الدرس الرابع: دلالة المحلّ الإعرابي للمفردات القرآنية
تمهيد المفردة القرآنية قد تحتمل وجوهاً في الإعراب، وقد يختلف المعنى باختلاف تلك الوجوه؛ فإذا صحّ الإعراب، وصحّ المعنى الذي دلّ عليه؛ وليس فيه معارضة لدليل صحيح؛ فيصحّ حمل الآية على تلك المعاني التي دلّت عليها الأوجه الإعرابية من غير تعارض، كما لو قُرِئت المفردة بقراءتين أو أكثر يختلف الإعراب فيها؛ فيجب قبول تلك القراءات وما دلّت عليه من الأوجه الإعرابية، وهذا من دلائل إحكام القرآن وبركة ألفاظه واتسّاع معانيه. والأبواب التي يدخلها الاحتمال الإعرابي كثيرة، وسأذكر أمثلة متفرقة لأنواع مختلفة من الإعراب يتبيّن بها اللبيبُ المرادَ، وليُعمِلَ مثلها في نظائرها، وليستدلّ بها على ورود أمثالها في الأبواب الأخرى، والله الموفق والمستعان. ولو تصدّى باحثٌ عارفٌ بالتفسير والإعراب لتصنيف الأوجه الإعرابية للمفردات القرآنية على أبواب النحو، وسرد أمثلة كلّ نوع منها لكان بحثاً عظيم الفائدة. |
الدرس الرابع: دلالة المحلّ الإعرابي للمفردات القرآنية
المثال الأول: إعراب الأرحام في قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحام} قرأ جمهور القراء الأرحامَ بفتح الميم، وقرأ حمزة بكسر الميم، وهي قراءة سبعية صحيحة، وقد رويت عن الحسن وقتادة والأعمش. وقراءة الفتح لها وجهان: الوجه الأول: أن الأرحام معطوفة على اسم الله، والتقدير: واتقوا الأرحامَ. والوجه الثاني: أنها منصوبة بنزع الخافض، والتقدير: تساءلون به وبالأرحام؛ فلما نُزعت الباء انتصب اللفظ. وقراءة كسر الميم فيها وجهان أيضاً على المعنيين السابقين في قراءة الفتح: الوجه الأول: أنّ "الأرحام" معطوفة على الضمير في "به". أي تساءلون به وبالأرحام. والوجه الثاني: أنّ "الأرحام" منصوبة بفتحة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الكسر للمجاروة. وقد اختلف المفسرون في هذه الآية على قولين: القول الأول: أنّ المعنى واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام، وهو قول إبراهيم النخعي ومجاهد والحسن البصري، إذ قالوا: هو قول الرّجل: أسألك باللّه والرّحمِ. والقول الثاني: أن المعنى واتقوا الأرحامَ أن تقطعوها، وهو قول عكرمة وقتادة والضحاك وغيرهم، وهو رواية عن مجاهد والحسن البصري. والقولان صحيحان من حيث صنعة الإعراب، وقد صحّا عن السلف، وتحتملهما القراءة الصحيحة. فأفاد وصف {الذي تساءلون به} تقديم تقوى الله تعالى بإفراد الضمير، ومناسبة تساؤلهم للأرحام، وهو من آيات الله إذ خلق من نفس واحدة نفوساً كثيرة وجعل بينها تراحماً؛ والتساؤل بالأرحام كان شائعاً عند العرب، وهو سبب يتشبثون به في الشدائد، فكان في الآية تنبيه على أصل نشأة هذه الأرحام، وعلى منّة الله تعالى بها عليهم، وأنه يجب عليهم أن يقابلوا هذه النعمة بشكرها، وذلك بأن يتقوا الله. |
الدرس الرابع: دلالة المحلّ الإعرابي للمفردات القرآنية
المثال الثاني: إعراب "ليبطّئنّ" في قول الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)}
الفعل {ليبَطّئنّ} يحتمل اللزوم والتعدّي. - فالقول بالتعدي معناه أنّ منكم من يبطّئ غيره ويخذّلهم عن الجهاد بحاله ومقاله وربما بكيده واحتياله، ويكون المفعول محذوفاً للعلم به أو لعدم تعلّق الحكم بعينه. - والقول باللزوم يكون التشديد فيه لتوكيد الإبطاء، تقول أبطأ، وبطّأ ؛ فيكون في الثاني من الإشعار بالتثاقل والتأخر ما هو أشدّ مما يشعر به اللفظ المخفف، وهذا كما في : يُمسك ويمسّك، ويُكرم ويكرّم. والقول باللزوم موافق للقراءة المروية عن مجاهد والزعفراني بإسكان الباء وتخفيف الطاء [ليبْطِئَنَّ]. وهو موافق لقول قتادة في تفسير هذه الآية إذ قال: ({ليبطئنّ} عن الجهاد والغزو في سبيل الله). رواه ابن جرير. والقول بالتعدي موافق لقول ابن جريج إذ قال في تفسيرها: (المنافق يبطّئ المسلمين عن الجهاد في سبيل اللّه). رواه ابن جرير. والقولان صحيحان، قد ذكرهما جماعة من المفسرين. والمقصود أن هذه المفردة قد دلّت بإعرابيها الصحيحين على معنيين مختلفين يصحّ اجتماعهما، وهذا يدلّ على أنه قد يكون في معسكر المسلمين من أصحاب الصنفين المذمومين: - فمنهم المتهاون المبطّئ في نفسه لضعف إيمانه أو لجبنه وخوره. - ومنهم المنافق الذي يسعى لتثبيط المسلمين عن الجهاد. |
الدرس الرابع: دلالة المحلّ الإعرابي للمفردات القرآنية
المثال الثالث: مرجع الضمير في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} اختلف المفسرون في مرجع الضمير في قوله تعالى: {فزادوهم} على قولين: القول الأول: عائد على الجنّ، والمعنى أنّ الإنس زادوا الجنّ رهقاً أي إثماً وطغياناً. وهو معنى قول قتادة والقول الثاني: عائد على الإنس، والمعنى أنّ الجنّ زادوا الإنس رهقاً أي فَرَقاً وخوفاً وذعراً. وهو معنى قول الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. والمعنيان صحيحان، ولفظ "الرهق" صالح لهما، إذ يدلّ على أنّ كلاً منهما قد أرهق نفسه بتعريضها لما لا يطيق من العذاب، فأما المستعيذون من الإنس فكان عذابهم معجلاً بالخوف والذعر الذي يحصل لهم بجراءة الجنّ عليهم وتلعّبهم بهم. وأمّا الجنّ فزادهم الإنسُ رهقاً لأنهم باستعاذتهم بهم ورضا الجنّ بأن يُشرك بهم مع الله ازداد الجنّ طغياناً يستحقون به العذاب الشديد من الله تعالى. وهذا التركيب بديع جداً لأنه دلّ على المعنيين بأوجز عبارة. |
الدرس الرابع: دلالة المحلّ الإعرابي للمفردات القرآنية
أمثلة من أقوال المفسّرين في إعراب المفردات القرآنية المثال الأول: قول الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} وقال السدي: «صدف» في هذه الآية متعدية للمفعول، والمفعول محذوف، والمعنى: أنه صدَّ غيره عن اتباع آيات الله. والقرآن يدل لقول السدي؛ لأن إعراض هذا الذي لا أحد أظلم منه عن آيات الله، صرح به في قوله: {فمن أظلم ممن كذب بآيات الله}، إذْ لا إعراض أعظم من التكذيب، فدل ذلك على أن المراد بقوله: وصدف عنها، أنه صد غيره عنها، فصار جامعا بين الضلال والإضلال. وعلى القول الأول فمعنى «صدف» مستغنى عنه بقوله «كذب» ونظير الآية على القول الذي يشهد له القرآن، وهو قول السدي). قلت: الجمع أولى من الترجيح، والآية على القول الأول في معنى {كذب وتولى}. المثال الثاني: قول الله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)} يحتمل أن يعود الضمير على الله، ويحتمل أن يعود على العذاب، وكلاهما متلازم، كما قال تعالى:{ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين}). المثال الثالث: قول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)} أما الضميران المرفوعان في قوله: {يمدونهم} وقوله: {لا يقصرون} فهما عائدان إلى ما عاد إليه ضمير إخوانهم أي الشياطين، وإلى هذا مال الجمهور من المفسرين، والمعنى: وإخوان الشياطين يمدُهم الشياطين في الغيّ، فجملة يمدونهم خبر عن إخوانهم وقد جرى الخبر على غير من هو له، ولم يبرز فيه ضمير من هو له، حيث كان اللبس مأمونا، وهذا كقول يزيد بن منقذ: وهم إذا الخيل جالوا في كواثبها ... فوارس الخيل لا ميل ولا قزم فجملة «جالوا» خبر عن الخيل وضمير «جالوا» عائد على ما عاد عليه ضمير «وهم» لا على الخيل. وقوله فوارس خبر ضمير الجمع.ويجوز أن يكون المراد من الإخوان الأولياء ويكون الضميران للمشركين أيضا، أي وإخوان المشركين وأولياؤهم، فيكون «الإخوان» صادقا بالشياطين كما فسر قتادة، لأنه إذا كان المشركون إخوان الشياطين، كما هو معلوم، كان الشياطين إخوانا للمشركين لأن نسبة الإخوة تقتضي جانبين، وصادقا بعظماء المشركين، فالخبر جار على من هو له، وقد كانت هذه المعاني مجتمعة في هذه الآيات بسبب هذا النظم البديع). المثال الرابع: قول الله تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} - قال ابن القيّم رحمه الله: (وقال أبو داود الطيالسي: حدّثنا عبد المؤمن - هو ابن عبد الله - قال: كُنا عند الحسنِ؛ فأتاه يزيد بن أبي مريم السلولي يتوكّأ على عصا؛ فقال: يا أبا سعيد! أخبرني عن قول الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} فقال الحسن: (نعم، والله إنَّ الله ليقضي القضية في السماء، ثم يضرب لها أجلا أنه كائن في يوم كذا وكذا، في ساعة كذا وكذا، في الخاصة والعامة، حتى إنَّ الرجلَ ليأخذ العصا ما يأخذها إلا بقضاء وقدر). قال: يا أبا سعيد! والله لقد أخذتها وإني عنها لغني ثم لا صبر لي عنها. قال الحسن: (أَوَلا ترى). واختلف في الضمير في قوله: {من قبل أن نبرأها} فقيل: هو عائد على الأنفس لقربها منه. وقيل: هو عائد على الأرض. وقيل: عائد على المصيبة. والتحقيق أن يقال: هو عائد على البرية التي تعمّ هذا كلَّه، ودلَّ عليه السياق، وقوله: {نبرأها} فينتظم التقادير الثلاثة انتظاماً واحداً، والله أعلم). المثال الخامس: قول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)} المثال السادس: قول الله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} قال ابن القيّم رحمه الله: (وقد اختلف في إعراب {من خلق} هل هو على النصب أو الرفع؟فإن كان مرفوعا فهو استدلال على علمه بذلك لخلقه له، والتقدير: أنه يعلم ما تضمنته الصدور، وكيف لا يعلم الخالق ما خلقَه، وهذا الاستدلال في غاية الظهور والصحة؛ فإن الخلق يستلزم حياة الخالق وقدرته وعلمه ومشيئته. وإن كان منصوبا؛ فالمعنى ألا يعلم مخلوقَه، وذكر لفظة {من} تغليبا ليتناول العلمُ العاقلَ وصفاته. وعلى التقديرين فالآية دالة على خلق ما في الصدور كما هي دالة على علمه سبحانه به) ا.هـ. المثال السابع: قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)} وعلى أن النافلة بمعنى الزيادة فهو حال من {يعقوب} أي: وهبنا له يعقوب في حال كونه زيادة على إسحاق)ا. هـ. والمثالان الأخيران ذكرتهما في كتاب "طرق التفسير"، وإنما أعدتهما هنا للفائدة. |
الدرس الرابع: دلالة المحلّ الإعرابي للمفردات القرآنية
التطبيقات بيّن أثر دلالة الإعراب على المفردات التالية: (1) سبيل في قول الله تعالى: {ولتستبين سبيل المجرمين} (2) سبيلاً في قول الله تعالى: {فلا تبغوا عليهنّ سبيلاً} (3) مرجع الضمير في "جعلناه" في قول الله تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا} (4) مرجع الضمير في "به" في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)} |
الساعة الآن 02:27 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir