![]() |
الدرس الخامس: تحرير أقوال المفسّرين المختلفة
الدرس الخامس: تحرير أقوال المفسّرين المختلفة تدرّبنا في الدرس السابق على تحرير أقوال المفسّرين المتفقة والمتقاربة، وكيف نصوغ عبارة تعبر عن المعنى الذي يجمعها، وكيف ندلّل على القول، وننسبه إلى من ذكره من المفسّرين.وفي هذا الدرس إن شاء الله سندرس طريقة تحرير الأقوال المتباينة، أي التي يعبر كل قول منها عن معنى مختلف عن القول الآخر. - والأقوال المتباينة قد يصلح حمل التفسير عليها دون تناقض. وذلك كقوله تعالى: ( وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ( 17 )) التكوير. قيل إن "عسعس" بمعنى: أقبل. وقيل إن "عسعس" بمعنى: أدبر. ورغم أن القولين مختلفان بل ظاهرهما التعارض، إلا أنه يمكن حمل المعنى عليهما جميعا، لأن وقت الإقبال مختلف عن وقت الإدبار، فيكون المراد في الآية الإقسام بالليل حال إقباله، وحال إدباره، وكلاهما يصلح للقسم به، ومناسبان للسياق. - وقد لا يصلح حمل الآية إلا على أحد هذه الأقوال فقط نظرا لتعارضها. ومثله قوله تعالى: ( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ( 24 ) ) مريم. ورد في المنادي قولان: الأول: أنه عيسى عليه السلام. الثاني: أنه جبريل عليه السلام. هذان القولان لا يمكن حمل الآية عليهما، لأن المنادي واحد فقط، فإمّا أن يكون عيسى، وإمّا أن يكون جبريل. وننبه إلى أن الترجيح أو الجمع بين الأقوال عمل لا يقوم به طالب التفسير في أول الطلب، لكننا أشرنا إلى هذه الفروق لتسهّل على الطالب فهم كلام المفسّرين عند نقل ترجيحاتهم، وإذا لم يرجّح المفسّر بين الأقوال، فللطالب الاكتفاء بذكرها في تلخيصه دون التعرّض للترجيح. فنضيف حال اختلاف الأقوال إلى الخطوات الأربع التي ذكرناها من قبل وهي ذكر القول ودليله وإسناده خطوة مهمّة جدا وهي: ما يعقب به المفسّر على كل قول من تصحيح أو تضعيف ونحو ذلك. |
المثال الأول المراد بالرجع في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)} الطارق. اقتباس:
- حاصل الأقوال الواردة في المراد بالرجع أربعة أقوال: المطر، والسحاب، والشمس والقمر والنجوم، ثم الأقدار والشؤون الإلهية. - سنختصر الخطوات التي كنا نفصلها سابقا، فننسب الأقوال مباشرة، ونلحق بكل قول حجته. ● الأقوال الواردة في المراد بالرجع في قوله تعالى: (والسماء ذات الرجع) ورد في المراد بالرجع أربعة أقوال: القول الأول: المطر، وهو قول ابن عباس، وقتادة. ذكر ذلك عنهم ابن كثير، وذكر هذا القول كذلك السعديّ والأشقر. لأنه يرجع ويجيء ويتكرر، وهذا حاصل كلامهم. القول الثاني: السّحاب فيه المطر، وهو مروي أيضا عن ابن عباس، ذكره ابن كثير. القول الثالث: النجوم والشمس والقمر، وهو قول ابن زيد، كما ذكر ابن كثير. وذلك لأنها تظهر مرة بعد مرة. القول الرابع: الأقدار والشؤون الإلهية، ذكره السعديّ. وذلك لأن السماء ترجع بها كل وقت. |
المثال الثاني المراد بالحسنى في قوله تعالى: (وصدّق بالحسنى(6)) الليل. اقتباس:
- الأقوال الواردة في المراد بالحسنى: الأول: المجازاة على العطاء، قاله قتادة. الثاني: الثواب، قاله خصيفٌ. الثالث: الخلف، قاله ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وعكرمة، وأبو صالحٍ، وزيد بن أسلم. الرابع: ما أنعم الله به على العبد، وهو رواية أخرى عن عكرمة. الخامس: لا إله إلا الله، قاله أبو عبد الرحمن السّلميّ والضّحّاك. السادس: الصلاة والزكاة والصوم، وهو رواية عن زيد بن أسلم، وزاد في رواية أخرى قال: وصدقة الفطر. السابع: الجنة، وهو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا صفوان بن صالحٍ الدّمشقيّ، حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، حدّثنا زهير بن محمّدٍ، حدّثني من سمع أبا العالية الرّياحيّ يحدّث عن أبيّ بن كعبٍ، قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الحسنى، قال: ((الحسنى الجنّة)). - إسناد الأقوال: تمّ في الخطوة السابقة. - عدد الأقوال الأوليّة: سبعة أقوال. - بيان نوع الأقوال من حيث الاتفاق والتباين: بين بعضها تقارب، وبين بعضها تباين، نلاحظ أن الأقوال السبعة يمكن اختصارها في ثلاثة أقوال فقط: فالأقوال الأربعة الأولى متقاربة، إذ أنها تشير إلى معنى المجازاة على الإنفاق، فيجمع بينها في قول. والقولان الخامس والسادس أشارا إلى العبادات المأمور بها، فيجمعا في قول. أما القول السابع يفصل. ويكون عندنا في المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: أن المراد بالحسنى الخَلَف من الله، والمجازاة على الإنفاق، ونيل الثواب. القول الثاني: أن المراد بها الأعمال الصالحة من توحيد الله وغيره من العبادات. القول الثالث: أن المراد بها الجنة خاصّة.[1] - تنبيه مهم: عند الاستشهاد بحديث نبوي، أو أثر عن الصحابة أو التابعين يختصر سند الحديث، ولا يساق كاملا، كما في المثال التالي: اقتباس:
* ويذكر من رواه من أهل الحديث (ابن أبي حاتم). * وينسب للمفسّر الذي استخلصت منه القول (ابن كثير). ويكون اختصار الحديث الذي يُستدلّ به عند تحرير المسألة كالتالي: ((عن أبيّ بن كعبٍ، قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الحسنى، قال: ((الحسنى الجنّة)) رواه ابن أبي حاتم، وذكره ابن كثير في تفسيره. - والخطوة النهائية كما تعودنا تكون كالتالي: ● المراد بالحسنى في قوله تعالى: (وصدق بالحسنى). ورد في المراد بالحسنى ثلاثة أقوال: الأول: أن المراد بالحسنى الخَلَف من الله والمجازاة على الإنفاق ونيل الثواب، وهو حاصل كلام ابن عبّاس، ومجاهد، وقتادة، وعكرمة، وأبي صالحٍ، وزيد بن أسلم، وخصيف. ذكر هذه الأقوال ابن كثير. الثاني: أن المراد بها الأعمال الصالحة من توحيد الله وغيره من العبادات كالصّلاة والصوم والزكاة، وهو حاصل كلام زيد بن أسلم، وأبي عبد الرحمن السُّلمي، والضحاك. كما ذكر ذلك عنهم ابن كثير. القول الثالث: أن المراد بها الجنة خاصّة، وهو تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال فيما رواه عنه أبيّ بن كعب، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره: (سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الحسنى، قال: ((الحسنى الجنّة))، ذكر ذلك ابن كثير. _________________ [1] قد فرّقنا بين القول الأول والثالث رغم أن الجنة داخلة في المجازاة ، لأن الثواب قد يشمل ما ينعم الله به على العبد في الدنيا إضافة إلى ثواب الآخرة، فبينهما فارق. |
المثال الثالث متعلّق العطاء في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)} الليل. اقتباس:
- الأقوال الواردة: القول الأول: ما أمر بإخراجه القول الثاني: ما أُمرَ بهِ مِنَ العباداتِ الماليةِ،كالزكواتِ، والكفاراتِ، والنفقاتِ، والصدقاتِ، والإنفاقِ في وجوهِ الخيرِ، والعباداتِ البدنيةِ كالصلاةِ، والصومِ وغيرهمَا، والمركّبةِ منهمَا، كالحجِّ والعمرةِ. القول الثالث: المال المنفق في وجوه الخير. - عدد الأقوال: ثلاثة. - الأدلة: - إسناد الأقوال: القول الأول: ابن كثير القول الثاني: ذكره السعديّ. القول الثالث: ذكره الأشقر. - نوع الأقوال من حيث الاتفاق والتباين: بين بعضها اتفاق وبين بعضها تباين. كما ترون فإن ابن كثير فسّر متعلّق العطاء بالمأمور به من النفقات المالية والأمر قد يكون للوجوب أو الاستحباب، فكلام ابن كثير يشمل النفقات الواجبة والمستحبة. والأشقر فسّره بالإنفاق المالي شاملا جميع وجوه الخير أي ما كان فرضا أو نفلا. أما السعدي فجعل العطاء شاملا للعبادات المالية والبدنية. فقولا ابن كثير والأشقر متفقان، وقول السعديّ مختلف عنهما. ● متعلّق العطاء في قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى) ورد فيه قولان: الأول: أنه المأمور به من النفقات المالية فرضا كانت أو نفلا، وهو حاصل ما ذكره ابن كثير والأشقر. الثاني: أنه المأمور به من النفقات المالية والعبادات البدنية فريضة كانت أو نافلة، ذكره السعدي. |
المثال الرابع المراد بالشفق في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)} اقتباس:
- ورد في المراد بالشفق ثمانية أقوال، وعقّب ابن كثير على بعضها، وهذا مهم جدا كما أشرنا من قبل، أن نضيف إلى القول ما يعقب به المفسّر عليه من تصحيح أو تضعيف أو نحو ذلك. ● المراد بالشفق في قوله تعالى: (فلا أقسم بالشفق) القول الرابع: أنه حمرة الأفق قبل طلوع الشّمس، قاله مجاهدٌ.قد أورد ابن كثير في معناه أقوالا عن السلف. القول الأول: أنه الحمرة. روي عن عليٍّ وابن عبّاسٍ وعبادة بن الصّامت وأبي هريرة وشدّاد بن أوسٍ وابن عمر ومحمّد بن عليّ بن الحسين ومكحولٍ وبكر بن عبد اللّه المزنيّ وبكير بن الأشجّ ومالكٍ وابن أبي ذئبٍ وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون. القول الثاني: أنه البياض، وهو مروي عن أبي هريرة. القول الثالث: أنه اسم للبياض والحمرة فهو من الأضداد، قال ذلك ابن جرير وآخرون. القول الخامس: أنه حمرة الأفق بعد غروب الشمس، وهذا القول كما ذكره ابن كثير ذكره السعدي والأشقر. القول السادس: أنه النّهار كلّه، وهو رواية أخرى عن مجاهد. القول السابع: أنه الشّمس، وهو رواية ثالثة عن مجاهد، رواهما ابن أبي حاتمٍ. قال ابن كثير: وإنّما حمله (أي مجاهد) على هذا قرنه بقوله تعالى: {واللّيل وما وسق} فكأنه أقسم بالضياء والظلام). ورجح ابن كثير القول الخامس: أن الشفق هو حمرة الأفق التي تكون بعد غروب الشمس، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عنه عبد اللّه بن عمرٍو، قال: ((وقت المغرب ما لم يغب الشّفق)). رواه مسلم. وكذا قال عكرمة، وهو المعروف عند أهل اللغة كالخليل بن أحمد والجوهري، ذكره ابن كثير. |
تنبيهات وإرشادات - يعتنى جيدا بالأقوال التي يوردها المفسّر عن السلف، ومن قبلها بالطبع تفسير القرآن أو التفسير النبوي للآيات محلّ الدراسة. - يراعى ترتيب الأدلة فتقدّم الآيات، ثم الأحاديث، ثم آثار الصحابة، ثم آثار السلف. - يعتنى جيدا بالتعقيبات التي يذكرها المفسّر على كل قول. تم الدرس، والحمد لله رب العالمين. |
الساعة الآن 10:49 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir