الدرس الرابع: أدواء القلوب وشفاؤها
الدرس الرابع: أدواء القلوب وشفاؤها عناصر الدرس: • تمهيد • الجهل والعِيّ • الشك والارتياب • الغلّ والحسد • الحرص والشحّ • العُجب والكِبْر • الشهوة والغضب • الغفلة والقسوة • الهوى والوهن • شفاء القلوب |
• تمهيد
للقلوب أدواء وآفات تعرض لها، فإذا أصيب القلب ببعضها مرض وأصابه نوع فساد، ولكل داء دواءٌ ولكلّ آفة وقاية وعلاج، وصيانة القلب من الأدواء والآفات أهون وأسلم من معالجتها بعد تمكّنها من القلب وأخذها ببعض شعبه. وصاحب القلب الصحيح يشعر بمرض قلبه إذا مرض ويجد أثره؛ فيبادر إلى مداواته وتحصينه. ولذلك كان الصالحون إذا أحسّوا من قلوبهم تغيّراً أنكروها وبادروا إلى إصلاحها. وأمراض القلوب على أصناف: - فمنها أمراض شكّ وريبة، وهي أمراض سببها الشبهة، وأثرها فساد التصور؛ وقد تفضي بالعبد إلى الكفر أو النفاق أو ضعف التصديق، أو ضعف أثره. - ومنها أمراض غلظ وقسوة، وسببها الشهوة المقترنة بالظلم والعدوان، وإرادة العلوّ في الأرض والفساد، وأثرها فساد الإرادة وانحراف القصد عن الصراط المستقيم بالبغي والظلم. - ومنها أمراض ضعف ووهن، وسببها الشهوة المقترنة بالذلّ والعجز، وأثرها مسكنة القلب وتذلّلـه لما تعلّق به ولمن تسلّط عليه. وقد تجتمع في بعض القلوب أدواء من هذه الأصناف في أحوال مختلفة، فيكون غليظ القلب قاسياً على من دونه، وضعيف القلب ذليلاً لمن هو فوقه، وصاحب شكّ وارتياب. وأدواء القلوب كثيرة، وأصولها: الجهل والعيّ، والشكّ والارتياب، والحرص والشحّ، والعُجْب والكِبْر، والغلّ والحسد، والشهوة والغضب، والغفلة والقسوة، والهوى والوَهَن. |
• الجهل والعيّ
فأمّا الجهل والعيّ فهو أصل علل القلوب، لفقدان صاحبه البصيرة بما ينفع، ابتداء أو عقوبة. فالجهل الأصلي فتنة لصاحبه، والجهل الذي يكون بعد قيام الحجة والإعراض عن الذكر عقوبة لصاحبه. والسائر في الطريق بلا بصيرة يحصل له من الأذى بسبب التخرّص والتوهّم والتردد ما يجعله غير مطمئنّ القلب في ذلك الشأن. فالجهل مرض في القلب شفاؤه الإنابة إلى الله، وطلب العلم، وحسن التصديق؛ فيحصل له بهذه الأمور من البصيرة في الدين والفرقان بين الحقّ والباطل، ما يكشف له حقائق الأمور وعواقبها، فيسير في طريقه على بيّنة من ربّه، والله تعالى يهدي إليه من أناب، ويوفّقه لفقه خطابه، والانتفاع بما يتعلّم، ومن صدقت إنابته إلى الله وبذل ما يستطيع من أسباب التعلّم وفّق لحسن التصديق. وسبيل العلم التعلّم كما صحّ عن جماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وروي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. - قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: « إن الرجل لا يولد عالما، وإنما العلم بالتعلم » رواه وكيع في الزهد ومن طريقه أحمد بن حنبل في الزهد وابن أبي شيبة وأبو خيثمة في كتاب العلم كلهم من طريق وكيع عن سفيان الثوري أبي الزعراء عمرو بن عمرو عن عمّه أبي الأحوص عن ابن مسعود. - وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: « إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعطه، ومن يتوقَّ الشرَّ يوقه ». رواه أبو خيثمة في كتاب العلم والبيهقي في شعب الإيمان وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله من طرق عن عبد الملك بن عمير عن رجاء بن حيوة الكندي عن أبي الدرداء. وهذا هو المحفوظ في هذا الحديث وقفه على أبي الدرداء كما ذكر الدارقطني في العلل؛ فقد رواه عن عبد الملك بن عمير موقوفاً: وكيع، وجرير بن عبد الحميد، وأبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري. ورجاء لم يدرك أبا الدرداء. وقد روي مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي الدرداء وأبي هريرة ومعاوية بن أبي سفيان بأسانيد فيها ضعف، لكن مجموع هذه الأحاديث والآثار يدلّ على أنّ له أصلاً، وقد علّقه البخاري في صحيحه مرفوعا بصيغة الجزم؛ فقال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: « من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» و«إنما العلم بالتعلم»). وقد يعرض للمرء عِيٌّ في مسألة من المسائل فيحصل له بها تأثر وحيرة واضطراب، وقد يسري بذلك إلى القلب علّة بسبب فقدان البصيرة أو خطأ التصور؛ فيكون على خطر من الوقوع في مصيبة أو فتنة، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى شفاء العيّ بقوله: (( شفاء العِيّ السؤال)) وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس، وجابر، وعليّ بن أبي طالب، وزيد بن أنيس. فمن ابتلي بما يعيا به، ولم يتبيّن له الحقّ، ولم يكن أهلاً للاجتهاد؛ فلا ينبغي له أن يخبط في دينه خبط العشواء، وليسأل أهل العلم حتى يسير في دينه على بصيرة. والعيّ نوع من الجهل لكنّه مخصوص بما يعيا به، ولذلك قد يقع للعالم عِيٌّ في مسائل تشكل عليه. قال أبو سليمان الخطّابي: (يقال: عَيَّ الرجلُ بأمره يَعْيَا عِيَّا إذا لم يهتد له). ويصحّ في الفعل الماضي أن يقال: عَيَّ، وعَيِيَ. وقد كان من أهل هذا الشأن إذا عرضت لهم مسألة نازلة ولا سيما ما يستجدّ عليهم في عصرهم من الفتن سألوا من يتوسّمون فيه العلم والبصيرة في الدين عنها، والمسائل في علم السلوك في كتب السلف كثيرة جداً، وكان من أهل العلم من يتتبّع سير الأئمة في هذا الباب ويتعرّف أخبارهم وهديهم فيما يعرض لهم من الفتن ومعاملة الناس على اختلاف أصنافهم، وقد تقدّم قول أبي داوود السجستاني في أحمد بن أبي الحواري: (ما رأيت أحداً أعلم بأخبار النسّاك منه)، بل إنّ بعض المصنّفين في كتب الزهد رتّبوا كتبهم على سير الصالحين، وجمعوا فيها أخبارهم ووصاياهم. - وقد قال ابن وهب: حدثني مالك أن محمد بن سيرين قد ثَقل وتخلَّف عن الحج، فكان يأمر من يحج أن ينظر إلى هدي القاسم ولَبوسه وناحيته؛ فيبلّغوه ذلك؛ فيقتدي بالقاسم).رواه الفسوي وابن عساكر. والقاسم هو بن محمد بن أبي بكر الصديق من الفقهاء السبعة من التابعين، نشأ في حجر عمّته عائشة رضي الله عنها وتربّى في بيت النبوة وأخذ من علماء الصحابة رضي الله عنهم علماً غزيراً مباركاً وكان صاحب علم وعبادة وهدي صالح ، حتى قال عمر بن عبد العزيز في خلافته: (لو كان لي من الأمر شيء لولّيت القاسم الخلافة) رواه أبو يوسف الفسوي في المعرفة، فلذلك كان ابن سيرين يقتدي به، حتى أخذ منهجه في التحديث فكان القاسم يحدّث بالحديث على حروفه ولا يحدّث بالمعنى. ومعرفة سير الصالحين من أهل العصر وغيرهم يستفاد بها شفاء العيّ فيما قد يعرض للسالك من مسائل قد يعيا بها لو لم يعدّ لها عدّتها. |
• الشكّ والارتياب
وأمّا الشك والارتياب فهو أخطر أمراض القلوب، ويحصل لصاحبه ألم معنويّ لا يزول إلا بالعلم واليقين، وسبب الشك والارتياب عدم تصديق الله تعالى وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، والإعراض عن القرآن وهجره والإعراض عن اتّباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلّ من لم يؤمن بالله ولم يتّبع الرسول فهو واقع في حيرة وشكّ يلازمانه، ولا يزولان عنه إلا بتحقيق الإيمان والاتّباع. وقد يقع في قلوب بعض المسلمين ضعف تصديق؛ فيلتزم التصديق بقوله واعتقاده، لكنَّ حاله لا يصدّق ما قاله تمام التصديق، فلذلك يسري إلى القلب علل توقعه في نوع تردد وضعف أو جزعٍ ووَهَن. وشفاء هذه العلّة بالازدياد من اليقين، وسبيله تدبّر القرآن والتبصّر ببصائره، واتّباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والتفكّر والتذكّر. |
• الغلّ والحسد
وأمّا الغلّ والحسد؛ فهما من أمراض القلوب الغالبة على كثير من الناس، وهم قرينان يتساعدان على إفساد القلب وتحسيره وتشتيت همّه. فأمّا الحسد فحقيقته تمنّي زوال النعمة عن المحسود، وأصل العلّة التي تحمل الحاسد على الحسد إعجابه بنفسه وازدراؤه للمُنعَم عليه، وظنّه أنّه أولى بالنّعمة منه، وفي هذا سوء ظنّ بالله تعالى، وسوء أدب معه جلّ وعلا، وتحجّر لفضله الواسع. والحاسد يتألّم من وجود النعمة على محسوده، وزوال تلك النعمة يرفع عنه هذا الألم؛ فيلتذّ بزوال النعمة عنه، وإن لم يكن له نفعٌ بزوالها. وإذا استرسل الحاسد مع حسده أفضى به إلى البغضاء وهي الحالقة، ثم إلى أنواع من البغي والظلم والعدوان. وشفاء الحاسد من الحسد: أن يُعالج ما في قلبه من سوء الظنّ بالله، والعُجب، وازدراء المحسود، وأن يبرّك عليه، ويسأل الله من فضله، ويرضى بما قسم الله له. - وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي العلاء بن الشخير قال: حدثني أحد بني سُليم، ولا أحسبه إلا قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أن الله يبتلي عبده بما أعطاه، فمن رضي بما قسم الله له، بارك الله له فيه، ووسَّعه، ومن لم يرض لم يبارك له )). واليقين بالله تعالى والتفكّر في أسمائه وصفاته وآثارها، واشتغال المرء بإصلاح قلبه ومداواة علله، والاستعداد للموت قبل نزوله، وتحقير شأن الدنيا في القلب، وتعظيم ما عند الله جلّ وعلا ، كلّ ذلك مما يعين الحاسد على معالجة قلبه من الحسد حتى يشفى بإذن الله. وإن خطر له خاطر حسد وجد أثره في نفسه فليكتمه، وليبرّك لأخيه، فمن كتم الحسد، وأنكره من نفسه، وعمل ما أرشد إليه لم يضرّه ما يجد من خواطر الحسد، بل هو مجاهد مأجور على مدافعتها. - قال يونس بن عبيد: عجبت من كلمة محمد بن سيرين : (ما حسدت أحداً على شيء من الدنيا، إن كان من أهل الجنة؛ فكيف أحسده على شيء من الدنيا وهو يصير إلى الجنة، وإن كان من أهل النار؛ فكيف أحسده على شيء من الدنيا وهو صائر إلى النار). رواه البيهقي في كتاب الزهد الكبير. وأمّا الغِلّ فهو داء دويّ ينغلّ في القلب فيورثه الحقد والضغينة وإضمار الشرّ وإرادة السوء، وهو متفاوت في قلوب المصابين به؛ فشرّهم من يكون الغلّ في قلبه لعامّة المسلمين أو أئمّتهم أو لطائفة عظيمة منهم، ومنهم من يكون غلّه لفرد أو أفراد. وقد أرشد الله تعالى عباده أن يدعوه بقولهم: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} وفي التوسل إلى الله تعالى باسميه الرؤوف والرحيم لطلب السلامة من الغلّ ما ينبّه على خطر الغلّ، وأن من رأفة الله تعالى بعبده المؤمن ورحمته إيّاه أن يعافيه من الغلّ. - وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: ((ثلاث خصالٍ لا يُغِلّ عليهن قلبُ مسلم أبدا: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)). رواه أبو داوود الطيالسي وأحمد والدارمي كلّهم من حديث شعبة بن الحجاج عن عمر بن سليمان بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه عن زيد بن ثابت، ورجاله ثقات، وله طرق أخرى، وروي أيضاً من حديث أنس بن مالك، وابن مسعود، وجبير بن مطعم، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، ومعاذ بن جبل، وأبي قرصافة الليثي، والنعمان بن بشير، وشيبة بن عثمان، وفي بعض هذه الأحاديث أن ذلك من خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسجد الخيف بمنى. قوله: (لا يغِل ) ضُبط بضمّ الياء وفتحها وكسر الغين، ويُغلّ أي يورثه الغلّ، ويَغِلّ يزيغ. - قال ابن القيّم رحمه الله في مدارج السالكين: (أي لا يبقى فيه غلّ، ولا يحمل الغِلَّ مع هذه الثلاثة، بل تَنْفِي عنه غِلَّه، وتنقّيه منه، وتخرجه عنه)ا.ه. وشرح ذلك بكلام حسن مسهب في مفتاح دار السعادة، وخلاصته أنّ المخلص لله تعالى يمنعه إخلاصه غلّ قلبه لانصراف الدواعي إلى إسلام القلب لله تعالى والتعبّد إليه بأسمائه وصفاته، والله تعالى يصرف السوء والفحشاء عن أهل الإخلاص، والغلّ من السوء. والنصيحة تطهّر القلب من الغلّ، وهو من معالجة الداء بضدّه المطهّر له؛ فالنصيحة ترياق الغلّ، ولا يجتمع الغل والنصيحة في موضع أبداً. ولزوم جماعة المسلمين تطهّر القلب من الغلّ لأنها تحمل المسلم على أن يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، فيسرّ لما يسرّهم، ويسوؤه ما يسوؤهم، بخلاف من انحاز عنهم واشتغل بالطعن عليهم كحال أكثر أهل البدع والشقاق فإنّ قلوبهم ممتلئة غلّا على جماعة المسلمين. ومن لزم جماعة المسلمين أصابته دعواتهم الطيّبة لأنه منهم، فيحصل له من بركات دعواتهم ما له أثر كبير في تطهير قلبه من الغلّ، بخلاف من عزل نفسه عنهم أو غشّهم أو كان في قلبه غلّ عليهم فإنّه ليس منهم. والخلاصة أنّ تمام الشفاء من الغلّ يحصل بما تقدّم ذكره من إرشاد الآية الكريمة إلى الاستعاذة بالله تعالى من الغلّ وما تضمنه هذا الحديث من إرشادات جليلة. ومن كان غلّه على فرد أو أفراد فليجتهد في مدافعة ذلك، وأن لا يجعل بُغضه لأخيه بغضاً عامّا، وليعلم أنّ عواقب الأمور بيد الله جلّ وعلا؛ فإذا رأيت من أخيك ما يسوؤك في أمر، فقد ترى منه غداً ما يسرّك في أمور، وقد يُحدث الله أمراً تنقلب به العداوة إلى مودّة. وفي الصحيحين من حديث قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه» وحبّ الخير للمسلم ترياق الغلّ؛ ويهوّنه على المرء أن يجاهد نفسه على أن يكون حبّه لله وبغضه لله؛ فيحبّ من أخيه ما يأتي من طاعة الله، ويؤدّي له ما وجب من حقوق الإسلام، وإن كان ذا قرابة أدّى له حقّ القرابة طيّب النفس متقرباً بذلك إلى الله تعالى؛ فإنّه لا يلبث حتى يجعل الله له عاقبة حسنة؛ فيستفيد مع طهارة قلبه من الغلّ تلك العاقبة الحسنة بسبب اتّباعه هدى الله جلّ وعلا. ومن كان سبب غلّه ظُلم وقع عليه من أخيه المسلم فإنّ طهارة القلب من الغلّ لا تقتضي إهدار حقّه، فله أن يطالب بحقّه غير متعدّ، فإن أعطيه انتفى موجِب الغلّ، وإن لم يُعطه بعد بذله أسباب المطالبة على وجهها وكل أمره إلى الله، ولم يجاوز ما يحلّ له من المطالبة بحقّه إلى الغلّ والحسد، ومن توكّل على الله كفاه، وإن عفا فهو أفضل وأكمل. |
الحرص والشحّ
وأمّا الحرص والشحّ فهما من أدواء القلوب التي تمرضها وتعيث فيها فساداً، وتورثها آفات كثيرة. فأما الحرص فإنه إذا لم ينضبط حمل صاحبه على تعدّي حدود الله في سبيل اكتساب المال والجاه والرئاسة والعلوّ في الأرض؛ فتسري إلى القلب آفات عظيمة من تضييع الفرائض، وارتكاب المحرمات، وشتات القلب، وتعلقه بالدنيا وغيرها. وهو داء ينشأ من شدّة محبة الدنيا والشّره في طلب متاعها ومِنْ ضعف التوكّل على الله والرضا بما قسم. - قال كعب بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» رواه أحمد وابن ابي شيبة والدارمي والترمذي والنسائي في الكبرى وابن حبان والبيهقي في شعب الإيمان من طريق زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن ابن كعب بن مالك الأنصاري، عن أبيه. ولابن رجب رسالة مفردة قيّمة في شرح هذا الحديث، ذكر فيها مراتب الحرص المذموم على المال والشرف، والمقصود بالشَّرف هنا ما يَشْرُف به المرء على غيره ويعلو عليه من الرئاسة والجاه والمراتب الدنيوية. وخلاصة ما ذكره أنّ الحرص المذموم على مرتبتين: الأولى: الحرص على المباحات في أصلها لكنّه بحرصه عليها أنزلها فوق منزلتها وعلّق قلبه بها، فسرى الفساد إلى القلب من هذه الجهة، فأشغل القلب بها، وضيّع ساعات عمره في طلب دنيا زائلة، وغفل عن اكتساب ما يبلّغه الدرجات العلى والنعيم المقيم. والمرتبة الثانية: الحرص الذي يحمل صاحبه على اكتساب المال الحرام والمداهنة في الدين وبذل الرشا والحيل المحرمة، وهو داء أشدّ من الأوّل. وأشدّ منه وأنكى أن يطلب الدنيا بعمل الآخرة؛ فيتعلّم العلم ليصرف وجوه الناس إليه، ويماري به العلماء، ويكتسب به المناصب؛ فمن أصيب بهذا الداء فالنار موعده إلا أن يرجع ويتوب. وقال في صدر رسالته: (فهذا مثل عظيم جداً ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لفساد دين المسلم بالحرص على المال والشرف في الدنيا، وأن فساد الدين بذلك ليس بدون فساد الغنم بذئبين جائعين ضاريين يأتيا في الغنم، وقد غاب عنها رعاؤها ليلا، فهما يأكلان في الغنم ويفترسان فيها، ومعلوم أنه لا ينجو من الغنم من إفساد الذئبين المذكورين والحالة هذه إلا قليل). والشفاء من الحرص يكون بعلاج سببه الحامل عليه وتوجيه قوّة الحرص الكامنة في النفس إلى الحرص على ما ينفع كما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «المؤمن القوي، خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» رواه مسلم وابن ماجه والنسائي في الكبرى من طريق ربيعة بن عثمان التيمي، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وله طرق أخرى. فقوله: (احرص على ما ينفعك) عامّ في أمور الدين والدنيا، لكنّه في أمور الدنيا مخصوص بما لا يُخرجه إلى الحدّ الذي يُضرّ به دينَه؛ فإنّه حينئذ لا يكون حرصاً على ما ينفع، بل على ما يضرّ. وقوله: (واستعن بالله ولا تعجز) جمع فيه بين الأمر بالاستعانة بالله وعدم الركون إلى النفس وجهدها أو إلى الخلق ومنّهم، والنهي عن العجز وهو ترك السبب الممكن. فإذا انصرفت قوّة الحرص الكامنة في القلب إلى الحرص على ما ينفع، وكفّ المرء نفسه عن الهوى فقد شُفي من داء الحرص، وعوفي من بلائه. ومما يسهّل على العبد صرف حرصه إلى ما ينفعه أن يوقن بأنّ كلَّ ما تطلبه النفس مما يُغضب اللهَ تعالى قد أبدل الله المؤمنين خيراً منه وأسلم، بل يأتيه ما يطلبه بالإخلاص لله تعالى على أكمل وجه وأحسنه، حتى الثناء الذي تستلذه كثير من النفوس عوّض الله أهل الإخلاص عن التعرّض لطلبه من الناس بأن تولّى الثناء عليهم في الملأ الأعلى، وأين ثناء الخالق العظيم من ثناء المخلوقين الضعفاء. وعوّضهم عن طلب رضا الناس بسخطه بأن جعل لهم ودّا في قلوب عباده ، والودّ هو صفو المحبة، كما قال الله تعالى: {إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّا} قال ابن عباس: (محبة في الناس في الدنيا). وقال مجاهد: (يحبهم ويحببهم إلى خلقه). وقال قتادة: (ما أقبل عبد إلى الله إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه، وزاده من عنده). وقال ابن كثير رحمه الله: (يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وهي الأعمال التي ترضي الله عز وجل لمتابعتها الشريعة المحمدية - يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين مودة، وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه، وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه)ا.هـ. - كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل ، فقال: إني أحب فلاناً فأحبه. قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء. قال: ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبداً، دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه. قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه. قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض)). هذا لفظ مسلم. - وفي صحيح ابن حبان من حديث محمد بن المنكدر عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من التمس رضي الله بسخط الناس رضي الله تعالى عنه وأرضى الناس عنه، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)) وقد رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والترمذي وهناد وغيرهم بلفظ مقارب. فتبيّن بذلك أنّ صرف قوّة الحرص إلى ما ينفع المرء في دينه ودنياه فيه خير له وأسلم من الحرص المذموم، بل لا مقارنة بين ما يحصّله صاحب الحرص المحمود من الخيرات والبركات والسلامة وبين ما يطلبه صاحب الحرص المذموم الذي عرّض نفسه للهلكة بجريه وراء سراب المطامع الدنيوية الزائلة. قال ابن رجب: (وبكل حال؛ فطلب شرف الآخرة يحصل معه شرف الدنيا، وإن لم يرده صاحبه ولم يطلبه، وطلب شرف الدنيا يمنع شرف الآخرة ولا يجتمع معه، والسعيد من آثر الباقي على الفاني، كما في حديث أبي موسى، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى» ). وأمّا الشحّ فهو داء دويّ، يأمر صاحبه بالبخل والقطيعة، ويمنعه أداء الحقوق الواجبة، ويوقعه في خصال ذميمة، وإذا استشرى الشحّ في قوم وقع بينهم من الشقاق والخلاف ما لا تأتلف معه القلوب، ولا يستقرّ به الحال، بل ربما أفضى بهم إلى الفجور وانتهاك الحرمات وسفك الدماء. وإذا استشرى في قلب أفسده؛ فزاد تعلّقه بالدنيا، ومنع الحقوق الواجبة، وأصابه بالجزع والضجر وسوء الخلق، فإن أصابه خير اغتمّ به، في حفظه ومنع إنفاقه، وإن أصابه شرّ اشتدّ جزعه. ولا يكاد يسلم الشحيح من الحرص، وهو من موانع الفلاح، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في موضعين من القرآن. - وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلمَ؛ فإنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإنَّ الشح أهلك من كان قبلكم، وحملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم» رواه مسلم في صحيحه والبخاري في الأدب المفرد وأحمد في المسند من طريق داود بن قيس عن عبيد الله بن مقسم عن جابر. - وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والشح، فإنه دعا من قبلكم فاستحلوا محارمهم، وسفكوا دماءهم، وقطعوا أرحامهم)). رواه الإمام أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، من طرق عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه. - وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وبالبخل فبخلوا، وبالفجور ففجروا)) رواه أحمد وابن أبي شيبة وأبو داوود والنسائي في الكبرى وغيرهم من طريق عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، عن أبي كثير زهير بن الأقمر الزبيدي، عن عبد الله بن عمرو. - وقال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( شرُّ ما في رجل شحٌّ هالع، وجبن خالع )). رواه أحمد وإسحاق بن راهويه وابن أبي شيبة وأبو داوود وغيرهم من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عبد العزيز بن مروان عن أبي هريرة. وفي رواية عند البيهقي في شعب الإيمان عن موسى بن علي بن رباح قال: (الهالع: المحزن، والخالع: المخيف الذي يخلع القلب من شدته). وقال ابن جرير: (الهلع: شدة الجزع مع شدة الحرص والضجر). وهو كما فسّره الله تعالى بقوله: { إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)} فهذه صفة الهَلوع. - وقال أبو هريرة أيضاً رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يجتمع الشح والإيمان في جوف عبد أبداً » رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وسعيد بن منصور وأبو داود الطيالسي وابن أبي شيبة والنسائي في الكبرى وغيرهم من طريق صفوان بن أبي يزيد، عن القعقاع بن اللجلاج، عن أبي هريرة. - وقال أبو الهيَّاج الأسدي: (كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلا يقول: "اللهم قني شحَّ نفسي". لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال: "إني إذا وقيت شحَّ نفسي لم أسرق، ولم أزن، ولم أفعل شيئا" وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف). رواه ابن جرير في تفسيره والفاكهي في أخبار مكة من طريق سفيان الثوري عن طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن أبي الهيّاج. - وقال الأسود بن هلال: جاء رجل إلى عبد الله [ابن مسعود] فقال: خشيت أن تصيبني هذه الآية: {ومن يوق شح نفسه} الآية، ما أستطيع أن أعطي شيئا أطيق منعه، قال عبد الله: «ذاك البخل، وبئس الشيء البخل» رواه ابن أبي شيبة. وقد دلّت هذه الأحاديث والآثار على أنّ الشحّ أعمّ من البخل من وجوه: أحدها: أنّ البخل متعلّق بالمال، والشحّ متعلّق بكلّ ما تطمع النفس فيه من مال ومنفعة وشهوة وغيرها. والثاني: أن الشحّ صفة كامنة في النفس؛ والبخل ثمرة الشحّ؛ فمن بخل فقط أطاع شحّ نفسه، ومن لم يبخل فقد عصى شحّ نفسه. فالشحّ يأمر بالبخل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وبالبخل فبخلوا، وبالفجور ففجروا)) فهو يأمر بأشياء أعمّ من إمساك المال، ولذلك قال شيخ الإسلام قال ابن تيمية: (كل شحيح بخيل، وليس كل بخيل شحيحاً). والعرب قد تطلق على البخيل وصف الشحيح مبالغة في التشنيع وتنبيهاً على ما في نفسه من الشحّ الذي أمره بالبخل، والشحّ شرٌّ من البخل. والثالث: أنّ البخل متعلّق بالإمساك، والشحّ متعلّق بالطلب والإمساك، كما قال الله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)} فهؤلاء المنافقون في حال القتال يشحّون على المسلمين بأنفسهم وأموالهم، فإذا ذهب الخوف وحضرت الغنيمة سلقوهم بألسنة حدادٍ أشحّة على الخير أي الغنيمة؛ فيحملهم شحّهم وشرَهُ أنفسهم على المزاحمة والأذية ودعوى ما ليس لهم والعيب والطعن على المسلمين ليجدوا لأنفسهم وسيلة إلى الغنيمة، وفي بعض الحروف [صلقوكم] بالصاد، والصلق رفع الصوت بالأذية. قال ابن جرير: ( فأخبر أن سلقهم المسلمين شحّا منهم على الغنيمة والخير، فمعلوم إذ كان ذلك كذلك، أن ذلك لطلب الغنيمة). والمقصود أنّ شحّهم الأول كان في مقام البذل فشحوا بأنفسهم وأموالهم عن بذلها في سبيل الله. وشحَّهم الآخر في مقام الطلب والطمع. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} فيه أنّ الشحّ والإيمان لا يجتمعان، كما جاء في الحديث. وقال الكلحبة العرني: إنا نعفّ فلا نريب حليفنا ... ونكفّ شحّ نفوسنا في المطمع والرابع: أنّ البخل متعلّق بمال المرء نفسه، ولا يعنيه بذل غيره للخير، بل ربما وجد له نفعاً، وأمّا الشحيح فضيق نفسه وخبثها يكره فعل الخير حتى من غيره وتضيق به نفسه. والناس يتفاوتون في الشحّ؛ فمنهم من يكون شديد الشحّ وهذا من شأن المنافقين، ومنهم من يكون في نفسه شحّ يطيعه أحياناً ويعصيه أحياناً أخرى فإذا قوي في نفسه داعي الإيمان والتقوى عصى شحّه، وإذا ضعف إيمانه وحضره شحّه أطاعه. ومن الناس من لا يجد في نفسه شحّاً في حال السعة؛ فإذا كان في موضع مطمع أو إنفاق أو نزاع حضره شحّ النفس كما قال الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)}. - وقال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)} - وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) } فدلّت هذه الآيات على سبيل الشفاء من الشحّ، وأن أصله: الاستعاذة بالله، والتقوى والإحسان. - فقول الله تعالى: {ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون} فيه تنبيه على أنّ الذي يقي الناسَ شُحَّ أنفسهم إنما هو الله جلّ وعلا، فيلجأ المؤمن إلى ربّه ويسأله أن يقيه شُحَّ نفسه، ويبذل من الأسباب التي أرشد الله إليها ما يرجو أن تحصل له به تمام الوقاية من شحّ النفس. - والأمر بالتقوى في هذه الآيات فيه تنبيه على العصمة من الشحّ؛ فيتقي العبد ربّه فلا يأخذ ما لا يحلّ له، ويتقي ربّه في جانب البذل فلا يُمسك ما يجب عليه بذله من مال أو غيره، فهذه هي الدرجة الأولى من التعافي من الشحّ، ثم يأخذ نفسه بالإحسان والإنفاق حتى تطيب نفسه بما يبذل، ولا يجد في نفسه حاجة مما أوتي إخوانه المسلمون فيكون سليم الصدر سخيّ النفس فيحصل له بذلك تمام البراءة من الشحّ بإذن الله. - قال نعيم بن حماد: سمعت ابن المبارك يقول: (سخاء النفس عما في أيدي الناس أفضل من سخاء النفس بالبذل، ومروءة القناعة أفضل من مروءة الإعطاء). رواه ابن الشجري في أماليه. - وفي قوله تعالى: {فإنّ الله كان بما تعملون خبيراً} إشارة إلى أنّه ينبغي للمؤمن أن يتفكّر في أعماله وما فيها من تقصير فيعفو ويتسمّح لأخيه ولا يستقصي منه لما يقوم في قلبه حينئذ من خشية أن يستقصي الله عليه إن استقصى على أخيه، فيسهل عليه العفو رجاء أن يعفو الله عنه. - وقال خالد بن زيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «برئ من الشحّ مَن قرى الضيف، وأدى الزكاة، وأعطى في النائبة» رواه هناد في الزهد وابن زنجويه في الأموال وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني والنسائي في السنن الكبرى، والطبراني في المعجم الكبير من طريق مجمّع بن يحيى عن خالد بن زيد، وقد اختلف فيه فقيل هو خالد بن زيد بن جارية ، وقيل ابن حارثة، وقد ذكره البخاري في التابعين، وقال ابن حبان: مرسل. ورواه ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان من طريق إسماعيل بن عياش، قال: حدثنا مجمع بن جارية الأنصاري، عن عمه يزيد بن جارية الأنصاري، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « برئ من الشحّ من أدى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة » وروي أيضاً من حديث جابر وابن عمر ومن قول الأوزاعي، وفي أسانيده اضطراب، وقد ضعّفه الألباني. لكن لا ريب أنّ من أدّى الحقّ الواجب واتّقى الله فلم يأخذ ما لا يحلّ له فقد برئ من الشحّ، كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (من لم يأخذ شيئًا لشيء نهاه الله عزّ وجلّ عنه، ولم يدعه الشحّ على أن يمنع شيئًا من شيء أمره الله به، فقد وقاه الله شحّ نفسه، فهو من المفلحين). رواه ابن جرير. |
العجب والكبر
وأما العجب والكبر فداءان قبيحان من شرّ أدوية القلوب، يجلبان مقت الله وسخطه، وظلمة القلب، والبغضة في نفوس الخلق، ومحق بركة العمل، وسوء العاقبة، وهما من أعظم أسباب الخذلان والخسران، والعياذ بالله. فأمّا العجب فهو داء وبيء يسري إلى القلب فيُفسده، ويحبط العمل، ويجلب المقت، وسببه رؤية النفس واستعظامها، والعماية عن تقصيرها وقصورها، والغفلة عن منّة الخالق جل وعلا. والعجب يوقع في آفات كثيرة، منها ضعف التوكّل، والاعتماد على النفس، والاستبداد بالرأي، وحبّ العلوّ في الأرض، وازدراء الناس، وردّ النصيحة، والشماتة بالمخطئ والمبتلى؛ فإن تمادى قاد إلى الكبر والخيلاء. وقد صحّ في التحذير من العجب أحاديث وآثار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، ولم يزل أهل العلم يحذّرون منه، وينبّهون على شدّة خطره. - قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « بينما رجل يمشي في حلة، تعجبه نفسه، مرجّل جمته، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة» رواه البخاري ومسلم من حديث محمد بن زياد عن أبي هريرة، وله طرق أخرى، وروي من حديث ابن عمر أيضاً. - وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، وثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، والعدل في الغضب والرضا). روي عنه من حديث أنس بن مالك وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن أبي أوفى وعبد الله بن عمر، وطرقه كلها لا تخلو من ضعف، وبعض تلك الطرق معتبر، وقد حسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة. - وقال طلحة بن عبيد الله بن كريز: قال عمر: «إن أخوف ما أتخوف عليكم شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء برأيه، وهي أشدهن» رواه ابن أبي شيبة، وروي عن عمر أيضاً من طريق مجاهد عن سعيد بن المسيب. - وقال أبو الدرداء: (لولا ثلاث صلح الناس: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه). رواه ابن المبارك في الزهد، وأبو داوود في الزهد من طريقين عن أبي الدرداء. - وقال مسروق بن الأجدع: (كفى بالمرء علما أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بنفسه). رواه البيهقي في شعب الإيمان. - وقال عبد الله بن وهب: أخبرني عبد الله بن عياش القتباني، عن يزيد بن قوذر قال: قال كعب [الأحبار] وأتاه رجل ممن يتبع الأحاديث: «اتق الله وارض بدون الشرف من المجلس، ولا تؤذين أحدا، فإنه لو ملأ علمك ما بين السماء والأرض مع العجب ما زادك الله به إلا سفالا ونقصا» رواه أبو نعيم في الحلية، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله. - وقال حزم بن أبي حزم: سمعتُ الحسنَ يقول: (لو كان كلام بُنيَّ آدم كله صدقا، وعمله كله حسنا، يوشك أن يخسر). قال: وكيف يخسر؟ قال: (يعجب بنفسه). رواه البيهقي في شعب الإيمان. - وقال الحارث بن نبهان: سمعت محمد بن واسع، يقول: (وأصحاباه، ذهب أصحابي). قلت: يرحمك الله أليس قد نشأ شباب يقرءون القرآن ويقومون الليل ويصومون النهار ويحجون ويقرءون؟ قال: «أفسدهم العجب» رواه الإمام أحمد في الزهد. - وقال سفيان بن سعيد الثوري: قال أبو حازم: (أَخْفِ حسنتك كما تخفي سيئتك، ولا تكونن معجباً بعملك فلا تدري أشقي أنت أم سعيد). رواه البيهقي في شعب الإيمان. - وقال مطرف بن عبد الله: (لأن أبيت نائما وأصبح نادما، أحب إلي من أن أبيت قائما، وأصبح معجباً). رواه ابن المبارك في الزهد. - وقال معاوية بن قرة: (كانوا يرون أنه يموت مذنبا نادما أحبّ إليهم من أن يموت معجبا). رواه البيهقي في شعب الإيمان - وقال الأوزاعي: سمعت بلال بن سعد يقول: (إذا رأيت الرجل لجوجا مماريا معجبا برأيه فقد تمت خسارته). رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق. - وقال عبد الله بن المبارك: (ولا أعلم في المصلين شيئا شرا من العجب). رواه البيهقي في شعب الإيمان. وقال ذو النون المصري: (دوام الفقر إِلى الله مع التخليط أحب إلى من دوام الصفاء مع العجب). ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة وابن القيّم في طريق الهجرتين. ومن خطر العُجب أنّه يعرّض صاحبه للفتنة فيما أعجب به،وقد يعرّضه للخذلان من جهته كما قال الله تعالى: { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)} وكان هذا العجب قد وقع من بعض الصحابة ولم يقع من النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعض فقهاء الصحابة وكبارهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحذر من العجب، كما في مسند الإمام أحمد ومصنف ابن أبي شيبة والسنن الكبرى للنسائي من طريق ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أيام حنين يحرّك شفتيه بعد صلاة الفجر بشيء لم نكن نراه يفعله فقلنا: (يا رسول الله، إنا نراك تفعل شيئا لم تكن تفعله فما هذا الذي تحرك شفتيك؟) قال: ((إن نبيا فيمن كان قبلكم أعجبته كثرة أمته، فقال: لن يروم هؤلاء شيء فأوحى الله إليه: أن خيّر أمتك بين إحدى ثلاث: إما أن نسلط عليهم عدوا من غيرهم فيستبيحهم، أو الجوع، وإما أن أرسل عليهم الموت، فشاورهم، فقالوا: أما العدو فلا طاقة لنا بهم، وأما الجوع فلا صبر لنا عليه، ولكن الموت، فأرسل عليهم الموت، فمات منهم في ثلاثة أيام سبعون ألفا)). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأنا أقول الآن - حيث رأى كثرتهم -: اللهم بك أحاول، وبك أصاول، وبك أقاتل)). والشفاء من العُجْب يكون بالبصيرة والإخلاص والتوكل والتفكّر في السوابق والعواقب، وبها تُعالج أسباب العجب وآثاره؛ فيتفكّر في نفسه وتقصيرها وقصورها، وأنه لا يبلغ شكر نعمة ربّه مهما عمل، ولا سبيل له إلى طاعة إلى بتوفيق من الله تعالى وحده، وأن يعلم أنّ كلّ عمل لا يُراد به وجه الله فهو باطل، فيقوده ذلك إلى ابتغاء وجه الله في عمله، واطّراح رؤية النفس التي لا ينجيها إلا رحمة الله تعالى، وعدم الاعتماد عليها. والسوابق هي ما سبق للمرء في علم الله أشقيّ هو أم سعيد، والعواقب تشمل عواقب كلّ عمل، وغايتها عاقبة نفسه في دار الجزاء. - قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: (إذا أنتَ خفتَ على عملك العجب؛ فاذكر رضا من تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب، وأي عافية تشكر، وأي بلاء تذكر؛ فإنك إن ذكرت في واحدة من هذه الخصال صغر في عينيك ما قد عملت). رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق. وأمّا الكبر فدَاء عظيم الخطر شديد الضرر على القلب، صاحبه ممقوت مذموم ، ومخذول محروم، مطموس البصيرة، عظيم الجريرة، متعرّض للوعيد الشديد بالعذاب الوبيل. والنصوص في ذمّ الكبر كثيرة: - قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) } - وقال تعالى: { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)} - وقال تعالى: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)} - وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)} - وقال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} - قال السدي: (سأصرفهم أن يتفكروا في آياتي). رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ الأصبهاني. - قال سفيان بن عيينة: (أنزع عنهم فهم القرآن، فأصرفهم عن آياتي) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ الأصبهاني. وتفسير ابن عيينة هو من باب الاستدلال بعموم اللفظ ثم التمثيل عليه بأمر قد يُغفل عنه، وإلا فإنّ سياق الآيات كان في بني إسرائيل بعد نزول التوراة، ولم يكن القرآن قد أنزل عليهم، لكن لا ريب أنّ من عمل من هذه الأمة بمثل العمل الذي ذمّ الله به عصاة بني إسرائيل فهو مستحقّ لعقاب من جنس عقابهم. ولفظ "الآيات" عامٌّ في كلّ ما يستدلّ به على وحدانية الله تعالى وصدق رسله صلوات الله وسلامه عليهم فيما أخبروا به، ومن ذلك البعث والجزاء وما يجب على المكلّف من العمل لينجو من سخط الله وأليم عقابه، وينال فضله ورحمته ورضوانه. وصرفهم عن التفكّر في الآيات هي من عقوبة تكبّرهم الذي حملهم على عدم الإيمان بكلّ آية رأوها، واختيارهم سبيل الغيّ على سبيل الرشد، وتكذيبهم بآيات الله وغفلتهم عنها لإعراض قلوبهم عن التفكّر فيها. وفي هذا تحذير عظيم لهذه الأمّة؛ بأنّ التكذيب بآيات الله والغفلة عنها يوقعان في هذه البلايا العظيمة من سلوك سبيل الغيّ، واجتناب سبيل الرشد فلا تنفع قلوبهم المواعظ {وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا} فإذا فعلوا ذلك استحقّوا العقوبة العظيمة بالصرف عن آيات الله والختم على قلوبهم. لأن حقيقة هذه الأعمال الجامعة لها قائمة على الاستكبار عن آيات الله وعدم التفات قلوبهم إلى التفكر فيها. والكبر كما بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم: هو بطر الحقّ وغمط الناس؛ فبطر الحقّ ردّه تعاظماً عليه، وغمط الناس ازدراؤهم وتنقّصهم واحتقارهم. والكبر على درجتين: إحداهما: الكبر في أصل الدين؛ فيمنعه من الدخول في دين الله وعبادته، وهذا هو بلاء كثير من الكفار والمشركين. كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} ومعلوم أنّ الذي يستكبر عن عبادة ربّه جلّ وعلا فهو كافر لا حظّ له في الإسلام سواء أكان كفره كفراً أصلياً أو ردّة عن الدين، وهو الذي يسمّيه بعض أهل العلم "كِبْر الكفر" كما في شرح السنة للبغوي وغيره. والدرجة الثانية: كبر يحمل صاحبه على بطر بعض الحقّ وغمط بعض الناس، وإن كان في أصل الدين خاضعاً لله تعالى منقاداً له، وهو كبيرة من الكبائر وقد يوصل إلى الكفر في أحوال فيلتحق بالدرجة الأولى، لكن الفرق بين الدرجة الأولى والثانية ، أن الكبر الذي يُعدّ كبيرة وليس كفراً في الأصل ليس مراد صاحبه التكبّر عن الانقياد للدين، لكنّه قد يردّ بعض الحقّ ولا سيما إن جاءه عن طريق من يكره، ولو عرفه في نفسه، فيردّه كبراً وتعاظماً على من أتى به وأنفة من أن يكون تابعاً في ذلك الحقّ. وقد يقع منه غمط لبعض الناس واحتقار لهم وازدراء وترفع عليهم بعدم السلام أو ردّه، وبأن لا يراهم أهلاً لأن يؤدي لهم حقوقهم في الدين. وهذا الكبر محرّم بإجماع العلماء، وقد وردت النصوص في التحذير الشديد منه. - فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس» رواه مسلم والترمذي من حديث إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود. ورواه أحمد في مسنده من طريق آخر عن ابن مسعود وفيه تسمية ذلك الرجل وهو مالك بن مرارة الرهاوي. - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم: وكان رجلا جميلا، فقال: يا رسول الله، إني رجل حُبّب إليَّ الجمال، وأعطيت منه ما ترى، حتى ما أحب أن يفوقني أحد، إما قال: بشراك نعلي، وإما قال: بشسع نعلي، أفمن الكبر ذلك؟ قال «لا، ولكن الكبر من بطر الحق، وغمط الناس» رواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داوود من طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة. قال البيهقي: (قوله: ((بطر الحق)): يعني الكبر عند الحق فلم يقبله، وقوله: ((غمط الناس)): يعني احتقرهم). وهذا النصّ من نصوص الوعيد؛ فهو ليس نصّا في تكفير من كان في قلبه شيء من الكبر من أهل الإسلام؛ فقوله: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر) نصّ عام في جميع أنواع الكبر، ومنعه من دخول الجنّة مع وجود مثقال ذرّة من كبر، هو نظير منع من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان من الخلود في النار. فهو متوعّد بالعذاب حتى يتطهّر من الكبر كلّه فلا يدخل الجنّة إلا نفس طيّبة قد ذهب عنها خبثها ، وهذا لا يكون إلا لمن كان في قلبه إيمان، وأما من حمله كبره على ارتكاب ناقض من نواقض الإسلام من غير عذر جهل ولا تأويل ومات على ذلك فهو كافر مرتدّ عن دين الإسلام، ويلتحق بأصحاب الدرجة الأولى . وإذ كان هذ النصّ من نصوص الوعيد التي لا تقتضي كفر من كانت فيه؛ فيكون حكمه حكم أهل الكبائر، فمنهم من يُعذّب، ومنهم من تدركه رحمة أرحم الراحمين فيغفر له تكرماً منه أو يهيّئ له سبباً من أسباب العفو كشفاعة الشافعين، والحسنات الماحية، ودعوات المسلمين، والملائكة، وأعمال صالحة جرت له بعد موته، أو مصائب وبلايا أصيب بها في حياته، أو عذاب في قبره أو في عرصات يوم القيامة، فإن لم تنفعه هذه الأسباب وكان في قلبه إيمان عُذّب في النار حتى يذهب خبث نفسه ويتطهّر مما فيه من الكبر، ثم تدركه بعض هذه الأسباب برحمة الله تعالى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فمن في قلبه مثقال ذرة من هذا يوجب له أن يجحد الحق الذي يجب عليه أن يقر به وأن يحتقر الناس فيكون ظالما لهم معتديا عليهم فمن كان مضيعا للحق الواجب؛ ظالما للخلق. لم يكن من أهل الجنة ولا مستحقا لها؛ بل يكون من أهل الوعيد. فقوله: ((لا يدخل الجنة)) متضمن لكونه ليس من أهلها ولا مستحقا لها، لكن إن تاب أو كانت له حسنات ماحية لذنبه أو ابتلاه الله بمصائب كفر بها خطاياه ونحو ذلك زال ثمرة هذا الكبر المانع له من الجنة؛ فيدخلها أو غفر الله له بفضل رحمته من ذلك الكبر من نفسه؛ فلا يدخلها ومعه شيء من الكبر). قال: (ولهذا قال: من قال في هذا الحديث وغيره: إن المنفي هو الدخول المطلق الذي لا يكون معه عذاب؛ لا الدخول المقيد الذي يحصل لمن دخل النار ثم دخل الجنة؛ فإنه إذا أطلق في الحديث فلان في الجنة أو فلان من أهل الجنة كان المفهوم أنه يدخل الجنة ولا يدخل النار. فإذا تبين هذا كان معناه أن من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ليس هو من أهل الجنة ولا يدخلها بلا عذاب بل هو مستحق للعذاب لكبره كما يستحقها غيره من أهل الكبائر ولكن قد يعذب في النار ما شاء الله فإنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد وهذا كقوله: ((لا يدخل الجنة قاطع رحم)) وقوله: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) وأمثال هذا من أحاديث الوعيد وعلى هذا فالحديث عام في الكفار وفي المسلمين). - وقال في موضع آخر: (كثير من المنتسبين إلى العلم يُبتلى بالكِبْر كما يُبتلى كثيرٌ من أهل العبادة بالشرك ولهذا فإن آفة العلم الكِبْر وآفة العبادة الرياء وهؤلاء يُحْرَمون حقيقة العلم كما قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} قال أبو قِلابة: "منع قلوبَهم فهم القرآن" ولهذا كان الكِبْر كثيرًا في اليهود وأشباه اليهود الذين يعلمون الحقَّ ولا يتبعونه والشرك كثير في النصارى وأشباه النصارى الذين يعملون ويعبدون بغير علم. والمهتدون هم الذين يعلمون الحق ويعملون به كما قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اليهود مغضوبٌ عليهم والنصارى)ا.هـ. والمقصود التفريق بين الكبر المخرج من الملة ، والكبر الذي يعدّ من كبائر الذنوب ولا يخرج من الملّة بمجرّده، مع شدّة خطره وإشراف صاحبه على الهلكة. ومن تأمّل الأحاديث والآثار الواردة في التحذير من الكِبر تبيّن ما فيها من شدّة الترهيب من الكِبر: - فعن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: «العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني بشيء منهما عذبته» رواه البخاري في الأدب المفرد ومسلم في صحيحه من حديث أبي إسحاق عن أبي مسلم الأغرّ عنهما، ورواه أحمد وابن ماجه وأبو داوود من طرق عن عطاء بن السائب عن أبي مسلم الأغرّ عن أبي هريرة بلفظ: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحدا منهما قذفته في النار» - وقال حارثة بن وهب الخزاعي: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا أخبركم بأهل الجنة؟)) قالوا: بلى قال: ((كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره)). ثم قال: ((ألا أخبركم بأهل النار؟)) قالوا: بلى قال: ((كل عُتُلٍّ جَوَّاظ مستكبر)). رواه أحمد والبخاري ومسلم من حديث معبد بن خالد القيسي عن حارثة. - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار، طينة الخبال» رواه عبد الله بن المبارك في الزهد، وأحمد في المسند، والبخاري في الأدب المفرد، والترمذي والنسائي في الكبرى، وغيرهم من طرق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو إسناد حسن، وقد حسّنه الترمذي وابن حجر والألباني. والمقصود أن الكبر من أعظم أدواء القلوب، ومن أعظم ما يفسد التصوّر، وينحرف بالإرادة، وهو من أسباب حرمان العلم والبصيرة في الدين. قال مجاهد: (لا ينال العلم مستحيٍ ولا مستكبر). علقه البخاري في صحيحه، ووصله البيهقي في المدخل من طريق ابن وهب عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. والشفاء من الكبر يكون بالتوبة الصادقة إلى الله تعالى، والتواضع لله، والتواضع للخلق، ومداواة العجب الذي هو أصل الكبر. ومما يعين على ذلك: 1: التفكّر فيما يؤول إليه الكبر من الذلّ العظيم والشقاء والحرمان كما تقدّم في النصوص والآثار، والتفكر فيما يلزم المتكبّر من الذلّ في حاله. - قال عمران بن موسى المؤدب: قرأت في بعض الكتب: (ما رأيت أحداً قط تكبر على من دونه إلا وبذلك المقدار يجود بالذلة لمن فوقه). رواه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق" 2: توطين النفس على قبول الحقّ ممن جاء به وإن كان صغيراً. - قال ابن رجب: (قال بعض السلف: التواضع: أن تقبل الحق من كل من جاء به، وإن كان صغيرا، فمن قبل الحق ممن جاء به، سواء كان صغيرا أو كبيرا، وسواء كان يحبه أو لا يحبه، فهو متواضع، ومن أبى قبول الحق تعاظما عليه، فهو متكبر. وغمص الناس: هو احتقارهم وازدراؤهم، وذلك يحصل من النظر إلى النفس بعين الكمال، وإلى غيره بعين النقص). 3: حبّ المساكين، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (وأسألك حبّ المساكين) فحبّهم ينفي التكبّر عليهم من القلب. 4: ومداواة القلب متى خاف المرء على نفسه الكبر بأعمال فيها تواضع لله تعالى ولخلقه من غير مهانة فيهذّب بها نفسه، ويزيل ما فيها من الكبر، وقد روي في ذلك آثار عن السلف؛ فكان منهم من يخدم العامّة ببعض أعمال الخدمة التي يأنف منها أهل الكبر وليس فيها امتهان للنفس ومنافرة الطبع. 5: وتهذيب القوّة الداعية إلى الكبر في نفسه بصرفها إلى مصارف محموده من الاجتهاد في إعلاء كلمة الله تعالى، والجهاد في سبيله ومراغمة أعداء الدين تقرّباً إلى الله تعالى. - وفي حديث عبد الرحمن بن جابر بن عتيك عن أبيه رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة، وإن من الخيلاء ما يبغض الله، ومنها ما يحب الله، فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل نفسه عند القتال، واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغض الله فاختياله في البغي» وفي رواية: (والفخر). رواه أبو داوود والطحاوي والطبراني والطبراني وابن حبان من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن ابن جابر بن عتيك. وفي سيرة ابن إسحاق عن معاوية بن معبد بن كعب بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رأى أبا دجانة يتبختر: «إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن» وهو مرسل. وقد اختلف العلماء في معنى الاختيال الذي يحبّه الله عند الصدقة على أقوال منها: أن حقيقته اختيال على النفس الشحيحة، أو على الشيطان، قيل غير ذلك والأقرب أن ذلك مخصوص بالصدقة التي يكون المرء أسوة لغيره فيتصدّق بصدقة جزلة علانيةً يكون فيها نفع للمحتاجين ويدفع غيره للاتساء به مع تحقيقه الإخلاص لله تعالى في ذلك؛ فيكون اختياله بالصدّقة في معنى إظهاره لها ومشيه بها بانبساط نفس وأريحية. ويفسّره ما في صحيح مسلم وغيره من حديث المنذر بن جرير، عن أبيه، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر فتمعَّر وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} إلى آخر الآية، {إن الله كان عليكم رقيبا} والآية التي في الحشر: {اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله} «تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره - حتى قال - ولو بشق تمرة» قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل، كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء». والله تعالى أعلم. |
الشهوة والغضب:
الشهوة والغضب صفتان جبليّتان وقوّتان فطريتان في بني آدم، وهما أصل قوّة الطلب والدفع في القلب الذي هو محلّ الإرادة. فالشهوة جامعة لكلّ ما تميل إليه النفس من متع الحياة، والغضب باعثه إرادة دفع المضرة كما يتصوّرها صاحبها. ولذلك فإنّ الشهوة والغضب هما الأصلان الجامعان لأمراض القلوب، وبهما ينصب الشيطان شراكه لبني آدم، فمن هذّبهما، وفطن لحبائل الشيطان فيهما، وصرفهما فيما أذن الله به، فقد وقي شرّهما، ومن وقي شرّهما فقد وقي من آفات كثيرة، وبلايا عظيمة. - قال ابن القيم رحمه الله: (الله سبحانه قد اقتضت حكمته: أن ركب الإنسان - بل وسائر الحيوان - على طبيعة محمولة على قوتين: غضبية وشهوانية، وهي الإرادية. وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق النفس وصفاتها، وهما مركوزتان في جِبلّةِ كل حيوان: فبقوة الشهوة والإرادة: يجذب المنافع إلى نفسه. وبقوة الغضب: يدفع المضار عنها فإذا استعمل الشهوة في طلب ما يحتاج إليه: تولد منها الحرص. وإذا استعمل الغضب في دفع المضرة عن نفسه: تولد منه القوة والغيرة. فإذا عجز عن ذلك الضار: أورثه قوة الحقد. وإن أعجزه وصول ما يحتاج إليه، ورأى غيره مستبدا به: أورثه الحسد. فإن ظفر به: أورثته شدة شهوته وإرادته: خلق البخل والشح. وإن اشتد حرصه وشهوته على الشيء، ولم يمكنه تحصيله إلا بالقوة الغضبية، فاستعملها فيه: أورثه ذلك العدوان، والبغي والظلم، ومنه يتولد: الكبر والفخر والخيلاء؛ فإنها أخلاق متولدة من بين قوتي الشهوة والغضب، وتزوج أحدهما بصاحبه)ا.هـ. فأمّا الشهوة فهي مصدر شَهِيتُ الشيءَ واشتهيته شهوة واشتهاءً، ثمّ أطلق على كل ما يُشتهى اسم "الشهوة" من باب تسمية المفعول باسم المصدر، فلذلك تطلق الشهوة على فعل المشتهي بقلبه، وعلى ما يشتهيه فهو شهوة له، والجمع شَهَوات. والشهوات على أنواع منها: شهوة الطعام، وشهوة الشراب، وشهوة النكاح، وشهوة المال، وشهوة الملبس، وشهوة المركب، وشهوة الكلام، وشهوة النظر، وشهوة السمع، وشهوة الرئاسة، وشهوة المجالسة، وشهوة الفضول، وغيرها. قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)} وهذه أصول ما يشتهيه بنو آدم من متع الحياة بما جُبلوا عليه، ثم من الناس من تفسد فطرته وتنتكس فيشتهي ما ينكره أصحاب الفطر السليمة. وبُني الفعل "زُيّن" لما لم يُسّم فاعله لاختلاف أحوال الناس فيما يُزيّن لهم ، فأصحاب الفطر السليمة والتقوى إنما زُيّن لهم منها ما أباحه الله، واستعملوه فيما أذن الله به، والله تعالى هو الذي زيّن لهم منّة منه عليهم، ولولا ذلك ما طابت حياتهم، ولا وجدوا متعة فيما يتناولون من الشهوات المباحة. ومن الناس من يُزيّن له الشيطان أو تزيّن له نفسه الأمّارة بالسوء ما حُرّم عليه أو يُبالغ له في تزيين ما هو مباح في الأصل. فما كان من التزيين متمحضاً للخير والصلاح فهو من تزيين الله تعالى، وما كان من تزيين محرّم أو مغالاة في مباح الأصل فهو من تزيين النفس والشيطان، والله تعالى لا يُنسب إليه الشر. ولذلك إذا ذكر الخير المحض صرّح بنسبته إلى الله تعالى لأنّه هو المانّ به كما في قول الله تعالى: { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} وإذا ذكر الشرّ المحض صرّح بنسبته إلى من هو أهله إلا لفائدة أجلّ، كما في قول الله تعالى: { وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} وقوله: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)} وقوله: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)} وإن كان لا يقع شيء في ملكوت الله تعالى إلا بإذنه وتقديره، ولذلك لما أريد بالتزيين الأمر الكوني القدري في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)} ، وقوله: { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} صُرّح فيه بإسناد التزيين إلى الله تعالى خلقاً وتقديراً. وفي هذه المسألة بسط ليس هذا موضعه. ومن الشهوات ما هو خفيّ غير ظاهر، وقد تختل إلى القلب في ثوب القصد الصالح وحقيقتها شهوة دنيوية خفية. - قال شداد بن أوس رضي الله عنه: (إن أكثر ما أن أخاف على هذه الأمة الرياء والشهوة الخفية، إنكم والله لتؤتون من قبل الرؤوس الذين إذا أمروا بخير أطيعوا، وإذا أمروا بشرّ أطيعوا). رواه أبو داوود في الزهد من طريق الزهري عن محمود بن الربيع عن شداد، وإسناده صحيح. - قال أبو داود: (الشهوة الخفية: حب الرياسة). قلت: هذا من باب التمثيل، كأن يُنكر المنكر لأجل أن يُسمع كلامه ويطاع أمره فيترأس على من حوله بذلك، والشهوات الخفيات كثير ويجمعها أن يعمل عملاً صالحاً ثم تداخله شهوة محرمة في نيته فتنقص أجره أو تحبطه. والشهوات على صنفين: الصنف الأول: شهوات مباحة في أصلها ما لم يتعدّ المشتهي فيها حدود الله عزّ وجل. والصنف الثاني: شهوات محرّمة، وهي أن يشتهي محرّما لا يحلّ له أن يشتهيه. فالشهوة إذا جاوزت القدر المباح فهي مرض؛ كما قال الله تعالى: {فيطمع الذي في قلبه مرض}. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (هو مرض الشهوة؛ فإن القلب الصحيح لو تعرضت له المرأة لم يلتفت إليها بخلاف القلب المريض بالشهوة؛ فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه؛ فإذا خضعن بالقول طمع الذي في قلبه مرض). والشهوة باعثها خَطْرة تهيج رغبة كامنة في القلب، ثم تتولّد منها الفكرة ثم تنتج الإرادة ثم تقوى تلك الإرادة فتكون عزيمة ثم يتمّ الفعل. وتناول المرء ما يشتهيه من المباحات لا يضرّه ما دام قلبه سليماً من التعلّق بها، ذاكراً ربّه، مؤدّياً شكر نعمه، لكن إذا انصرف الفكر إلى شهوة محرّمة أو أسرفَ في شهوة مباحة سرت إلى قلبه غفلة بحسب مبلغ تلك الشهوة وتمكنها من قلبه؛ فإن تمادى ولم يكفّها بسلطان التذكّر والتبصّر أمدّه الشيطان بالوساوس والخطرات والتزيين حتى يقع في الغيّ، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)} وإذا تعلّق القلب بالشهوة وأدمن تذكّرها وانقطع فكره إليها حتى تكون هي غذاء قلبه فيسكر بها سُكْرَاً أشدّ من سُكْرِ شارب الخمر، فإنّ شارب الخمر يسكر ساعات ثمّ يفيق، وأما المولع بالشهوة فإنه لا يفيق من سكرته ما دام سلطانها عليه كما قال الله تعالى في قوم لوط: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} وهذه السكرة تحجب البصيرة، فيغفل القلب ويقسو، وتولع صاحبها بما اشتهاه وتعلّق قلبه به، حتى يذهل عن نفسه وما يصيبها من ألم ومشقة في سبيل تلك الشهوة لم يكن ليحتملها لولا قوّة سلطان الشهوة على قلبه. وإذا فقد تلك الشهوة وجد لفقدها ألماً لا يحتمله قلبه؛ فتتأثّر به الروح، وتضطرب، وربّما بكى من شدّة ما يجد، وذهل عمّا حوله، بل ربّما أصابه خلل في عقله إذا اشتدّ به البلاء ولم يوفّق لما يشفيه أو يخففه أو يسليه عنه، كما هو حال كثير من العشّاق. وبعض من يُصاب بهذا الداء ثمّ يسلو مدّة قد يهيّجه إليه أدنى شيء يذكّره به، كما قال جران العود: ذكرت الصبا فانهلّت العين تذرف ... ..وراجعك الشوق الذي كنت تعرف وكان فؤادي قد صحا ثم هاجني ..... حمائم ورقٌ بالمدينة هُتف فهيّجه على العشق صوت هديل الحمام لما فيه من الحزن. ومن العُشّاق من يشتدّ به العشق حتى يُجنّ به، وأخبار العشّاق في ذلك كثيرة، والعشق مرض يأتي الحديث عنه إن شاء الله. والذين يتبعون الشهوات على صنفين: الصنف الأول: من يفضي بهم اتّباعهم للشهوات إلى الكفر بترك الصلوات أو ارتكاب نواقض أخرى؛ فهؤلاء لا نجاة لهم إلا بالتوبة الإيمان والعمل الصالح كما قال الله تعالى: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)} ومعنى إضاعة الصلوات في هذه الآية قد اختلف فيه المفسرون على قولين، أرجحهما ما رجّحه ابن جرير أنه بمعنى تركها. وأما من أخّر الصلاة عن وقتها من غير أن يتركها فهو مفرّط ظالم لنفسه بتأخيرها، وقد شابه هؤلاء الذين ذمّهم الله فيُخشى عليه أن يعاقب ببعض عقابهم. والصنف الثاني: من يفضي بهم اتّباعه للشهوات إلى أنواع من الفسوق والعصيان لا تبلغ بهم الكفر، ولهم مع ذلك أعمال صالحة؛ فهؤلاء من الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً. وشفاء المخلّطين في سبعة أمور أرشد الله تعالى إليها بقوله: { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} فأولها: الاعتراف بالذنب. والثاني: حسن الظنّ بالله ورجاء مغفرته ورحمته، دلّ عليه قول الله تعالى: {عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم} والثالث: تطهير القلب وتزكيته بالصدقة. والرابع: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولها أثر عجيب في تسكين القلب، فإنّ من قارف ذنوب الشهوات وفي قلبه حياة اضطرب قلبه ووجد للمعصية ألماً وانزعاجاً شديداً يحتاج معه إلى تسكين، ومن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشراً. والخامس: التوبة الصادقة ورجاء القبول من الله، والتصديق برحمته وتوبته على عباده وقبوله للصدقات. والسادس: العمل الصالح، وصحبة المؤمنين. والسابع: مراقبة عالم الغيب والشهادة، ومحاسبة النفس قبل القدوم على الله في يوم ينبّئ العباد فيه بما كانوا يعملون. فمن استكمل هذه الأشفية السبعة شُفي من آثار تخليط الأعمال الصالحة بالأعمال السيئة، وصار لقلبه من القوّة والعزيمة على الاستقامة ما يرجى له به صلاح قلبه وعمله. وكلام العلماء في الشفاء من الشهوة المحرمة ودفع شِرَّتها عن القلب يتلخّص في أمور: أولها: التوكل على الله والاستعانة به؛ فإنّه لا شفاء إلا به جلّ وعلا. والثاني: تقوى الله بتهذيب الشهوة وصرفها فيما أباحه الله من غير إسراف ولا تعلّق قلب، فليس المطلوب استئصال الشهوة كما غلط في ذلك من غلط، وإنما المطلوب تهذيبها. وإذا ابتلي المؤمن بأمر يهيّج عليه شهوته فليأت مما أباحه الله ما يقطع عنه نهمة النفس واشتغال القلب بهذه الشهوة، وفي صحيح مسلم من حديث أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها؛ فقضى حاجته، ثم خرج إلى أصحابه، فقال: «إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه». والمنيئة: الجلد أول ما يوضع في الدباغ، والمعس: الدلك، أي أنها كانت تعمل في شأن بيتها. ويُعمل في سائر أنواع الشهوات بمثل هذه السنّة. والثالث: مراقبة الله مدافعة الخطرات المهيجة للشهوات المحرمة؛ فإنّ مدافعتها أيسر من مدافعة ما بعدها، وصيانة القلب بحفظ الجوارح؛ ومن ذلك غضّ البصر. - قال إسحاق بن سويد: سمعت العلاء بن زياد يقول: «لا تتبع بصرك حسن رداء المرأة؛ فإن النظر يجعل الشهوة في القلب» رواه ابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي الدنيا في كتاب الورع ووقع عنده "ردف" بدل "رداء" والرابع: تغيير ما في النفس، ومن ذلك قطع العلائق الداعية للشهوات المحرمة، واستجلاب علائق صالحة تعين على الأعمال الصالحة؛ فمن كان في بلد اعتادت نفسه فيه على أعمال الفساد ودربت عليها خطواته وصارت له به علائق تشدّه إلى الشهوات المحرمة، وخشي من ضعف نفسه فعليه أن ينتقل منه إلى بلد أصلح لقلبه، وكذلك يُقال في أنواع العلائق الأخرى. والخامس: تغذية القلب بغذائه الذي يقوّيه، من ذكر الله والعمل الصالح وأفضله الصلاة على وقتها وإقامتها كما أمر الله بطهارة قلب وإقبال على الله؛ فإنها من أعظم ما يقوّي القلب ويعينه على دفع الأدواء، والشهوة المحرمة لا تتسلّط على القلب إلا على حين ضعف منه، وقد قال الله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} والسادس: الصبر، وهو رأس الإيمان، ولما أباح الله تعالى نكاح الإماء لمن لم يجد طولا للحرائر وخشي على نفسه العنت قال: {وأن تصبروا خير لكم } والسابع: التفكّر في العواقب، وهو خاصّية العقلاء. - قال ابن القيم: (وأما الشهوة فدواؤها صحة العلم والمعرفة بأن إعطاءها شهواتها أعظم أسباب حرمانها إياها ومنعها منها وحميتها أعظم أسباب اتصالها إليها فكلما فتحت عليها باب الشهوات كنت ساعيا في حرمانها إياها وكلما أغلقت عنها ذلك الباب كنت ساعيا في إيصالها إليها على أكمل الوجوه). فصل في العشق: ومما يتصل بالحديث عن الشهوة المحرمة الحديث عن العشق، وهو داء وبلاء عظيم، وهو حبّ زائد مفرط ناتج عن طغيان المحبوب على القلب، واستيلاؤه على التفكير؛ فيؤثره بالحبّ والتذكّر والطاعة، حتى يرتكب لأجله بعض المحرّمات، أو يفرّط في بعض الواجبات. وقد اختلف في العشق؛ فقيل: هو فساد في الإرادة وهو المشهور، وقيل: فساد في التصوّر. والتحقيق أن منشأه فساد في الإرادة ثمّ يؤول إلى فساد التصوّر، فأوّله حبّ فاسد؛ ثم يستحكم حتى يكون حبّا مضراً يؤثّر في بدن العاشق وعقله ويفسد قلبه؛ فيولع به صاحبه مع معرفته بضرره، ولذلك يعدّه بعضهم من الأمراض النفسية؛ لأن صاحبه كالمريض الذي يشتهي ما يضرّه فإن تناوله أضرّه، وإن منع منه تألّم لحرمانه منه. ويزداد العشق باتّصال العاشق بمعشوقه مشاهدةً أو ملامسةً أو سماعاً، ويضرّه التفكير فيه، والتخيّل له. وعدّ العشقُ من أمراض القلوب لأنّه يفسدها فساداً عظيماً، ولو كان المعشوق مما تباح محبّته في الأصل كالزوجة، وإذا كان في محبّة الممنوع كان ضرره وإفساده أعظم. والشفاء من العشق يكون بأمور ترجع إلى ما تقدّم ذكره من علاج الشهوة، لكن البلاء فيه أشدّ، وقد لا يملك العاشق نفسه إلا أن يمنّ الله تعالى عليه فيعينه على ما يشفيه به. ومن أجود ما قيل في علاج العشق وأجمعه قول أمّ الضحّاك المحاربية، وكانت قد تزوجت رجلا أحبّته حبّا عظيماً ثمّ طلّقها وارتحل، فهامت به عشقا، وأنشدت فيه القصائد، حتى أضرّ بها حبّه، وسألت عن الشفاء فنظمت ما أُجيبت به في أبيات حسنة ذكرها أبو علي القالي في أماليه، قالت فيها: سألتُ المحبين الذين تحمَّــــلــــــــــــــــــــــــــوا ..... تباريح هذا الحبّ من سالف الدهر فقلت لهم ما يذهب الحــــب بعـــدما ..... تبوأ ما بين الجوانـــــــــــــــح والصـــــــــــــدر فقالوا شفـــــــــــــاء الحب حبٌّ يزيلــــه ..... لآخر أو نأيٌّ طويـــــــــــــلٌ عَلَى هجـــــــــر أو اليأس حتى تذهل النفس بعدما ..... رجَتْ طمعاً واليأس عونٌ عَلَى الصبر فذكرت أدوية ثلاثة: أولها: مزاحمة الحبّ بحبّ آخر يزيله، والحبّ الفاسد يُزال بالحبّ الصالح؛ فإنّ القلبَ لا يترك محبوباً إلا لمحبوب أعظم منه أو خوف ضرر تجرّه عليه تلك المحبّة؛ فتكون السلامة أحبّ إليه؛ فإذا تفكّر في ضرر العشق وتفويته محبّة ما هو خير له وأنفع أعانه ذلك على التعافي من العشق، ومن سعادة المرء أن يكفيه الله بحلاله عن حرامه. والدواء الثاني: الهجر والنأي الطويل، وهو من قطع العلائق التي تقدّم ذكرها؛ ولا بدّ مع البعد عمّا يهيّج الحبّ من احتمال ما يكون من الألم في أوّل الأمر إلى أن ينتزع هذا الحبّ من قلبه، وهو كمثل الشوكة الكبيرة المؤلمة التي داخلت الجسد فلا بدّ من الصبر على ألم نزعها. والدواء الثالث: اليأس والسلوّ بذهول النفس عن المحبوب، فاليأس يزيل الطمع؛ فيضعف الحبّ لانقطاع إمداده الذي يغذّيه ويقوّيه، واليأس عون على الصبر كما ذكَرَتْ، وهذا لا يتأتّى إلا بقطع العلائق. وإذا سلا العاشقُ خفّ ما به كما قال كثيّر عزة: فيا عجباً للقــــلب كيف اعترافه ..... وللنفس لما وطّنت كيــــــف ذلّت وللعين أســــــراب إذا ما ذكرتهــــا ….. وللقلب وسواس إذا العين ملّت وإني وتهيــــــــــــــامــــي بعزة بعـــدمـــــــــا ... .تخــــــــــــــــــــليت مما بيننـــــــــا وتخــــــــلت لكالمرتجى ظــــــــــل الغمامة كلــــــما ..... تبوأ منها للمقيـــــــــــــل اضمحلـت كأني وإياها سحـــــــــــــــابةُ ممحــــــــــل ..... رجاها فلما جـــــــــــــاوزته استهلت فإن ســـــــأل الواشون فيم هجرتها ..... فقل نفس حــــــــرّ سليت فتسلت ولا يتمّ شفاء العاشق إلا بزوال الحبّ المذموم من قلبه، كما لا يتم شفاء المريض إلا بزوال مرضه. ومِن أعظم ما يصون القلب عن العشق الصدق في محبة الله تعالى ومداومة ذكره؛ فإنّ القلب إذا كان محبّا لله تعالى وحده لم يُبتل بحبّ غيره أصلاً، فضلاً عن أن يبتلى بالعشق. ومَن ابتلي بالعشق فلنقصٍ محبّته لله وحده، وتوحيده إيّاه، ولذلك سلم يوسف عليه السلام من العشق، وشقيت به امرأة العزيز مدّة من عمرها. والقلب الصالح فيه صارفان يصرفانه عن العشق: صدق محبّته لله، وخوفه منه؛ فما دام هذان الصارفان يعملان في قلبه فهو في عافية من العشق بإذن الله، ومن ضعف في بعض أحواله فعشق ثم عفّ وصبر أثيب على صبره وتقواه لله. وأمّا الغضب فهو صفة جبليّة في النفس البشرية، يبعثها رغبة دفع المضرّة والأذى عن النفس كما يتصوّرهما صاحبها؛ فإذا رأى ما يكره أن يؤذيه غضب ليدفع ذلك الأذى، والأصل في الغضب أنه صفة كمال إذا كان بالعدل وفي مواضعه الصحيحة، لأنّها من قوام النفس البشرية، وإنما ينشأ الخلل في الغضب في حالين: أحدهما: أن يغضب في غير موضع صحيح للغضب. والآخر: أن يجاوز في غضبه الحدّ المشروع له فيحمله ذلك على الظلم والعدوان وأذى النفس والعماية عن مقتضى البصيرة. ولذلك فإنّ تهذيب الغضب لا يكون بطلب استئصاله من القلب، وإنما يكون بأمرين: أحدهما: صرف هذه القوّة إلى الغضب في المواضع المشروعة وهي إما واجبة وإما مندوبة وإما مأذون بها. والآخر: إلزام النفس بالعدل في الغضب؛ فلا يتعدّى حدود الله ولا يظلم، وإن كان غضبه لله في الأصل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربّه "العدل في الغضب والرضا" وفي رواية "كلمة الحق" وفي رواية أخرى "كلمة الحكم" ، وهي روايات تأتلف ولا تختلف، وقد رواها الإمام أحمد وابن أبي شيبة والنسائي وأبو يعلي والطبراني وابن حبان وغيرهم من طرق عن عمّار بن ياسر رضي الله عنه. وفي الصحيحين من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب». فمن ألزم نفسه العدل والتقوى في غضبه لم يكن عليه بأس منه والاعتدال في الغضب كمال بين نقيصتين، وهدى بين ضلالتين: أحدهما: الاعتداء في الغضب ومجاوزة الحدّ المشروع بقول أو فعل. والآخر: ذهاب الغيرة لمحارم الله. فمن كان لا يتمعّر وجهه في الله، ولا يغضب لله إذا رأى محارمه تُنتهك فهو ضعيف الإيمان أو عازبه. - قال ابن القيّم رحمه الله: (وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس؟!! كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزّن المتلمّظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذلَ وتبذل وجدَّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء - مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم - قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب؛ فإنه القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل، وقد ذكر الإمام أحمد وغيره أثرا «أن الله سبحانه أوحى إلى ملك من الملائكة أن اخسف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب كيف وفيهم فلان العابد؟ فقال: به فابدأ؛ فإنه لم يتمعر وجهه في يوما قط» )ا.هـ. وكثير من العلماء الذين رفعهم الله وجعلهم أئمة يُقتدى بهم كان من أسباب رفعتهم وتوفيقهم قيامهم بأمر الله، والقيام بأمر الله يقتضي حياة القلب وغضبه لله غضباً يدفعه إلى العمل والاجتهاد في نصرة دين الله وردّ عدوان المعتدين على دينه وأوليائه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. والمقصود أنّ الغضب إذا كان لله وقام صاحبه بالحقّ من غير تعدٍّ كان غضبه محموداً ، وقد صحّ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد غضب في مواضع، وكلّها لله تعالى، وكان هديه فيها أحسن الهدي. - قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم، أمرهم من الأعمال بما يطيقون، قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه، ثم يقول: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا» رواه البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. - وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «أهدى إلي النبي صلى الله عليه وسلم حلة سيراء، فلبستها، فرأيت الغضب في وجهه فشققتها بين نسائي» رواه البخاري ومسلم من حديث شعبة بن الحجاج عن عبد الملك بن ميسرة عن زيد بن وهب، عن علي. - وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسما، فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فتمعّر وجهه، وفي رواية فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه، ثم قال: (( يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر )). رواه البخاري من حديث أبي وائل شقيق بن سلمة عن ابن مسعود. - وقال أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان، مما يطيل بنا؛ فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ فقال: «يا أيها الناس إنَّ منكم منفّرين، فأيكم أمَّ الناسَ، فليوجز فإن من ورائه الكبيرَ والضعيفَ وذا الحاجة» رواه أحمد والبخاري ومسلم من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي مسعود. وهذه الأحاديث إنما ذكرتها للتمثيل ، وبيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأنّه كان يغضب لله، لكن لم يكن يحمله غضبه على تعدٍّ ولا ظلم، حاشاه صلى الله عليه وسلم. وهذا كلّه في شأن الغضب لله. وأما الغضب للنفس فهو المقصود هنا وهو على درجتين: الدرجة الأولى: غضب لا يًلام عليه العبد إذا كان له سبب صحيح ولم يحمله على ظلم واعتداء، فإنْ كظم غيظه وعفا فهو من أهل الإحسان، كما قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} وقال تعالى: { فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)} فهؤلاء قد وُقوا شرّ فتنتي الشهوة والغضب. والدرجة الثانية: الغضب المذموم، وهو الذي وردت النصوص في النهي عنه، والتحذير منه، وهو المرض الذي إذا سرى في القلب وتمكن منه جرّ على صاحبه مصائب عظيمة في دينه ودنياه، وحرمه خيراً كثيراً. وكم من إنسان هوَت به بعض غضباته إلى مهاوي الردى؛ فبقي سنوات من عمره في مكابدة بعض آثار تلك الغضبات، وذلك لأنّه لم يملك غضبه فاعتدى بقول أو فعل، وربما كان غضبه على أمرٍ لا يسوغ له الغضب فيه أصلاً. ومن الناس من يكون في طبعه حدّة فيكون سريع الغضب، فإنْ ملك غضبه وكتم غيظه فهو من المتقين، ومنهم من تبدر منه بوادر اعتداء بقول أو فعل؛ فمنهم من يكون سريعة الفيئة والرجوع والتحلل ممن اعتدى عليه؛ فهذا أقرب إلى السلامة، ومنهم من يكون بطيء الفيئة فيُخشى عليه من مغبّة تعدّيه في غضبه. وقد روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة العصر بنهارٍ، ثم قام خطيبا فلم يدع شيئا يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، وكان فيما قال: فذكر أحاديث، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إنَّ الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم، ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه، فإذا وجد أحدكم شيئا من ذلك فالأرض الأرض، ألا إن خير الرجال من كان بطيء الغضب سريع الرضا، وشر الرجال من كان سريع الغضب بطيء الرضا، فإذا كان الرجل بطيء الغضب بطيء الفيء وسريع الغضب سريع الفيء فإنها بها). رواه أبو داوود الطيالسي والحميدي ومعمر بن راشد، وأحمد بن حنبل، والترمذي وغيرهم من طرق عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة العبدي عن أبي سعيد، وقد رواه عن عليّ بن زيد بن جدعان: حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، ومعمر بن راشد، وعلي بن زيد ضعّفه بعض أهل العلم، لكنّه لم ينفرد به، تابعه عطاء بن ميسرة عند الطبراني في الأوسط وصرّح بالتحديث، وله شاهد من حديث عبد الرحمن بن شريك عن أبيه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عند البزار والطبراني في الأوسط وغيرهما؛ فالحديث حسن إن شاء الله. وقد دلّ هذا الحديث على سبب الغضب وأنّه جمرة توقد في جوف ابن آدم، ولذلك فإنّ الغضبان يجد حرارة في نفسه، ومنهم من يحسّ كأنّ في جوفه جمرة، وهي من شأن الأرواح ، لكن لما للروح من اتّصال بالجسد فإنّ أثر هذه الجمرة يظهر على الجسد. والغضب نزغة شيطان، وهو من حبائل الشيطان التي اصطاد بها كثيراً من بني آدم فأزلّهم حتى أوقعهم في سفك الدماء، وعقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، واللعن، والسباب، والهجر، والتدابر، وغيرها من المعاصي. ومن وصايا النبي صلى الله عليه وسلم المحفوظة عنه الوصية بترك الغضب، وهو محمول على الغضب المذموم. - قال أبو هريرة رضي الله عنه: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مُرْني بأمر، قال: (( لا تغضب )) قال: فمرَّ أو فذهب، ثم رجع، قال: (مرني بأمر) قال: ((لا تغضب)) قال: فردد مرارا كل ذلك يرجع، فيقول: ((لا تغضب)). رواه أحمد والبخاري من حديث أبي بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة. وقد ذكر بعض أهل العلم في مقاصد وصايا النبي صلى الله عليه وسلم وتنوّعها لمن استوصاه أنه كان يوصي كلّ رجل بما هو أصلح لحاله، وقد يكون في الأمّة من يكونون على هذه الأصناف. وقد فسّر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تغضب) بمعنيين صحيحين: أحدهما: لا يقع منك غضب، وهو بمعنى الأمر بالتحلّم حتى يكون حليماً، ويعينه على ذلك اجتناب أسباب إثارة الغضب وكظم غيظه عند نزغ الشيطان له. والثاني: لا تكن كصاحب الغضب المذموم الذي يتملّكه غضبه فيقوده إلى الظلم والعدوان، بل املك نفسك عند الغضب، ولا تعمل بمقتضى غضبك، فالغضب إذا تملّك كان كالسلطان الآمر الناهي وقد قال الله تعالى في شأن غضب موسى عليه السلام: {ولمّا سكت عن موسى الغضب} وعلاج الغضب على مراتب: المرتبة الأولى: وقاية النفس منه قبل وقوعه بالتحلّم واجتناب أسباب إثارة الغضب، والاستعاذة بالله من شر الغضب، وصحبة أولى الحلم، ونحو ذلك. والمرتبة الثانية: مداواة الغضب إذا بدرت بادرته، وأحسّ الإنسان بنزغ الشيطان له، وذلك بأمور منها: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وكظم الغيظ، وذكر الله، والوضوء، والصمت عما يهيّج الغضب ويزيده من السباب ونحوه، والنأي بالنفس عن حالة الانتقام؛ فإن كان قائماً جلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع. وقد روي في أكثر هذه الأدوية أحاديث. والمرتبة الثالثة: مداواة الغضب بعد نفاذه وحصول المكروه من الاعتداء بالقول أو العمل، وذلك بإسراع الفيئة، والتوبة إلى الله، والتحلل من المعتدى عليه، وإتباع السيئة الحسنة. ومن جاهد نفسه على ترك الغضب المذموم رُجي له أن يوفّق لتركه، والله المستعان. |
الغفلة والقسوة
الغفلة والقسوة داءان من شرّ أدواء القلوب، وهما حجابان حاجزان للقلب عمّا ينفعه من التذكّر والتفكّر والعلم النافع والبصيرة في الدين. - قال أحمد بن أبي الحواري: (ما ابتلى الله عبداً بشيء أشدّ من الغفلة والقسوة). رواه ابن عساكر. - فأمّا الغفلة فهي داء مستشرٍ في كثير من الناس كما قال الله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)}، وهي بريد اتباع الهوى، وطول الأمل، وتفضي بالعبد إلى قسوة القلب؛ قال الله تعالى: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)} وقد قرن الله تعالى بين الغفلة واتباع الهوى فقال تعالى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)}. والغفلة سبب لأدواء كثيرة: - قال عون بن عبد الله: (ما أحسب أحدًا يفرغ لعيب النّاس إلّا عن غفلةٍ غفلها من نفسه، ولو اهتمّ لعيب نفسه ما تفرّغ لعيب أحدٍ ولا لذمّه). رواه البيهقي في شعب الإيمان. - وقال أحمد بن خضرويه: (لا نوم أثقل من الغفلة، ولا رقّ أ مْلَكُ من الشهوة، ولولا ثقل الغفلة لم تظفر بك الشهوة). ذكره ابن الجوزي في ذمّ الهوى. أسباب الغفلة والسبب الحامل على الغفلة هو الجهل الأصلي أو العارض؛ فيجهل الغافل حقيقة الحياة الدنيا، ويجهل ما أُمر به وما نهي عنه، وما أمامه من الحساب والجزاء؛ فتضعف حياة القلب وبصيرته وتستولي عليه الشهوات والشبهات فتقوده إلى المهالك. ويتولّد من ضعف البصيرة وطول الأمل غفلة تعتلي القلب تحجبه عن الاعتبار بالآيات المتلوّة والمشاهدة، وتُنتج له استحباب الحياة الدنيا وإيثارها على الآخرة. وذلك أنّ القلب إذا غفل عن الذكر واشتغل بمتاع الحياة الدنيا وزخرفها، ونَسِى ما ذُكّر به حتى يأخذ الهوى وحبّ الدنيا بزمام قلبه حدثت فيه غفلة أخرى هي غفلة اكتسابية تورثه النفور عن الذكر، وتُفضي به إلى قسوة القلب، وهي غفلة تسبّب فيها بتعمّده صرفَ قلبه عن الذكر، وتدسية نفسه، وانغماسه في الغفلة، كما قال الله تعالى في الكفار: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)} فهم اليوم في غفلة انغمسوا فيها حتى حجبت عنهم منافذ الذكر إلى القلب من السمع والبصر فلا يعتبرون بما يرون حتى إذا كشف الغطاء يوم الحسرة فإذا هم شديدو السمع حديدو البصر، وهذا يبيّن شدّة أثر الغفلة، وأنها تحجب السمع والبصر عما ينفع. أنواع الغفلة ومما ينبغي أن يُعلم أنّ الغفلة على نوعين: النوع الأول: الغفلة التي سببها عدم العلم الأصلي، وهذه الغفلة لا يُعذّب الله بها، كما قال الله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)} والنوع الثاني: الغفلة التي سببها التمادي في الإعراض عن ذكر الله؛ فتصيب القلبَ غفلةٌ من شدّة الْتهائه بما يصدّه عن ذكر الله؛ وهذه الغفلة لا يُعذر صاحبها بل هو متوعّد عليها كما قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)} وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)}. وهذه الغفلة قد تكون عقوبة لصاحبها بسبب إعراضه عن ذكر الله وتماديه في الإعراض كما قال الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)}. وفي صحيح مسلم وغيره من حديث عبد الله بن عمر، وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول على أعواد منبره: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين». والغفلة تفتح باب الوسوسة، كما قال ابن عباس في تفسير قول الله تعالى: {الوسواس الخناس} قال: (الشّيطان جاثمٌ على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر اللّه خنس). رواه ابن أبي شيبة وأبو داوود في الزهد من طريق جرير بن عبد الحميد، عن منصور بن المعتمر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. ورواه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان من طريق سفيان الثوري عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((ما من مولود إلا على قلبه الوسواس، فإن ذكر الله خنس، وإن غفل وسوس، وهو قوله تعالى {الوسواس الخناس} )). دركات الغفلة: والغفلة داءٌ غالبٌ على قلوب الكفار والمنافقين، وقد يُصاب به بعض المسلمين، ويختلف أثر الغفلة في قلوبهم باختلاف إخلالهم بمراتب العبودية التي سبق بيانها. 1- فمن كانت غفلته تفضي به إلى هدم أصل إسلامه بارتكاب ما ينقضه أو ترك الصلاة مطلقاً ونحو ذلك؛ فهذا غفلته غفلة كفر ونفاق، وهو ملتحق بالكفّار والمنافقين والعياذ بالله كما قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)} 2- ومن كانت غفلته لا تفضي به إلى ما ينقض إسلامه، وإنما قد يرتكب بها بعض المحرمات ويترك بها بعض الواجبات؛ فهذا غفلته غفلة فسق وعصيان، يُخشى عليه من العقوبة، وهو على خطر إن استمرأ الغفلة أن تفضي به إلى الانسلاخ من الدين والعياذ بالله فيلتحق بمن قبله، وإن هو تاب وأناب رُجي له الخير. 3- ومن كانت غفلته لا تفضي به إلى ترك واجب ولا فعل محرم، وإنما قد يغفل عن بعض الأعمال المستحبة التي فيها فضل عظيم، أو تقوده غفلته إلى فعل بعض المكروهات؛ ولديه من حياة القلب والذكر ما يحجزه عن المحرمات وعن ترك الواجبات؛ فهذا من المتقين، وما يصيبه من الغفلة أحياناً هي من غفلات الصالحين، وقد يرتكب ذنباً ثمّ يتوب منه، فهو ليس ممن استحكمت الغفلة على قلبه، ولا ممن يطول أمدها به. وقد تصيب بعض الصالحين غفلة هي من رحمة الله بهم كما قال مطرف بن عبد الله: (وجدت الغفلة التي ألقى الله عز وجل في قلوب الصدّيقين من خلقه رحمة رحمهم بها، ولو ألقى في قلوبهم من الخوف له على قدر معرفتهم به ما هنأهم العيش). رواه البيهقي في شعب الإيمان. وفي صحيح مسلم من حديث أبي عثمان النهدي، عن حنظلة الكاتب رضي الله عنه وكان من كُتَّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقيني أبو بكر، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ فقلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات؛ فنسينا كثيرا. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: (نافق حنظلة يا رسول الله). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك؟» قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين؛ فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرا). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة» ثلاث مرات. دواء الغفلة ودواء الغفلة يتركب من أمرين: أحدهما: ذكر الله تعالى، والذكر على أنواع: منها ذكر المرء ربّه في نفسه، والذكر باللسان، ومنه تلاوة القرآن، وتدبّره، والتفكّر في معانيه، وفي حال العبد، ومآله، وعواقب أعماله. ومما يعين على الذكر أيضاً: محاسبة النفس، ومجالسة الصالحين، الآخر: تجنّب أسباب الغفلة من الملهيات المحرّمة والمكروهة، وترك التوسع في فضول المباحات. قال الله تعالى: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) }، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} ومَن ذَكر الله في نفسه هذا الذكر قاده إلى أداء ما افترض الله عليه والانتهاء عما نهى الله عنه. - قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حافظ على هؤلاء الصلوات المكتوبات لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ في ليلة مائة آية لم يكتب من الغافلين، أو كتب من القانتين». رواه محمد بن نصر المروزي في قيام الليل، وابن خزيمة في صحيحه من حديث أبي حمزة السكري، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وقوله: (أو) شكّ من بعض الرواة بين جملتين، والثانية أرجح، وقد رواه الحاكم في المستدرك بلفظ: (كتب من القانتين) من غير شكّ، وبها جزم الألباني رحمه الله، وصحح إسناد الحديث. - وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين». رواه أبو داوود وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم من حديث عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن أبي سوية عن ابن حجيرة الخولاني قاضي مصر عن ابن عمرو، وإسناده جيد. - وقد صحّ عن ابن عمر وتميم الداري رضي الله عنهما أنهما قالا: «من قرأ بعشر آيات لم يكتب من الغافلين» - وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «من قرأ في ليلة بخمسين آية لم يكتب من الغافلين» رواه ابن أبي شيبة والدارمي. - قال ابن القيم رحمه الله: (ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه بالذكر، فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء؛ فإذا ترك الذكر صَدِئ، فإذا ذكر جلاه وصدأ القلب بأمرين بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين بالاستغفار والذكر. فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكباً على قلبه، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه فيرى الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل، لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه. فإذا تراكم عليه الصدأ واسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقاً ولا ينكر باطلاً. وهذا أعظم عقوبات القلب. وأصل ذلك من الغفلة واتباع الهوى فإنهما يطمسان نور القلب ويعميان بصره، قال تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً} . فإذا أراد العبد أن يفتدي برجل فلينظر: هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي. فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة كان أمره فرطاً). وأمّا القسوة فقد تقدّم الحديث عنها، وهي داء داويّ من أخطر أدواء القلوب، بل قيل هو أخطرها، وسببها التمادي في الإعراض عن ذكر الله تعالى، واتباع الهوى، وطول الغفلة، والإسراف في المعاصي حتى ترين الذنوب على القلوب فتقسو، ويغلظ حجابها؛ لانقطاع المدد الذي يحييها ويليّنها من الذكر والمواعظ الحسنة، فكان كالشجرة التي انقطع عنها الماء فجفّت وتيبّست وقست. والقسوة تتفاوت فيكون قلب أقسى من قلب، وتشتدّ قسوة بعض القلوب حتى تكون كالحجارة أو أشدّ قسوة. وقسوة القلب تورث فساد التصوّر، وانحراف الإرادة؛ والجسارة على الباطل، فلا يهتدي صاحب القلب القاسي للحقّ، ولا يبصره، ولا يريده؛ لاشتغال قلبه باتّباع الهوى، وغفلته الشديدة عن آيات الله، وإذا تمادت القسوة في القلب أفضت بصاحبها إلى أن يتخذ إلهه هواه حتى يُختم على قلبه؛ فلا ينفذ إليه الهدى؛ كما قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)} ولقسوة القلب آثار تظهر على العبد، منها النفور عن الذكر، وجمود العين، ومحبة اللهو الباطل، وكراهة ذكر الموت، وتعظيم الدنيا، والجراءة على الظلم والعدوان، ومتى أحسّ الإنسان في نفسه شيئاً من علامات قسوة القلب فعليه بمداواة قلبه بما يليّنه، ويذهب قسوته قبل أن تستفحل تلك القسوة في قلبه. ودواء قسوة القلب: يكون بالإنابة إلى الله تعالى، والاعتراف بالذنب، والتوبة والاستغفار، وطلب العفو من الله تعالى، وكثرة ذكره، ومعالجة أسباب الغفلة التي أدّت به إلى القسوة، وعمل الأعمال التي ترقق القلب وتليّنه، وتذكّر الموت ومنازل الآخرة؛ حتى يتطهر القلب من آثار الذنوب التي رانت عليه، ويجلوه الذكر حتى يصفو ويلين بإذن الله تعالى، وينشرح الصدر بعد ذلك لذكر الله تعالى وتوحيده وإسلام القلب والوجه له تعالى. {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)}. |
الهوى والوهن
الهوى فأمّا الهوى فهو داء مفسد للقلب، ينحرف به عن إرادة الحقّ ومحبته؛ ولا يزال داء الهوى يتعاظم في النفس ويتمادى بصاحبه، حتى يفسد الحبّ والبغض في القلب؛ فيحبّ ما يهوى على خلاف الحق، ويحبّ لأجل ما يهوى ما تضرّه محبّته، ويبغض ما لا يهوى وإن كان نافعاً له، ويبغض لأجل بغضه ما قد يضرّه بغضه ويحرمه خيراً كثيراً. وإذا استحكم الهوى في القلب أفسد التصوّر، وزُيّن لصاحبه سوء عمله،؛ فصار يرى ما أشرب من هواه حقاً، ويرى ما خالفه باطلاً، كما قال تعالى: { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)} وللهوى سلطان على النفس يأمرها وينهاها، ويدعوها إلى ما فيه ضلالها وهلاكها، ولذلك نهى الله تعالى عن اتّباع الهوى؛ فقال تعالى: {فلا تتبعوا الهوى}، وقال تعالى: {ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله}. - قال ابن شهاب الزهري عن سالم بن عبد اللّه، عن أبي هريرة، قال: كان عمر بن الخطّاب إذا خطب النّاس يقول في خطبته: (أفلح منكم من حُفظ من الهوى والطّمع والغضب، ليس فيما دون الصّدق من الحديث خيرٌ، من يكذب يفجر، ومن يفجر يهلك، إيّاكم والفجور، وما فجور عبدٍ خلق من ترابٍ، وإلى التّراب يعود، وهو اليوم حيّ، وغدا ميّتٌ؟!! اعملوا يومًا بيومٍ، واجتنبوا دعوة المظلوم، وعدّوا أنفسكم من الموتى). رواه أبو داوود في الزهد. - وقال مهاجرٍ العامريّ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (إنّ أخوف ما أتخوّف عليكم: طول الأمل واتّباع الهوى؛ فأمّا طول الأمل فينسي الآخرة، وأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحق، ألا إنّ الدّنيا قد ولّت مدبرةً، والآخرة مقبلةٌ، ولكلّ واحدةٍ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدّنيا، فإنّ اليوم عملٌ ولا حسابٌ، وغدًا حسابٌ ولا عملٌ). رواه وكيع في الزهد، وأحمد في الزهد، وغيرهم. وقد جعل الله الإعراض عن الاستجابة لرسوله صلى الله عليه وسلم علامة بيّنة على اتّباع الهوى، قال الله تعالى: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضلّ ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين}. والنفس تنشط في اتّباع ما تهوى لأجل ما يحصل لها من اللذة بذلك، وأصل الهوى ميل النفس إلى ما يشبع رغبتها، ويوافق طبعها، ويكون ذلك في الأمور المادية والأمور المعنوية، ولذلك فإن اتباع الهوى يدخل من باب الشهوات ومن باب الشبهات. - فأما اتباع الهوى في الشهوات فالذي يُذمّ منه ما جاوز الحدّ المشروع. - وأما اتباع الهوى في الشبهات فالذي يذمّ منه ما خالف الهدى. واتباع الهوى في الشبهات أعظم أثراً، وأشدّ خطراً، لأن الذي يرتكب الشهوات المحرمة وهو معترف بذنبه أقرب إلى التوبة وأخفّ جرماً ممن يعتقد خلاف الحقّ، ويبتدع في دين الله، وهو يرى أنه محسن فلا يتوب. - قال ابن القيم: (الهوى ما خالط شيئا إلا أفسده؛ فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة، وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء، وإن وقع في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة، وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم وصده عن الحق، وإن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى قسمة الجور، وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين، حيث يولي بهواه ويعزل بهواه، وإن وقع في العبادة خرجت عن أن تكون طاعة وقربة؛ فما قارن شيئاً إلا أفسده). والناس في اتباع الهوى على أربعة أصناف: الصنف الأول: من كان هواه تبعاً لما يحبّه الله ورسوله؛ فهذا مؤمن مستكمل الإيمان كما في سنن أبي داوود وغيره من طرق عن القاسم بن عبد الرحمن الشامي، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان»، وللحديث شواهد لا تنزله عن درجة الاحتجاج. وأما حديث (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) فضعيف لا يصحّ، وقد أخرجه الحسن بن سفيان النسوي في كتاب الأربعين، والبيهقي في المدخل إلى السنن، والبغوي في شرح السنة من طريق نعيم بن حماد قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به). وللحديث طرق أخرى معلولة. وعلى تقدير صحّته فالمراد به نفي كمال الإيمان، أي لا يؤمن أحد إيماناً كاملاً حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويصدّق ذلك ما جاء في بعض روايات الحديث: (لن يستكمل مؤمن إيمانه حتى يكون هواه تبعاً لما جئتكم به). والصنف الثاني: من كانت نفسه تنازعه إلى شيء مما فيه مخالفة لأمر الله تعالى، وهو ينهاها، ويخالف هوى نفسه؛ اتباعاً لرضوان الله تعالى، وخشية له، فهؤلاء لا يضرّهم ذلك شيئاً، بل هم ممن قال الله تعالى فيهم: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإنّ الجنّة هي المأوى}. والصنف الثالث: من اتّبع هواه بفعل بعض المحرمات، أو ترك بعض الواجبات، مع بقاء أصل الإيمان في قلوبهم، فهؤلاء آثمون لاتباعهم بعض أهوائهم في معصية الله تعالى، وهم الذين أصاب قلوبهم داء اتّباع الهوى. والصنف الرابع: الذين اتبعوا أهواءهم حتى ضلوا ضلالا بعيداً بالوقوع في الشرك أو الكفر، من الكفار الأصليين، أو المرتدّين. فمثال الأول: ما ذكر في قول الله تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)} وقوله تعالى: { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)} وقوله تعالى: { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)} ومثال الثاني: ما ذكر في قول الله تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)} ودواء اتّباع الهوى بنهي النفس عنه، والاستجابة لله ورسوله، فيحيا القلب بعد مواته، ويصحّ تصوّره، وتصلح إرادته قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} وقال تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)} ولما ذكر الله عقوبة الظالمين لأنفسهم من الكفار والمشركين وما أعدّ لهم من العذاب؛ ذكر لهم المخرج الوحيد لنجاتهم مما هم فيه ما داموا في هذه الحياة فقال تعالى: { اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)} وكذلك من ابتلي بشيء من اتباع الهوى في معصية الله من المسلمين فذلك لضعف في استجابته لله ولرسوله، ويدخل على قلبه من فساد التصور وانحراف الإرادة بقدر ما أخلّ به من واجب الاستجابة، ولا يحصل له التعافي من هذا الداء إلا بتصحيح الاستجابة. ويحصل له بتصحيح الاستجابة: تصحيح التصور، وتقويم الإرادة. ومما يعين على تصحيح التصور ما يحصل به التذكّر والتبصّر، وتنمية اليقين في القلب، وذلك بالتبصر ببصائر القرآن والسنة؛ والتفكّر في آيات الله تعالى، وكثرة ذكره، والإنابة إليه. ومما يعين على تقويم الإرادة صبرُ النفس على اتباع الحق، ومجاهدتها في ذلك، ومحاسبتها، وكثرة تعاهدها في ذلك. - قال إبراهيم بن أدهم: «أشدّ الجهاد جهاد الهوى، من منع نفسه هواها فقد استراح من الدّنيا وبلائها، وكان محفوظًا معافًى من أذاها». رواه البيهقي في الزهد الكبير. ومن أعظم ما يعين على التخلص من داء اتباع الهوى تعظيم مخافة الله تعالى في القلب، ولذلك قرنه الله تعالى بنهي النفس عن الهوى كما في قوله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى}. - قال إبراهيم بن أدهم: «الهوى يُردي، وخوف اللّه يشفي، واعلم أنّ ما يزيل عن قلبك هواك إذا خفت من تعلم أنّه يراك». رواه البيهقي في الزهد الكبير. وأما الوهن فهو داء عضال ينشأ من حبّ الدنيا وضعف الاحتمال، فيدبّ إلى القلب خوَر وفتور، وضعف واستكانة، وتهيّب مذموم عن معالي الأمور، فيتثاقل عن الطاعات، ويخلد إلى الأرض. - قال الله تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)} - وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)} - وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داوود وغيرهما من طرق عن ثوبان بن بجدد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها)). قال: قلنا: يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: ((أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، تنتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن)). قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: ((حب الحياة وكراهية الموت)). - وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: (لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متحزّقين، ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحد منهم على شيء من أمر الله دارت حماليق عينيه كأنه مجنون). رواه البخاري في الأدب المفرد. المتحزّق هو المتشدد على ما في يده ضنّاً به. وقد اجتمع ذمّ الوهن واتباع الهوى في قول الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} فالإخلاد إلى الأرض سببه وهن القلب وخوره وضعفه. ودواء الوهن الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد)). فالثبات في جانب التصديق، ويحصل به تصحيح التصور، ويفضي إلى اليقين. والعزيمة على الرشد في جانب الأمر والنهي، ويحصل بها تصحيح الإرادة، وتفضي إلى الاستقامة. وإذا تمكّن اليقين من القلب وحصلت الاستقامة ذهب الوهن من القلب بإذن الله تعالى. |
شفاء القلوب
أدواء القلوب منها ما يفسد التصوّر، ومنها ما يفسد الإرادة، ومنها ما يفسدهما معاً. ولذلك فإنّ شفاء القلوب قائم على أصلين: الأصل الأول: البصيرة في الدين، وتحصل بصحّة العلم؛ ومن أثرها أن يرى الحقّ حقاً، والباطل باطلاً، والحسن حسناً، والقبيح قبيحاً. والأصل الثاني: الرشاد، ويحصل بالاستقامة على أمر الله واتّباع هداه؛ فيرغب فيما رغّب الله فيه، ويرهب مما رهّب الله منه، ويحبّ ما أحبّه الله، ويبغض ما أبغضه الله. وهذان الأصلان يرجعان إلى تصحيح العلم، وإصلاح العمل، ويردان بألفاظ كثيرة منها: الإيمان وعمل الصالحات، والهدى والرشاد، واليقين والاستقامة. واستمداد شفاء القلوب إنما هو بالقرآن والسنة، وقد جعل الله فيهما شفاء لما في الصدور من أمراض الشبهات والشهوات. - ففيهما من البصائر والبيّنات ما يشفي القلب من مرض كلّ شبهة. - وفيهما من الحكمة والموعظة ما يشفي القلب من مرض كلّ شهوة. · فالقرآن والسنة فيهما الشفاء التام للعلل المفسدة للتصوّر والإرادة؛ فيصلح القلب، وتستقيم الجوارح، ويعود القلب إلى فطرته التي فطره الله عليها. ولا بدّ للقلب من غذاء يقوّيه، وحماية تقيه من الآفات والعلل؛ وبذلك تحصل له الحياة والزكاة، وحاجة القلب إلى التغذية والحماية أعظم من حاجة البدن؛ وأثر الغذاء فيه أسرع من أثر غذاء البدن. - قال ابن القيم: (قال تعالى: {ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور} فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل ولا يوفق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان، وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه، لم يقاومه الداء أبداً). - وقال ابن الجوزي في صيد الخاطر: (فصل الخطاب في هذا أنه ينبغي أن يقاوم المرض بضده: فمن كان قلبه قاسيا شديد القسوة، وليس عنده من المراقبة ما يكفّه عن الخطأ قوّم ذلك بذكر الموت، ومحاضرة المحتضرين. فأما من قلبه شديد الرقة، فيكفيه ما به؛ بل ينبغي له أن يتشاغل بما ينسيه ذلك، لينتفع بعيشه، وليفهم ما يُفتى به، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمزح، ويسابق عائشة رضي الله عنها، ويتلطف بنفسه؛ فمن سار سيرته عليه الصلاة والسلام، فهم من مضمونها ما قلته من ضرورة التلطف بالنفس). |
الساعة الآن 02:06 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir