دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > بيان المُستشكل > أنموذج جليل لابن أبي بكر الرازي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 29 ربيع الأول 1432هـ/4-03-2011م, 02:56 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي سورة النحل

سورة النحل
فإن قيل: لم قدمت الإراحة وهي مدخرة في الواقع على الروح وهو مقدم في الواقع في قوله تعالى: (حين تريحون وحين تسرحون)؟
قلنا: لأن الأنعام في وقت الإراحة وهي وردها عشيا إلى المراح تكون أجمل وأحسن، لأنها تقبل ملأى البطون حاملة الضروع متهادية في مشيها يتبع بعضها بعضًا، بخلاف وقت السرح وهو إخراجها إلى المراعى، فإن كل هذه الأمور تكون على ضد ذلك.
فإن قيل: قوله تعالى: (لم تكونوا بالغيه إلّا بشقّ الأنفس) إن أريد به لم تكونوا بالغيه عليها إلا بشق الأنفس، فلا امتنان فيه وإن أريد لم تكونوا بالغيه بدونها إلا بشق الأنفس، فهم لا يبلغون عليها أيضا إلا بشق الأنفس، وهو مشقتها فما فائدة ذلك؟
قلنا: معناه وتحمل أثقالكم إلى أجسامكم وأمتعتكم معكم إلى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بدونها بأنفسكم من غير أمتعتكم إلا بجهد ومشقة، فكيف لو حملتم أمتعتكم على ظهوركم؟
والمراد بالمشقة: المشقة التي تنشأ من المشيء، أو من المشيء من الحمل على الظهر لا مطلق مشقة ألسفر، وهذا مخصوص بحال فقد الإبل، فظهر فائدة ذلك.
فإن قيل: قوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها)
يقتضي حرمة أكل لحم الخيل، كما اقتضاها في البغال والحمير، من حيث إنه لم ينص على منفعة أخرى فيها غير الركوب والزينة،
[أنموذج جليل: 250]
ومن حيث إن التعليل بعلة تقتضى الانحصار فيها، كقولك: فعلت هذا لكذا، فإنه يناقضه أن تكون فعلته لغيره أو له مع غيره إلا إذا كان أحدهما جهة من الأخر؟
قلنا: ينتقض بالحمل عليها والحراثة بها، فإن ذلك مباح مع أنه لم ينص عليه.
فإن قيل: إنما ثبت ذلك بالقياس على الأنعام، فإنه منصوص عليه فيها بقوله تعالى: (والأنعام خلقها لكم فيها دفءٌ ومنافع)
والمراد به كل منفعة معهودة منها عرفًا لا كل منفعة، فثبت مثل ذلك في الخيل والبغال والحمير؟
قلنا: لو كان ثبوته فيها بالقياس على ثبوته في الأنعام لثبت حل الأكل في الخيل بالقياس على ثبوته في الأنعام، لما ثبت، لأنه لو ثبت في الخيل لثبت في البغال والحمير كما ثبت الحمل والحراثة ثبوتًا شاملا للكل بالقياس على ثبوته في الأنعام، الجواب على الجهة
الثانية في الأصل السؤال، أن هذه ليست لام التعليل بل لام التمكين كقوله تعالى: (جعل لكم اللّيل لتسكنوا فيه) ومع هذا يجوز في الليل غير السكون.
فإن قيل: كيف قال تعالى في وصف السماء: (ينبت لكم به الزّرع والزّيتون والنّخيل والأعناب ومن كلّ الثّمرات) ولم يقل كل الثمرات مع أن كل الثمرات تنبت بماء السماء؟
قلنا: كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة، وإنما ينبت في الدنيا بعض
[أنموذج جليل: 251]
منها نموذجا وتذكرة، فالتبعيض بهذا الاعتبار، فيكون المراد بالثمرات ما هو أعم من ثمرات الدنيا، ومن يجوز (زيادة) (من) في الآيات يحتمل أن يجعلها زائدة هنا.
فإن قيل: قوله تعالى: (أفمن يخلق كمن لا يخلق) المراد بمن لا يخلق الأصنام بدليل قوله تعالى بعده: (والّذين يدعون من دون اللّه لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون) فكيف جئ بمن المختصة بأولى العلم والعقل؟
قلنا: خاطبهم على معتقدهم، لأنهم سموها آلهة وعبدوها، فأجروها مجرى أولى العلم، ونظير هذا قوله تعالى في الأصنام أيضا: (ألهم أرجلٌ يمشون بها...الآية) أجرى عليهم ضمير أولى العلم والعقل لما قلنا، ويرد على هذا الجواب أن يقال: إذا كان معتقدهم خطأ وباطلا فالحكمة تقتضى أن ينزعوا عنه ويقلعوا لا أن يبقوا عليه ويقروا في خطابهم على معتقدهم إيهام لهم أن معتقدهم حق وصواب، وجوابه أن الغرض من الخطاب الإفهام، ولو خاطبهم على خلاف معتقدهم ومفهومهم فقال: أفمن يخلق كما لا يخلق، لاعتقدوا أن المراد بالثاني غير الأصنام من الجماد، الثاني: قال ابن الأنباري: إنما جاز ذلك لأنها ذكرت مع العالم فغلب عليها حكمه في اقتضاء (من) كما غلب على الدواب في قوله تعالى: (فمنهم من يمشي على بطنه... الآية)
[أنموذج جليل: 252]
وكما في قول العرب: اشتبه على الركب.
وجمله فما أدرى من ذا ومن ذا.
فإن قيل: هذا إلزام للذين عبدوا الأصنام، وسموها آلهة تشبيها بالله فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق، فظاهر الإلزام يقتضى أن يقال لهم: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟
قلنا: لما سووا بين الأصنام وخالقها سبحانه وتعالى في تسميتها باسمه، وعبادتها كعبادته، فقد سووا بين خالقها وبينها قطعا فصح الإنكار بتقديم أيهما كان. وإنما قدم في الإنكار عليهم ذكر الخالق.
أما لأنه أشرف، أو لأنه هو المقصود الأصلي من هذا الكلام (تنزيها له) وتكريما وإجلالا وتعظيما.
فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى في وصف الأصنام (غير أحياء) بعد قوله تعالى: (أموات)؟
قلنا: فائدته أنها أموات لا يعقب موتها حياة كالنطف والبيض والأجساد الميتة وذلك أبلغ في موتها، كأنه قال أموات في الحال غير أحياء في المآل، الثاني: أنه ليس وصفا لها بل لعبادها، معناه: وعبادها غير أحياء القلوب، الثالث: أنه إنما قال غير أحياء ليعلم أنه أراد أموات في الحال، لا أنها ستموت كما في قوله تعالى: (إنّك ميّتٌ وإنّهم ميّتون)
فإن قيل: كيف عاب الأصنام أو عبادها بأنهم لا يعلمون وقت البعث.
[أنموذج جليل: 253]
فقال تعالى: (وما يشعرون أيّان يبعثون) والمؤمنون الموحدون كذلك؟
قلنا: معناه وما تشعر الأصنام متى يبعث عبادها، فكيف تكون آلهة مع الجهل؟
أو معناه وما يشعر عبادها وقت بعثهم لا مفصلا ولا
مجملا لأنهم ينكرون البعث، بخلاف الموحدين فإنهم يشعرون وقت بعثهم مجملا أنه يوم القيامة وأن لم يشعروه مفصلا.
فإن قيل: قوله تعالى: (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربّكم قالوا أساطير الأوّلين) كيف يعترفون بأنه من عند الله تعالى بالسؤال المعاد في ضمن الجواب، ثم يقولون: هو أساطير الأولين؟
قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال، وجوابه في سورة الحجر في قوله تعالى: (وقالوا يا أيّها الّذي نزّل عليه الذّكر إنّك لمجنونٌ).
فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (ليحملوا أوزارهم كاملةً يوم القيامة ومن أوزار الّذين يضلّونهم بغير علمٍ) وقال في
موضع آخر: (ألّا تزر وازرةٌ وزر أخرى)
قلنا: معناه ومن أوزار إضلال الذين يضلونهم، فيكون عليهم وزر كفرهم مباشرة، ووزر كفر من أضلوا تسببا فقوله تعالى: (أوزارهم كاملةً)
[أنموذج جليل: 254]
يعنى أوزار الذنوب التي باشروها، وأما قوله تعالى: " ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى " معناه وزر لا مدخل لها فيه، ولا
تعلق له بها مباشرة ولا تسببا، ونظير هاتين الآيتان الأخريان في قوله تعالى: (وقال الّذين كفروا للّذين آمنوا اتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم) إلى قوله تعالى: (وأثقالًا مع أثقالهم)
وجوابهما مثل جواب هاتين الآيتين.


التوقيع :
قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - :
" من رزق همة عالية يعذب بمقدار علوها .... من علت همته طلب العلوم كلها ، و لم يقتصر على بعضها ، و طلب من كل علم نهايته ، و هذا لا يحتمله البدن .
ثم يرى أن المراد العمل فيجتهد في قيام الليل و صيام النهار ، و الجمع بين ذلك و بين العلم صعب" .
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 29 ربيع الأول 1432هـ/4-03-2011م, 02:56 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي

فإن قيل: قوله تعالى: (إنّما قولنا لشيءٍ...الآية) يدل على أن المعدوم شيء، ويدل على أن خطاب المعدوم جائز، والأول منتف عند أكثر العلماء، والثاني منتف بالإجماع؟
قلنا: أما تسميته شيئًا فمجاز باعتبار ما يؤول إليه، ونظيره قوله تعالى: (إنّ زلزلة السّاعة شيءٌ عظيمٌ) وقوله تعالى: (إنّك ميّتٌ وإنّهم ميّتون) وأما الثاني فإن هذا الخطاب للتكوين يظهر به أثر المقدرة، فيمتنع أن يكون المخاطب به موجودا قبل الخطاب، لأنه يكون بالخطاب، فلا يسبقه بخلاف خطاب الأمر والنهي.
فإن قيل: قوله تعالى: (وللّه يسجد ما في السّماوات وما في الأرض من دابّةٍ) كيف لم يغلب العقلاء من الدواب على
[أنموذج جليل: 255]
غيرهم، كما في قوله تعالى: (واللّه خلق كلّ دابّةٍ من ماءٍ...الآية) بل أولى، لأنه وصف ما لا يعقل بخصوصه بلفظ (من) وهو الحية والأنعام، وهنا لو قال من في السموات ومن في الأرض لا يلزم وصف ما لا يعقل بخصوصه وتعيينه بلفظ من بل المجموع؟
قلنا: لأنه أراد عموم كل دابة وشمولها، فجاء بما التي تعم النوعين وتشملها، ولو جاء بمن لخص العقلاء.
فإن قيل: قوله تعالى: (ولو يؤاخذ اللّه النّاس بظلمهم ما ترك عليها من دابّةٍ) يقتضى أنه لو أخذ الظالمين بظلمهم لأهلك غير الظالمين من الناس، ولأهلك جميع الدواب غير الناس، ومؤاخذة البريء بسبب ظلم الظالم لا يحسن بالحكيم؟
قلنا: المرار بالظلم هنا الكفر، وبالدابة الدابة الظالمة وهي الكافر كذا قاله ابن عباس، وقيل: معناه لو هلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء، الثاني: أنه لم لا يجوز أن يكون (بمعنى) يهلك الجميع
بشؤم ظلم الظالمين مبالغة في إعدام الظالم ونفى وجود أثره، حتى لا يوجد بعد ذلك من بقية الناس ظلم موجب للإهلاك، كما وجد من الذين أهلكهم بظلمهم، ودليل جواز ذلك ما وجد في زمان نوح عليه
الصلاة والسلام فإنه أهلك بشؤم ظلم قوم نوح جميع دواب الأرض إلا من نجا في السفينة، فلم تبق على ظهر الأرض دابة، وكما قال
الله تعالى: (واتّقوا فتنةً لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّةً) ثم إذا فعل ذلك للحكمة والمصلحة التي اقتضت فعله
[أنموذج جليل: 256]
عوض البريء في الآخرة ما هو خير وأبقى، الثالث: أن كل إنسان مكلف، فهو ظالم إما لنفسه أو لغيره، لأنه لا يخلو عن ذنب صغير أو كبير، فلو أهلك الناس بذنوبهم لأهلك الدواب أيضًا لأنه إنما خلق
الدواب لمصالح الناس، فإذ أعدم الناس وقع استغناؤهم عن الدواب كلها.
فإن قيل: لا نسلم أن غير الإنسان من لحيوان مخلوق لمصالح الإنسان، وسنده أنه كان مخلوقا قبل خلق الإنسان بالنقل عن
الشريعة وغيرها، وقد جاء مصرحًا به في الحديث في باب الخلق من باب الأصول: سلمنا أنه مخلوق لمصلحة الإنسان لكن هلاك غير الإنسان معه يخفف عليه ألم المصيبة، لاسيما إذ كان الهالك معه من جنسه، ولهذا قيل المصيبة إذا عمت طابت، سلمنا أن إهلاكه غيره معه مؤلم له، لكن لو كان إهلاكه معه لأنه خلق لمصلحته فأهلك تبعًا لاستغنائه عنه أو لزيادة الإيلام فالنبات أيضا خلق لمصلحته على قولكم فلم كان إهلاك الحيوان عقوبة للإنسان أولى من إهلاك النبات.
ولم يقل ما ترك عليها من دابة ونبات أو من شيء؟
قلنا: الجواب عن الأول قوله تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعًا) وخلقه قبل الإنسان لا ينفى خلقه لمصلحة الإنسان، كما يعد عظماء الناس الدور والقصور والخدم والحشم والدواب والثياب لأولادهم وأولاد أولادهم قبل وجودهم، (وعن) الثاني:
[أنموذج جليل: 257]
أنا لا ندعى أنه يهلك مع الإنسان، بل قبله لتؤلمه مشاهدة هلاك محبوبه ومألوفه، (وعن) الثالث: أن المراد ما ترك عليها من دابة بواسطة منع المطر، فيعدم النبات ثم يعدم بواسطة عدمه غير الإنسان من الحيوان، ثم يعدم الإنسان كذا جاء في تفسير هذه الآية والآية التي في آخر سورة فاطر، وهذا الترتيب أبلغ في العذاب.
وأعظم في العقاب من تقديم إهلاك الحيوان على النبات لأن الإنسان إذا بقى حيوانه بلا غلف كان أوجع له، مما إذا أبقى علفه بلا حيوان.
فإن قيل: كيف قال تعالى: (من الجبال بيوتًا ومن الشّجر)
ولم يقل في الجبال وفى الشجر والاستعمال إنما هو بفي يقال اتخذ فلان بيتا في الجبل أو في الصحراء ونحو ذلك؟
قلنا: قال الزمخشري إنما أتى بلفظة (من) لأنه أراد معنى البعضية، وأن لا تبنى بيوتها في كل جبل وكل الشجر ولا في كل مكان من الجبل والشجر، وأنا أقول: إنه إنما ذكره بلفظة (من) لأنه أراد كون البيت بعض الجبل وبعض الشجر كما يشاهد ويرى من بناء بيوت النحل، لأنه متخذ من طين أو عيدان في الجبل والشجر كما
تتخذ الطيور، فلو أتى بلفظة في لم تدل على هذا المعنى ونظيره قوله تعالى: (وتنحتون من الجبال بيوتًا).
فإن قيل: كيف قال تعالى: (واللّه جعل لكم من أنفسكم أزواجًا) وأزواجنا ليست من أنفسنا لأنهن لو كن من أنفسنا
[أنموذج جليل: 258]
لكن حراما علينا، فإن المتفرعة من الإنسان لا يحل له نكاحها؟
قلنا: المراد بهذا أنه خلق آدم ثم خلق منه حواء، كما قال
تعالى: (خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها)
الثاني: أن المراد من جنسكم كما قال تعالى: (لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم).
فإن قيل: كيف قال تعالى: (ويعبدون من دون اللّه ما لا يملك لهم رزقًا من السّماوات والأرض شيئًا ولا يستطيعون) عبر عن الأصنام بالواو والنون وهما من خواص من يعقل؟
قلنا: كان (في) من يعبدونه من دون الله من يعقل كعزير وعيسى والملائكة عليهم الصلاة والسلام فغلبهم.
فإن قيل: لما أفرد في قوله تعالى: "ما لا يملك " ثم جمع في قوله: " ولا يستطيعون "؟
قلنا: أفرد نظرًا إلى لفظ ما، وجمع نظرًا إلى معناها، كما قال تعالى: (وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون (12) لتستووا على ظهوره) فأفرد الضمير نظرًا إلى لفظ ما، وجمع الظهور نظرًا إلى معناها.
فإن قيل: ما فائدة نفى استطاعة الرزق بعد نفى ملكه والمعنى واحد،
[أنموذج جليل: 259]
لأن نفى ملك الفعل هو نفى استطاعته، والرزق هنا اسم مصدر بدليل أعماله في (شيئا)؟
قلنا: ليس في يستطيعون ضمير مفعول وهو الرزق، بل الاستطاعة منفية عنهم مطلقًا، معناه لا يملكون أن يرزقوا، أو لا استطاعة لهم أصلًا في رزق أو غيره لأنهم جماد، الثاني: أنه لو قدر فيه ضمير
مفعول على معنى ولا يستطيعونه كان مفيدا أيضًا على اعتبار كون الرزق اسمًا للعين لأن الإنسان يجوز (له) أن لا يملك الشيء، ولكن يستطيع أن يملكه لوجود الأهلية والقدرة على اكتساب ملكه بخلاف هؤلاء فإنهم لا يملكون ولا يستطيعون أن يملكوا.
فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (مملوكًا) بعد قوله تعالى: (عبدًا) وما فائدة قوله: " لا يقدر على شيء) بعد قوله: (مملوكًا)؟
قلنا: لفظ العبد يصلح للحر والمملوك، لأن ألكل عبيد الله تعالى، فإن الله تعالى قال: (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنّه أوّابٌ) فقال مملوكًا ليتميز عن الحر، وقال " لا يقدر على شيء " ليتميز عن المأذون والمكاتب فإنهما يقدران على التصرف استقلالًا
.
فإن قيل: المضروب به المثل اثنان، وهما المملوك والمرزوق رزقًا حسنًا، فظاهره أن يقال هل يستويان، فكيف قال تعالى: (هل يستوون)؟
[أنموذج جليل: 260]
قلنا: لأنه أراد جنس المماليك وجنس المالكين، لا مملوكًا معينًا ولا مالكًا معينًا، الثاني: أنه أجرى الاثنين مجرى الجمع، الثالث: أن (من) تقع على الجمع، ولقائل أن يقول على الوجه الثالث يلزم منه أن يصير المعنى ضرب الله مثلا عبد مملوكًا وجماعة مالكين هل يستوون، وانه لا يحسن مقابلة الفرد بالجمع في التمثيل.
فإن قيل: (أو) في الخبر للشك، والشك على الله تعالى محال، فما معنى قوله تعالى: (إلّا كلمح البصر أو هو أقرب)؟
قلنا: قيل (أو) هنا بمعنى بل كما في قوله تعالى: (إلى مائة ألفٍ أو يزيدون) وقوله: (فهي كالحجارة أو أشدّ قسوةً)
وقوله: (فكان قاب قوسين أو أدنى) ويرد على هذا أن بل للإضراب، والإضراب رجوع عن الأخبار وهو على الله تعالى محال، وقيل: هي بمعنى الواو في هذه الآيات، وقيل: (أو) للشك في الكل لكن بالنسبة إلينا لا إلى الله تعالى، وكذا في قوله تعالى: (فكان قاب قوسين أو أدنى) يعنى بالنسبة إلى نظر النبي عليه الصلاة والسلام.
وقال الزجاج ليس المراد أن الساعة تأتى في أقرب من لمح البصر، ولكن المراد وصف قدرة الله تعالى على سرعة الإتيان بها متى شاء.


التوقيع :
قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - :
" من رزق همة عالية يعذب بمقدار علوها .... من علت همته طلب العلوم كلها ، و لم يقتصر على بعضها ، و طلب من كل علم نهايته ، و هذا لا يحتمله البدن .
ثم يرى أن المراد العمل فيجتهد في قيام الليل و صيام النهار ، و الجمع بين ذلك و بين العلم صعب" .
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 29 ربيع الأول 1432هـ/4-03-2011م, 02:57 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي

فإن قيل: كيف قال تعالى: (سرابيل تقيكم الحرّ) ولم يقل والبرد، مع أن السرابيل وهي الثياب تلبس لدفع الحر والبرد، وهي
[أنموذج جليل: 261]
مخلوقه لهما؟
قلنا: حذف ذكر إحداهما لدلالة ضده، كما في قوله تعالى: (بيدك الخير) ولم يقل والشر، كما في قول الشاعر:
وما أدرى إذا يممت أرضًا *** أريد الخير أيهما يليني
أي إلى يد الخير لا الشر أو أريد الخير وأحذر الشر.
فإن قيل: فلم كان ذكر الخير والحر أولى من ذكر الشر والبرد؟
قلنا: لأن الخير مطلوب العباد من ربهم ومرغوبهم إليه، ولأنه أكثر وجودًا في العالم من الشر، وأما الحر فلأن الخطاب بالقرآن أول ما يقع مع أهل الحجاز، والوقاية (من الحر) أهم عندهم لأن الحر في بلادهم أشد من البرد.
فإن قيل: كيف قال تعالى: (يعرفون نعمت اللّه ثمّ ينكرونها وأكثرهم الكافرون) مع أن كلهم كافرون؟
قلنا: قال الحسن: المراد بالأكثر هنا الجمع، وفى هذا نظر لأن بعض الناس لا يجوز إطلاق اسم البعض على الكل، لأنه ليس لازما له بخلاف عكسه.
فإن قيل: ما فائدة قول المشركين عند رؤية الأصنام: (ربّنا هؤلاء شركاؤنا الّذين كنّا ندعو من دونك) الله تعالى عالم بذلك؟
[أنموذج جليل: 262]
قلنا: لما أنكروا الشرك بقولهم: (واللّه ربّنا ما كنّا مشركين)
عاقبهم الله تعالى بإصمات ألسنتهم وأنطق جوارحهم، فقالوا عند معاينة آلهتهم: (هؤلاء شركاؤنا) أي قد أقررنا بعد الإنكار وصدقنا بعد الكذب طلبًا للرحمة، وفرارًا من الغضب، فكان هذا القول على وجه الاعتراف منهم بالذنب لا على وجه إعلام من لا يعلم، الثاني: أنهم لما عاينوا عظم الله تعالى وعقوبته قالوا: "ربنا هؤلاء شركاؤنا " رجاء أن يلزم الله تعالى الأصنام ذنوبهم.
لأنهم كانوا يعتقدون لها العقل والتمييز فيخف عنهم العذاب.
فإن قيل: لم قالت الأصنام للمشركين: (إنّكم لكاذبون) وكانوا صادقين فيما قالوه؟
قلنا: إنما قالت لهم ذلك لتظهر فضيحتهم، وذلك أن الأصنام كانت جمادًا لا تعرف من يعبدها، فلم تعلم أنهم عبدوها في الدنيا فظهرت فضيحتهم، حيث عبدوا من لا يعلم بعبادتهم، ونظير هذا قوله تعالى: (واتّخذوا من دون اللّه آلهةً ليكونوا لهم عزًّا (81) كلّا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدًّا).
فإن قيل: إذا كان القرآن تبيانًا لكل شيء من أمور الدين فمن أين وقع بين الأمة في أحكام الشريعة هذا الخلاف الطويل العريض؟
قلنا: إنما وقع الخلاف بين الأمة لأن كل شيء يحتاج إليه من أمور
[أنموذج جليل: 263]
الدين ليس مبينًا في القرآن نصًا بل بعضه مبين نصًا وبعضه مستنبط بيانه منه بالنظر والاستدلال، وطرق النظر والاستدلال مختلفة فلذلك وقع الخلاف.
فإن قيل: كثير من أحكام الشريعة لم تعلم من القرآن نصًا ولا استنباطًا، كعدد ركعات الصلوات ومقادير ديات الأعضاء، ومدة السفر والمسح، والحيض، ومقدار حد الشرب، ونصاب الزكاة، والسرقة، وما أشبه ذلك مما يطول ذكره؟
قلنا: القرآن تبيانًا لكل شيء من أمور الدين، لأنه نص على بعضها، وأحال على السنة في بعضها بقوله تعالى: (وما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى) وأحال على الإجماع أيضًا بقوله: (ويتّبع غير سبيل المؤمنين...الآية) وأحال على القياس أيضًا بقوله: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) والاعتبار والنظر والاستدلال فهذه أربعة طرق لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها، وكلها مذكورة في القرآن فصح كونه تبيانًا لكل شيء.
فإن قيل: كيف وحدت القدم ونكرت في قوله تعالى: (فتزلّ قدمٌ بعد ثبوتها) ولم يقل القدم أو الإقدام وهو اشد مناسبة لجمع
[أنموذج جليل: 264]
الإيمان؟
قلنا: وحدت ونكرت لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الجنة، فكيف بأقدام كثيرة.
فإن قيل: (من) تتناول الذكر والأنثى لغة، ويؤيده قوله تعالى: (من جاء بالحسنة...الآية)
وقوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرّةٍ خيرًا يره...الآية) وقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشّهر فليصمه) وقوله تعالى: (وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا) ونظائره كثيرة، فكيف قال تعالى هنا: (من عمل صالحًا من ذكرٍ أو أنثى)؟
قلنا: إنما صرح بذكر النوعين هنا بسبب اقتضى ذلك، وهو أن النساء قلن: ذكر الله تعالى الرجال في القرآن بخير ولم يذكر النساء بخير، فلو كان فينا خير لذكرنا به، فأنزل الله تعالى: (إنّ المسلمين والمسلمات...ألآية) وأنزل: (من عمل صالحًا من ذكرٍ أو أنثى) فذهب عن النساء وهم تخصيصهن عن العمومات.
فإن قيل: كيف قال تعالى: (فلنحيينّه حياةً طيّبةً) وقد رأينا كثيرًا من الصلحاء الأتقياء قطعوا أعمارهم في المصائب والمحن
[أنموذج جليل: 265]
وأنواع البلاء أعتبر بالأمثل فالأمثل إلى الأنبياء؟
قلنا: المراد بالحياة الطيبة الحياة في القناعة، وقيل: في الرزق الحلال، وقيل: في رزق يوم بيوم، وقيل: في التوفيق للطاعات، وقيل: في حلاوة الطاعات، وقيل: في الرضا بالقضاء، وقيل: المراد به الحياة في القبر، كما قال تعالى: (ولا تحسبنّ الّذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتًا بل أحياءٌ عند ربّهم)، قيل: المراد به الحياة في الدار الآخرة، وهي الحياة الحقيقية لأنها حياة لا موت
بعدها دائمة في النعيم المقيم، والظاهر أن المراد به الحياة في الدنيا لقوله تعالى: (ولنجزينّهم أجرهم) وعدهم الله ثواب الدنيا والآخرة كما قال: (فآتاهم اللّه ثواب الدّنيا وحسن ثواب الآخرة).
فإن قيل: كيف قال تعالى: (وإنّ اللّه لا يهدي القوم الكافرين)
وكثير من الصحابة وغيرهم كانوا كافرين فهداهم الله تعالى إلى الإيمان؟
قلنا: المراد بهذا الكافرون الذين علم الله تعالى أنهم يموتون على الكفر، ويؤيده ما بعد ذلك من الآيتين.
فإن قيل: ما معنى إضافة النفس إلى النفس في قوله تعالى: (يوم تأتي كلّ نفسٍ تجادل عن نفسها) والنفس ليس لها نفس
[أنموذج جليل: 266]
أخرى؟
قلنا: النفس اسم للجوهر القائم بذاته المتعلق بالجسم تعلق التدبير، والتقرن وقيل: هي اسم لجملة الإنسان لقوله تعالى: (كلّ نفسٍ ذائقة الموت) وقوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس) والنفس أيضا اسم لعين الشيء وذاته كما يقال نفس الذهب والفضة محبوبة أي عينها وذاتها فكأنه قال: يوم تأتى كل
نفس تجادل عن ذاته، لا يهمه شأن غيره، كل يقول نفسي نفسي فاختلف معنى النفسين.
فإن قيل: كيف قال تعالى: (فأذاقها اللّه لباس الجوع) ولم يقل فكساها الله لباس الجوع، والإذاقة لا تناسب اللباس وإنما تناسبه الكسوة؟
قلنا: الإذاقة تناسب المستعار له وهو الجوع، (من حيث إن) الجوع يقتضى الأكل فيقتضى الذوق، وأن كانت لا تناسب المستعار وهو اللباس، والكسوة تناسب المستعار وهو اللباس، ولا تناسب المستعار له وهو الجوع، وكلاهما من دقائق علم البيان يسمى الأول
منها تجريد الاستعارة، والثاني ترشيح الاستعارة، فجاء القرآن
[أنموذج جليل: 267]
العزيز في هذه الآية بتجريد الاستعارة، وقد ذكرنا تمار هذا في كتابنا المسمى " روضة الفصاحة " ولباس الجوع والخوف استعارة لما يظهر على أهل القرية من أثر الجوع والخوف من الصفرة والتحول فهو كقوله تعالى: (ولباس التّقوى) استعار اللباس لها يظهر على المتقى من أثر التقوى، وقيل: فيه إضمار تقديره فأذاقها الله طعم الجوع وكساها لباس الخوف.
[أنموذج جليل: 268]


التوقيع :
قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - :
" من رزق همة عالية يعذب بمقدار علوها .... من علت همته طلب العلوم كلها ، و لم يقتصر على بعضها ، و طلب من كل علم نهايته ، و هذا لا يحتمله البدن .
ثم يرى أن المراد العمل فيجتهد في قيام الليل و صيام النهار ، و الجمع بين ذلك و بين العلم صعب" .
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
النحل, سورة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:50 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir