![]() |
تقدمة
قالَ مسلمُ بنُ الحجاجِ بنِ مسلمٍ القشيريُّ النيسابوريُّ (ت: 261هـ): (بسم الله الرحمن الرحيم،
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. أما بعد، فإنك - يرحمك الله - بتوفيق خالقك ذكرت أنك هممت بالفحص عن تعرف جملة الأخبار المأثورة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنن الدين وأحكامه، وما كان منها في الثواب والعقاب، والترغيب والترهيب، وغير ذلك من صنوف الأشياء بالأسانيد التي بها نقلت وتداولها أهل العلم فيما بينهم؛ فأردت - أرشدك الله - أن توقف على جملتها مؤلفة محصاة، وسألتني أن ألخصها لك في التأليف بلا تكرار يكثر؛ فإن ذلك زعمت مما يشغلك عما له قصدت من التفهم فيها والاستنباط منها. وللذي سألت - أكرمك الله - حين رجعت إلى تدبره، وما تؤول به الحال - إن شاء الله - عاقبة محمودة ومنفعة موجودة، وظننت حين سألتني تجشم ذلك أن لو عزم لي عليه وقضي لي تمامه؛ كان أول من يصيبه نفع ذلك إياي خاصة قبل غيري من الناس، لأسباب كثيرة يطول بذكرها الوصف إلا أن جملة ذلك؛ أن ضبط القليل من هذا الشأن وإتقانه أيسر على المرء من معالجة الكثير منه، ولا سيما عند من لا تمييز عنده من العوام إلا بأن يوقفه على التمييز غيره، فإذا كان الأمر في هذا كما وصفنا، فالقصد منه إلى الصحيح القليل أولى بهم من ازدياد السقيم، وإنما يرجى بعض المنفعة في الاستكثار من هذا الشأن وجمع المكررات منه لخاصة من الناس ممن رزق فيه بعض التيقظ والمعرفة بأسبابه وعلله؛ فذلك - إن شاء الله - يهجم بما أوتي من ذلك على الفائدة في الاستكثار من جمعه؛ فأما عوام الناس - الذين هم بخلاف معاني الخاص من أهل التيقظ والمعرفة - فلا معنى لهم في طلب الكثير وقد عجزوا عن معرفة القليل. ثم إنا - إن شاء الله - مبتدئون في تخريج ما سألت وتأليفه على شريطة سوف أذكرها لك؛ وهو إنا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله - صلى الله عنه وسلم-، فنقسمها على ثلاثة أقسام وثلاث طبقات من الناس على غير تكرار، إلى أن يأتي موضع لا يستغنى فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنى، أو إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك؛ لأن المعنى الزائد في الحديث المحتاج إليه يقوم مقام حديث تام، فلا بد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة، أو أن يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن، ولكن تفصيله ربما عسر من جملته فإعادته بهيئته إذا ضاق ذلك أسلم. فأما ما وجدنا بداً من إعادته بجملته من غير حاجة منا إليه فلا نتولى فعله إن شاء الله تعالى. فأما القسم الأول؛ فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها، وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوا، لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد ولا تخليط فاحش، كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين وبان ذلك في حديثهم. فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس؛ أتبعناها أخباراً يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان، كالصنف المقدم قبلهم على أنهم وإن كانوا فيما وصفنا دونهم فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم؛ كعطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم، وأضرابهم من حمال الآثار ونقال الأخبار. فهم وإن كانوا بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين؛ فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان والاستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة؛ لأن هذا عند أهل العلم درجة رفيعة وخصلة سنية. ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة الذين سميناهم عطاء ويزيد وليثاً، بمنصور بن المعتمر وسليمان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد في إتقان الحديث والاستقامة فيه؛ وجدتهم مباينين لهم، لا يدانونهم، لا شكّ عند أهل العلم بالحديث في ذلك؛ للذي استفاض عندهم من صحة حفظ منصور والأعمش وإسماعيل، وإتقانهم لحديثهم، وأنهم لم يعرفوا مثل ذلك من عطاء ويزيد وليث. وفي مثل مجرى هؤلاء إذا وازنت بين الأقران كابن عون وأيوب السختياني، مع عوف بن أبي جميلة وأشعث الحمراني - وهما صاحبا الحسن وابن سيرين كما أن ابن عون وأيوب صاحباهما - إلا أن البون بينهما وبين هاذين بعيد في كمال الفضل وصحة النقل، وإن كان عوف وأشعث غير مدفوعين عن صدق وأمانة عند أهل العلم، ولكن الحال ما وصفنا من المنزلة عند أهل العلم. وإنما مثلنا هؤلاء في التسمية؛ ليكون تمثيلهم سمة يصدر عن فهمها من غبي عليه طريق أهل العلم في ترتيب أهله فيه، فلا يقصر بالرجل العالي القدر عن درجته، ولا يرفع متضع القدر في العلم فوق منزلته، ويعطى كل ذي حق فيه حقه وينزله منزلته. وقد ذكر عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - أنها قالت : (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننزل الناس منازلهم) ، مع ما نطق به القرآن من قول الله تعالى: {وفوق كل ذي علم عليم}. فعلى نحو ما ذكرنا من الوجوه نؤلف ما سألت من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون أو عند الأكثر منهم؛ فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم كعبد الله بن مسور أبي جعفر المدائني، وعمرو بن خالد، وعبد القدوس الشامي، ومحمد بن سعيد المصلوب، وغياث بن إبراهيم، وسليمان بن عمرو أبي داود النخعي، وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحاديث وتوليد الأخبار. وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط أمسكنا أيضا عن حديثهم. وعلامة المنكَر في حديث المحدث؛ إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك؛ كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعمله. فمن هذا الضرب من المحدثين: عبد الله بن محرر، ويحيى بن أبي أنيسة، والجراح بن المنهال أبو العطوف، وعباد بن كثير، وحسين بن عبد الله بن ضميرة، وعمر بن صهبان، ومن نحا نحوهم في رواية المنكر من الحديث، فلسنا نعرج على حديثهم ولا نتشاغل به. لأن حكم أهل العلم والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث؛ أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه قبلت زيادته. فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره؛ فيروى عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث مما لا يعرفه أحد من أصحابهما وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم - فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس، والله أعلم. قد شرحنا من مذهب الحديث وأهله بعض ما يتوجه به من أراد سبيل القوم ووفق لها، وسنزيد - إن شاء الله تعالى - شرحاً وإيضاحاً في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح إن شاء الله تعالى. وبعد - يرحمك الله -؛ فلولا الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثاً فيما يلزمهم من طرح الأحاديث الضعيفة والروايات المنكرة، وتركهم الاقتصار على الأحاديث الصحيحة المشهورة مما نقله الثقات المعروفون بالصدق والأمانة، بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم أن كثيراً مما يقذفون به إلى الأغبياء من الناس هو مستنكر، ومنقول عن قوم غير مرضيين ممن ذم الرواية عنهم أئمة أهل الحديث، مثل: مالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم من الأئمة - لما سهل علينا الانتصاب لما سألت من التمييز والتحصيل. ولكن من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة بالأسانيد الضعاف المجهولة، وقذفهم بها إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها؛ خف على قلوبنا إجابتك إلى ما سألت). [مقدمة صحيح مسلم: 1/3-7] |
شرح مقدمة صحيح مسلم من المعلم بفوائد مسلم
قال عبد الله بن محمد بن علي بن عمر المازري (ت: 536هـ): (قال مسلم في مقدمة كتابه: "لو عزم لي وقضي لي" بتمامه.
لا يظنّ بمسلمٍ أنّه أراد: لو عزم الله لي عليه؛ لأن إرادة الله سبحانه لا تسمّى عزماً، ولعلّه أراد لو سهّل لي سبيل العزم أو خلق فيّ قدرةٌ عليه. ذكر مسلم قوماً مشهورين بالعدل والضبط كمالك وابن عيينة وذكر أن قوماً لا يبلغون إلى رتبتهم في ذلك وإن لم يخرجوا عن كونهم عدولاً مثل عطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد وليث بن أبي سليم. "إن قيل: كيف استجاز هاهنا: أن يقال: فلانٌ أعدل من فلان مع أنه صلّى الله عليه وسلّم قال في الطبيبين: " لولا غيبتهما لأعلمتكما أيهما أطبّ " قيل: دعت الضرورة هاهنا لذكر هذا لأنه موضع تعليم، والحاجة ماسّةٌ إليه، لأن العلماء إذا تعارضت الأخبار قدّموا خبر من كان أعدل وعوّلوا عليه، وأفتوا الناس به، ولم تدع ضرورةٌ إلى ذكر الأطبّ من ذينك الطبيبين كما دعت مسلماً هنا، لا سيما وقد يجوز استرشاد الطبيب الموثوق بعلمه، المرجوّ النفع بمداواته، وإن كان هناك أوسع منه علماً بالطب، ولا يجوز الأخذ برواية الناقص في العدالة وأن يقدّم على رواية الأعدل منه، وقد أجيز التجريح للشهود للضرورة إليه ولم يمنع لكونه غيبةٌ وقال صلّى الله عليه وسلّم فيمن استشير في نكاحه: " إنّه صعلوك "، وقال في الآخر: " إنه لا يضع عصاه عن عاتقه ". ولم ير ذلك غيبة لمّا كان مستشاراً في النكاح ودعت الضرورة إليه، وقد اعتذر صاحب الكتاب عن نفسه في ذلك بأنّ القصد بيان منازلهم اتباعاً لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: " أنزلوا الناس منازلهم " والذي قلناه أبسط. قال مسلم: " فإن عثر فيه " معناه: فإن اطّلع، من قول الله تعالى: {فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا}، يقال: عثرت منه على خيانة، أي اطلعت، وأعثرت غيري أطلعته، قال الله تعالى: {وكذلك أعثرنا عليهم}، أي أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان). [المعلم بفوائد مسلم: 1/270-273] |
شرح مقدمة صحيح مسلم من إكمال المعلم
قال القاضي أبو الفضل عياض اليحصبي (ت: 544هـ): (قال مسلم -رحمه الله- في افتتاح كتابه: " أما بعد فإنّك- يرحمك الله- بتوفيق خالقك ذكرت أنّك هممت بالفحص عن تعرّف جملة الأخبار ": قال القاضي: يحتمل أن يكون دعا له بأن يرحمه الله بتوفيقه وهدايته، فإنها من جملة رحمة الله وفضله، ويحتمل أن يعلق قوله: " بتوفيق خالقك " إمّا إلى ما ذكره، أو هم به من الفحص، والله أعلم. وقد سقط هذا الدعاء عندنا في رواية شيخنا الخشني.
قال مسلم: " لو عزم لي عليه "، قال الإمام: لا يظنّ بمسلمٍ أنّه أراد: لو عزم الله لي عليه؛ لأن إرادة الله لا تسمّى عزماً، ولعلّه أراد لو سهّل لي سبيل العزم أو خلق في قدرةٌ عليه. قال القاضي: قد جاء هذا اللفظ في الكتاب من كلام أمّ سلمة في كتاب الجنائز قالت: " ثمّ عزم الله لي فقلتها ". أصل العزم: القوّة، ويكون بمعنى الصبر، وتوطين النفس وحملها على الشيء، والمعنى متقارب، ومنه قوله عز وجل: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرّسل} وقوله قبل: " سألتني تجشّم ذلك " أي: تكلّفه والتزم مشقته. وقوله: " وذلك إن شاء الله ينهجم بما أوتي من ذلك على الفائدة " ويروى تهجم ومعناها: يقع عليها ويبلغ إليها، وينال بغيته منها، يقال: هجمت على القوم: إذا دخلت عليهم. قال ابن دريد: يقال: انهجم الخباء إذا وقع عليهم وهجمت ما في خلف الناقة: إذا استقصيت حلبه. قال مسلم- رحمه الله-: إنه يقسّم الأحاديث على " ثلاثة أقسام وثلاث طبقات من الناس " إلى آخر كلامه. قد قدمنا قول من قال: إنّه لم يتسع عمره إلا لذكر الطبقة الأولى كما ذكرنا، وذكرنا رأيه في خلافه مما ألهم الله إليه له الحمد، ونحن نذكر الآن أقسام الصحيح على ما رتّبه أئمة أهل الصنعة. فذكر أبو عبد الله محمد بن عبيد الله الحاكم النيسابوري في " المدخل إلى كتاب الإكليل " أنّ الصحيح من الحديث على عشرة أقسام، خمسةٌ متفق عليها، وخمسةٌ مختلفٌ فيها. فالقسم الأوّل من المتفق عليه اختيار البخاري ومسلم، قال: وهو الدرجة الأولى من الصحيح، وفسّره بما قدمناه قبل، قال: والأحاديث المروية بهذه الشريطة لا يبلغ عددها عشرة آلاف حديث. القسم الثاني: مثل الأول، لكن ليس لراويه من الصحابة إلا راوٍ واحد. القسم الثالث: مثل الأول، إلا أن راويه من التابعين ليس له إلا راوٍ واحد. القسم الرابع: الأحاديث الأفراد الغرائب التي رواها الثقات العدول. القسم الخامس: أحاديث جماعة من الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم، ولم تتواتر الرواية عن آبائهم عن أجدادهم بها إلا عنهم كصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، وبهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه، وإياس بن معاوية ابن قرّة عن أبيه عن جدّه، وأجدادهم صحابيون وأحفادهم ثقات. قال الحاكم: فهذه الخمسة الأقسام مخرجة في كتب الأئمة محتجٌّ بها، وإن لم يخرّج منها في الصحيحين حديث. قال القاضي: يريد غير القسم الأول الذي ذكر أنهما شرطاه، وقد وقع لهما أشياء من هذه الأقسام يوقف عليهما في كتابيهما. قال الحاكم: و الخمسة المختلف فيها المراسيل، وأحاديث المدلسين إذا لم يذكروا إسماعهم، وما أسنده ثقةٌ وأرسله جماعة من الثقات غيره، وروايات الثقات غير الحفاظ العارفين، وروايات المبتدعة إذا كانوا صادقين. قال القاضي: فهذه الأقسام الخمسة كما قال مما اختلف في قبولها، والحجة بها الفقهاء والمحدثون، ووقع في الصحيحين منها شيء هو مما استدرك مما ذكرنا وقد ترك الحاكم منها، مما اختلف فيه رواية المجهولين. وقال أبو سليمان الخطابي: الحديث عند أهله على ثلاثة أقسام: صحيحٌ، وحسنٌ، وسقيمٌ، فالصحيح: ما اتصل سنده وعدّلت نقلته، والحسن: ما عرف مخرجه واشتهر رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء، والسقيم على طبقات، شرّها الموضوع، ثم المقلوب، ثم المجهول. وقال أبو عيسى الترمذي: الحسن من الحديث ما ليس في إسناده من يتّهم، وليس بشاذٍ، وروى من غير وجه. وقال أبو علي الغساني: الناقلون سبع طبقات: ثلاث مقبولة، وثلاث متروكة، والسابعة مختلف فيها، فالأولى: أئمة الحديث وحفاظه، وهم الحجة على من خالفهم، ويقبل انفرادهم. الثانية: دونهم في الحفظ والضبط، لحقهم في بعض روايتهم وهمٌ وغلطٌ، والغالب على حديثهم الصحّة، ويصحّح ما وهموا فيه من رواية الطبقة الأولى وهم لاحقون بهم. الثالثة: جنحت إلى مذاهب من الأهواء غير غاليةٍ ولا داعية، وصحّ حديثها، وثبت صدقها، وقلّ وهمها، فهذه الطبقة احتمل أهل الحديث الرواية عنهم، وعلى هذه الطبقات الثلاث يدور نقل الحديث، وإليها أشار مسلم، في صدر كتابه إلى قسمة الحديث على ثلاثة أقسام وثلاث طبقات، فلم يقدّر له إلا الفراغ من الطبقة الأولى واخترمته المنيّة. وثلاث طبقات أسقطهم أهل المعرفة: الأولى: من وسم بالكذب، ووضع الحديث. الثانية: من غلب عليه الوهم والغلط حتى استغرق روايته. الثالثة: من غلت في البدعة، ودعت إليها، وحرّفت الروايات، وزادت فيها ليحتجّوا بها. والسابعة: قوم مجهولون انفردوا بروايات لم يتابعوا عليها، فقبلهم قوم وأوقفهم آخرون. قال القاضي: وتفسير شيخنا أبي علي، لغرض مسلم وتقسيمه أسعد لكلام مسلم من شرح الحاكم، وإن كنّا خالفناهما في التأويل على مسلم كما قدمناه. وأمّا قول الحافظ أبي علي: إنّ حديث أهل البدع الأثبات الذين لا يدعون إلى بدعتهم متفقٌ عليه، فلا يسلّم له، بل قد اختلف في ذلك المحدثون والفقهاء والأصوليون، وسنبين ذلك عند تنبيه مسلم عليه. قال مسلم: " أو أن يفصّل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن ". وهذا الفصل الذي ذكره- أيضاً- اختلف فيه المحدثون والفقهاء والأصوليون في اختصار الحديث والتحديث به على المعنى، وفي الحديث بفصل منه دون كماله، فأجاز هذا كلّه على الجملة قوم- وهو مذهب مسلم- ومنعه على الجملة آخرون- وهو تحري البخاري- ورخص قوم فيما يقع من الكلمات موقع أمثالها كالجلوس عوض القعود والقيام عوض الوقوف وشبهه، دون ما يمكن أن يختلف اختلافاً ما، وخفّف آخرون الحديث على المعنى في غير لفظ الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومنعه في لفظه- عليه السلام- وذكر هذا عن مالك. وذهب المحققون إلى أن الراوي إذا كان ممن يستقلّ بفهم الكلام ومعانيه، ويعرف مقاصده، ويفرق بين الظاهر والأظهر والمحتمل والنّصّ، فجائز لهذا الحديث على المعنى، إذا لم يحتمل عنده سواه، وانفهم له فهماً جلياً معناه. وحكى غير واحد معنى هذا عن مالك وأبي حنيفة والشافعي، وكذلك جوزوا الحديث ببعض الحديث إذا لم يكن مرتبطاً بشيء قبله ولا بعده ارتباطاً يخلّ بمعناه، وكذلك إن جمع الحديث حكمين أو أمرين كلّ واحد مستقلٍ بنفسه غير مرتبط بصاحبه فله الحديث بأحدهما، وعلى هذا كافّة الناس ومذاهب الأئمة، وعليه صنّف المصنفون كتبهم في الحديث على الأبواب، وفصلوا الحديث الواحد أجزاءً بحكمها، واستخرجوا النكت والسنن من الأحاديث الطوال، وهو معنى قول مسلم في هذا الفصل إلى آخر كلامه، وعمله البخاري كثيراً في صحيحه ؛ ولهذا روى الحديث الواحد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بألفاظٍ مختلفة في القصة الواحدة، والمقالة الفذّة، والقضيّة المشهورة من عهد الصحابة فمن بعدهم، لكن لحماية الباب من تسلّط من لا يحسن، وغلط الجهلة في نفوسهم، وظنّهم المعرفة مع القصور، يجبّ سدّ هذا الباب؛ إذ فعل هذا على من لم يبلغ درجة الكمال في معرفة المعاني حرامٌ، باتفاق. وقوله: " فإنّا نتوخى الأخبار ": أي نتحرّى ونقصد، قال الهروي: فلان يتوخّى الحق ويتأخاه، أي يقصده ويتحراه، وتقول العرب: خذ على هذا الوخي، أي: على هذا القصد والصّواب. وقوله: " كما قد عثر فيه " كذا في الأصل وهو الصحيح ومساق الكلام، ووقع في المعلم: " فإن عثر ". قال الإمام أبو عبد الله: معناه: اطّلع، من قول الله تعالى: {فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا}، يقال: عثرت منه على خيانة، أي اطلعت، وأعثرت غيري، أي: أطلعته، قال الله تعالى: {وكذلك أعثرنا عليهم}، أي أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمن. قال: وذكر مسلم قوماً مشهورين بالعدل والضبط كمالك وابن عيينة وذكر أن قوماً لا يبلغون إلى رتبتهم في ذلك وإن لم يخرجوا عن كونهم عدولاً مثل عطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد وليث بن أبي سليم. قال القاضي: رأيت بعض المعقبين قد تتبّع عليه ما حكاه عن مسلم هذا مما ليس قول مسلم، فإن مسلماً لم يذكر في هذا الفصل مالكاً ولا ابن عيينة، وإنما ذكر في القسم الأول أهل الإتقان والاستقامة، وذكر بعدهم صنفاً آخر ذكر أنهم ليسوا موصوفين بالحفظ والإتقان كالصنف الأول، قال: وإن كانت ذواتهم فيما وصفنا، فاسم الستر والصدق وتعاطى العلم يشملهم كعطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم وأضرابهم من حمّال الآثار. هذا لفظه. ثم قال آخر الفصل: ألا ترى أنّك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة بمنصور بن المعتمر وسليمان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد في إتقان الحديث والاستقامة فيه، وجدتهم متباينين، ثم ذكر أسماءً أخر من الطبقتين، ولم يجر لمالك ولا ابن عيينة هنا ذكر، وإنما ذكرهما بعد هذا مع أقرانهم في فصل آخر في ذمّهم. الرواية عن الضعفاء. والعذر عن هذا للإمام رحمه الله أحد وجهين: إما أن يقال: إن المعلق عنه اقتصر على المعنى والمطلوب، ومن الكلام على النكتة، إذ كان المطلوب منهما سؤال الشيخ بعد كيف يستجاز هذا التفصيل والتمييز ولا يعدّ غيبة، والجواب عنه على ما سنذكره من قوله بعد ونزيده وضوحاً إن شاء الله تعالى، أو يكون هو نفسه- رحمه الله- قصد ذلك تمثيلاً لا حكاية للفظ مسلم، إذ لا فرق بين الكلام على الوضع إذا لم يقصد حكاية اللفظ مع اتفاق المعنى، إذ مالك وابن عيينة من تلك الطبقة الرفيعة المتقنة الحافظة بغير خلاف، ومثل هذا مما يتّضح العذر فيه، إذ هو كتاب شرح لا كتاب رواية لفظ. قال الإمام- رحمه الله -: إن قيل: كيف استجاز هنا: أن يقال: فلانٌ أعدل من فلان مع أنه صلّى الله عليه وسلّم قال في الطبيبين: " لولا غيبتهما لأعلمتكم أيهما أطبّ " قيل: دعت الضرورة ها هنا لذكر هذا لأنه موضع تعليم، والحاجة ماسّةٌ إليه، لأن العلماء إذا تعارضت الأخبار قدّموا خبر من كان أعدل وعوّلوا عليه، وأفتوا الناس به ولم تدع ضرورةٌ إلى ذكر الأطبّ من هذين الطبيبين كما دعت مسلماً ها هنا، وقد يجوز استرشاد الطبيب الموثوق بعلمه، المرجوّ النفع بمداواته، وإن كان هناك أوسع منه علماً بالطب، ولا يجوز الأخذ برواية الناقص في العدالة وأن يقدّم على رواية الأعدل منه، وقد أجيز التجريح للشهود للضرورة إليه ولم يمنع لكونه غيبةٌ وقال صلّى الله عليه وسلّم. فيمن استشير في نكاحه: " إنّه صعلوك "، وقال في الآخر: " إنه لا يضع عصاه عن عاتقه ". ولم ير ذلك غيبة لمّا كان مستشاراً في النكاح، ودعت الضرورة إليه، وقد اعتذر صاحب الكتاب عن نفسه في ذلك أنّ القصد بيان منازلهم اتباعاً لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: " أنزلوا الناس منازلهم " والذي قلناه أبسط. قال القاضي- رحمه الله-: حديث: " أنزلوا الناس منازلهم " الذي ذكره مسلم عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يسنده، أسنده أبو بكر البزّار في مسنده، عن ميمون بن أبي شبيب عن عائشة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذكره أبو داود في مصنّفه عن ميمون بن أبي شبيب أيضاً: أن عائشة مرّ بها سائلٌ فأعطته كسرةٌ ومر بها رجل آخر عليه ثيابٌ فأقعدته فأكل، فقيل لها في ذلك، فقالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " أنزلوا الناس منازلهم ". قال البزّار: وهذا الحديث لا يعلم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا من هذا الوجه، وقد روي عن عائشة من غير هذا الوجه موقوفاً. ومعنى الحديث بيّنٌ في إيتاء كل ذي حقٍّ حقّه، وتبليغه منزلته في كل باب، كما احتجّ به مسلم في تطبيق الرواة وتعريف مراتبهم، ومزية بعضهم على بعض إلا ما ساوى الله بينهم فيه من الحدود والحقوق. وقول مسلم في هذا الفصل: " إلا أن البون بينهما وبين هذين بعيد ": أي الفرق، وأنهما لا يقارنان بهما في علمهما وفضلهما. قال صاحب العين: البون مسافة ما بين الشيئين، وهذا مثل قول مسلم في الفصل نفسه: " وجدتهم متباينين لا يدانوهم ". وفي هذا الفصل من قول مسلم " وأضرابهم من حمّال الآثار ". وجه العربيّة فيه وضربائهم، إذ لم يأت جمع فعيل على أفعال في الصحيح إلا في كلمات قليلة. وقوله: " وازيت هؤلاء " ويروى: " وازنت " بالنون ومعناهما قارنت ومثّلت. وقوله: " غبي عليه طريق العلم " أي خفي، قال ابن القوطية: غبي خفي، وأيضاً قلت فطنته. قال ابن دريد: في فلان غبوة وغباوة، أي غفلة وحماقة، وقال الخليل: غبي فهو غبٌّ إذا لم يفطن. وذكر مسلم في أسماء المتّهمين عبد القدوس الشامي رواه العذري بالسين المهملة، وهو خطأ وصوابه بالمعجمة، وهي رواية الجماعة، وذكر فيهم عبد الله بن محرزٍ، كذا سمعناه من جماعة شيوخنا عن شيوخهم الرواة للكتاب بحاء ساكنة مهملة وكسر الراء وآخره زاي، وهو غلط، وصوابه محرّر بفتح الحاء المهملة ورائين مهملتين أولاهما مفتوحةٌ مشدّدة، وكذا البخاري في " تاريخه "، وقيّده الأمير أبو نصر بن ماكولا والحافظ الجياني في كتابيهما، وكذا وقع في روايتنا على الصواب هنا عن الفارسي، وجده فيما سمعته على سفيان بن العاصي عن الشاشي عنه، وكذا سمعناه من جماعة شيوخنا في كتاب مسلم بعد هذا بيسير في حديث عبد الله بن المبارك وذكره له في " الضعفاء " إلا فيما حدثنا به القاضي الشهيد أبو علي عن العبدي فإنه قال فيه: محرّز كما رووه هنا. وذكر مسلم رواية المنكر من الحديث ومن تقبل روايته ومن يطرح. اختلف الناس في الراوي الثقة إذا انفرد بزيادة في الحديث عن سائر رواة شيخه، فذهب معظم الفقهاء والأصوليين والمحدثين إلى قبول زيادته وذهب بعض أصحاب الحديث إلى ردّها، وهو مذهب معظم أصحاب أبي حنيفة، وكذلك جاء اختلافهم متى أسند الحديث واحد وأرسله الباقون، وأكثر المحدثين على ردّ هذا الوجه، والصواب في ذلك كله ما ذهب إليه أهل التحقيق من الفريقين، وأشار إليه مسلم في هذا الفصل من جواز قبوله إذا كان الراوي شارك الثقات في الحفظ والرواية، بخلاف إذا لم يشاركهم ولا وافقهم فيما رووه، ثم انفرد هو برواية الكثير مما لم يرووه عن أشياخهم ولا عرفه أولئك المشاهير من حديثهم فهذا ينكر ولا يقبل، وتستراب جملة حديثه ويترك، لتهمتنا له، إ ما لسوء الحفظ والوهم، أو التساهل، بخلاف الزيادة في الحديث نفسه أو رواية الحديث الواحد من هذا الفن، فإن مثل هذا يقبل منه، لثقته، فإن ظهر فيها وهم لم يقدح في عدالته واحتمل لصحة حديثه واستقامة روايته لغيره، وقد بين مسلم الغرض فيه وأجاد، وحملنا زيادته هذه التي لم نر ما يبطلها ويعارضها على أنه حفظ ما لم يحفظ غيره وضبط ما لم يضبط أصحابه، وعلى هذا ثبت زيادة الشاهد على غيره من الشهداء معه ما لم تكن الشهادتان في صورة المعارضة. وعلى هذا ما ألف أئمة الحديث الغرائب والأفراد من الحديث وعدّوه في الصحيح. فأما متى جاء ما يعارضه وروت الجماعة خلافه فالرجوع إلى قول الجماعة والحفّاظ أولى من باب الترجيح، وهذا أيضاً أصل في الشهادة المتعارضة في مراعاة الأعدل على المشهور. واختلف المذهب في الترجيح فيها بالكثرة. وقوله: " بما يتوجه به من أراد سبيل القوم ": أي يقصد طريقهم ويسلك مذهبهم قال الله تعالى: {إنّي وجّهت وجهي}. وقال: {فأقم وجهك للدّين حنيفًا}: أي قصدك. وقوله: " وسنزيد- إن شاء الله- شرحاً وإيضاحاً عند الأخبار المعللة ": قيل: هذا الكلام الذي وعد به ليس منه شيء في الكتاب، وأنّه مما اخترمته المنيّة قبل جمعه، إذ ما أدخله في كتابه من الصحيح المتفق عليه ليس يحتاج إلى شيء من الكلام عليه لعلو رتبته، وقلة غلط رواته، وحفظهم وإتقانهم، وقد قدمنا الكلام عليه، وأنه قد ذكره في أبوابه. وقوله: " يقذفون به إلى الأغبياء ": أي يلقون ذلك إليهم، قال الله تعالى: {بل نقذف بالحقّ على الباطل}، وقد يكون " يقذفون " بمعنى: يقولون ما لا يعلمون، كما قال تعالى: {ويقذفون بالغيب من مّكانٍ بعيدٍ}. واختلفت روايات شيوخنا في هذا الحرف الآخر، وصوابه: الأغبياء بالغين المعجمة والباء بواحدة تحتها، وهي روايتنا من طريق السمرقندي، ومعناه: الجهلة الأغفال، ويدل عليه قوله آخر الفصل: " وقذفهم بها إلى العوام "). [إكمال المعلم: 1/88-106] |
شرح مقدمة صحيح مسلم من المنهاج
قال أبو زكريّا يحيى بن شرفٍ النّوويّ (ت: 676هـ): (بسم الله الرحمن الرحيم
(قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجّاج رحمه الله تعالى "الحمد لله رب العالمين" ) إنما بدأ بالحمد لله لحديث أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم قال كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع وفي رواية بحمد الله وفي رواية بالحمد فهو أقطع وفي رواية أجذم وفي رواية لا يبدأ فيه بذكر الله وفي رواية ببسم الله الرحمن الرحيم روينا كل هذه في كتاب الأربعين للحافظ عبد القادر الرهاوي سماعا من صاحبه الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن سالم الأنباري عنه وروينا فيه أيضا من رواية كعب بن مالك الصحابي رضي الله عنه والمشهور رواية أبي هريرة وهذا الحديث حسن رواه أبو داود وبن ماجه في سننهما ورواه النسائي في كتابه عمل اليوم والليلة روي موصولا ومرسلا ورواية الموصول إسنادها جيد ومعنى أقطع قليل البركة وكذلك أجذم بالجيم والذال المعجمة ويقال منه جذم بكسر الذال يجذم بفتحها والله أعلم والمختار عند الجماهير من أصحاب التفسير والأصول وغيرهم أن العالم اسم للمخلوقات كلها والله أعلم قال رحمه الله "وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين" هذا الذي فعله من ذكره الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحمدلة هو عادة العلماء رضي الله عنهم وروينا بإسنادنا الصحيح المشهور من رسالة الشافعي عن الشافعي عن بن عيينة عن بن أبي نجيح عن مجاهد رحمه الله في قول الله تعالى ورفعنا لك ذكرك قال لا أذكر إلا ذكرت أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأشهد أنّ محمدا رسول الله وروينا هذا التفسير مرفوعا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن جبريل عن رب العالمين ثم أنه ينكر على مسلم رحمه الله كونه اقتصر على الصّلاة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دون التسليم وقد أمرنا الله تعالى بهما جميعا فقال تعالى صلوا عليه وسلموا تسليما فكان ينبغي أن يقول وصلى الله وسلم على محمد فان قيل فقد جاءت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم غير مقرونة بالتسليم وذلك في آخر التشهد في الصلوات فالجواب أن السلام تقدم قبل الصلاة في كلمات التشهد وهو قوله سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ولهذا قالت الصحابة رضي الله عنهم يا رسول الله قد علمنا السلام عليك فكيف نصلى عليك الحديث وقد نص العلماء رضي الله عنهم على كراهة الاقتصار على الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم من غير تسليم والله اعلم وقد ينكر على مسلم رحمه الله في هذا الكلام شيء آخر وهو قوله وعلى جميع الأنبياء والمرسلين فيقال إذا ذكر الأنبياء لا يبقى لذكر المرسلين وجه لدخولهم في الأنبياء فإن الرسول نبي وزيادة ولكن هذا الإنكار ضعيف ويجاب عنه بجوابين أحدهما أن هذا سائغ وهو أن يذكر العام ثم الخاص بنويها! بشأنه وتعظيما لأمره وتفخيما لحاله وقد جاء في القرآن العزيز آيات كريمات كثيرات من هذا مثل قوله تعالى من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال وقوله تعالى وإذ أخذنا من النّبيّين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغير ذلك من الآيات الكريمات وقد جاء أيضا عكس هذا وهو ذكر العام بعد الخاص قال الله تعالى حكاية عن نوح صلى الله عليه وسلم رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات فان ادعى متكلف أنه عنى بالمؤمنين غير من تقدم ذكره فلا يلتفت إليه الجواب الثاني أن قوله والمرسلين أعم من جهة أخرى وهو أنه يتناول جميع رسل الله سبحانه وتعالى من الآدميين والملائكة قال الله تعالى الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس ولا يسم الملك نبيا فحصل بقوله والمرسلين فائدة لم تكن حاصلة بقوله النبيين والله أعلم وسمى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم محمدا لكثرة خصاله المحمودة كذا قاله بن فارس وغيره من أهل اللغة قالوا ويقال لكل كثير الخصال الجميلة محمد ومحمود والله أعلم قال رحمه الله "ذكرت أنك هممت بالفحص عن تعرف جملة الأخبار المأثورة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في سنن الدين وأحكامه" قال الليث وغيره من أهل اللغة الفحص شدة الطلب والبحث عن الشيء يقال فحصت عن الشيء وتفحصت وافتحصت بمعنى واحد وقوله المأثورة أي المنقولة المذكورة يقال أثرت الحديث إذا نقلته عن غيرك والله أعلم وقوله في سنن الدين وأحكامه هو من قبيل ما قدمناه من ذكر العام بعد الخاص فان السنن من أحكام الدين والله أعلم قال رحمه الله "فأردت أرشدك الله أن توقف على جملتها مؤلفة محصاة وسألتني أن ألخصها لك في التأليف فان ذلك زعمت مما يشغلك" قوله توقف ضبطناه بفتح الواو وتشديد القاف ولو قرئ بإسكان الواو وتخفيف القاف لكان صحيحا وقوله مؤلفة أي مجموعة وقوله محصاة أي مجتمعة كلها وقوله ألخصها أي أبينها وقوله فان ذلك زعمت أي قلت وقد كثر الزعم بمعنى القول وفي الحديث عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم زعم جبريل وفي حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه زعم رسولك وقد أكثر سيبويه في كتابه المشهور من قوله زعم الخليل كذا في أشياء يرتضيها سيبويه فمعنى زعم في كل هذا قال وقوله يشغلك هو بفتح الياء هذه اللغة الفصيحة المشهورة التي جاء بها القرآن العزيز قال الله تعالى سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وفيه لغة رديئة حكاها الجوهري وهي أشغله يشغله بضم الياء قال رحمه الله "وللذي سألت أكرمك الله إلى قوله عاقبة محمودة" فبقوله للذي هو بكسر اللام وهو خبر عاقبة وإنما ضبطه وان كان ظاهرا لأنه مما يغلط فيه ويصحف وقد رأيت ذلك غير مرة قال رحمه الله "وظننت حين سألتني تجشم ذلك أن لو عزم لي عليه وقضى لي تمامه كان أول من يصيبه نفع ذلك إياي" قوله تجشم ذلك أي تكلفه والتزام مشقته وقوله عزم هو بضم العين وهذا اللفظ مما أعتني بشرحه من حيث أنه لا يجوز أن يراد بالعزم هنا حقيقته المتبادرة إلى الإفهام وهو حصول خاطر في الذهن لم يكن فان هذا محال في حق الله تعالى واختلف في المراد به هنا فقيل معناه لو سهل لي سبيل العزم أو خلق في قدرة عليه وقيل العزم هنا بمعنى الإرادة فان القصد والعزم والإرادة والنية متقاربات فيقام بعضها مقام بعض فعلى هذا معناه لو أراد الله ذلك لي وقد نقل الأزهري وجماعة غيره أن العرب تقول نواك الله بحفظه قالوا وتفسيره قصدك الله بحفظه وقيل معناه لو ألزمت ذلك فان العزيمة بمعنى اللزوم ومنه قول أم عطية رضي الله عنه نهينا عن اتّباع الجنائز ولم يعزم علينا أي لم نلزم الترك وفي الحديث الآخر يرغبنا في قيام رمضان من غير عزيمة أي من غير إلزام ومثله قول الفقهاء ترك الصلاة في زمن الحيض عزيمة أي واجب على المرأة لازم لها والله اعلم وقوله كان أول هو برفع أول على أنه اسم كان قال رحمه الله "إلا بأن يوقفه على التمييز غيره" قوله يوقفه بتشديد القاف ولا يصح أن يقرأ هنا بتخفيف القاف بخلاف ما قدمناه في قوله توقف على جملتها لان اللغة الفصيحة المشهورة وقفت فلانا على كذا فلو كان مخففا لكان حقه أن يقال بأن يقفه على التمييز والله أعلم قال رحمه الله "جملة ذلك أن ضبط القليل من هذا الشأن وإتقانه أيسر على المرء من معالجة الكثير" ثم قال بعد هذا "وإنما يرجى بعض المنفعة في الاستكثار من هذا الشأن وجمع المكررات لخاصة من الناس ممن رزق فيه بعض التيقظ والمعرفة بأسبابه وعلله فذلك هو إن شاء الله يهجم بما أوتي على الفائدة" قوله يهجم هو بفتح الياء وكسر الجيم هكذا ضبطناه وهكذا هو في نسخ بلادنا وأصولها وذكر القاضي عياض رحمه الله أنه روى كذا وروى يهجم بنون بعد الياء قاله ومعنى يهجم يقع عليها ويبلغ إليها وينال بغيته منها قال بن دريد انهجم الخباء إذا وقع والله أعلم وحاصل هذا الكلام الذي ذكره مسلم رحمه الله أن المراد من علم الحديث تحقيق معاني المتون وتحقيق علم الإسناد والمعلل والعلة عبارة عن معنى في الحديث خفي يقتضي ضعف الحديث مع أن ظاهرة السلامة منها وتكون العلة تارة في المتن وتارة في الإسناد وليس المراد من هذا العلم مجرد السماع ولا الإسماع ولا الكتابة بل الاعتناء بتحقيقه والبحث عن خفي معاني المتون والإسانيد والفكر في ذلك ودوام الاعتناء به ومراجعة أهل المعرفة به ومطالعة كتب أهل التحقيق فيه وتقييد ما حصل من نفائسه وغيرها فيحفظها الطالب بقلبه ويقيدها بالكتابة ثم يديم مطالعة ما كتبه ويتحرى التحقيق فيما يكتبه ويتثبت فيه فانه فيما بعد ذلك يصير معتمدا عليه ويذاكر بمحفوظاته من ذلك من يشتغل بهذا الفن سواء كان مثله في المرتبة أو فوقه أو تحته فان بالمذاكرة يثبت المحفوظ ويتحرر ويتأكد ويتقرر ويزداد بحسب كثرة المذاكرة ومذاكرة حاذق في الفن ساعة أنفع من المطالعة والحفظ ساعات بل أياما وليكن في مذاكراته متحريا الإنصاف قاصدا الاستفادة أو الإفادة غير مترفع على صاحبه بقلبه ولا بكلامه ولا بغير ذلك من حاله مخاطبا له بالعبارة الجميلة اللينة فبهذا ينمو علمه وتزكو محفوظاته والله أعلم قال رحمه الله "وقد عجزوا عن معرفة القليل" يقال عجز بفتح الجيم يعجز بكسرها هذه هي اللغة الفصيحة المشهورة وبها جاء القرآن العظيم في قوله تعالى يا ويلتى أعجزت ويقال عجز يعجز بكسرها في الماضي وفتحها في المضارع حكاها الأصمعي وغيره والعجز في كلام العرب أن لا تقدر على ما تريد وأنا عاجز وعجز قوله (على شريطة) يعني شرطا قال أهل اللغة الشرط والشريطة لغتان بمعنى واحد وجمع الشرط شروط وجمع الشريطة شرائط وقد شرط عليه كذا يشرطه ويشرطه بكسر الراء وضمها لغتان وكذلك اشترط عليه والله أعلم قوله "نعمد إلى جملة ما أسند من الإخبار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنقسمها على ثلاثة أقسام وثلاث طبقات" قوله جملة ما أسند يعني جملة غالبة ظاهرة وليس المراد جميع الأخبار المسندة فقد علمنا أنه لم يذكر الجميع ولا النصف وقد قال ليس كل حديث صحيح وضعته ها هنا وقوله على ثلاث طبقات الطبقة هم القوم المتشابهون من أهل العصر وقد قدمنا في الفصول الخلاف في مراده بثلاثة أقسام وهل ذكرها كلها أم لا وقوله على غير تكرار إلا أن يأتي موضع لا يستغنى فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنى أو إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك لان معنى الزائد في الحديث المحتاج إليه يقوم مقام حديث تام فلا بد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة أو أن يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن قوله أو إسناد يقع هو مرفوع معطوف على قوله موضع وقوله المحتاج إليه وهو بنصب المحتاج صفة للمعنى وأما الاختصار فهو إيجاد اللفظ مع استيفاء المعنى وقيل رد الكلام الكثير إلى قليل فيه معنى الكثير وسمى اختصارا لاجتماعه ومنه المخصرة وخصر الإنسان وأما قوله "أو أن يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث" فهذه مسألة اختلف العلماء فيها وهي رواية بعض الحديث فمنهم من منعه مطلقا بناء على منع الرواية بالمعنى ومنعه بعضهم وان جازت الرواية بالمعنى إذا لم يكن رواه هو أو غيره بتمامه قبل هذا وجوزه جماعة مطلقا ونسبة القاضي عياض إلى مسلم والصحيح الذي ذهب إليه الجماهير والمحققون من أصحاب الحديث والفقه والأصول التفصيل وجواز ذلك من العارف إذا كان ما تركه غير متعلق بما رواه بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة بتركه سواء جوزنا الرواية بالمعنى أم لا وسواء رواه قبل تاما أم لا هذا إن ارتفعت منزلته عن التهمة فأما من رواه تاما ثم خاف أن رواه ثانيا ناقصا أن يتهم بزيادة أولا أو نسيان لغفلة وقلة ضبط ثانيا فلا يجوز له النقصان ثانيا ولا ابتداء أن كان قد تعين عليه أداؤه وأما تقطيع المصنفين الحديث الواحد في الأبواب فهو بالجواز أولى بل يبعد طرد الخلاف فيه وقد استمر عليه عمل الأئمة الحفاظ الجلة من المحدثين وغيرهم من أصناف العلماء وهذا معنى قول مسلم رحمه الله أو أن يفصل ذلك المعنى إلى آخره وقوله (إذا أمكن) يعنى إذا وجد الشرط الذي ذكرناه على مذهب الجمهور من التفصيل وقوله "ولكن تفصيله ربما عسر من جملته فإعادته بهيئة إذا ضاق ذلك أسلم" معناه ما ذكرنا أنه لا يفصل إلا ما ليس مرتبطا بالباقي وقد يعسر هذا بعض الأحاديث فيكون كله مرتبطا بالباقي أو يشك في ارتباطه ففي هذه الحالة يتعين ذكره بتمامه وهيئته ليكون أسلم مخافة من الخطأ والزلل والله أعلم قال رحمه الله (فأما القسم الأول فانا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوا لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد ولا تخليط فاحش كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين وبان ذلك في حديثهم) أما قوله نتوخى فمعناه نقصد يقال توخى وتأخى وتحرى وقصد بمعنى واحد وأما قوله وأنقى فهو بالنون والقاف وهو معطوف على قوله أسلم وهنا تم الكلام ثم ابتدأ بيان كونها أسلم وأنقى فقال من أن يكون ناقلوها أهل استقامة والظاهر أن لفظة من هنا للتعليل فقد قال الإمام أبو القاسم عبد الواحد بن على بن عمر الأسدي في كتابه شرح اللمع في باب المفعول له اعلم أن الباء تقوم مقام اللام قال الله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وكذلك من قال الله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل وقال أبو البقاء في قوله تعالى وتثبيتا من أنفسهم يجوز أن يكون للتعليل والله أعلم وأما قوله "لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد ولا تخليط فاحش" فتصريح منه بما قال الأئمة من أهل الحديث والفقه والأصول أن ضبط الراوي يعرف بأن تكون روايته غالبا كما روى الثقات لا تخالفهم إلا نادرا فان كانت مخالفته نادرة لم يخل ذلك بضبطه بل يحتج به لأن ذلك لا يمكن الاحتراز منه وان كثرت مخالفته اختل ضبطه ولم يحتج برواياته وكذلك التخليط في روايته واضطرابها إن ندر لم يضر وان كثر ردت روايته وقوله كما قد عثر هو بضم العين وكسر المثلثة أي اطلع من قول الله تعالى فإن عثر على أنهما استحقا أثما والله أعلم قال رحمه الله (فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخبارا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المقدم قبلهم على أنهم وإن كانوا فيما وصفنا دونهم فان اسم الستر والصدق وتعاطى الإخبار يشملهم كعطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد وليث بن أبي سليم وأضرابهم من حمال الآثار ونقال الأخبار) قوله تقصينا هو بالقاف ومعناه أتينا بها كلها يقال اقتص الحديث وقصه وقص الرؤيا أتى بذلك الشيء بكماله وأما قوله فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف أتبعناها إلى آخره فقد قدمنا في الفصول بيان الاختلاف في معناه وانه هل وفى به في هذا الكتاب أم اخترمته المنية دون تمامه والراجح أنه وفى به والله أعلم وقوله فان "اسم الستر "هو بفتح السين مصدر سترت الشيء أستره سترا ويوجد في أكثر الروايات والأصول مضبوطا بكسر السين ويمكن تصحيح هذا على أن الستر يكون بمعنى المستور كالذبح بمعنى المذبوح ونظائره وقوله "يشملهم" أي يعمهم وهو بفتح الميم على اللغة الفصيحة ويجوز ضمها في لغة يقال شملهم الأمر بكسر الميم يشملهم بفتحها هذه اللغة المشهورة وحكى أبو عمر والزاهد عن بن الأعرابي أيضا شملهم بالفتح يشملهم بالضم والله أعلم أما عطاء بن السائب فيكنى أبا السائب ويقال أبو يزيد ويقال أبو محمد ويقال أبو زيد الثقفي الكوفي التابعي وهو ثقة لكنه اختلط في آخر عمره قال أئمة هذا الفن اختلط في آخر عمره فمن سمع منه قديما فهو صحيح السماع ومن سمع منه متأخرا فهو مضطرب الحديث فمن السامعين أولا سفيان الثوري وشعبة ومن السامعين آخرا جرير وخالد بن عبد الله وإسماعيل وعلى بن عاصم هكذا قال أحمد بن حنبل وقال يحيى بن معين جميع ما روى عن عطاء روى عنه في الاختلاط إلا شعبة وسفيان وفي رواية عن يحيى قال وسمع أبو عوانة من عطاء في الصحة والاختلاط جميعا فلا يحتج بحديثه قلت وقد تقدم حكم التخليط والمخلط في الفصول وأما يزيد بن أبي زياد فيقال فيه أيضا يزيد بن زياد وهو قرشي دمشقي قال الحافظ هو ضعيف وقال بن نمير ويحيى بن معين ليس هو بشيء وقال أبو حاتم ضعيف وقال النسائي متروك الحديث وقال الترمذي ضعيف في الحديث وأما ليث بن أبي سليم فضعفه الجماهير قالوا واختلط واضطربت أحاديثه قالوا وهو ممن يكتب حديثه قال أحمد بن حنبل هو مضطرب الحديث ولكن حدث الناس عنه وقال الدارقطني وبن عدي يكتب حديثه وقال كثيرون لا يكتب حديثه وامتنع كثيرون من السلف من كتابة حديثه واسم أبي سليم أيمن وقيل أنس والله أعلم وأما قوله "وأضرابهم " فمعناه أشباههم وهو جمع ضرب قال أهل اللغة الضريب على وزن الكريم والضرب بفتح الضاد وإسكان الراء وهما عبارة عن الشكل والمثل وجمع الضرب أضراب وجمع الضريب ضربا ككريم وكرما وأما إنكار القاضي عياض على مسلم قوله وأضرابهم وقوله أن صوابه ضربائهم فليس بصحيح فانه حمل قول مسلم وأضرابهم على أنه جمع ضريب بالياء وليس ذلك جمع ضريب بل جمع ضرب بحذفها كما ذكرته فاعرفه وقوله ونقال الأخبار هو باللام والله أعلم قال رحمه الله (ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة الذين سميناهم عطاء ويزيد وليثا بمنصور بن المعتمر وسليمان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد إلى آخر كلامه) فقوله وازنت هو بالنون ومعناه قابلت قال القاضي عياض ويروى وازيت بالياء أيضا وهو بمعنى وازنت ثم هذا كله قد ينكر على مسلم فيه ويقال عادة أهل العلم إذا ذكروا جماعة في مثل هذا السياق قدموا أجلهم مرتبة فيقدمون الصحابي على التابعي والتابعي على تابعه والفاضل على من دونه فإذا تقرر هذا فإسماعيل بن أبي خالد تابعي مشهور رأى أنس بن مالك وسلمة بن الأكوع وسمع عبد الله بن أبي أوفى وعمرو بن حريث وقيس بن عائد أبا كاهل وأبا جحيفة وهؤلاء كلهم صحابة رضي الله عنهم واسم أبي خالد هرمز وقيل سعد وقيل كثير وأما الأعمش فرأى أنس بن مالك فحسب وأما منصور بن المعتمر فليس بتابعي وإنما هو من أتباع التابعين فكان ينبغي أن يقول إذا وازنتهم بإسماعيل والأعمش ومنصور وجوابه أنه ليس المراد هنا التنبيه على مراتبهم فلا حجر في عدم ترتيبهم ويحتمل أن مسلما قدم منصورا لرجحانه في ديانته وعبادته فقد كان أرجحهم في ذلك وان كان الثلاثة راجحين على غيرهم مع كمال حفظ لمنصور وإتقان وتثبت قال على بن المديني إذا حدثك ثقة عن منصور فقد ملأت يديك لا تزيد غيره وقال عبد الرحمن بن المهدي منصور أثبت أهل الكوفة وقال سفيان كنت لا أحدث الأعمش عن أحد من أهل الكوفة إلا رده فإذا قلت عن منصور سكت وقال أحمد بن حنبل منصور أثبت من إسماعيل بن أبي خالد وقال يحيى بن معين إذا اجتمع الأعمش ومنصور فقدم منصورا وقال أبو حاتم منصور أتقن من الأعمش لا يختلط ولا يدلس وقال الثوري ما خلفت بالكوفة آمن على الحديث من منصور وقال أبو زرعة سمعت إبراهيم بن موسى يقول أثبت أهل الكوفة منصور ثم مسعر وقال أحمد بن عبد الله منصور أثبت أهل الكوفة وكان مثل القدح لا يختلف فيه أحد وصام ستين سنة وقامها وأما عبادته وزهده وورعه وامتناعه من القضاء حين أكره عليه فأكثر من أن يحصر وأشهر من أن يذكر رحمه الله والله أعلم وهذا أول موضوع في الكتاب جرى فيه ذكر أصحاب الألقاب فنتكلم فيه بقاعدة مختصرة قال العلماء من أصحاب الحديث والفقه وغيرهم يجوز ذكر الراوي بلقبه وصفته ونسبه الذي يكرهه إذا كان المراد تعريفه لا تنقيصه وجوز هذا للحاجة كما جوز جرحهم للحاجة مثال ذلك الأعمش والأعرج والأحول والأعمى والأصم والأشل والأثرم والزمن والمفلوح وبن علية وغير ذلك وقد صنفت فيه كتب معروفة قال رحمه الله (كابن عون وأيوب السختياني مع عوف بن أبي جميلة وأشعث الحمراني) أما بن عون فهو عبد الله بن عون بن أرطبان وأما السختياني فبفتح السين وكسر التاء المثناة قال أبو عمر بن عبد البرّ في التّمهيد كان أيوب يبيع الجلود بالبصرة فلهذا قيل له السختياني وأما عوف بن أبي جميلة فيعرف بعوف الأعرابي ولم يكن أعرابيا واسم أبي جميلة بندويه ويقال زريبة قال أحمد بن حنبل عوف ثقة صالح الحديث وقال يحيى بن معين ومحمد بن سعد هو ثقة كنيته أبو سهل وأما أشعث فهو بن عبد الملك أبو هانئ البصري قال أبو بكر البرقاني قلت للدارقطني أشعث عن الحسن قال هم ثلاثة يحدثون عن الحسن جميعا أحدهم الحمراني منسوب إلى حمران مولى عثمان ثقة وأشعث بن عبد الله الحداني بصري يروى عن أنس بن مالك والحسن يعتبر به وأشعث بن سوار الكوفي يعتبر به وهو أضعفهم والله أعلم قوله (إلا أن البون بينهما بعيد) البون بفتح الباء الموحدة معناه الفرق أي هما متباعدان كما قال وجدتهم متباينين وقوله (ليكون تمثيلهم سمة يصدر عن فهمها من غبي عليه طريق أهل العلم) أما السمة بكسر السين وتخفيف الميم فهي العلامة وقوله يصدر أي يرجع يقال صدر عن الماء والبلاد والحج إذا انصرف عنه بعد قضاء وطره فمعنى يصدر عن فهمها ينصرف عنها بعد فهمها وقضاء حاجته منها وقوله غبي بفتح الغين وكسر الباء أي خفي قال رحمه الله (وقد ذكر عن عائشة رضي اللّه عنها أنّها قالت أمرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن ننزل الناس منازلهم) هذا الحديث قد تقدم بيانه في فصل التعليق من الفصول المتقدمة واضحا ومن فوائده تفاضل الناس في الحقوق على حسب منازلهم ومراتبهم وهذا في بعض الأحكام أو أكثرها وقد سوى الشرع بينهم في الحدود وأشباهها مما هو معروف والله أعلم قال رحمه الله (فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون أو عند الأكثر منهم فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم كعبد الله بن مسور أبي جعفر المدايني وعمرو بن خالد وعبد القدوس الشامي ومحمد بن سعيد المصلوب وغياث بن إبراهيم وسليمان بن عمرو أبي داود النخعي وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحاديث وتوليد الأخبار) هؤلاء الجماعة المذكورون كلهم متهمون متروكون لا يتشاغل بأحد منهم لشدة ضعفهم وشهرتهم بوضع الأحاديث ومسور بكسر الميم وعبد القدوس الشامي بالشين المعجمة نسبة إلى الشام هذا هو الصواب فيه وحكى القاضي عياض أن بعض الشيوخ من رواة مسلم ضبطه بالسين المهملة قال وهو خطأ وهو خطأ كما قال وهذا لا خلاف فيه وهو عبد القدوس بن حبيب الكلاعي الشامي أبو سعيد روى عن عكرمة وعطاء وغيرهما قال بن أبي حاتم قال عمرو بن علي الفلاس أجمع أهل العلم على ترك حديثه فهذا هو عبد القدوس الذي عناه مسلم هنا ولهم آخر اسمه عبد القدوس ثقة وهو عبد القدوس بن الحجاج أبو المغيرة الخولاني الشامي الحمصي سمع صفوان بن عمرو والأوزاعي وغيرهما روى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ومحمد بن يحيى الذهلي وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وآخرون من كبار الأئمة والحفاظ قال أحمد بن عبد الله العجلي والدارقطني وغيرهما هو ثقة وقد روى له البخاري ومسلم في صحيحهما وأما محمد بن سعيد المصلوب فهو الدمشقي كنيته أبو عبد الرحمن ويقال أبو عبد الله ويقال أبو قيس وفي نسبه واسمه اختلاف كثير جدا لا نعلم أحدا اختلف فيه كمثله وقد حكى الحافظ عبد الغني المقدسي عن بعض أصحاب الحديث أنه يغلب اسمه على نحو مائة قال أبو حاتم الرازي متروك الحديث قتل وصلب في الزندقة وقال أحمد بن حنبل قتله أبو جعفر في الزندقة حديثه موضوع وقال خالد بن يزيد سمعته يقول إذا كان كلام حسن لم أر بأسا أن أجعل له إسنادا وأما غياث بن إبراهيم فبالغين المعجمة وهو كوفي كنيته أبو عبد الرحمن قال البخاري في تاريخه تركوه وأما قوله وسليمان بن عمرو أبي داود فهو عمرو بفتح العين وبواو في الخط وأبي داود كنية سليمان هذا والله سبحانه أعلم وأما الحديث الموضوع فهو المختلق المصنوع وربما أخذ الواضع كلاما لغيره فوضعه وجعله حديثا وربما وضع كلاما من عند نفسه وكثير من الموضوعات أو أكثرها يشهد بوضعها ركاكة لفظها واعلم أن تعمد وضع الحديث حرام بإجماع المسلمين الّذين يعتدّ بهم في الإجماع وشذت الكرامية الفرقة المبتدعة فجوزت وضعه في الترغيب والترهيب والزهد وقد سلك مسلكهم بعض الجهلة المتسمين بسمة الزهاد ترغيبا في الخير في زعمهم الباطل وهذه غباوة ظاهرة وجهالة متناهية ويكفي في الرد عليهم قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من كذب عليّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النّار وسنزيد هذا قريبا شرحا في موضعه إن شاء اللّه تعالى وأمّا قوله وتوليد الأخبار فمعناه إنشاؤها وزيادتها قال رحمه الله (وعلامة المنكر في الحديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضى خالفت روايته روايتهم أو لم تكد توافقها) هذا الذي ذكر رحمه الله هو المعنى المنكر عند المحدثين يعني به المنكر المردود فإنهم قد يطلقون المنكر على انفراد الثقة بحديث وهذا ليس بمنكر مردود إذا كان الثقة ضابطا متقنا وقوله أو لم تكد توافقها معناه لا توافقها إلا في قليل قال أهل اللغة كاد موضوعة للمقاربة فان لم يتقدمها نفي كانت لمقاربة الفعل ولم يفعل كقوله تعالى يكاد البرق يخطف أبصارهم وان تقدمها نفى كانت للفعل بعد بطء وان شئت قلت لمقاربة عدم الفعل كقوله تعالى فذبحوها وما كادوا يفعلون قال رحمه الله (فمن هذا الضرب من المحدثين عبد الله بن محرر ويحيى بن أبي أنيسة والجراح بن المنهال أبو العطوف وعباد بن كثير وحسين بن عبد الله بن ضميرة وعمر بن صهبان) أما عبد الله بن محرر فهو بفتح الحاء المهملة وبرائين مهملتين الأولى مفتوحة مشددة هكذا هو وفي روايتنا وفي أصول أهل بلادنا وهذا هو الصواب وكذا ذكره البخاري في تاريخه وأبو نصر بن ماكولا وأبو على الغساني الجياني وآخرون من الحفاظ وذكر القاضي عياض أن جماعة شيوخهم رووه محرزا بإسكان الحاء وكسر الراء وآخره زاي قال وهو غلط والصواب الأول وعبد الله بن محرر عامري جزري رقى ولاه أبو جعفر قضاء الرقة وهو من تابعي التابعين روى عن الحسن وقتادة والزهري ونافع مولى بن عمر وآخرين من التابعين وروى عنه الثوري وجماعات واتفق الحفاظ والمتقدمون على تركه قال أحمد بن حنبل ترك الناس حديثه وقال الآخرون مثله ونحوه وأما أبو أنيسة والد يحيى فاسمه زيد وأما أبو العطوف فبفتح العين وضم الطاء المهملتين والجراح بن منهال هذا جزري يروى عن التابعين سمع الحكم بن عتيبة والزهري يروى عنه يزيد بن هارون قال البخاري وغيره هو منكر الحديث وأما صهبان فهو بضم الصاد المهملة وإسكان الهاء وعمر بن صهبان هذا أسلمي مدني ويقال فيه عمر بن محمد بن صهبان متفق على تركه قال رحمه الله كلاما مختصرا أن زيادة الثقة الضابط مقبولة ورواية الشاذ والمنكر مردودة وهذا الذي قاله الصحيح الذي عليه الجماهير من أصحاب الحديث والفقه والأصول وقد تقدم إيضاح هذه المسألة وبيان الخلاف فيها وما يتعلق بها في الفصول السابقة والله أعلم قوله (قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق) هو هكذا في معظم الأصول الاتفاق بالفاء أولا والقاف آخرا وفى بعضها الإتقان بالقاف أولا والنون آخرا والأول أجود وهو الصواب قوله (فيروى عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث) العدد منصوب يروى قوله (وقد شرحنا من مذهب الحديث وأهله بعض ما يتوجه به من أراد سبيل القوم ووفق لها) معنى يتوجه به يقصد طريقهم ويسلك مذهبهم والسبيل الطريق وهما يؤنثان ويذكران والتوفيق خلق قدرة الطاعة قال رحمه الله (وسنزيد إن شاء الله تعالى شرحا وإيضاحا في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح إن شاء الله تعالى) هذا الذي ذكره مسلم مما اختلف فيه فقيل اخترمته المنية قبل جمعه وقيل بل ذكره في أبوابه من هذا الكتاب الموجود وقد تقدم بيان هذا واضحا في الفصول والله اعلم قوله (مما يقذفون به إلى الأغبياء) أي يلقونه إليهم والأغبياء بالغين المعجمة والباء الموحدة هم الغفلة والجهال والذين لا فطنة لهم قوله (سفيان بن عيينة) هذا أول موضع جاء ذكره رضي الله عنه والمشهور فيه ضم السين والعين وذكر بن السكيت في سفيان ثلاث لغات للعرب ضم السين وفتحها وكسرها وذكر أبو حاتم السختياني وغيره ضم العين وكسرها وهما وجهان لأهل العربية معروفان). [المنهاج: 1/43-59] |
الساعة الآن 02:12 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir