فصلٌ: ويجوزُ بالإجماعِ حَذْفُ المفعولَيْنِ اختصاراً؛ أي: لدليلٍ نحوَ: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}([1]) وقولِه:
191- بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ = تَرَى حُبَّهُمْ عَاراً عَلَيَّ وتَحْسَبُ([2]) أي: تَزْعُمُونَهم شُرَكَائِي وتَحْسَبُ حُبَّهم عَاراً عَلَيَّ.
وأمَّا حَذْفُهما اقْتصاراً؛ أي: لغيرِ دَليلٍ, فعَنْ سِيبَوَيْهِ والأخفشِ المَنْعُ مُطْلقاً, واختارَه الناظِمُ, وعن الأكثرِينَ الإجازةُ مُطْلقاً؛ لقولِهِ تعالى: {وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}([3]), {فَهُوَ يَرَى}([4]), {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ}.([5]) وقولِهم: (مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ). وعن الأعلمِ: يَجوزُ في أفعالِ الظَّنِّ دُونَ أفعالِ العِلْمِ.
ويَمْتَنِعُ بالإجماعِ حَذْفُ أحَدِهما اقتصاراً, وأمَّا اختصاراً فمَنَعَه ابنُ مَلْكُونَ, وأجَازَه الجُمهورُ؛ كقولِه:
192- ولَقَدْ نَزَلْتُ فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ = مِنِّي بمَنْزِلَةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ([6])
([1]) سورة القَصَصِ، الآية:74.
([2]) 191-هذا بَيْتٌ من الطويلِ، وهذا البيتُ للكُمَيْتِ بنِ زَيْدٍ الأَسَدِيِّ، من قَصِيدَةٍ هَاشِمِيَّةٍ يَمْدَحُ فيها آلَ الرسولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وأوَّلُها قولُه:
طَرِبْتُ، ومَا شَوْقاً إِلَى البِيضِ أَطْرَبُ = وَلاَ لَعِباً مِنِّي، وذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ
ولَمْ يُلْهِنِي دَارٌ وَلاَ رَسْمُ مَنزِلٍ = وَلَمْ يَتَطَرَّبْنِي بَنَانٌ مُخَضَّبُ
اللغةُ: (تَرَى حُبَّهُم) رَأَى ههنا من الرَّأْيِ بمعنَى الاعتقادِ، مِثْلَ أَنْ تَقُولَ: رَأَى أبو حَنِيفَةَ حِلَّ كذا. ويُمْكِنُ أنْ تَكُونَ رَأَى العِلْمِيَّةَ بشَيْءٍ مِن التكَلُّفِ, (عَارًا) العَارُ: كُلُّ خَصْلةٍ يَلْحَقُكَ بسَبَبِها عَيْبٌ ومَذَمَّةٌ، وتَقولُ: عَيَّرْتُه كَذَا. قالوا: وَلا تَقُلْ: عَيَّرْتُه بكَذَا. فهو يَتعَدَّى إلى اثنيْنِ بنَفْسِه، وفي لاميَّةِ السَّمَوْأَلِ:
تُعَيِّرُنَا أَنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا = فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ الكِرَامَ قَلِيلُ
وليسَ في الاستدلالِ بهذا البيتِ ما يَقْطَعُ بتَعَدِّيهِ إلى الثاني بنَفْسِه؛ لأنَّ حَذْفَ الجارِّ مُطَّرِدٌ قبلَ أَنَّ المُؤَكِّدَةِ، ومِن نَقَلَةِ اللغةِ مَن أجازَ أنْ تَقُولَ ذلك، ولكنَّه قَلِيلٌ (وانْظُرْ شَرْحَ الحَماسَةِ 1/32) (وتَحْسَبُ)؛ أي: تَظُنُّ، من الحِسْبَانِ.
الإعرابُ: (بأيِّ) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بقولِه: (تَرَى) الآتي، وأيِّ مُضافٌ، و(كتابٍ) مُضافٌ إليهِ, (أَمْ) عَاطِفَةٌ, (بأيَّةِ) جارٌّ ومَجْرورٌ مَعْطوفٌ على الأوَّلِ، و(أيَّةِ) مُضافٌ، و(سُنَّةٍ) مُضافٌ إليه, (تَرَى) فِعْلٌ مُضارِعٌ، وفاعِلُه ضَمِيرٌ مُستتِرٌ فيهِ وُجوباً تقديرُه: أنتَ, (حُبَّهُمْ) حُبَّ: مَفْعولٌ أوَّلُ لتَرَى، وضميرُ الغَائِبِينَ مُضافٌ إليه, (عَارًا) مَفْعولٌ ثانٍ، سواءٌ أجَعَلْتَ رَأَى اعتقادِيَّةً، أمْ جَعَلْتَها عِلْمِيَّةً، ويَجوزُ على الأَوَّلِ جَعْلُه حالاً, (عليَّ) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بعارٍ أو بمحذوفٍ, صِفَةٍ له، (وتَحْسَبُ) الواوُ عاطفةٌ، تَحْسَبُ: فعلٌ مُضارعٌ، وفاعلُه ضَمِيرٌ مستترٌ فيهِ وُجوباً تقديرُه: أنتَ، ومَفْعولاهُ محذوفانِ يَدُلُّ عليهما الكلامُ السابقُ، والتقديرُ: (وتَحْسَبُ حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ).
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (تَحْسَبُ) حيثُ حَذَفَ المفعوليْنِ؛ لدَلالَةِ سَابِقِ الكلامِ عليهما، كما أَوْضَحْناهُ في الإعرابِ، وبَيَّنَهُ الشارِحُ.
([3]) سورة البَقَرةِ، من الآيتينِ: 216 ، 232.
([4]) سورة النَّجْمِ، الآية: 35.
([5]) سورة الفتحِ،الآية: 12.
([6])192-هذا بَيْتٌ من الكامِلِ، والبيتُ لعَنْتَرَةَ بنِ شَدَّادٍ العَبْسِيِّ، من مُعَلَّقَتِه المَشْهورةِ التي مَطْلَعُها:
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ = أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ
اللغةُ: (غَادَرَ) تَرَكَ, (مُتَرَدَّمِ) بزِنَةِ اسْمِ المفعولِ – وهو في الأصْلِ اسْمُ مَكانٍ مِن قَوْلِكَ: رَدَمْتُ الشَّيْءَ. إذا أصْلَحْتَهُ، ويُرْوَى: (مُتَرَنَّمِ) بالنُّونِ – وهو صَوْتٌ خَفِيٌّ تُرَجِّعُه بينَكَ وبينَ نَفْسِكَ، يُرِيدُ هَلْ أَبْقَى الشُّعَراءُ معنًى إلاَّ سَبَقوكَ إليهِ؟ وهل يَتَهَيَّأُ لكَ أو لغَيْرِكَ أنْ تَجِيئُوا بشيءٍ جَديدٍ؟ (المُحَبِّ) اسْمُ مَفْعولٍ مِن أَحَبَّ، وهو القِياسُ، ولكنَّه قَلِيلٌ في الاستعمالِ، والأكْثَرُ أنْ يُقالَ في اسْمِ المفعولِ: مَحْبُوبٌ، أو حَبِيبٌ. معَ أنَّهم هَجَروا الفعلَ الثلاثيَّ، وفي اسْمِ الفاعلِ قَالوا: مُحِبٌّ. من الفِعْلِ المُسْتَعْمَلِ الذي هو المَزِيدُ فيه.
المعنَى: أنتِ عندِي بمَنْزلةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ، فلا تَظُنِّي غَيْرَ ذلكَ وَاقِعاً.
الإعرابُ: (وَلَقَدْ) الواوُ للقَسَمِ، واللامُ للتأكيدِ، وقَدْ: حَرْفُ تَحْقيقٍ، (نَزَلْتُ) فِعْلٌ وفَاعِلٌ, (فلا) نَاهِيَةٌ, (تَظُنِّي) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِلاَ الناهيةِ، وعلامةُ جَزْمِه حذفُ النونِ, وياءُ المُخاطَبَةِ فاعِلٌ, (غَيْرَه) مَفْعولٌ أَوَّلُ، والمَفْعولُ الثاني مَحْذُوفٌ, (مِنِّي) جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعَلِّقٌ بقولِه: (نَزَلْتُ), (بمَنْزلةِ) مِثْلُه، ومَنْزِلَةِ مُضافٌ، و(المُحَبِّ) مُضافٌ إليهِ (المُكْرَمِ) نَعْتٌ له.
الشَّاهِدُ فيهِ قَوْلُه: (فَلا تَظُنِّي غَيْرَهُ) حيثُ حَذَفَ المفعولَ الثانِيَ اخْتِصاراً، وذلك جَائِزٌ عندَ جَمْهرةِ النحاةِ؛ خلافاً لابنِ مَلْكُونَ، والأصْلُ: فَلا تَظُنِّي غيرَه حَاصِلاً، أو نحوَ ذلك.