سورة ق
فإن قيل: جواب القسم في قوله تعالى: (ق والقرآن المجيد)؟
قلنا: فيه وجوه: أحدها: أنه مضمر تقديره: إنهم مبعوثون بعد الموت، الثاني: أن قوله تعالى: (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم) واللام محذوفة لطول الكلام تقديره: لقد علمنا كما في قوله تعالى: (قد أفلح من زكّاها)، الثالث: أنه قوله تعالى: (ما يلفظ من قولٍ).
فإن قيل: كيف قال تعالى: (وحبّ الحصيد) وأراد به حب الحصيد فأضاف الشيء إلى نفسه والإضافة تقتضى المغايرة بين المضاف والمضاف إليه؟
قلنا: معناه وحب الزرع الحصيد أو النبت الحصد، الثاني: إن إضافة الشيء إلى نفسه جائزة عند اختلاف اللفظين كما في قوله تعالى: (حق اليقين) و(حبل الوريد) و(در الآخرة) و(وعد الصدق).
فإن قيل: كيف قال تعالى: (عن اليمين وعن الشّمال قعيدٌ) ولم يقل قعيدان، وهو وصف للملكين اللذين سبق ذكرهما بقوله
[أنموذج جليل: 483]
تعالى: (إذ يتلقّى المتلقّيان)؟
قلنا: معناه عن اليمين قعيد وعن الشال قعيد، إلا
أنه حذف أحدهما لدلالة المذكور عليه كما
قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما * * * عندك راض والرأي مختلف
وقال آخر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي * * * بريئًا ومن أجل الطوى رماني
الثاني: إن فعيلا يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، قال الله تعالى: (والملائكة بعد ذلك ظهيرٌ) وقيل: إنما لم يقل قعيدان رعاية لفواصل السورة.
فإن قيل: كيف قال تعالى: (ألقيا) والخطاب لواحد وهو مالك خازن النار؟
قلنا: فيه وجوه: أحدها: ما قاله المبرد أن تثنية الفاعل أقيمت مقام تثنية الفعل للتأكيد باعتبار اتحادهما (حكمًا) كأنه قال تعالى ألق
ألق، ونظيره قول امرئ القيس: قفا نبك أي قف قف، الثاني: أن العرب كثيرًا ما يرافق الرجل منهم اثنين فأكثر على ألسنتهم خطابا الاثنين فقالوا: خليلي وصاحبي وقفا وأسعدا وعوجا ونحو ذلك.
قال الفراء: سمعت ذلك كثيرًا من العرب قال وأنشدني بعضهم:
[أنموذج جليل: 484]
فقالت لصاحبي لا تحبسانا * * * بنزع أصوله واجتز شيحا
فقال لا تحسبانا والخطاب لواحد، بدليل قوله لصاحبي
قال: وأنشدني أبو ثور:
فإن تزجراني يا بن عفان أنزجر * * * وإن تداعاني أجم عرضًا ممنعا
وقال امرؤ القيس:
خليلي مرا بي على أم جندب * * * نقضى لبانات الفؤاد المعذب
ثم قال:
ألم تر أنى كلما جئت طارقًا * * * وجدت بها طيبًا وإن لم طيب
الثالث: أنه أمر للملكين اللذين سبق ذكرهما بقوله تعالى: (وجاءت كلّ نفسٍ معها سائقٌ وشهيدٌ).
فإن قيل: كيف قال تعالى: (غير بعيدٍ) ولم يقل غير بعيدة وهو وصف للجنة؟
قلنا: لأنه على زنة المصار كالزئير والصليل، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث، أو على حذف الموصوف: أي مكانًا غير بعيد، وكلا الجوابين للزمخشري.
فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (غير بعيدٍ) بعد قوله تعالى:
[أنموذج جليل: 485]
(وأزلفت) بمعنى قربت؟
قلنا: فائدته التأكيد كقولهم: هو قريب غير بعيد وعزيز غير ذليل.
فإن قيل: كيف قان تعالى: (إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ) وكل إنسان له قلب بل كل حيوان؟
قلنا: المراد بالقلب هنا العقل، كذا قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
قال ابن قتيبة: لما كان القلب موضعًا للعقل كنى به عنه، الثاني: أن المراد لمن كان له قلب واع، لأن من لا يعى قلبه فكأنه لا قلب له.
ويؤيد ذلك قوله تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنّم كثيرًا من الجنّ والإنس...الآية).
[أنموذج جليل: 486]