تفسير سورة عبس
أسماء السورة ومكان نزولها:
سورة عبس , وهي مكية.
سبب نزول السورة
قال ابن كثير رحمه الله :ذكر غير واحدٍ من المفسّرين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يوماً يخاطب بعض عظماء قريشٍ، وقد طمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أمّ مكتومٍ، وكان ممّن أسلم قديماً، فجعل يسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن شيءٍ ويلحّ عليه، وودّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أن لو كفّ ساعته تلك؛ ليتمكّن من مخاطبة ذلك الرّجل طمعاً ورغبة ًفي هدايته، وعبس في وجه ابن أمّ مكتومٍ وأعرض عنه وأقبل على الآخر؛ فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {عبس وتولّى (1) أن جاءه الأعمى (2) وما يدريك لعلّه يزّكّى}
عن عائشة قالت: أنزلت: {عبس وتولّى} في ابن أمّ مكتومٍ الأعمى، أتى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فجعل يقول: أرشدني. قالت: وعند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رجلٌ من عظماء المشركين. قالت: فجعل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يعرض عنه ويقبل على الآخر ويقول: ((أترى بما أقول بأساً؟)). فيقول: لا. ففي هذا أنزلت: {عبس وتولّى}.
وقد روى التّرمذيّ هذا الحديث عن سعيد بن يحيى الأمويّ بإسناده مثله.
-تفسير قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) ) –ك , س , ش -
أَيْ: كَلَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ وَأَعْرَضَ في بدنهِ؛ لأجلِ مجيءالأعمَى لهُ.
-تفسير قوله تعالى: (أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) ) –ك , س , ش -
أَيْ: لأَنه جَاءَهُ الأَعْمَى وهو ابن أم مكتوم رضي الله عنه.
-تفسير قوله تعالى: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) ) –ك , س , ش -
ثم ذكرَ الفائدةَ في الإقبالِ عليهِ، فقال:{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ}أي:الأعمى{يَزَّكَّى}أي: يتطهرُ عن الأخلاقِ الرذيلةِ، ويتصفُ بالأخلاقِ الجميلةِ ويَتَطَهَّرُ مِنَ الذُّنوبِ بالعملِ الصالحِ؛ بِسَبَبِ مَا يَتَعَلَّمُهُ مِنْكَ.
-تفسير قوله تعالى: (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) ) –ك , س , ش -
أي: يتذكرُ ما ينفعُهُ، فيعملُ بتلكَ الذكرَى.
وهذهِ فائدةٌ كبيرةٌ، هيَ المقصودةُ منْ بعثةِ الرسلِ، ووعظِ الوعَّاظِ، وتذكيرِ المذكِّرينَ، فإقبالكَ على مَنْ جاءَ بنفسهِ مفتقراً لذلكَ منكَ، هوَ الأليقُ الواجبُ، وأمَّا تصديكَ وتعرضكَ للغنيِّ المستغني الذي لا يسألُ ولا يستفتي لعدَم رغبتهِ في الخير، معَ تركِكَ مَنْ هوَ أهمُّ منهُ فإنَّهُ لا ينبغي لكَ، فإنَّهُ ليسَ عليكَ أنْ لا يزكَّى، فلو لمْ يتزكَّ، فلستَ بمحاسبٍ على مَا عملهُ مِنَ الشرِّ.
فدلَّ هذا على القاعدةِ المشهورةِ، أنَّهُ: (لا يتركُ أمرٌ معلومٌ لأمرٍ موهومٍ، ولا مصلحةٌ متحققةٌ لمصلحةٍ متوهمةٍ) وأنَّهُ ينبغي الإقبالُ على طالبِ العلمِ، المفتقرِ إليهِ، الحريصِ عليهِ أزيدَ منْ غيرِهِ.
-تفسير قوله تعالى: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) ) –ك , ش-
أَيْ: كَانَ ذَا ثَرْوَةٍ وَغِنًى أَوِ اسْتَغْنَى عَنِ الإِيمَانِ وَعَمَّا عِنْدَكَ مِنَ الْعِلْمِ
-تفسير قوله تعالى: (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) ) –ك , ش-
أَيْ: تُقْبِلُ عَلَيْهِ بِوَجْهِكَ وَحَدِيثِكَ لعله يهتدي، وَهُوَ يُظْهِرُ الاستغناءَ عَنْكَ وَالإِعْرَاضَ عَمَّا جِئْتَ بِهِ.
-تفسير قوله تعالى: (وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) ) –ك , ش-
أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ عَلَيْكَ فِي أَلاَّ يُسْلِمَ وَلا يَهْتَدِيَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغُ، فَلا تَهْتَمَّ بِأَمْرِ مَنْ كَانَ هكذا مِنَ الْكُفَّارِ.
-تفسير قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) ) –ك , س , ش -
أَيْ: وَصَلَ إِلَيْكَ مُسْرِعاً فِي المَجِيءِ إِلَيْكَ, طَالِباً مِنْكَ أَنْ تُرْشِدَهُ إِلَى الْخَيْرِ وَتَعِظَهُ بِمَوَاعِظِ اللَّهِ.
-تفسير قوله تعالى: (وَهُوَ يَخْشَى (9) ) –ك , س , ش -
أَيْ: يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى.
-تفسير قوله تعالى: (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) ) –ك , س , ش -
أي: تتشاغل وَتُعْرِضُ وَتَتَغَافَلُ ، ومن ههنا أمر اللّه عزّ وجلّ رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم أن لا يخصّ بالإنذار أحداً، بل يساوي فيه بين الشّريف والضّعيف، والفقير والغنيّ، والسّادة والعبيد، والرّجال والنّساء، والصّغار والكبار، ثمّ اللّه يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ، وله الحكمة البالغة والحجّة الدّامغة.
-تفسير قوله تعالى :( كلا إنها تذكرة (11)) –ك , س , ش -
{كَلاَّ}: لا تَفْعَلْ بَعْدَ هَذَا الوَاقِعِ مِنْكَ مِثْلَهُ؛ مِنَ الإعراضِ عَن الفقيرِ, والتَّصَدِّي للغَنِيِّ, وَالتَّشَاغُلِ بِهِ، مَعَ كَوْنِهِ لَيْسَ مِمَّنْ يَتَزَكَّى، عَنْ إِرْشادِ مَنْ جَاءَكَ منْ أَهْلِ التَّزَكِّى وَالقَبُولِ للموعظةِ.
{إنها تذكرة} : أي: هذه السّورة أو الوصيّة بالمساواة بين النّاس في إبلاغ العلم بين شريفهم ووضيعهم.
وقال قتادة والسّدّيّ: {كلاّ إنّها تذكرةٌ}. يعني: القرآن
-تفسير قوله تعالى: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) ) –ك , س , ش -
أي: فمن شاء ذكر اللّه في جميع أموره، ويحتمل عود الضّمير على الوحي فيكون المعنى: عملَ بهِ ؛ لدلالة الكلام عليه ، كقولهِ تعالى:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}.
-تفسير قوله تعالى: (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) ) –ك , س , ش -
أي: هذه السّورة أو العظة وكلاهما متلازمٌ، بل جميع القرآن {في صحفٍ مكرّمةٍ}. أي: معظّمةٍ موقّرةٍ مُكَرَّمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ؛ لِمَا فِيهَا من الْعِلْمِ والحِكْمةِ، أَوْ لأَنَّهَا نَازِلَةٌ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
-تفسير قوله تعالى: (مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) ) –ك , س , ش -
{مرفوعةٍ}. أي: عالية القدر والرتبة عند الله ، {مطهّرةٍ}. أي: من الدّنس والزّيادة والنّقص
فهي مُنَزَّهَةٍ لا يَمَسُّهَا إِلاَّ المُطَهَّرُونَ، مُصَانَةٍ عَنِ الشَّيَاطِينِ وَالكُفَّارِ لا يَنَالُونَهَا.
-تفسير قوله تعالى: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) ) –ك , س , ش -
قال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ والضّحّاك وابن زيدٍ: هي الملائكة.
وقال وهب بن منبّهٍ: هم أصحاب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقال قتادة: هم القرّاء.
وقال ابن جريجٍ: عن ابن عبّاسٍ: السّفرة بالنّبطيّة: القرّاء.
وقال ابن جريرٍ: الصّحيح أنّ السّفرة: الملائكة.
والسّفرة يعني: بين اللّه وبين خلقه، ومنه يقال: السّفير الذي يسعى بين النّاس في الصّلح والخير،
وقال البخاريّ: سفرة الملائكة. سفرت: أصلحت بينهم، وجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي اللّه وتأديته كالسّفير الّذي يصلح بين القوم.
-تفسير قوله تعالى: (كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) ) –ك , س , ش -
أي: خلقهم كريمٌ حسنٌ شريفٌ، وأخلاقهم وأفعالهم بارّةٌ طاهرةٌ كاملةٌ، ومن ههنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السّداد والرّشاد.
قال الإمام أحمد: عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((الّذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السّفرة الكرام البررة، والّذي يقرؤه وهو عليه شاقٌّ له أجران)). أخرجه الجماعة من طريق قتادة به.
-تفسير قوله تعالى: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) ) –ك , س , ش -
وذلكَ كُلّهُ حفظٌ منَ اللهِ لكتابهِ، أنْ جعلَ السُّفراءَ فيهِ إلى الرسلِ الملائكة الكرام الأقوياء الأتقياء، ولمْ يجعلْ للشياطين عليهِ سبيلاً، وهذا مما يوجبُ الإيمانَ بهِ وتلقيهِ بالقبولِ، ولكن معَ هذا أبى الإنسانُ إلاَّ كفوراً، ولهذا يقول تعالى: ذامًّا لمن كفر بكتابه وأنكر البعث والنّشور من بني آدم :{قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} لنعمةِ اللهِ، وما أشدَّ معاندته للحقِّ بعدمَا تبينَ، وهوَ أضعفُ الأشياءِ، خلقهُ اللهُ مِنْ ماءٍ مهينٍ، ثمَّ قدَّرَ خلقهُ، وسوّاهُ بشراً سويّاً، وأتقنَ قواه الظاهرةَ والباطنةَ.
قال الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ: {قتل الإنسان}: لعن الإنسان. وكذا قال أبو مالكٍ، وهذا لجنس الإنسان المكذّب؛ لكثرة تكذيبه بلا مستندٍ بل بمجرّد الاستبعاد وعدم العلم.
قال ابن جريجٍ: {ما أكفره}: ما أشدّ كفره. وقال ابن جريرٍ: ويحتمل أن يكون المراد: أيّ شيءٍ جعله كافراً؟ أي: ما حمله على التّكذيب بالمعاد.
وقال قتادة، وقد حكاه البغويّ عن مقاتلٍ والكلبيّ: {ما أكفره}: ما ألعنه.
-تفسير قوله تعالى: (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) ) –ك , س , ش -
ثمّ بيّن تعالى له كيف خلقه من الشّيء الحقير، وأنّه قادرٌ على إعادته كما بدأه؛ فقال: {من أيّ شيءٍ خلقه (18)} أَيْ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَ اللَّهُ هَذَا الْكَافِرَ ؟
-تفسير قوله تعالى: (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ) –ك , س , ش -
أَيْ: خلقه مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، فَكَيْفَ يَتَكَبَّرُ مَنْ خَرَجَ مِن مَخْرَجِ البَوْلِ مَرَّتَيْنِ؟
{فَقَدَّرَهُ}؛ أي: فَسَوَّاهُ وَهَيَّأَهُ لِمَصَالِحِ نَفْسِهِ، وَخَلَقَ لَهُ اليَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَسَائِرَ الآلاتِ وَالحَوَاسِّ وقدّر أجله ورزقه وعمله وشقيٌّ أو سعيدٌ
-تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ) –ك , س , ش -
قال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: ثمّ يسّر عليه خروجه من بطن أمّه. وكذا قال عكرمة والضّحّاك وأبو صالحٍ وقتادة والسّدّيّ، واختاره ابن جريرٍ.
وقال مجاهدٌ: هذه كقوله: {إنّا هديناه السّبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً}. أي: بيّنّاه له ووضّحناه وسهّلنا عليه عمله. وهكذا قال الحسن وابن زيدٍ، وهذا هو الأرجح، واللّه أعلم
فيسَّرَ لهُ الأسبابَ الدينيةَ والدنيويةَ، وهداهُ السبيلَ، [وبيَّنَهُ] وامتحنهُ بالأمرِ والنهي، أي: أكرَمهُ.
-تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ) –ك , س , ش -
أي: إنّه بعد خلقه له أماته فأقبره، أي: جعله ذا قبرٍ، أكرمَهُ بالدفنِ، ولم يجعلْهُ كسائرِ الحيواناتِ التي تكونُ جيفُها على وجهِ الأرضِ , والعرب تقول: قبرت الرّجل. إذا ولي ذلك منه.
-تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) ) –ك , س , ش -
أي: بعثه بعد موته للجزاء، ومنه يقال: البعث والنّشور، {ومن آياته أن خلقكم من ترابٍ ثمّ إذا أنتم بشرٌ تنتشرون}. (وانظر إلى العظام كيف ننشرها ثمّ نكسوها لحماً).
وثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :((كلّ ابن آدم يبلى إلاّ عجب الذّنب، منه خلق وفيه يركّب)) .
-تفسير قوله تعالى: (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) ) –ك , س , ش -
قال ابن جريرٍ: {لمّا يقض ما أمره}:لم يؤدّ ما فرض عليه من الفرائض لربّه عزّ وجلّ. وبه قال ابن سعدي رحمه الله.
عن مجاهدٍ قوله: {كلاّ لمّا يقض ما أمره}. قال: لا يقضي أحدٌ أبداً كلّ ما افترض عليه. وحكاه البغويّ عن الحسن البصريّ بنحوٍ من هذا، ولم أجد للمتقدّمين فيه كلاماً سوى هذا، والذي يقع لي في معنى ذلك واللّه أعلم أنّ المعنى: {ثمّ إذا شاء أنشره}. أي: بعثه، {كلاّ لمّا يقض ما أمره}. لا يفعله الآن حتّى تنقضي المدّة ويفرغ القدر من بني آدم ممّن كتب تعالى أن سيوجد منهم ويخرج إلى الدّنيا، وقد أمر به تعالى كوناً وقدراً، فإذا تناهى ذلك عند اللّه أنشر اللّه الخلائق وأعادهم كما بدأهم.
-تفسير قوله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) ) –ك , س , ش -
فيه امتنانٌ وفيه استدلالٌ بإحياء النّبات من الأرض الهامدة على إحياء الأجسام بعدما كانت عظاماً باليةً وتراباً متمزّقاً
أَيْ: لِيَنْظُرْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ طَعَامَهُ الَّذِي جَعَلَهُ سَبَباً لِحَيَاتِهِ؟
-تفسير قوله تعالى: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ) –ك , س-
أي: أنزلناه من السّماء على الأرض بكثرةٍ.
تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) ) –ك , س , ش -
أَيْ: شَقَقْنَاهَا بالنَّباتِ الخارجِ مِنْهَا بِسَبَبِ نُزُولِ الْمَطَرِ شَقًّا بَدِيعاً لائِقاً بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ فِي الصِّغَرِ والكِبَرِ وَالشَّكْلِ والهَيْئَةِ , فنبت وارتفع.
تفسير قوله تعالى: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) ) –ك , س , ش -
{فَأَنْبَتْنَا فِيهَا} أصنافَاً مصنفةً مِنْ أنواعِ الأطعمةِ اللذيذةِ، والأقواتِ الشهيةِ {حُبًّا} وهذا شاملٌ لسائرِ الحبوبِ على اختلافِ أصنافِهَا , وَالْمَعْنَى: أَنَّ النَّباتَ لا يَزَالُ يَنْمُو وَيَتَزَايَدُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ حَبًّا.
-تفسير قوله تعالى: (وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) ) –ك , س , ش -
فالحبّ: كلّ ما يذكر من الحبوب، والعنب معروفٌ، والقضب: هو الفصفصة التي تأكلها الدّوابّ رطبةً، ويقال لها: القَتُّ الرَّطْبُ الَّذِي تُعْلَفُ بِهِ الدَّوَابُّ أيضاً، قال ذلك ابن عبّاسٍ وقتادة والضّحّاك والسّدّيّ، وقال الحسن البصريّ: القضب: العلف.
-تفسير قوله تعالى: (وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) ) –ك , س-
{وزيتوناً}. وهو معروفٌ، وهو أدمٌ، وعصيره أدمٌ ويستصبح به ويدّهن به، {ونخلاً}. يؤكل بلحاً بسراً ورطباً وتمراً ونيئاً ومطبوخاً، ويعتصر منه ربٌّ وخلٌّ.
وخصّ هذهِ الأربعةَ لكثرةِ فوائدهَا ومنافعهَا.
-تفسير قوله تعالى: (وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) ) –ك , س , ش -
أي: بساتين فيها الأشجارُ الكثيرةُ الملتفةُ ، وبه قال ابن كثير وابن سعدي.
قال الحسن وقتادة: {غلباً}: نخلٌ غلاظٌ كرامٌ. وبه قال الأشقر.
وقال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ: الحدائق: كلّ ما التفّ واجتمع.
وقال ابن عبّاسٍ أيضاً: {غلباً}: الشّجر الّذي يستظلّ به.
وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ: {وحدائق غلباً}. أي: طوالٌ.
وقال عكرمة: {غلباً} أي: غلاظ الأوساط.
وفي روايةٍ: غلاظ الرّقاب، ألم تر إلى الرّجل إذا كان غليظ الرّقبة قيل: واللّه إنّه لأغلب. رواه ابن أبي حاتمٍ.
وكلا الأقوال ترجع إلى معنى واحد وهو صفة البساتين والأشجار فيها .
-تفسير قوله تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) ) –ك , س , ش -
{وفاكهةً وأبًّا}. أمّا الفاكهة: فهو ما يتفكّه به من الثّمار.
-الخلاف في معنى الأبّ:
قال ابن عبّاسٍ: الفاكهة: كلّ ما أكل رطباً، والأبّ: ما أنبتت الأرض ممّا تأكله الدّوابّ ولا يأكله النّاس. وبه قال ابن سعدي رحمه الله , ولهذا قالَ: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلأِنْعَامِكُمْ}.
وفي روايةٍ عنه: وهو الحشيش للبهائم. وعن مجاهدٍ والحسن وقتادة وابن زيدٍ: الأبّ للبهائم كالفاكهة لبني آدم.
وقال مجاهدٌ وسعيد بن جبيرٍ وأبو مالكٍ: الأبّ: الكلأ.
وعن عطاءٍ: كلّ شيءٍ نبت على وجه الأرض فهو أبٌّ. وبه قال الضحاك وزاد: سوى الفاكهة.
وقال أبو السّائب: ما أنبتت الأرض ممّا يأكل النّاس وتأكل الأنعام.
فأمّا ما رواه ابن جريرٍ حيث قال: ... عن أنسٍ قال: قرأ عمر بن الخطّاب: {عبس وتولّى}. فلمّا أتى على هذه الآية: {وفاكهةً وأبًّا}. قال: قد عرفنا الفاكهة فما الأبّ؟ فقال: لعمرك يابن الخطّاب، إنّ هذا لهو التّكلّف. فهو إسنادٌ صحيحٌ.
وقد رواه غير واحدٍ عن أنسٍ به، وهو محمولٌ على أنّه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه وإلاّ فهو وكلّ من قرأ هذه الآية يعلم أنّه من نبات الأرض؛ لقوله: {فأنبتنا فيها حبًّا وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهةً وأبًّا.
-تفسير قوله تعالى: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) ) –ك , س -
أي: عيشةً لكم ولأنعامكم في هذه الدّار التي خلقَها اللهُ وسخرهَا لكمْ، فمَنْ نظرَ في هذهِ النعمِ، أوجبَ لهُ ذلكَ شكرَ ربِّهِ، وبذلَ الجهدِ في الإنابةِ إليهِ، والإقبالِ على طاعتهِ، والتصديقِ بأخبارِهِ .
-تفسير قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) ) –ك , س , ش -
قال ابن عبّاسٍ: {الصّاخّة}: اسمٌ من أسماء يوم القيامة، عظّمه اللّه وحذّره عباده.
قال ابن جريرٍ: لعلّه اسمٌ للنّفخة في الصّور.
وقال البغويّ: {الصّاخّة}. يعني صيحة يوم القيامة، سمّيت بذلك؛ لأنّها تصخّ الأسماع أي: تبالغ في إسماعها حتّى تكاد تصمّها.
أي: إذا جاءتْ صيحةُ القيامةِ، التي تصخُّ لهولِهَا الأسماعُ، وتنزعجُ لها الأفئدةُ يومئذٍ، مما يرى الناسُ مِنَ الأهوالِ وشدةِ الحاجةِ لسالفِ الأعمالِ.
-تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) ) –ك , س , ش -
أي: يراهم ويفرّ منهم ويبتعد عنهم؛ لأنّ الهول عظيمٌ والخطب جليلٌ.
قال عكرمة: يلقى الرّجل زوجته فيقول لها: يا هذه، أيّ بعلٍ كنت لك؟ فتقول: نعم البعل، كنت. وتثني بخيرٍ ما استطاعت؛ فيقول لها: فإنّي أطلب إليك اليوم حسنةً واحدةً تهبينها لي لعلّي أنجو ممّا ترين. فتقول له: ما أيسر ما طلبت، ولكنّي لا أطيق أن أعطيك شيئاً، أتخوّف مثل الذي تخاف.
قال: وإنّ الرّجل ليلقى ابنه فيتعلّق به فيقول: يا بنيّ، أيّ والدٍ كنت لك؟ فيثني بخيرٍ، فيقول: يا بنيّ إنّي احتجت إلى مثقال ذرّةٍ من حسناتك لعلّي أنجو بها ممّا ترى. فيقول ولده: يا أبت، ما أيسر ما طلبت! ولكنّي أتخوّف مثل الّذي تتخوّف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئاً. يقول اللّه تعالى: {يوم يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه}.
وفي الحديث الصّحيح في أمر الشّفاعة أنّه إذا طلب إلى كلٍّ من أولي العزم أن يشفع عند اللّه في الخلائق يقول: نفسي نفسي، لا أسأله اليوم إلاّ نفسي. حتّى إنّ عيسى ابن مريم يقول: لا أسأله اليوم إلاّ نفسي لا أسأله مريم التي ولدتني. ولهذا قال تعالى: {يوم يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه}. قال قتادة: الأحبّ فالأحبّ والأقرب فالأقرب من هول ذلك اليوم.
وهؤلاءِ أَخَصُّ القَرَابَةِ وَأَوْلاهُم بالحُنُوِّ والرَّأْفَةِ، فَالْفِرَارُ مِنْهُمْ لا يَكُونُ إِلاَّ لِهَوْلٍ عَظِيمٍ، وَخَطْبٍ فَظِيعٍ وذلكَ لأنَّهُ {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}
-تفسير قوله تعالى: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) ) –ك , س , ش -
أي: هو في شغلٍ، شاغلٌ عن غيره ,يَشْغَلُهُ عَن الأقرباءِ وَيَصْرِفُهُ عَنْهُمْ، وَيَفِرُّ عَنْهُمْ؛ حَذَراً من مُطَالَبَتِهِمْ إِيَّاهُ بِمَا بَيْنَهُمْ؛ وَلِئَلاَّ يَرَوْا مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ قَدْ أشغلتهُ نفسهُ، واهتمَّ لفكاكِهَا، ولمْ يكنْ لهُ التفاتٌ إلى غيرِهَا.
قال ابن أبي حاتمٍ: ، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((تحشرون حفاةً عراةً مشاةً غرلاً)). قال: فقالت زوجته: يا رسول اللّه، أويرى بعضنا عورة بعضٍ؟! قال: (({لكلّ امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يغنيه})). أو قال: ((ما أشغله عن النّظر)).
تفسير قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ) –ك , س , ش -
أي: يكون الناس هنالك فريقين:
سعداءَ وأشقياءَ، فأمَّا السعداءُ، فوجوههم [يومئذٍ] {مُسْفِرَةٌ} أي: مُشْرِقَةٌ مُضِيئَةٌ قدْ ظهرَ فيها السرورُ، والبهجةُ، منْ مَا عرفُوا من نجاتهِمْ، وفوزِهمْ بالنعيمِ.
-تفسير قوله تعالى: (ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) ) –ك-
أي: مسرورةٌ فرحةٌ، من سرور قلوبهم قد ظهر البشر على وجوههم، وهؤلاء أهل الجنّة.
-تفسير قوله تعالى: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) ) –ك , س , ش -
قال ابن أبي حاتمٍ: عن جعفر بن محمّدٍ، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((يلجم الكافر العرق ثمّ تقع الغبرة على وجوههم)) قال: فهو قوله: {ووجوهٌ يومئذٍ عليها غبرةٌ}. أَيْ: غُبَارٌ وَكُدُورَةٌ؛ لِمَا تَرَاهُ مِمَّا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهَا مِنَ الْعَذَابِ.
-تفسير قوله تعالى: (تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) ) –ك , س , ش -
وقال ابن عبّاسٍ: {ترهقها قترةٌ}. أي: يغشاها سواد الوجوه .
فهي سوداءُ مظلمةٌ مدلهمةٌ، قدْ أيستْ مِنْ كلِّ خيرٍ، وعرفَتْ شقَاءَهَا وهلاكَهَا).
-تفسير قوله تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) ) –ك , س , ش -
أي: الكفرة قلوبهم، الفجرة في أعمالهم، أي: الذينَ كفرُوا بنعمةِ اللهِ، وكذبوا بآياتِ اللهِ، وتجرؤوا على محارمِهِ,كما قال: {ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفّاراً}نسألُ اللهَ العفوَ والعافيةَ، إنَّه جوادٌ كريمٌ .