سورة النحل
فإن قيل: لم قدمت الإراحة وهي مدخرة في الواقع على الروح وهو مقدم في الواقع في قوله تعالى: (حين تريحون وحين تسرحون)؟
قلنا: لأن الأنعام في وقت الإراحة وهي وردها عشيا إلى المراح تكون أجمل وأحسن، لأنها تقبل ملأى البطون حاملة الضروع متهادية في مشيها يتبع بعضها بعضًا، بخلاف وقت السرح وهو إخراجها إلى المراعى، فإن كل هذه الأمور تكون على ضد ذلك.
فإن قيل: قوله تعالى: (لم تكونوا بالغيه إلّا بشقّ الأنفس) إن أريد به لم تكونوا بالغيه عليها إلا بشق الأنفس، فلا امتنان فيه وإن أريد لم تكونوا بالغيه بدونها إلا بشق الأنفس، فهم لا يبلغون عليها أيضا إلا بشق الأنفس، وهو مشقتها فما فائدة ذلك؟
قلنا: معناه وتحمل أثقالكم إلى أجسامكم وأمتعتكم معكم إلى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بدونها بأنفسكم من غير أمتعتكم إلا بجهد ومشقة، فكيف لو حملتم أمتعتكم على ظهوركم؟
والمراد بالمشقة: المشقة التي تنشأ من المشيء، أو من المشيء من الحمل على الظهر لا مطلق مشقة ألسفر، وهذا مخصوص بحال فقد الإبل، فظهر فائدة ذلك.
فإن قيل: قوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها)
يقتضي حرمة أكل لحم الخيل، كما اقتضاها في البغال والحمير، من حيث إنه لم ينص على منفعة أخرى فيها غير الركوب والزينة،
[أنموذج جليل: 250]
ومن حيث إن التعليل بعلة تقتضى الانحصار فيها، كقولك: فعلت هذا لكذا، فإنه يناقضه أن تكون فعلته لغيره أو له مع غيره إلا إذا كان أحدهما جهة من الأخر؟
قلنا: ينتقض بالحمل عليها والحراثة بها، فإن ذلك مباح مع أنه لم ينص عليه.
فإن قيل: إنما ثبت ذلك بالقياس على الأنعام، فإنه منصوص عليه فيها بقوله تعالى: (والأنعام خلقها لكم فيها دفءٌ ومنافع)
والمراد به كل منفعة معهودة منها عرفًا لا كل منفعة، فثبت مثل ذلك في الخيل والبغال والحمير؟
قلنا: لو كان ثبوته فيها بالقياس على ثبوته في الأنعام لثبت حل الأكل في الخيل بالقياس على ثبوته في الأنعام، لما ثبت، لأنه لو ثبت في الخيل لثبت في البغال والحمير كما ثبت الحمل والحراثة ثبوتًا شاملا للكل بالقياس على ثبوته في الأنعام، الجواب على الجهة
الثانية في الأصل السؤال، أن هذه ليست لام التعليل بل لام التمكين كقوله تعالى: (جعل لكم اللّيل لتسكنوا فيه) ومع هذا يجوز في الليل غير السكون.
فإن قيل: كيف قال تعالى في وصف السماء: (ينبت لكم به الزّرع والزّيتون والنّخيل والأعناب ومن كلّ الثّمرات) ولم يقل كل الثمرات مع أن كل الثمرات تنبت بماء السماء؟
قلنا: كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة، وإنما ينبت في الدنيا بعض
[أنموذج جليل: 251]
منها نموذجا وتذكرة، فالتبعيض بهذا الاعتبار، فيكون المراد بالثمرات ما هو أعم من ثمرات الدنيا، ومن يجوز (زيادة) (من) في الآيات يحتمل أن يجعلها زائدة هنا.
فإن قيل: قوله تعالى: (أفمن يخلق كمن لا يخلق) المراد بمن لا يخلق الأصنام بدليل قوله تعالى بعده: (والّذين يدعون من دون اللّه لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون) فكيف جئ بمن المختصة بأولى العلم والعقل؟
قلنا: خاطبهم على معتقدهم، لأنهم سموها آلهة وعبدوها، فأجروها مجرى أولى العلم، ونظير هذا قوله تعالى في الأصنام أيضا: (ألهم أرجلٌ يمشون بها...الآية) أجرى عليهم ضمير أولى العلم والعقل لما قلنا، ويرد على هذا الجواب أن يقال: إذا كان معتقدهم خطأ وباطلا فالحكمة تقتضى أن ينزعوا عنه ويقلعوا لا أن يبقوا عليه ويقروا في خطابهم على معتقدهم إيهام لهم أن معتقدهم حق وصواب، وجوابه أن الغرض من الخطاب الإفهام، ولو خاطبهم على خلاف معتقدهم ومفهومهم فقال: أفمن يخلق كما لا يخلق، لاعتقدوا أن المراد بالثاني غير الأصنام من الجماد، الثاني: قال ابن الأنباري: إنما جاز ذلك لأنها ذكرت مع العالم فغلب عليها حكمه في اقتضاء (من) كما غلب على الدواب في قوله تعالى: (فمنهم من يمشي على بطنه... الآية)
[أنموذج جليل: 252]
وكما في قول العرب: اشتبه على الركب.
وجمله فما أدرى من ذا ومن ذا.
فإن قيل: هذا إلزام للذين عبدوا الأصنام، وسموها آلهة تشبيها بالله فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق، فظاهر الإلزام يقتضى أن يقال لهم: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟
قلنا: لما سووا بين الأصنام وخالقها سبحانه وتعالى في تسميتها باسمه، وعبادتها كعبادته، فقد سووا بين خالقها وبينها قطعا فصح الإنكار بتقديم أيهما كان. وإنما قدم في الإنكار عليهم ذكر الخالق.
أما لأنه أشرف، أو لأنه هو المقصود الأصلي من هذا الكلام (تنزيها له) وتكريما وإجلالا وتعظيما.
فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى في وصف الأصنام (غير أحياء) بعد قوله تعالى: (أموات)؟
قلنا: فائدته أنها أموات لا يعقب موتها حياة كالنطف والبيض والأجساد الميتة وذلك أبلغ في موتها، كأنه قال أموات في الحال غير أحياء في المآل، الثاني: أنه ليس وصفا لها بل لعبادها، معناه: وعبادها غير أحياء القلوب، الثالث: أنه إنما قال غير أحياء ليعلم أنه أراد أموات في الحال، لا أنها ستموت كما في قوله تعالى: (إنّك ميّتٌ وإنّهم ميّتون)
فإن قيل: كيف عاب الأصنام أو عبادها بأنهم لا يعلمون وقت البعث.
[أنموذج جليل: 253]
فقال تعالى: (وما يشعرون أيّان يبعثون) والمؤمنون الموحدون كذلك؟
قلنا: معناه وما تشعر الأصنام متى يبعث عبادها، فكيف تكون آلهة مع الجهل؟
أو معناه وما يشعر عبادها وقت بعثهم لا مفصلا ولا
مجملا لأنهم ينكرون البعث، بخلاف الموحدين فإنهم يشعرون وقت بعثهم مجملا أنه يوم القيامة وأن لم يشعروه مفصلا.
فإن قيل: قوله تعالى: (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربّكم قالوا أساطير الأوّلين) كيف يعترفون بأنه من عند الله تعالى بالسؤال المعاد في ضمن الجواب، ثم يقولون: هو أساطير الأولين؟
قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال، وجوابه في سورة الحجر في قوله تعالى: (وقالوا يا أيّها الّذي نزّل عليه الذّكر إنّك لمجنونٌ).
فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (ليحملوا أوزارهم كاملةً يوم القيامة ومن أوزار الّذين يضلّونهم بغير علمٍ) وقال في
موضع آخر: (ألّا تزر وازرةٌ وزر أخرى)
قلنا: معناه ومن أوزار إضلال الذين يضلونهم، فيكون عليهم وزر كفرهم مباشرة، ووزر كفر من أضلوا تسببا فقوله تعالى: (أوزارهم كاملةً)
[أنموذج جليل: 254]
يعنى أوزار الذنوب التي باشروها، وأما قوله تعالى: " ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى " معناه وزر لا مدخل لها فيه، ولا
تعلق له بها مباشرة ولا تسببا، ونظير هاتين الآيتان الأخريان في قوله تعالى: (وقال الّذين كفروا للّذين آمنوا اتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم) إلى قوله تعالى: (وأثقالًا مع أثقالهم)
وجوابهما مثل جواب هاتين الآيتين.