مِنْ شَيْخِهِ اضْطَرَّ للنُّزُولِ (أنْ يَأخُذَ مِنْ تِلميذِهِ)، فكأنَّهُ لِثِقَتِهِ بتِلميذِهِ وشيخِ تِلميذِهِ، وهوَ مَعْمَرٌ، قالَ: هذانِ ثِقتانِ، وما دُمْتُ سَمِعْتُ مِن الزُّهْرِيِّ، وأنا مُتَأَكِّدٌ أنَّهُ صَحيحٌ إلى الزُّهْرِيِّ، وأنَّ الزُّهْرِيَّ قدْ قالَ هذا؛ فلا حَرَجَ أنْ أُسْقِطَ الوَاسِطَةَ بينِي وبينَهُ، وأَرْوِيَ هذا الْحَدِيثَ عنهُ.
فسُفيانُ
لا يُدَلِّسُ إلاَّ عنْ ثِقَةٍ، وذلكَ مِثْلُ: تدليسِهِ يُحْتَمَلُ، فإذا جاءَ الْحَدِيثُ مِنْ طريقِهِ بصِيغةِ: عنْ شيخِهِ، فإنَّ هذا بمعنى حدَّثَنِي، أوْ سَمِعْتُ، أوْ أَخْبَرَنِي، حتَّى ولوْ أَسْقَطَ أحداً بينَهُ وبينَ شيخِهِ فإنَّهُ لا يُسْقِطُ إلاَّ رَاوياً ثِقَةً.
والذي دَفَعَهم إلى ذلكَ أنَّهُم قالُوا: إنَّ تَدليسَ سُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ قليلٌ جِدًّا.
فلوْ رَدَدْنَا أحاديثَهُ لرَدَدْنَا جُزءاً كَبيراً مِنْ صحيحِ سُنَّةِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ، وهذا فيهِ مَفْسَدَةٌ كبيرةٌ، إلاَّ أنَّ هذا الحُكْمَ لا يَجْرِي لِغَيْرِ سُفيانَ، بلْ يُتَحَفَّظُ عليهِ.