معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد

معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد (http://afaqattaiseer.net/vb/index.php)
-   كتاب التوحيد (http://afaqattaiseer.net/vb/forumdisplay.php?f=32)
-   -   باب قول الله تعالى: {أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} (http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=128)

حفيدة بني عامر 26 شوال 1429هـ/26-10-2008م 12:35 PM

باب قول الله تعالى: {أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}
 
بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى
{أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأمَنْ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}[الأَعْرَافُ:99].
وَقَوْلِهِ: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ}[الْحِجْرُ:56].
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ فَقَالَ: ((الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ)).
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ) رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ الأَعْرَافِ.

الثَّانِيَةُ:
تَفْسِيرُ آيَةِ الْحِجْرِ.

الثَّالِثَةُ:


شِدَّةُ الْوَعِيدِ فِيمَنْ أَمِنَ مَكْرَ اللهِ.
الرَّابِعَةُ: شِدَّةُ الْوَعِيدِ فِي الْقُنُوطِ.

حفيدة بني عامر 28 شوال 1429هـ/28-10-2008م 01:48 AM

تيسيرالعزيز الحميد لفضيلة الشيخ:سليمان بن عبدالله
 
(1)
المرادُ بِهذه التَّرْجمةِ التَّنبيهُ على الجَمْعِ بينَ الرَّجاءِ والخَوْفِ،
ولذلك ذَكَرَ بعدَ هذه الآيةِ قَولَهُ تَعالى: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّلُّونَ}[الحجر:56].

هذا هو مَقامُ الأنبياءِ والصِّدِّيقِينَ
كما قالَ تعالى: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[الإسراء:57]. فابْتِغاءُ الوَسيلةِ إليهِ هو التَّقَرُّبُ بِحُبِّهِ وطاعتِه، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجاءَ والخَوْفَ وهذه أَرْكانُ الإيمانِ.
- وقالَ تعالى:
{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}[الأنبياء:90].
- وقالَ تعالى عن إِبْراهِيمَ عليهِ السَّلامُ: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}[الأنعام:80].
- وقالَ عن شعيبٍ: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا}[الأعراف:88].
فَوَكَلا الأَمْرَ إلى مالِكِه، وقالَ تعالى عن الملائكةِ عليهم السَّلامُ:
{يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50].
وقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنِّي لأَعْلَمُكُمْ بِاللهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً)).
وكُلَّما قَوِيَ إيمانُ العبدِ ويَقِينُه قَوِيَ خَوْفُه ورَجاؤُه مُطْلَقًا.

-
قالَ اللهُ تَعالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر:28].

-
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (59) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (.6) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون:58-61].
قَالَتْ
عَائِشَةُ: (يَا رَسولَ اللهِ، هُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَخَافُ أَنْ يُعَاقَبَ؟)

قَالَ:
((لا، يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، هُوَ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لا يُقْبَلَ مِنْهُ))رَوَاه الإمامُ أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وابنُ جَرِيرٍ وابنُ أَبِي حاتِمٍ والحاكمُ وصحَّحَهُ.
قال
ابنُ القَيِّمِ: (الخَوْفُ مِنْ أَجَلِّ مَنازِلِ الطَّرِيقِ، وخَوْفُ الخاصَّةِ أَعْظَمُ من خَوْفِ العامَّةِ، وهُم إليهِ أَحْوَجُ، وهُمْ به أَلْيَقُ وله أَلْزَمُ، فإنَّ العَبْدَ إمَّا أَنْ يَكونَ مُسْتَقِيمًا، أو مائِلاً عن الاسْتِقامةِ، فإن كانَ مائلاً عن الاستقامةِ فخَوْفُه مِن العقوبةِ على مَيْلِه، ولا يَصِحُّ الإيمانُ إلاَّ بِهَذَا الخَوْفِ، وهو يَنْشَأُ من ثلاثةِ أمورٍ:

أحدُها:
مَعْرِفتُه بالجِنايَةِ وقُبْحِها.

والثَّاني:
تَصْدِيقُ الوَعِيدِ، وأَنَّ اللهَ رَتَّبَ على المَعْصِيةِ عُقوبتَها.

الثَّالثُ:
أنَّهُ لا يَعْلَمُ أنَّهُ يُمْنَعُ مِن التَّوْبةِ، ويُحالُ بينَهُ وبينَها إذا ارْتَكَبَ الذَّنْبَ.
فبهذه الأُمورِ الثلاثةِ يَتِمُّ له الخَوْفُ، وسببُ قوَّتِها وضَعْفِها يَكونُ قوَّةَ الخَوْفِ وضَعْفَه، هذا قَبْلَ الذَّنْبِ، فإذا عَمِلَه كان خوفُه أَشَدَّ.
وبالجُمْلةِ فمن اسْتَقَرَّ في قلبِهِ ذِكْرُ الدَّارِ الآخِرةِ وجَزائِها، وذِكْرُ المَعْصيةِ والتَّوَعُّدِ عليها، وعَدَمِ الوُقوفِ بإِتْيانِهِ بالتَّوبةِ النَّصُوحِ، هاجَ مِن قلبِه مِن الخوفِ ما لا يَمْلِكُه، ولا يُفارِقُه حتَّى يَنْجُوَ.
وأمَّا إنْ كانَ مُسْتَقِيمًا معَ اللهِ، فخَوْفُه يَكونُ مِن جَرَيانِ الأَنْفاسِ لعِلْمِهِ بأنَّ اللهَ مُقَلِّبُ القلوبِ، وما مِن قلبٍ إلاَّ وهو بينَ إِصْبَعَيْنِ مِن أَصابعِ الرَّحمنِ - عَزَّ وجَلَّ - فإن شَاءَ أَنْ يُقِيمَه أَقامَه، وإنْ شَاءَ أن يُزِيغَهُ أَزاغَهُ، كما ثَبَتَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانَتْ أَكْثَرَ يَمِينِه
((لا وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ)).
ويَكْفِي في هذا قولُه تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24].
فأيُّ قَرارٍ لِمَنْ هذه حالُه ومَنْ أَحَقُّ بالخوفِ منه، بل خوفُه لازِمٌ له في كلِّ حالٍ، وإن تَوَارَى عنه بغَلَبةِ حالٍ أُخْرَى عليه.
فالخوفُ حَشْوُ قلبِه، ولكنْ تَوَارَى عنه بغَلَبةِ غيرِه، فوُجودُ الشَّيْءِ غيرُ العِلْمِ به، فالخَوْفُ الأوَّلُ ثَمَرةُ العِلْمِ بالوَعْدِ والوَعِيدِ، وهذا الخوفُ ثَمَرةُ العِلْمِ بقُدْرةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ وعِزَّتِه وجَلالِهِ، وأنّهُ الفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وأنَّهُ المُحَرِّكُ لِلقلبِ المُصَرِّفُ له كيفَ يَشاءُ، لا إلهَ إلاَّ اللهُ هو العَزِيزُ الحَكِيمُ)
انْتَهَى.

فهذا الخَوْفُ الثاني:
هو مِن خوفِ المَكْرِ،
إذا عَلِمْتَ هذا، فمعنى الآيةِ المُتَرْجَمِ لها أنَّ اللهَ تَبارَكَ وتعالى لَمَّا ذَكَرَ حالَ أَهْلِ القُرَى المُكَذِّبِينَ لِلرُّسلِ، بيَّنَ أنَّ الذي حَمَلَهُم على ذلكَ هو الأَمْنُ مِن عَذابِ اللهِ، وعَدَمُ الخَوْفِ منه، كما قال: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (96) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ}[الأعراف:96،97] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذلك بِسَبَبِ الجَهْلِ والغِرَّةِ باللهِ، فأَمِنُوا مَكْرَهُ فيما ابْتَلاهُم بهِ مِن السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، بأَنْ يَكونَ اسْتِدْراجًا، فقالَ: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}[الأعراف: 98] أي: الهالِكُون.
فدَلَّ على وُجوبِ الخَوْفِ مِن مَكْرِ اللهِ.
قالَ
الحَسَنُ: (مَن وُسِّعَ عليه فلم يَرَ أنَّهُ يُمْكَرُ به فلا رَأيَ له، ومَن قُتِرَ عليه فلم يَرَ أنَّه يُنْظَرُ له فلا رَأْيَ له).
وقال
قَتادةُ: (بَغَتَ القومَ أَمْرُ اللهِ، وما أَخَذَ اللهُ قومًا قَطُّ إلاَّ عند سَلْوَتِهم وغِرَّتِهم ونِعْمَتِهم، فلا تَغْتَرُّوا بِاللهِ إنَّه لا يَغْتَرُّ به إلاَّ القومُ الفاسِقون) رَوَاهُما ابنُ أَبِي حاتِمٍ.

وفي الحديثِ:
((إِذَا رَأيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ))رَواهُ أحمدُ، وابنُ جَرِيرٍ، وابنُ أَبِي حاتمٍ.
وقال
إِسْماعِيلُ بنُ رافِعٍ: (مِن الأَمْنِ مِن مَكْرِ اللهِ إِقامةُ العبدِ على الذَّنبِ يَتَمَنَّى على اللهِ المَغْفِرةَ) رَوَاه ابنُ أَبِي حاتمٍ.

قال: (وقولُهُ:
{وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ}[الحجر: 56])، نَبَّهَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بهذهِ الآيةِ على الجَمْعِ بينَ الرَّجاءِ والخوفِ، فإذا خافَ فلا يَقْنَطُ من رحمةِ اللهِ، بل يَرْجُوها مع العَمَلِ الصالِحِ.
كما قال تَعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[البقرة: 218].
فذَكَرَ سبحانَهُ أنَّهم يَرْجُونَ رحمةَ اللهِ مع الاجْتِهادِ في الأعمالِ الصالحةِ، فأمَّا الرَّجاءُ معَ الإِصْرارِ على المَعاصِي، فذاكَ مِن غُرورِ الشَّيطانِ.
إذا تَبَيَّنَ ذلك، فقولُهُ تعالى:
{وَمَن يَقْنَطُ} حِكايةُ قولِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لَمَّا بَشَّرَتْهُ الملائكةُ بوَلَدِهِ إِسْحاقَ عليهِ السَّلامُ، فقالَ: {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}[الحجر: 54].
اسْتِبْعادًا لوُقوعِ هذا في العادةِ معَ كِبَرِ السِّنِّ منه ومِن زَوْجتِه
{قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ}[الحجر: 55] أي: الذي لا رَيْبَ فيه ولا مَثْنَوِيَّةَ، بل هو أَمْرُ الذي {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[يس: 82].
وإنْ بَعُدَ مثلُه في العادةِ التي أَجْراها فإنَّ ذلك عليه يَسِيرٌ إذا أَرَادَهُ، فلا تَكُنْ مِن القانِطِينَ، أي: لا تَيْأَسْ مِن رحمةِ اللهِ، قالَ
إبراهيمُ عليه السَّلام: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ}[الحجر: 56] فأَجابَهم بأنّهُ ليس بقانطٍ، ولكنْ يَرْجُو مِن اللهِ الوَلَدَ، وإن كانَ قد كَبِرَ، وأَسَنَّت امرأتُه، فإنَّه يَعْلَمُ مِن قُدْرةِ اللهِ ورحمتِهِ ما هو أَبْلَغُ مِن ذلك.
قال
السُّدِّيُّ: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ} قال: (مَن يَيْأَسُ مِن رحمةِ ربِّهِ) رَوَاه ابنُ أَبِي حاتمٍ. {إِلاَّ الضَّالُّونَ} قالَ بعضُهم: إلاَّ المُخْطِئونَ طَرِيقَ الصَّوَابِ، أو الكافِرون، كقولِهِ: {لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف: 87] وفي حديثٍ مَرْفوعٍ: ((الْعَاجِزُ الرَّاجِي لِرَحْمَةِ اللهِ أَقْرَبُ مِنْهَا مِنَ العَابِدِ القَانِطِ)) رَوَاه الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ والحاكِمُ في (تاريخِهِ).

(2)
هذا الحديثُ رَواهُ
البَزَّارُ وابنُ أَبِي حاتمٍ من طريقِ شَبِيبِ بنِ بِشْرٍ، عن عِكْرِمةَ، عن ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَّكِئًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: مَا الكَبَائِرُ؟
فَقَالَ:
((الشِّرْكُ بِالله...))
وذَكَرَ الحديثَ.
ورِجالُه ثِقاتٌ إلاَّ
شَبِيبَ بنَ بِشْرٍ فَقَالَ ابنُ مَعِينٍ: (ثِقَةٌ، ولَيَّنَهُ ابنُ أَبِي حاتمٍ) ومثلُ هذا يَكونُ حَسَنًا.
وقال
ابنُ كَثِيرٍ: (في إسنادِهِ نَظَرٌ، والأَشْبَهُ أن يَكونَ مَوْقوفًا).
قولُهُ:
((الشِّرْكُ بِاللهِ)) هو أَكْبَرُ الكَبائرِ؛ إذ مَضْمونُه تَنْقِيصُ رَبِّ العالَمِين وإلَهِهم ومالِكِهم وخالِقِهم الذي لا إلهَ إلاَّ هو، وعَدْلُ غيرِه به، كما قالَ: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام: 1] فهو أَظْلَمُ الظُّلْمِ، وأَقْبَحُ القَبِيحِ، ولِهذا لا يُغفَرُ إنْ لم يُتَبْ منه، بِخِلافِ غيرِه مِن الذُّنوبِ، ففي مَشِيئةِ اللهِ إنْ شَاءَ غَفَرَها، وإن شَاءَ عَذَّبَ بها.
قولُهُ:
((واليَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ)) أي: قَطْعُ الرَّجاءِ والأملِ مِن اللهِ فيما يَرُومُه ويَقْصِدُه، قالَ تعالى: {وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف: 87]. وذلك إِساءةُ ظَنٍّ بِكَرَمِ اللهِ ورَحمتِه وجُودِه ومَغْفِرتِه.
قولُهُ:
((وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ)) أي: مِن اسْتِدْراجِهِ لِلعَبْدِ أو سَلْبِهِ ما أَعْطاهُ مِن الإيمانِ - نَعُوذُ باللهِ منْ غَضَبِه - وذلكَ جَهْلٌ باللهِ وبقُدْرتِه، وثِقةٌ بالنَّفْسِ وعُجْبٌ بها.
واعْلَمْ أنَّ هذا الحديثَ لم يُرِدْ فيه حَصْرَ الكَبائرِ فيما ذُكِرَ، بل الكَبائرُ كَثِيرةٌ، لكنْ ذَكَرَ ما هو أَكْبَرُها، أو مِنْ أَكْبَرِها، ولِهَذَا قالَ
ابنُ عَبَّاسٍ: (هي إلى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ منها إلى السَّبْعِ) رَوَاه ابنُ جَرِيرٍ، وابنُ أَبِي حاتمٍ.

- وفي رِواية:
(هي إلى سَبْعِمائةٍ أَقْرَبُ منها إلى سَبْعٍ) غيرَ أنَّهُ لا كَبِيرةَ مع اسْتِغْفارٍ، ولا صَغِيرةَ مع إِصْرارٍ.

(3)
هذا الأَثَرُ رَواهُ
ابنُ جَرِيرٍ بأَسانِيدَ صِحاحٍ عن ابنِ مَسْعُودٍ، قال ابنُ كَثِيرٍ: (وهو صحيحٌ إليه بلا شَكٍّ) ورَوَاه الطَّبَرانِيُّ أيضًا.
قولُهُ:
((أَكْبَرُ الكبائرِ: الإشراكُ باللهِ)) أي: في رُبوبيَّتِه أو عِبادتِه وهذا بالإجماعِ.
قولُهُ:
((والقنوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ)) قال أَبُو السَّعاداتِ: (هو أَشَدُّ اليَأْسِ من الشَّيْءِ).

قُلْتُ:
فعَلَى هذا يَكونُ الفَرْقُ بينَهُ وبينَ اليَأْسِ كالفَرْقِ بينَ الاسْتِغاثةِ والدُّعاءِ، فَيَكونُ القُنوطُ مِن اليَأْسِ، وظاهرُ القرآنِ أنَّ اليَأْسَ أَشَدُّ؛ لأنَّهُ حَكَمَ لأَِهْلِهِ بالكُفْرِ، ولأَِهْلِ القُنوطِ بالضَّلالِ.

وفيه التَّنْبيهُ على الجمعِ بينَ الرَّجاءِ والخوفِ،
فإذا خافَ فلا يَقْنَطُ ولا يَيْأَسُ، وكان السَّلَفُ يَسْتَحِبُّون أَنْ يَقْوَى في الصِّحَّةِ الخوفُ، وفي المَرَضِ الرَّجاءُ، هذه طريقةُ أَبِي سُلَيْمانَ وغيرِه.
قال:
(ويَنْبَغِي لِلقَلْبِ أَنْ يَكُونَ الغالِبَ عليه الخوفُ، فإذا كان الغالِبَ عليه الرَّجاءُ فَسَدَ، فنَسْأَلُ اللهَ تَعالى أن يَرْزُقَنا خَشْيَتَهُ في الغَيْبِ والشَّهادةِ، إنَّه على كلِّ شيءٍ قَدِيرٌ).


حفيدة بني عامر 28 شوال 1429هـ/28-10-2008م 01:51 AM

فتح المجيد لفضيلة الشيخ:عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ
 
(1)
قالَ
المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ قولِ اللهِ تَعَالَى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}[الأعراف:99]).
قَصَدَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى بهذهِ الآيةِ التَّنْبِيهَ على أنَّ الأمنَ مِنْ مكرِ اللهِ مِنْ أَعْظَمِ الذنوبِ، وأنَّهُ يُنَافِي كمالَ التوحيدِ، كَمَا أنَّ القنوطَ مِنْ رحمةِ اللهِ كَذَلِكَ، وذلكَ يُرْشِدُ إلى أنَّ المؤمنَ يَسِيرُ إلى اللهِ بينَ الخوفِ والرجاءِ، كما دَلَّ على ذلكَ الكتابُ والسُّنَّةُ، وَأَرْشَدَ إليهِ السلَفُ والأَئِمَّةُ.

ومَعْنَى الآيةِ: أنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى
لَمَّا ذَكَرَ حالَ أهلِ القُرَى المُكَذِّبِينَ للرُّسُلِ بَيَّنَ أنَّ الذي حَمَلَهُم على ذلكَ هوَ الأمنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ وعَدَمُ الخوفِ منهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}[الأعراف:97-99] أي: الهَالِكُونَ: وذلكَ أنَّهُم أَمِنُوا مَكْرَ اللهِ لَمَّا اسْتَدْرَجَهُم بِالسَّرَّاءِ والنَّعيمِ، فَاسْتَبْعَدُوا أنْ يكونَ ذلكَ مَكْرًا.
قالَ
الحسنُ: (مَنْ وَسَّعَ اللهُ عليهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يُمْكَرُ بهِ فَلاَ رَأْيَ لهُ).
وقالَ
قَتَادَةُ: ( بَغَتَ القومَ أَمْرُ اللهِ، وما أَخَذَ اللهُ قَوْمًا قَطُّ إلاَّ عِنْدَ نِعْمَتِهِم وسَلْوَتِهِم وغِرَّتِهِم، فَلاَ تَغْتَرُّوا باللهِ ).
وفي الحديثِ:
((إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي العَبْدَ مِنَ الدُّنيا عَلَى مَعَاصِيهِ ما يُحِبُّ، فَإِنَّما هُوَ اسْتِدْراجٌ))رَوَاهُ أحمدُ، وابنُ جَرِيرٍ، وابنُ أَبِي حَاتِمٍ.

وقالَ
إسماعيلُ بنُ رافعٍ: ( مِنَ الأمنِ مِنْ مَكْرِ اللهِ: إقامةُ العبدِ على الذنبِ، يَتَمَنَّى على اللهِ المَغْفِرَةَ )رَوَاهُ ابنُ أبي حاتمٍ.

وهذا هوَ تَفْسِيرُ المَكْرِ في قولِ بعضِ السَّلَفِ:
( يَسْتَدْرِجُهُم اللهُ بالنِّعَمِ إذا عَصَوْهُ، ويُمْلِي لهم، ثمَّ يَأْخُذُهُم أَخْذَ عزيزٍ مُقْتَدِرٍ ) وهذا هوَ مَعْنَى المكرِ والخَدِيعَةِ ونحو ذلك، ذَكَرَهُ ابنُ جريرٍ بِمَعْنَاهُ.

(2)
قالَ
المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَن يَقْنَطُ مِنْ رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ}[الحجر:56]) القُنُوطُ:استبعادُ الفَرَجِ واليَأْسُ منهُ، وهو يُقَابِلُ الأمنَ منْ مَكْرِ اللهِ، وكِلاَهُمَا ذنبٌ عظيمٌ، وَتَقَدَّمَ ما فيهِ لِمُنَافَاتِهِ لكمالِ التوحيدِ.
وذَكَرَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ هذهِ الآيةَ معَ التي قَبْلَهَا؛ تَنْبِيهًا على أنَّهُ لا يَجُوزُ لِمَنْ خَافَ اللهَ أنْ يَقْنَطَ منْ رَحْمَتِهِ، بلْ يكونُ خَائِفًا رَاجِيًا، يَخَافُ ذُنُوبَهُ، وَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللهِ، وَيَرْجُو رَحْمَتَهُ، كما قَالَ تَعَالَى:
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9].
- قالَ تعالَى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[البقرة: 218] فالرجاءُ معَ المعصيةِ وَتَرْكِ الطاعةِ غُرُورٌ من الشيطانِ، لِيُوقِعَ العبدَ في المخاوفِ معَ تَرْكِ الأسبابِ المُنْجِيَةِ من المَهَالِكِ، بِخِلاَفِ حالِ أهلِ الإيمانِ الذينَ أَخَذُوا بأسبابِ النَّجَاةِ؛ خَوْفًا من اللهِ، وَهَرَبًا منْ عِقَابِهِ، وَطَمَعًا في المَغْفِرَةِ، والرجاءَ لثَوَابِهِ.
والمعنَى أنَّ اللهَ تَعَالَى حَكَى قولَ خَلِيلِهِ
إبراهيمَ عليهِ السلامُ، لَمَّا بَشَّرَتْهُ الملائكةُ بِابْنِهِ إسحاقَ: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}[الحجر: 54]؛ لأنَّ العادةَ أنَّ الرجلَ إذا كَبِرَ سِنُّهُ وَسِنُّ زَوْجَتِهِ اسْتَبَعَدَ أنْ يُولَدَ لهُ منها، واللهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، فَقَالَت الملائكةُ: {بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} الذي لا رَيْبَ فيهِ؛ فإنَّ اللهَ إذا أَرَادَ شَيْئًا فإِنَّمَا يقولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ: {فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ} أيْ: مِن الآيِسِينَ، فقالَ عليهِ السلامُ: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ}.
فإنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ قدرةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ ما هوَ أَبْلَغُ منْ ذلكَ وَأَعْظَمُ؛ لكنَّهُ - واللهُ أَعْلَمُ
- قالَ ذلكَ على وجهِ التَّعَجُّبِ.
قولُهُ:
{إِلاَّ الضَّالُّونَ} قالَ بَعْضُهُم: إلاَّ المُخْطِئُونَ طَريقَ الصوابِ، أوْ إلاَّ الكافرونَ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف:87].

(3)
قالَ
المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَن ابنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الكَبَائِرِ فَقَالَ: ((الشِّرْكُ بِاللهِ، وَاليَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ))).

هذا الحديثُ رَوَاهُ
البَزَّارُ، وابنُ أبي حاتمٍ منْ طريقِ شَبِيبِ بنِ بِشْرٍ، عنْ عِكْرِمَةَ، عن ابنِ عَبَّاسٍ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إلاَّ شَبِيبَ بنَ بِشْرٍ.
فقالَ
ابنُ مَعِينٍ: (ثِقَةٌ، ولَيَّنَهُ أبو حاتمٍ).

وَقالَ
ابنُ كثيرٍ: (في إسنادِهِ نَظَرٌ، وَالأَشْبَهُ أنْ يكونَ مَوْقُوفًا).
قولُهُ:
((الشِّرْكُ بِاللهِ)) هوَ أكبرُ الكبائر، قالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: (الشِّرْكُ باللهِ هَضْمٌ للرُّبُوبِيَّةِ، وَتَنَقُّصٌ للإلهيَّةِ، وسوءُ ظَنٍّ بِرَبِّ العالمِينَ) انْتَهَى.
ولَقَدْ صَدَقَ وَنَصَحَ، قَالَ تَعَالَى
{ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام:1] .
وقَالَ تَعَالَى:
{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لُقْمَان:13]، ولهذا لاَ يَغْفِرُهُ اللهُ إلاَّ بالتوبةِ مِنْهُ.
قولُهُ:
((وَاليَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ)) أيْ: قَطْعُ الرجاءِ والأَمَلِ من اللهِ فيما يَخَافُهُ ويَرْجُوهُ، وذلكَ إساءةُ ظَنٍّ باللهِ، وجَهْلٌ بهِ وبِسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَجُودِهِ ومَغْفِرَتِهِ.
قولُهُ:
((وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ)) أيْ: من اسْتِدْرَاجِهِ للعبدِ، وسَلْبِهِ ما أَعْطَاهُ من الإيمانِ، نَعُوذُ باللهِ منْ ذلكَ، وذلكَ جَهْلٌ باللهِ وَبِقُدْرَتِهِ، وَثِقَةٌ بالنفسِ وعُجْبٌ بها.
واعْلَمْ أنَّ هذا الحديثَ لم يُرَدْ بهِ حَصْرُ الكبائرِ في الثلاثِ، بل الكبائرُ كثيرةٌ، وهذهِ الثلاثُ منْ أَكْبَرِ الكبائرِ المذكورةِ في الكتابِ والسُّنَّةِ، وَضَابِطُهَا مَا قَالَهُ المُحَقِّقُونَ من العلماءِ: كلُّ ذنبٍ خَتَمَهُ اللهُ بنارٍ أوْ لَعْنَةٍ أوْ غَضَبٍ أوْ عذابٍ، زَادَ شيخُ الإسلامِ
ابنُ تَيْمِيَّةَ(أوْ نَفْيِ الإيمانِ).
قُلْتُ: ومَنْ بَرِئَ منهُ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أوْ قالَ: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا)).
وعن
ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: ( هِيَ إلى سَبْعِمِائَةٍ أَقْرَبُ منها إلى سَبْعٍ، غيرَ أنَّهُ لا كَبِيرَةَ معَ الاستغفارِ، ولا صغيرةَ معَ الإصرارِ).

(4)
قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابنِ مسعودٍ قالَ:
(أَكْبَرُ الكبائِرِ: الإشراكُ باللهِ، والأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ، والقُنُوطُ مِنْ رَحمةِ اللهِ، واليَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ) رَوَاهُ عبدُ الرَّزَّاقِ، وَرَوَاهُ ابنُ جَرِيرٍ بأسانيدَ صِحَاحٍ عن ابنِ مَسْعُودٍ.

قولُهُ:
((أَكْبَرُ الكبائِرِ: الإِشْرَاكُ باللهِ)) أيْ: في رُبُوبِيَّتِهِ أوْ عِبَادَتِهِ. وهذا بالإجماعِ.
قولُهُ:
((وَالقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ)) قال أبو السَّعَادَاتِ: (هوَ أَشَدُّ اليَأْسِ).

وفيهِ:
التَّنْبِيهُ على الرجاءِ والخوفِ،
فإذا خافَ فلا يَقْنَطُ ولا يَيْأَسُ، بلْ يَرْجُو رحمةَ اللهِ،
وكانَ السَّلَفُ يَسْتَحِبُّونَ أنْ يَقْوَى في الصِّحَّةِ الخَوْفُ، وفي المَرَضِ الرجاءُ، وهذهِ طريقةُ
أبي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ وغيرِهِ.
قالَ: وَيَنْبَغِي للقلبِ أنْ يكونَ الغالبُ عليهِ الخوفَ، فإذا غَلَبَ الرجاءُ الخَوْفَ فَسَدَ القلبُ، قَالَ تَعَالَى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}[الملك:12].
- وقالَ:
{يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}[النور:37].
- وقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَـئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}[المؤمنونَ:60،61].

- وقَالَ تَعَالَى: {أَمَّن هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ}الآيةَ [الزمر:9]، قُدِّمَ الحَذَرُ على الرجاءِ في هذهِ الآيةِ.

حفيدة بني عامر 28 شوال 1429هـ/28-10-2008م 01:53 AM

القول السديد لفضيلة الشيخ : عبدالرحمن السعدي
 
(1)
{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ}
مقصودُ الترجمةِ: أنه يجبُ على العبدِ أن يكونَ خائفًا من اللهِ، راجيًا له راغبًا راهبًا، إن نظَرَ إلى ذنوبِه وَعَدْلِ اللهِ وشدةِ عقابِه خشِيَ ربَّه وخافَه، وإن نظرَ إلى فَضْلِهِ العامِّ والخاصِّ وَعَفْوِهِ الشاملِ رجَا وطمِعَ، إن وُفِّقَ لطاعةٍ رجَا من ربِّه تمامَ النعمةِ بقَبولِها وخاف مِن ردِّها بتقصيرِه في حقِّها، وإن ابْتُلِيَ بمعصيةٍ رجَا من ربِّه قَبولَ توبتِه ومحوَها، وخشِيَ بسببِ ضعفِ التوبةِ والالتفاتِ للذنبِ أن يُعَاقَبَ عليها، وعندَ النِّعَمِ واليسارِ يرجو اللهَ دوامَها والزيادةَ منها والتوفيقَ لشكرِها، ويخْشَى بإخلالِه بالشكرِ من سَلْبِها.

وعندَ المكارِه والمصائبِ يرجو اللهَ دفعَهَا ويَنْتَظِرُ الفرَجَ بحلِّها،
ويرجو أيضًا أن يُثيبَه اللهُ عليها حينَ يقومُ بوظيفةِ الصبرِ ويخشَى من اجتماعِ المصيبتيْن فواتَ الأجرِ المحبوبِ، وحصولَ الأمرِ المكروهِ إذا لم يُوَفَّقْ للقيامِ بالصبرِ الواجبِ، فالمؤمنُ المُوَحِّدُ في كلِّ أحوالِه ملازمٌ للخوفِ والرجاءِ، وهذا هو الواجبُ وهو النافعُ، وبه تَحْصُلُ السعادةُ، ويُخْشَى على العبدِ من خُلُقَيْنِ رَذِيلَيْنِ:

أحدُهما: أن يستوليَ عليه الخوفُ حتى يَقْنَطَ من رحمةِ اللهِ وَرَوْحِهِ.
الثاني: أن يتجارى به الرجاءُ حتى يأمنَ مكرَ اللهِ وعقوبَتَه، فمتى بلغتْ به الحالُ إلى هذا فقد ضَيَّعَ واجبَ الخوفِ والرجاءِ اللَّذيْن هما من أكبرِ أصولِ التوحيدِ وواجباتِ الإِيمانِ.

وللقُنوطِ من رحمةِ اللهِ واليأسِ من رَوْحِه سببان محذوران:
أحدُهما: أنْ يُسْرِفَ العبدُ على نفسِه ويَتَجَرَّأَ على المحارمِ فَيُصِرَّ عليها، ويصمِّمَ على الإِقامةِ على المعصيةِ، ويقطعَ طمعَه من رحمةِ اللهِ؛ لأجلِ أنه مقيمٌ على الأسبابِ التي تمنعُ الرحمةَ، فلا يزالُ كذلك حتى يصيرَ له هذا وَصْفًا وخُلُقًا لازمًا، وهذا غايةُ ما يريدُه الشيطانُ من العبدِ، ومتى وصَلَ إلى هذا الحدِّ لم يُرْجَ له خيرٌ إلا بتوبةٍ نصوحٍ وإقلاعٍ قويٍّ.
الثاني: أن يَقْوَى خوفُ العبدِ بما جنتْ يداه من الجرائمِ، ويَضْعُفَ علمُه بما للهِ من واسعِ الرحمةِ والمغفرةِ، ويظنَّ بجهلِه أن اللهَ لا يغفرُ له ولا يرحمُه ولو تاب وأناب، وتضعُفَ إرادتُه فييأسَ من الرحمةِ، وهذا من المحاذيرِ الضارةِ الناشئةِ من ضَعْفِ علمِ العبدِ بربِّه، وَمَا لَهُ مِن الحقوقِ، ومن ضعفِ النفسِ وعجزِها ومهانتِها.
فلو عرَفَ هذا ربَّه ولم يخلُدْ إلى الكسلِ لَعَلِمَ أن أدنى سَعْيٍ يوصِلُه إلى ربِّه وإلى رحمتِه وجُودِه وكرمِه.

وللأمنِ من مكرِ اللهِ أيضًا سببان مُهْلكان:
أحدُهما: إعراضُ العبدِ عن الدِّينِ وغفلتُه عن معرفةِ ربِّه وَمَا لَهُ من الحقوقِ، وتهاوُنُهُ بذلك، فلا يزالُ معُرِضًا غافلاً مُقَصِّرًا عن الواجباتِ، مُنْهَمِكًا في المحرَّماتِ، حتى يَضْمَحِلَّ خوفُ اللهِ من قلبِه ولا يبقَى في قلبِه من الإِيمانِ شيءٌ؛ لأن الإِيمانَ يَحْمِلُ على خوفِ اللهِ وخوفِ عقابِه الدنيويِّ والأخرويِّ.
السببُ الثاني: أن يكونَ العبدُ عابدًا جاهلاً مُعْجَبًا بنفسِه مغرورًا بعَمَلِه، فلا يزالُ به جهلُه حتى يُدِلَّ بعملِه ويزولَ الخوفُ عنه، ويرى أن له عندَ اللهِ المقاماتِ العاليةَ فيصيرَ آمنًا من مكرِ الله مُتَّكِلاً على نفسِه الضعيفةِ المهينةِ، ومن هنا يُخذَلُ ويُحالُ بينَه وبينَ التوفيقِ، إذ هو الذي جنى على نفسِه.فبهذا التفصيلِ تُعْرَفُ منافاةُ هذه الأمورِ للتوحيدِ.


حفيدة بني عامر 28 شوال 1429هـ/28-10-2008م 01:56 AM

تهذيب القول المفيد لفضيلة الشيخ:صالح بن عبدالله العصيمي
 
(1)
هذا البابُ يشتملُ على موضوعيْنِ:

الأوَّلُ:
الأمنُ منْ مكْرِ اللهِ.

والثاني:
القُنُوطُ منْ رحمةِ اللهِ، وكِلاهُما طَرَفَا نقيضٍ.

واستدلَّ المُؤَلِّفُ للأوَّلِ بقوْلِهِ تعالى:
{أَفَأَمِنُوا} الضميرُ يعودُ على أهلِ القُرى؛ لأنَّ ما قبلَها قولُهُ تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوْ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} فقولُهُ: {وَهُمْ نَائِمُونَ} يدلُّ على كمالِ الأمنِ؛ لأنَّهُمْ في بلادِهِمْ، وأنَّ الخائفَ لا ينَامُ.
وقولُهُ:
{ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} يدلُّ أيضًا على كمالِ الأمنِ والرخاءِ وعدمِ الضيقِ؛ لأنَّهُ لوْ كانَ عندَهُم ضيقٌ في العيشِ لذَهَبُوا يطلبونَ الرزقَ والعيشَ، وما صارُوا في الضُّحَى، في رابعةِ النهارِ، يلْعَبُونَ.
والاستفهاماتُ هنا كلُّها للإنكارِ والتعَجُّبِ منْ حالِ هؤلاءِ، فهُمْ نائمونَ في رَغَدٍ، ومُقِيمونَ على معاصي اللهِ وعلى اللهْوِ، ذَاكِرُونَ لِتَرَفِهِمْ، غافلونَ عنْ ذِكْرِ خالقِهِم، فهُمْ في الليلِ نُوَّمٌ، وفي النهارِ لُعَّبٌ.
فبَيَّنَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّ هذا منْ مَكْرِهِ بهِمْ؛ ولهذا قالَ:
{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ} ثمَّ خَتَمَ الآيَةَ بقولِهِ: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}.
فالَّذِي يَمُنُّ اللهُ عليهِ بالنِّعَمِ والرَّغَدِ والتَّرَفِ، وهوَ مقيمٌ على معصيتِهِ يَظُنُّ أنهُ رابحٌ وهوَ في الحقيقةِ خاسرٌ.
فإذا أنعمَ اللهُ عليكَ منْ كلِّ ناحيَةٍ؛ أطعمَكَ مِنْ جوعٍ، وآمنَكَ منْ خوفٍ، وكساكَ منْ عُرْيٍ، فلا تظُنَّ أنَّكَ رابحٌ وأنتَ مقيمٌ على معصيِة اللهِ، بلْ أنتَ خاسرٌ؛ فإنَّ هذا منْ مكرِ اللهِ بكَ.
قولُهُ:
{إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} الاستثناءُ للحصرِ؛ وذلكَ لأنَّ ما قَبْلَهُ مُفَرَّغٌ لَهُ، فالقومُ: فاعلٌ، والخاسرونَ: صِفَتُهُمْ.
وفي قولِهِ تعالى:
{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ} دليلٌ على أنَّ للهِ مكرًا.

والمكرُ هوَ:
التوصُّلُ إلى الإيقاعِ بالخصمِ مِنْ حيثُ لا يَشْعُرُ، ومنهُ ما جاءَ في الحديثِ: ((الْحَرْبُ خَدْعَةٌ)).
فإنْ
قيلَ: كيفَ يُوصَفُ اللهُ بالمكرِ معَ أنَّ ظاهرَهُ مذمومٌ؟

قيلَ:
إنَّ المكرَ في مَحَلِّهِ محمودٌ يدُلُّ على قُوَّةِ الماكرِ،
وأنَّهُ غالبٌ على خَصْمِهِ؛ ولذلكَ لا يُوصَفُ اللهُ بهِ على الإطلاقِ، فلا يَجُوزُ أنْ تقولَ: إنَّ اللهَ مَاكِرٌ، وإنَّما تذْكُرُ هذهِ الصفةَ في مَقَامٍ تكونُ فيهِ مدْحًا، مثلِ قولِهِ تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ}.

-
وقالَ تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}.
ومثلِ قولِهِ تعالى:
{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ} ولا تُنْفَى عنهُ هذهِ الصفةُ على سبيلِ الإطلاقِ، بلْ إنَّها في المَقَامِ التي تكونُ مدْحًا يُوصَفُ بها، وفي المَقَامِ التي لا تكونُ مدحًا لا يُوصَفُ بها، وكذلكَ لا يُسَمَّى اللهُ بها، فلا يُقالُ: إنَّ منْ أسماءِ اللهِ الماكرَ.

وأمَّا الخِيَانَةُ: فلا يُوصَفُ اللهُ بها مُطْلَقًا؛
لأنَّها ذمٌّ بكلِّ حالٍ؛ إذْ إنَّها مَكْرٌ في موضِعِ الائْتِمَانِ، وهوَ مذمومٌ، قالَ تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} ولمْ يقُلْ فَخَانَهُم.

وأمَّا الخِدَاعُ:
فهوَ كالمَكْرِ يُوصَفُ اللهُ بهِ حيثُ يكونُ مدْحًا؛ لقوْلِهِ تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} والمكرُ من الصفاتِ الفعليَّةِ؛ لأنَّها تتعَلَّقُ بمشيئةِ اللهِ سبحانَهُ.

ويُستفادُ منْ هذهِ الآيَةِ فائدتان عظيمتان:
الأولى:
الحَذَرُ مِن النِّعَمِ التي يَجْلِبُها اللهُ للعبدِ؛
لِئَلاَّ تكونَ استِدْرَاجًا؛ لأنَّ كلَّ نعمةٍ فَلِلَّهِ عليكَ وظيفةُ شُكْرِهَا، وهيَ القيامُ بطاعةِ المُنْعِمِ، فإذا لمْ تَقُمْ بها معَ تَوَافُرِ النِّعَمِ فاعْلَمْ أنَّ هذا مِنْ مَكْرِ اللهِ.

الثانية:
تحريمُ الأمْنِ مِنْ مَكْرِ اللهِ، وذلكَ لِوَجْهَيْنِ:

الأوَّلُ:
أنَّ الجملةَ بصيغةِ الاستفهامِ
الدَّالِّ على الإنكارِ والتعجُّبِ.

الثاني:
قولُهُ تعالى: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}.

(2)
الموضوعُ الثاني:
الذي اشتملَ عليهِ هذا البابُ: القُنُوطُ منْ رحمةِ اللهِ، واستدلَّ المُؤَلِّفُ لهُ بقوْلِهِ تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ}.
قوله:
{مَنْ} اسمُ استفهامٍ؛ لأنَّ الفعلَ بعدَها مرفوعٌ، ثمَّ إنَّها لمْ يكُنْ لها جوابٌ.

والقُنُوطُ
: أَشَدُّ اليأسِ؛ لأنَّ الإنسانَ يَقْنَطُ ويُبْعِدُ الرجاءَ والأملَ بحيثُ يسْتَبْعِدُ حُصُولَ مطلوبِهِ، أوْ كَشْفَ مكروبِهِ.
قولُهُ:
{مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ} هذهِ رحمةٌ مضافةٌ إلى الفاعلِ، ومفعولُها محذوفٌ، والتقديرُ: (مِنْ رحمةِ ربِّهِ إيَّاهُ).
قولُهُ:
{إِلاَّ الضَّالُّونَ}، {إلاَّ} أداةُ حَصْرٍ؛ لأنَّ الاستفهامَ في قولِهِ: {وَمَنْ يَقْنَطُ} مُرادٌ بهِ النفي، و{الضَّالُّونَ} فاعلُ {يَقْنَطُ} والمعنى: لا يَقْنَطُ مِنْ رحمةِ اللهِ إلاَّ الضَّالُّونَ.

والضَّالُّ:
هو فاقدُ الهدايَةِ التَّائِهُ الذي لا يدري ما يجبُ للهِ سبحانَهُ معَ أنَّهُ سُبْحَانَهُ قريبُ الغِيَرِ.

وأمَّا معنى الآيَةِ: فإنَّ
إبراهيمَ عليهِ السلامُ لمَّا بشَّرَتْهُ الملائكةُ بغُلامٍ عليمٍ، قالَ لهُم: {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} فالقُنُوطُ مِنْ رحمةِ اللهِ لا يجُوزُ؛ لأنَّهُ سُوءُ ظَنٍّ باللهِ عزَّ وجلَّ، وذلكَ مِنْ وجهَيْنِ:

الأوَّلُ:
أنَّهُ طَعْنٌ في قُدْرَتِهِ سبحانَهُ؛
لأنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ اللهَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ لمْ يَسْتَبْعِدْ شيئًا على قُدْرَةِ اللهِ.

الثاني:
أنَّهُ طَعْنٌ في رَحْمَتِهِ سبحانَهُ؛
لأنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ اللهَ رحيمٌ لا يَسْتَبْعِدُ أنْ يَرْحَمَهُ اللهُ سبحانَهُ؛ ولهذا كانَ القانِطُ مِنْ رحمةِ اللهِ ضَالاًّ.
ولا ينبغي للإنسانِ إذا وقعَ في كُرْبةٍ أنْ يستَبْعِدَ حصولَ مطلوبِهِ، أوْ كَشْفَ مكروبِهِ، وكمْ مِنْ إنسانٍ وقعَ في كُرْبَةٍ وظنَّ أنْ لا نجاةَ منها فَنَجَّاهُ اللهُ سبحانَهُ.

-
إمَّا: بعملٍ صالحٍ سابقٍ، مِثْلَمَا وقعَ ليُونُسَ عليهِ السلامُ، قالَ تعالى: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.

-
أوْ بعملٍ لاحقٍ، وذلكَ كدُعاءِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يومَ بَدْرٍ وليلةَ الأحزابِ، وكذلكَ أصحابُ الغَارِ.
وتبيَّنَ ممَّا سبقَ أنَّ المُؤَلِّفَ رَحِمَهُ اللهُ أرادَ أنْ يجمعَ الإنسانُ في سَيْرِهِ إلى اللهِ تعالى بينَ الخوفِ فلا يَأْمَنُ مكرَ اللهِ، وبينَ الرجاءِ فلا يَقْنَطُ منْ رحمتِهِ.

فالأمنُ مِنْ مكرِ اللهِ ثَلْمٌ في جانبِ الخوفِ،
والقُنُوطُ منْ رحمتِهِ ثَلْمٌ في جانبِ الرجاءِ.
قال في
(تيسير العزيز الحميد) ص514: (وكان السلف يستحبون أن يقوي في الصحة الخوف، وفي المرض الرجاء، وينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا كان الغالب عليه الرجاء فسد) .

(3)
قولُهُ في حديثِ
ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنْهُما: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ سُئِلَ عن الكبائرِ)) جمعُ كبيرةٍ، والمرادُ بها: كبائرُ الذنوبِ، وهذا السؤالُ يدُلُّ على أنَّ الذنوبَ تنْقَسِمُ إلى: صغائرَ، وكبائرَ، وقدْ دَلَّ على ذلكَ القرآنُ، قالَ تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}.
- وقالَ تعالى:
{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} والكبائرُ ليْسَتْ على درجةٍ واحدةٍ، فبعضُها أكبرُ مِنْ بعضٍ.

واختلفَ العلماءُ هلْ هيَ معدودةٌ أوْ محدودةٌ؟
فقالَ بعضُ أهلِ العلمِ:
إنَّها معدودةٌ، وصارَ يُعَدِّدُها وَيَتَتَبَّعُ النصوصَ الواردةَ في ذلكَ.

وقيلَ:
إنَّها محدودةٌ،
وقدْ حدَّها شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ فقالَ: (كُلُّ ما رُتِّبَ عليهِ عقوبةٌ خاصَّةٌ، سواءٌ كانتْ في الدُّنيا أو الآخِرَةِ، وسواءٌ كانتْ بِفَوَاتِ مجلوبٍ، أوْ بحُصُولِ مكروهٍ) وهذا واسعٌ جدًّا يشملُ ذنوبًا كثيرةً.
ووَجْهُ ما قالَهُ:
أنَّ المعاصيَ قسمانِ:

-
قسمٌ نُهِيَ عنْهُ فقطْ:
ولمْ يُذْكَرْ عليهِ وعيدٌ، فعقوبةُ هذا تأتي بالمعنى العامِّ للعقوباتِ.
وهذهِ المعصيَةُ مُكَفَّرَةٌ بفعلِ الطاعاتِ، كقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
((الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ)).
وكذلكَ ما وَرَدَ في العُمْرَةِ إلى العُمرةِ والوُضوءِ منْ تكفيِر الخطايا، فهذهِ من الصغائرِ.
- وقِسْمٌ رُتِّبَ عليهِ عقوبةٌ خاصَّةٌ:

-
كاللَّعْنِ.

-
أو الْغَضَبِ.

-
أو التبَرُّئِ منْ فاعلِهِ.

-
أو الحدِّ في الدُّنيا.

-
أوْ نَفْيِ الإيمانِ.

-
وما أشبَهَ ذلكَ، فهذهِ كبيرةٌ تختلفُ في مراتِبِها.

والسائلُ في هذا الحديثِ إنَّما قَصْدُهُ معرفةُ الكبائرِ لِيَجْتَنِبَهَا، خلافًا لحالِ كثيرٍ مِن الناسِ اليومَ؛ حيثُ يَسْأَلُ لِيَعْلَمَ فقطْ؛ ولذلكَ نَقَصَتْ بَرَكَةُ عِلْمِهِمْ.
قولُهُ:
((الشِّرْكُ باللهِ)) ظاهرُ الإطْلاقِ أنَّ المرادَ بهِ الشِّرْكُ الأصغرُ والأكبرُ، وهوَ الظاهرُ؛ لأنَّ الشركَ الأصغرَ أكبرُ مِن الكبائرِ.
قالَ
ابنُ مسعودٍ: (أََنْ أَحْلِفَ بِاللهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا) وذلكَ لأنَّ سَيِّئَةَ الشركِ أعظمُ مِنْ سَيِّئَةِ الكَذِبِ، فدلَّ على أنَّ الشِّركَ من الكبائرِ مُطْلَقًا.

والشركُ باللهِ يتضَمَّنُ الشركَ برُبُوبِيَّتِهِ، أوْ بأُلُوهِيَّتِهِ، أوْ بأسمائِهِ وصفاتِهِ.
قولُهُ:
((وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ))اليَأْسُ: فَقْدُ الرجاءِ،والرَّوْحُ: قَرِيبٌ مِنْ معنى الرحمةِ، وهوَ الفَرَجُ والتنفيسُ، واليَأْسُ منْ رَوْحِ اللهِ مِنْ كبائرِ الذنوبِ؛ لنتائجِهِ السَّيِّئَةِ.
قولُهُ:
((وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ)) بأنْ يعصيَ اللهَ معَ اسْتِدْرَاجِهِ بالنِّعمِ، قالَ تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}.
وظاهرُ هذا الحديثِ الحصرُ، وليسَ كذلكَ؛ لأنَّ هناكَ كبائرَ غيرَ هذهِ، ولكنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُجِيبُ كلَّ سائلٍ بما يُنَاسِبُ حالَهُ، فلعلَّهُ رأى هذا السائلَ عندَهُ شيءٌ مِن الأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللهِ، أو اليَأْسِ منْ رَوْحِ اللهِ، فأرادَ أن يُبَيِّنَ لَهُ ذلكَ، وهذهِ مسألةٌ ينبغي أنْ يَفْطِنَ لها الإنسانُ فيما يأتي مِن النصوصِ الشرعيَّةِ ممَّا ظاهرُهُ التعارضُ، فيحملُ كلَّ واحدٍ منْها على الحالِ المناسبةِ؛ ليَحْصُلَ التآلُفُ بينَ النصوصِ الشرعيَّةِ.

(4)
قولُهُ في أثرِ
ابنِ مسعودٍ: ((الإِشْرَاكُ بِاللهِ)) هذا أكبرُ الكبائرِ؛ لأنَّهُ انتهاكٌ لأعظمِ الحقوقِ، وهوَ حقُّ اللهِ تعالى الذي أوْجَدَكَ وأعدَّكَ وأمدَّكَ، فلا أحدَ أكبرُ عليكَ نعمةً من اللهِ تعالى.
قولُهُ: (وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ) سبقَ شرْحُهُ.
قولُهُ: (الْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ) المرادُ
بالقُنُوطِ: أنْ يستبعدَ رحمةَ اللهِ، ويستبعدَ حُصُولَ المطلوبِ.
والمرادُ
باليأسِ هنا: أنْ يستبعدَ الإنسانُ زوالَ المكروهِ، وإنَّما قُلْنَا ذلكَ لِئَلاَّ يحْصُلَ تكرارٌ في كلامِ ابنِ مسعودٍ.

والخُلاصةُ:
أنَّ السائرَ إلى اللهِ يَعْتَرِيهِ شيْئَانِ يَعُوقَانِهِ عنْ رَبِّهِ،
وهُما:

-
الأمنُ مِنْ مكرِ اللهِ.

-
والقنوطُ منْ رحمةِ اللهِ.

فإذا أُصيبَ بالضَرَّاءِ، أوْ فاتَ عليهِ ما يُحِبُّ، تَجِدُهُ -إنْ لمْ يتَدَارَكْهُ رَبُّهُ- يسْتَوْلِي عليهِ القنوطُ، ويَسْتَبْعِدُ الفرجَ، ولا يسعى لأسبابِهِ. وأمَّا الأمنُ مِنْ مكرِ اللهِ: فتجدُ الإنسانَ مقيمًا على المعاصي معَ توافُرِ النِّعَمِ عليهِ، ويرى أنَّهُ على حَقٍّ، فيستمرُّ في باطِلِهِ، فلا شكَّ أنَّ هذا اسْتِدْرَاجٌ.
(5)
فيهِ مَسائِلُ:

الأولى:
(تَفْسيرُ آيَةِ الأعرافِ)
وهيَ قولُهُ تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} وقدْ سبَقَ تفسيرُها.

(6)
الثانيَةُ: (تفسيرُ آيَةِ الْحِجْرِ) وهيَ قوْلُهُ تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ}، وقدْ سبقَ تفسيرُها.

(7)
الثالثةُ: (شِدَّةُ الوعيدِ فِيمَنْ أَمِنَ مكْرَ اللهِ) وذلكَ بأنَّهُ مِنْ أكبرِ الكبائرِ، كما في الآيَةِ والحديثِ، وتُؤْخَذُ من الآيَةِ الأولى والحديثيْنِ.

(8)
الرابعةُ: (شِدَّةُ الوعيدِ في القُنوطِ) قُتِلَ صَبْرًا؛ أيْ: محبوسًا مَأْسُورًا.

حفيدة بني عامر 28 شوال 1429هـ/28-10-2008م 01:58 AM

شرح فضيلة الشيخ :صالح بن عبدالعزيزبن محمد آل الشيخ (مفرغ)
 

(باب قول الله تعالى) الآية الأولى، والآية الثانية جميعاً، فالباب منعقد للآيتين جميعاً لا تصالهما.

والمراد بهذا الباب:

-




بيان أنَّ الجمع بين الخوف والرجاء واجبٌ من واجبات الإيمان، ولا يتم التوحيد إلا بذلك؛ فانتفاء الجمع بين الخوف والرجاء، هذا مناف لكمال التوحيد؛ فالواجب على العبد:

-أن يجعل خوفه مع الرجاء.

-




وأن يجعل رجاءه مع الخوف.

-


وأن لا يأمن المكر، كما لا يقنط من رحمة الله جل وعلا.

فالآية الأولى:


وهي قول الله تعالى: {أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} فيها: أنَّ المشركين من صفاتهم، أنهم أمنوا عقاب الله فلم يخافوا؛ والواجب بالمقابل أنْ تكون قلوبهم خائفةً، وجلةً من الله جل وعلا.

-


قال سبحانه: {أفأمنوا مكر الله} يعني: أيعلمون تلك المثُلات، وفعل الله -جل وعلا- بالأمم السالفة التي قصها الله في سورة الأعراف، فأمنوا مكر الله، فإذا كان كذلك، وحصل منهم الأمن مع وجود النذر فيما حولهم، وأن الله قص عليهم القصص والأنباء، قال: {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}.

والأمن من مكر الله: هو ناتج عن عدم الخوف، وترك عبادة الخوف؛ وعبادة الخوف قلبية، الخوف -خوف العبادة- من الله جل جلاله؛ وهذا الخوف إذا كان في القلب، فإن العبد سيسعى في مراضي الله، ويبتعد عن مناهي الله، وسيعظم الله جل وعلا، ويتقرب إليه بالخوف؛ لأن الخوف عبادة.

ويكون عبادة بمعاني:

ومنها:






أن يتقرب إلى الله -جل وعلا- بالخوف.

- وأن يتقرب إلى الله -جل وعلا- بعدم الأمن من مكر الله، وذلك أن الله هو ذو الجبروت؛ فعدم الأمن من مكر الله راجع إلى فهم صفات الله -جل وعلا- وأسمائه التي منها: القهار والجبار، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، ونحو ذلك من صفات الربوبية.

ومكر الله -جل وعلا- من صفاته التي تُطلق مقيدة؛ فالله -جل وعلا- يمكر بمن مكر بأوليائه وأنبيائه، وبمن مكر بدينه؛ لأنها في الأصل صفة نقص، لكن تكون صفة كمال إذا كانت بالمقابلة؛ لأنها فيها حينئذ إظهار العزة، والقدرة، والقهر، والجبروت، وسائر صفات الجلال؛ فمكر الله -جل وعلا- من صفاته التي يتصف بها، لكن يكون ذلك على وجه التقييد.

نقول: يمكر بأعداء رسله.
-






يمكر بأعدائه.

- يمكر بمن مكر به، ونحو ذلك.

وحقيقة مكر الله جل وعلا، ومعنى هذه الصفة: أنه -جل وعلا- يستدرج العبد، ويملي له، حتى إذا أخذه لم يفلته؛ ييسر له الأمور حتى يظن أنه في مأمن غاية المأمن؛ فيكون ذلك استدراجاً في حقه؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا رأيتم الله يعطي العبد وهو مُقيمٌ على معاصيه فاعلموا أن ذلك استدراج)) وهذا ظاهر من معنى المكر؛ لأن في معنى المكر، والكيد وأمثالهما معنى الاستدراج.

لا ترادف في اللغة، بل هناك فروق بين المكر والاستدراج، والكيد والاستدراج ونحو ذلك، لكن نقول: هذا من جهة التقريب؛ فالمكر فيه استدراج، وفيه زيادة أيضاً على الاستدراج؛ حتى يكون قلب ذلك المستدرَج آمناً من كل جهة.
قال: (وقوله: {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضَّالون}) هذا فيه: أنَّ صفة الضالين، أنهم يقنطون من رحمة الله جل وعلا، ومعنى ذلك بالمفهوم: أنَّ صفة المتقين وصفة المهتدين، أنهم لا يقنطون من رحمة الله؛ بل يرجون رحمة الله جل وعلا.
والجمعُ بين الخوف والرجاء واجب شرعاً؛ فإن الخوف عبادة، والرجاء عبادة، واجتماعهما في القلب واجب؛ فلا بد أن يكون هذا وهذا جميعاً في القلب حتى، تصح العبادة.
ومن هنا اختلف العلماء، أي: الخوف والرجاء يُغلَّب في القلب؛ هل يُغلب العبد جانب الرجاء، أو يغلب جانب الخوف؟
والتحقيق: أن الحال تختلف، فإذا كان العبد في حال الصحة والسلامة؛ فإنه إما أن يكون مسدداً، مسارعاً في الخيرات؛ فهذا يتساوى، يعنى: يجب أن يتساوى في قلبه الخوف والرجاء، يخاف ويرجو؛ لأنه من المسارعين في الخيرات.
وإذا كان في حال الصحة والسلامة، وعدم دنو الموت، من أهل العصيان؛ فالواجب عليه أن يُغلِّب جانب الخوف، حتى ينكف عن المعصية.
وأما إذا كان في حال المرض، وهي الحالُ الثانية (المرض المخوف) فإنه يجب عليه أن يُعظِّم جانب الرجاء على الخوف؛ فيقوم في قلبه الرجاء والخوف، ولكن يكون رجاؤه أعظم من خوفه، وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا يمت أحدكم إلا وهو يُحسِّن الظن بربه تعالى)) وذلك من جهةِ رجائه في الله جل جلاله.
ومن هنا اختلفت كلمات أهل العلم، فتجد أن بعضهم يقول: (يجب أن يتساوى الخوف والرجاء).
وبعض السلف قال: (يُغلب جانب الخوف على جانب الرجاء).
وبعض السلف قال: (يغلب جانب الرجاء على جانب الخوف).
وهي أقوال متباينة ظاهراً، لكنها متفقة في الحقيقة؛ لأن كل قول منها يرجع إلى حالة مما ذكرنا.
فمن قال: (يغلب جانب الخوف على الرجاء) فهو في حقِّ الصحيح العاصي.
ومن قال: (يغلب جانب الرجاء على الخوف)






فهو في حق المريض الذي يخاف الهلاك، أو من يخاف الموتَ.

ومن قال: (يساوي بين الخوف والرجاء) فنظر إلى حال المسددين المسارعين في الخيرات، وهذه الحال التي هي حال المسددين: هي التي وصف الله -جل وعلا- أهلها بقوله: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا، وكانوا لنا خاشعين} ونحوه: قوله -جل وعلا- في سورة الإسراء: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محذوراً} وهذا ظاهر من ذلك.

فالشيخ




- رحمه الله - عقد هذا الباب لبيان وجوبِ أن يجتمع الخوف والرجاء في القلب، كما ذكرنا لكم بالأمس، هذه أبوابٌ متتالية لبيان حالات القلب، والعبادات القلبية؛ وأحكام ذلك.

قال: (عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُئل عن الكبائر، فقال: ((الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمنُ مِنْ مكر الله))) وجه الشاهد من ذلك: أنه جعل ((اليأس من روح الله)) وهو عدم الرجاء، ذهاب الرجاء من القلب، وعدم أو ترك الإتيان بعبادة الرجاء، جعله من الكبائر.

وجعل ((الأمن من مكر الله)) وهو ذهاب الخوف من الله -جل وعلا- من القلب، جعله من الكبائر.

- فعدم الرجاء في الله، من الكبائر.
-






وعدم الخوف من الله جل وعلا، من الكبائر؛ وهي كبائرُ في القلب، كبائر من جهة أعمال القلوب، واجتماعهما جميعاً بألا يكون عنده رجاء ولا خوف، هذه كبيرة أعظم من كبيرة ترك الخوف وحده من الله، أو ترك الرجاء وحده من الله جل وعلا؛ ولهذا قرن بينهما في هذا الحديث، حيث قال: (سُئل عن الكبائر؟

فقال: ((الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله)) وبهذا يتبين لك الفرق بين اليأس والأمن، اليأس من روح الله؛ أو القنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله: من أنَّ اليأس راجع إلى ترك عبادة الرجاء، والأمن من مكر الله راجع إلى ترك عبادة الخوف؛ واجتماعهما واجب من الواجبات؛ وذهابهما أو الانتقاص منهما نقص في كمال توحيد من قام ذلك بقلبه.

قال: (وعن ابن مسعود قال: ((أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله))) فيها ما في الحديث قبله، لكن هنا فصَّل في القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله؛ فجعل القنوط من رحمة الله شيئاً، وجعل اليأس من روح الله شيئاً آخر؛ وهذا باعتبار بعض الصفات، لا باعتبار أصل المعنى؛ فإن القنوط من الرحمة، واليأس من الروح بمعنىً واحد، لكن يختلفان من حيث ما يتناوله هذا، ويتناوله هذا.

فالقنوط من رحمة الله عام: لأن الرحمة أعم من الروح.
والرحمة تشمل جلب النعم، ودفع النقم.
و(روح الله) جل وعلا، يُطلق في الغالب في الخلاص من المصائب.
فقوله: ((القنوط من رحمة الله)) هذا أعم، ولهذا قدَّمه؛ فيكون ما بعده من عطف الخاص على العام، أو أن يكون هناك ترادف في أصل المعنى، واختلاف في الصفات، أو بعض ما يتعلق باللفظ.
لهذا نقول: هذا الحديث مع الحديث قبله مع الآيتين، دلالتهما، على ما أراد الشيخ من عقد هذا الباب: واحدة، ودلالة الجميع: أن الخوف والرجاء واجب اجتماعهما في القلب، وإفراد الله -جل وعلا- بهما؛ والمقصود خوف العبادة، ورجاء العبادة.

حفيدة بني عامر 28 شوال 1429هـ/28-10-2008م 02:00 AM

العناصر
 

مناسبة باب قول الله تعالى (أفأمنوا مكر الله) لكتاب التوحيد

بيان معنى قوله: (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون)

- بيان معنى (المكر)، وهل يوصف الله به
- بيان أن الأنبياء أعظم الناس جزاء؛ لأنهم أشدهم بلاء
- معنى صفة (المكر) بالنسبة لله تعالى
- بيان أن الله لا يوصف بالخيانة، ويوصف (بالخدع) حيث يكون مدحاً
- قاعدة مهمة في صفات المقابلة
- ذكر بعض ما يستفاد من قوله: (أفأمنوا مكر الله...)
تفسير قوله تعالى (ومن يقنط من رحمة ربه) الآية

شرح حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله سئل عن الكبائر...)

- تخريج حديث ابن عباس: (أن رسول الله سئل عن الكبائر...)، وبيان درجته
- تعريف الكبيرة
- هل الكبائر معدودة أو محدودة؟
- ذكر الأدلة على أن الذنوب تنقسم إلى كبائر، وصغائر
- بيان أن حديث ابن عباس لم يُرَدْ به حصرُ الكبائر فيما ذكر
- معنى قوله: (والأمن من مكر الله)
- معنى قوله: (الشرك بالله)
- بيان أسباب الأمن من مكر الله
- معنى قوله: (واليأس من روح الله)
- بيان أسباب القنوط من رحمة الله، واليأس من روحه
- التنبيه على الجمع بين الخوف والرجاء، وأنه هو مقام الأنبياء والصديقين
- بيان جلالة منزلة الخوف من الله، وسبب نشأتها في القلوب
- أيهما يغلب العبد الخوف أوالرجاء
بيان معاني أثر ابن مسعود (أكبر الكبائر...)، وما يستفاد منه

- تخريج أثر ابن مسعود(أكبر الكبائر..)، وبيان درجته
بيان الفرق بين اليأس والقنوط

خلاصة باب قوله: (أفأمنوا مكر الله..)، وشرح مسائله


حفيدة بني عامر 28 شوال 1429هـ/28-10-2008م 02:03 AM

الأسئله
 
الأسئله
س1: بين مقصود المصنف من عقد باب قول الله تعالى:
{أفأمنوا مكر الله..}.
س2: اذكر بعض الأدلة على فضيلة الجمع بين الخوف والرجاء.
س3: اذكر الأمور التي ينشأ منها الخوف من الله جل وعلا.
س4: ما المقصود بمكر الله؟
س5: ما معنى اليأس من روح الله؟
س6: بين درجة أثر ابن مسعود: (أكبر الكبائر: الإشراك بالله...)الأثر.
س7: ما الفرق بين اليأس والقنوط ؟
س10: ترجم لعلقمة النخعي.
س11: ما المراد بالكفر في قوله صلى الله عليه وسلم:
((اثنتان في الناس هما بهم كفر...)) ؟
س12: بين معنى قوله صلى الله عليه وسلم:
((ليس منا...)).
س17: اذكر ما تعرفه من الحكم في ابتلاء الله لعباده المؤمنين بالمصائب والبلايا.
س18: اذكر الخلاف في إيجاب الرضى بأقدار الله، مع الترجيح.
س20: اذكر سببين من أسباب قنوط الإنسان من رحمة الله.
س21: اذكر سببين من أسباب الأمن من مكر الله.
س22: الدين يقوم على ثلاثة أصول، اذكرها؟
س23: بين معنى الاستفهام في قوله تعالى:
{أفأمنوا مكر الله}.
س24: ما منهج أهل السنة والجماعة في هذه الصفات: (المكر، الكيد، الاستهزاء...)؟
س25: لم كان القنوط من رحمة الله من كبائر الذنوب؟
س26: هل الكبائر معدودة، أو محدودة؟ واذكر تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية للكبيرة.
س27: اذكر تفسير علقمة لقوله تعالى:
{ومن يؤمن بالله يهد قلبه}.
س28: اذكر مراتب الناس عند المصائب.
س29: بين معنى قوله صلى الله عليه وسلم:
((ومن سخط فله السخط)) ومعنى اللام في (فله).



الساعة الآن 09:22 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir