معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد

معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد (http://afaqattaiseer.net/vb/index.php)
-   الرسالة التدمرية (http://afaqattaiseer.net/vb/forumdisplay.php?f=38)
-   -   بيان معاني لفظ (التأويل) وانقسامه إلى حق وباطل (http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=1906)

عبد العزيز الداخل 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م 03:17 AM

بيان معاني لفظ (التأويل) وانقسامه إلى حق وباطل
 
وَلِهَذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ يُنْكِرُونَ عَلَى الْجَهْميَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ تَأَويلَ مَا تَشَابَهَ عَلَيْهِمْ مِنَ القُرْآنِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِه، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي "الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ والْجَهْمِيَّةِ " فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ
وَإِنَّمَا ذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ تَأوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ مَعْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَذَمَّهمْ عَلَى أَنَّهُمْ تأوَّلُوه عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَلَمْ يَنْفِ مُطْلَقَ التَّأْوِيلِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ لَفْظَ "التَّأْوِيلِ " يُرَادُ بِهِ التَّفْسِيرُ الْمُبَيِّنُ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، فَذَلِكَ لاَ يُعَابُ بَلْ يُحْمَدُ، وَيُرَادُ بِالتَّأْوِيلِ الْحَقِيقَةُ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهَا، فَذَاكَ لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ هُوَ، وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذَا اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُه، مِثْلُ طَائِفَةٍ يَقُولُونَ: إِنَّ التَّأْوِيلَ بَاطِلٌ، وَإِنَّهُ يَجِبُ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ: ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ ) وَيَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِبْطَالِ التَّأْوِيلِ.
وَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنَّ هُنَاكَ تَأْوِيلًا لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللَّهُ وَهُمْ يَنْفُونَ التَّأْوِيلَ مُطْلَقًا.
وِجْهَةُ الْغَلَطِ أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ، وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الْمَذْمُومُ وَالْبَاطِلُ فَهُوَ تَأْوِيلُ أَهْلِ التَّحْرِيفِ وَالْبِدَعِ، الَّذِينَ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَيَدَّعُونَ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ مَدْلُولِهِ إِلَى غَيْرِ مَدْلُولِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يُوجِبُ ذَلِكَ، وَيَدَّعُونَ أَنَّ فِي ظَاهِرِهِ مِنَ المَحْذُورِ اللاَّزِمِ فِيمَا أَثْبَتُوهُ بِالْعَقْلِ! وَيَصْرِفُونَهُ إِلَى مَعَانٍ هِيَ نَظِيرُ الْمَعَانِي الَّتِي نَفَوْهَا عَنْهُ! فَيَكُونُ مَا نَفَوْهُ مِنْ جِنْسِ مَا أَثْبَتُوهُ، فَإِنْ كَانَ الثَّابِتُ حَقًّا مُمْكِنًا كَانَ الْمَنْفِيُّ مِثْلَه، وَإِنْ كَانَ الْمَنْفِيُّ بَاطِلًا مُمْتَنِعًا كَانَ الثَّابِتُ مِثْلَه.

عبد العزيز الداخل 7 ذو الحجة 1429هـ/5-12-2008م 02:48 PM

تقريب التدمرية للشيخ: محمد بن صالح العثيمين
 
فَصْلٌ


في التَّأْويلِ
التَّأويلُ لغةً: ترجيعُ الشَّيْءِ إلى الغايةِ المرادةِ منهُ، منَ الأَوْلِ وهوَ الرجوعُ.
وفي الاصطِلاَحِ: ردُّ الكلامِ إلى الغايةِ المرادةِ منهُ، بشَرْحِ معنَاهُ، أوْ حُصولِ مُقتضَاهُ ويُطلَقُ على ثلاثةِ معانٍ:
الأوَّلُ: "التَّفسيرُ" وهوَ توضيحُ الكلامِ بذكْرِ معناهُ المرادِ بهِ ومنْهُ قولُهُ تعالى عنْ صاحِبَي السِّجْنِ يُخاطِبَانِ يوسُفَ: (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ)([1]). وقولُ النَّبيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنْهُمَا: "اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ في الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأويلَ". وسَبَقَ قولُ ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عَنْهُمَا: "أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ في العِلْمِ الَّذِينَ يعْلَمُونَ تأْوِيلَهُ". ومنْهُ قولُ ابنِ جريرٍ وغيرِهِ منَ المفسِّرِينَ "تأويلُ قولِهِ تعالى" أيْ تفسيرُهُ.

والتَّأويلُ بهذَا المعنى معلومٌ لأهلِ العلْمِ.
المعْنى الثَّاني: مآلُ الكلامِ إلى حقيقتِهِ، فإنْ كانَ خبراً فتأويلُهُ نفسُ حقيقةِ المُخبَرِ عنهُ وذلكَ في حقَّ اللهِ كُنْهُ ذاتِهِ وصفاتِهِ الَّتي لا يَعْلَمُهَا غيرُهُ وإنْ كانَ طَلَباً فتأويلُهُ امتثالُ المطلوبِ.
مثالُ الخَبَرِ: قولُهُ تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَ تَأْوِيلَهُ)([2]). أيْ مَا يَنتظرُ هؤلاءِ المكذِّبُونَ إلاَّ وُقوعَ حقيقةِ ما أُخْبِرُوا بهِ منَ البَعْثِ والجزَاءِ، ومنْهُ قولُهُ تعالى عنْ يوسفَ: (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)([3]).
ومثالُ الطَّلَبِ: قولُ عائشةَ رضيَ اللهُ عنْهَا "كَانَ النَّبيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُكْثِرُ أَنْ يقُولَ في ركوعِهِ وسجودِهِ: سبْحَانَكَ اللهُمَّ ربَّنَا وبحمدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي يَتَأَوَّلُ القرآنَ أيْ يَمْتَثِلُ ما أَمَرَهُ اللهُ بهِ في قولِهِ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً)([4]).
وتَقولُ فلاناً لاَ يَتعاملُ بالرِّبَا يَتَأَوَّلُ قولَ اللهِ تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)([5]).
والتَّأويلُ بهذَا المعْنى مجهولٌ حتَّى يَقعَ فَيُدْرَكَ وَاقِعاً.

فأمَّا قولُهُ تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)([6]). فَيَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المرادُ بالتأويلِ فيهَا التَّفسيرَ، ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ المرادُ بهِ مآلَ الكلامِ إلى حقيقتِهِ بِناءً على الوقْفِ فيهَا والوصْلِ. فعلى قراءةِ الوقْفِ عنْدَ قولِهِ: (إِلاَ اللَّهُ). يَتعيُّنُ أنْ يكونَ المرادُ بهِ مآلَ الكلامِ إلى حقيقتِهِ، لأنَّ حقائقَ ما أَخبَرَ اللهُ بهِ عنْ نفسِهِ وعنِ اليومِ الآخِرِ لا يَعلَمُهَا إلا اللهُ عزَّ وجَلَّ، وعلى قراءةِ الوَصْلِ يَتعيَّنُ أنْ يكونَ المرادُ بهِ التَّفسيرَ، لأنَّ تفسيرَهُ معلومٌ للراسِخِينَ في العلْمِ فَلا يَخْتَصُّ عِلْمُهُ باللهِ تعالى.
فنحنُ نَعلَمُ معنى الاسْتواءِ أنَّهُ العُلُوُّ والاسْتقْرَارُ، وهذَا هوَ التَّأْوِيلُ المعلومُ لنَا، لكنَّنَا نَجهَلُ كيفيَّتَهُ وحقيقَتَهُ الَّتِي هوَ علَيْهَا وهذَا هوَ التَّأْويلُ المجهولُ لنَا. وكذلكَ نَعلَمُ معانيَ مَا أخبَرنَا اللهُ بهِ منْ أسمائِهِ وصفاتِهِ، ونُمَيِّزُ الفَرْقَ بينَ هذِهِ المعانِي فنَعلَمُ معنى الحياةِ، والعِلْمِ، والقدرةِ، والسَّمْعِ، والبصرِ ونحوِ ذلكَ ونعلَمُ أنَّ الحياةَ ليستْ هيَ العلمَ، وأنَّ العلْمَ ليسَ هوَ القدرةَ وأنَّ القدرةَ ليستْ هيَ السَّمْعَ، وأنَّ السَّمْعَ ليسَ هُوَ البصرَ، وهكَذَا بقِيَّةُ الصِّفاتِ والأسماءِ، لكنَّنَا نَجْهَلُ حقائِقَ هذهِ المعانِي وكُنْهَهَا الَّذي هيَ عليْهِ بالنِّسْبَةِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ.
وهذانِ المعنيانِ للتَّأويلِ هُمَا المَعْنَيَانِ المعروفَانِ في الكتابِ، والسُّنَّةِ وكلامِ السَّلَفِ.
المعْنى الثّالِثُ لِلتَّأْوِيلِ: صَرْفُ اللَّفْظِ عن المعنى الرَّاجِحِ إلى المعْنى المرجوحِ لدليلٍ يَقْتضِيهِ. وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: صَرْفُ اللَّفْظِ عنْ ظاهِرِهِ إلى معنًى يُخالِفُ الظَّاهِرَ لدليلٍ يَقتضِيهِ. وهذَا اصْطِلاحُ كثيرٍ منَ المُتَأَخِّرينَ الَّذينَ تَكلَّمُوا في الفِقْهِ وأُصُولِهِ وهوَ الَّذِي عنَاهُ أَكْثَرُ مَنْ تَكَلَّمَ مِنَ المتأخِّرينَ في تأويلِ نصوصِ الصِّفاتِ وهلْ هوَ محمودٌ، أوْ مذمومٌ، وهلْ هوَ حقٌّ، أوْ باطلٌ؟

والتَّحْقِيقُ: اَنَّهُ إنْ دلَّ عليهِ دليلٌ صحيحٌ فهوَ حقٌّ محمودٌ يُعْمَلُ بِهِ ويكونُ منَ المعنى الأَوَّلِ للتَّأْوِيلِ هوَ التَّفْسِيرُ، لأنَّ تفسيرَ الكلامِ تأويلُه إلى ما أرادَهُ المتكلِّمُ بِهِ سواءٌ كانَ على ظاهِرِهِ أمْ على خلافِ ظاهرِهِ ما دُمْنَا نَعْلَمُ أنَّهُ مُرَادُ المُتَكَلِّمِ.
مثالُ ذلكَ قولُهُ تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ)([7]). فإنَّ اللهَ تعالى يُخَوِّفُ عِبادَهُ بإتيانِ أَمْرِهِ المسْتَقْبَلِ، وليسَ يُخبِرُهُمْ بأَمْرٍ أتى وانقضى بدليلِ قولِهِ: (فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ). ومنْهُ قولُهُ تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)([8]). فإنَّ ظاهرَ اللَّفْظِ إذَا فَرَغْتَ مِنَ القراءَةِ والمرادُ إذا أردْتَ أنْ تَقْرَأَ، لأنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانَ يَستعيذُ إذَا أرَادَ أنْ يَقرأَ لاَ إذَا فَرَغَ منَ القراءةِ.
وإنْ لمْ يَدُلَّ عليهِ دليلٌ صحيحٌ كانَ باطلاً مذْمُوماً، وجديراً بأنْ يُسمَّى تحْريفاً لاَ تأويلاً.
مثالُ ذلكَ قولُهُ تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)([9]). فإنَّ ظاهرَهُ أنَّ اللهَ تعالى علاَ على العرشِ عُلُوًّا خَاصًّا يَلِيقُ باللهِ عزَّ وجلَّ وهذَا هوَ المرادُ فتأويلُهُ إلى أنَّ معناهُ اسْتَولى ومَلَكَ، تأويلٌ باطلٌ مذمومٌ، وتحريفٌ للكَلِمِ عنْ مواضِعِهِ لأنَّهُ ليْسَ عليهِ دليلٌ صحيحٌ.

([1]) سورة يوسف، الآية: 36.

([2]) سورة الأعراف، الآية: 53.

([3]) سورة يوسف، الآية: 100.

([4]) سورة النصر، الآيات: 1-3.

([5]) سورة البقرة، الآية: 275.

([6]) سورة آل عمران، الآية: 7.

([7]) سورة النحل، الآية: 1.

([8]) سورة النحل، الآية: 98.

([9]) سورة طه، الآية: 5.

محمد أبو زيد 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م 04:49 PM

التحفة المهدية للشيخ: فالح بن مهدي الدوسري
 

قولُه:
ولهذا كان الأئمَّةُ كالإمامِ أحمدَ وغيرِه يُنْكِرون على الجَهْميَّةِ وأمثالِهم – من الذين يُحَرِّفون الكَلِمَ عن مواضِعه – تأويلَ ما تَشابَه عليهم من القرآنِ على غيرِ تأويلِه، كما قالَ أحمدُ في كتابِه الذي صنَّفَه في الردِّ على الزَّنادقةِ والجَهْميَّةِ فيما شَكَّتْ فيه من مُتَشابِهِ القرآنِ وتأوَّلَتْهُ على غيرِ تأويلِه. وإنما ذمَّهُمْ لكونِهم تَأوَّلُوه على غيرِ تأويلِه. وذكَرَ في ذلك ما يَشْتبِهُ عليهم معناهُ، وإن كان لا يَشتبِهُ على غيرِهم، وذمَّهُم على أنهم تأوَّلُوه على غيرِ تأويلِه، ولم يَنْفُوا مُطلَقَ لفظِ التأويلِ كما تَقدَّمَ من أن لفظَ التأويلِ يُرادُ به التفسيرُ الْمُبَيِّنُ لمرادِ اللهِ به, فذلك لا يُعابُ، بل يُحْمَدُ. ويُرادُ بالتأويلِ الحقيقةُ التي استأثرَ اللهُ بعلْمِها، فذلك لا يَعلمُه إلا هو، وقد بَسَطْنا هذا في غيرِ هذا الموضعِ.

الشرْحُ:
ومن أجْلِ أن معانيَ صفاتِ اللهِ معلومةٌ, ومرادُه بكلامِه مفهومٌ، أنكَرَ الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ وعثمانُ الدارِميُّ وابنُ خُزَيمةَ وأمثالُهم – من أئمَّةِ السنَّةِ وسَلَفِ الأمَّةِ – أَنكَروا على الجَهْميَّةِ وأشباهِهم من الزنادقةِ والمعتزلِة تحريفَهم لكلامِ اللهِ على مواضعِه، وتأويلَهم ما تشابَهَ عليهم من كلامِ اللهِ على غيرِ تأويلِه، وقد صنَّفَ الإمامُ أحمدُ كتاباً في الردِّ على هؤلاءِ وسَمَّاه (الردَّ على الزنادقةِ والجَهْميَّةِ فيما شكَّتْ فيه من متشابِهِ القرآنِ وتأوَّلَتْه على غيرِ تأويلِه) فعابَ أحمدُ عليهم أنهم يُفسِّرون القرآنَ بغيرِ معناه.

ولم يَقلْ أحمدُ ولا أحدٌ من الأئمَّةِ: إن الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكنْ يَعرفُ معانيَ آياتِ الصفاتِ وأحاديثِها، ولا قالوا: إن الصحابةَ والتابعين لهم بإحسانٍ لم يَعْرِفوا تفسيرَ القرآنِ ومعانيَه. كيف وقد أَمَرَ اللهُ بتدبُّرِ كتابِه فقالَ تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} ولم يقلْ بعضَ آياتِه. وقالَ: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} وقالَ {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} وأمثالُ ذلك من النصوصِ التي تُبَيِّنُ أن اللهَ يُحِبُّ أن يَتَدَبَّرَ الناسُ القرآنَ كلَّه، وأنه جَعلَه نوراً وهُدًى لعِبادِه. ومُحالٌ أن يكونَ ذلك مما لا يُفهَمُ معناه.

وهذا الكتابُ هو مما ألَّفَه الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ في حبسِه، وقد ذكَرَه عنه الْخَلاَّلُ في كتابِ السُّنَّةِ، والقاضي أبو يَعْلَى، وأبو الفضلِ التَّمِيميُّ، وأبو الوَفاءِ بنُ عَقِيلٍ وغيرُ واحدٍ من أصحابِه، وقد قالَ في أوَّلِه: (الحمدُللهِالذي جعلَ في كلِّ زمانِ فَتْرةً من الرسُلِ بقايا من أهلِ العلْمِ يَدْعون من ضَلَّ إلى الهُدَى، ويَصْبِرون منهم على الأَذَى، يُحْيُونَ بكتابِ اللهِ المَوْتَى، ويُبَصِّرُون بنورِ اللهِ أهلَ العَمَى، فكم من قَتيلٍ لإبليسَ قد أَحْيَوْهُ! وكم مِن تائِهٍ ضالٍّ قد هَدَوْه، فما أحسنَ أثرَهم على الناسِ، وأقبحَ أثرَ الناسِ عليهم، يَنْفُونَ عن كتابِ اللهِ تحريفَ الغالين وانتحالَ المُبْطِلين، وتأويلَ الجاهلين، الذين عقَدُوا أَلْوِيَةَ البدعَةِ، وأَطلَقُوا عَنانَ الفتنةِ، فهم مختلِفون في الكتابِ، مخالِفون للكتابِ، متَّفِقون على مخالَفةِ الكتابِ، يقولون على اللهِ وفي اللهِ، وفي كتابِ اللهِ بغيرِ علْمٍ، يَتَكَلَّمون بالمُتَشابِهِ من الكلامِ، ويَخْدَعون جُهَّالَ الناسِ بما يُشَبِّهُونَ عليهم، فنعوذُ باللهِ من فِتَنِ الْمُضِلِّينَ).
ومما جاءَ في هذا الكتابِ بصَدَدِ الردِّ على الزنادقةِ قولُه: (وأما قولُه تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} وقالَ في آيةٍ أخرى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينِ} فقالَوا: إن اللهَ قد ذَمَّ قوماً كانوا يُصَلُّون فقالَ: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} وقد قالَ في قومٍ: إنهم إنما دَخَلوا النارَ؛ لأنهم لم يكونوا يُصَلُّون، فشَكُّوا في القرآنِ من أجْلِ ذلك, وزَعَمُوا أنه متناقِضٌ. قالَ: وأما قولُه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} عَنَى به المنافقين {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} حتى يَذْهَبَ الوقتُ {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} يقولُ: إذا رأَوْهُم صَلَّوا وإذا لم يَرَوْهُم لم يُصَلُّوا. وأما قولُه: {مَا سَلَكَكَمُ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} يعني الموحِّدين المؤمنين. فهذا ما شكَّتْ فيه الزنادقةُ. وأما قولُه عزَّ وجلَّ: {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} ثم قالَ: {مِنْ طِينٍ لاَزِبٍ} ثم قالَ: {مِنْ سُلاَلَةٍ} ثم قالَ: {مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} ثم قالَ {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} فشَكُّوا في القرآنِ وقالوا: هذا يَنْقُضُ بعضُه بعضاً؛ فهذا بَدْءُ خَلْقِ آدمَ، خلَقَه اللهُ أوَّلَ بَدْءٍ من ترابٍ، ثم من طينةٍ حمراءَ وسوداءَ وبيضاءَ, من طينةٍ طيِّبةٍ وسَبْخَةٍ، فكذلك ذرِّيَّتُه طيِّبٌ وخَبيثٌ، أسودُ وأحمرُ وأبيضُ، ثم بلَّ ذلك الترابَ فصارَ طيناً. فذلك قولُه: {مِنْ طِينٍ} فلمَّا لصَقَ الطينُ بعضُه ببعضٍ صارَ طيناً لازِباً يعني لاصِقاً, ثم قالَ: {مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ} يقولُ: مثلَ الطينِ إذ عُصِرَ انْسَلَّ من بينِ الأصابعِ, ثم نَتَنَ فصارَ حمأً مسنوناً، فخُلِقَ من الحمأِ, فلما جَفَّ صارَ صلصالاً كالفَخَّارِ، يقولُ: صارَ له صَلْصَلةٌ كصلصلةِ الفَخَّارِ، له دَوِيٌّ كدَوِيِّ الفَخَّارِ، فهذا بيانُ خَلْقِ آدمَ. وأما قولُه: {مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} فهذا بَدْءُ خلْقِ ذرِّيَّتِه من سلالةٍ, يعني النُّطْفةَ. مهينٌ: ضعيفٌ. فهذا ما شكَّتْ فيه الزنادقةُ.

وبصدَدِ الردِّ على الجَهْميَّةِ جاءَ فيه قولُه: بابُ بيانِ ما أنكَرَت الجَهْميَّةُ أن يكونَ اللهُ على العرشِ، فقلنا: لِمَ أَنْكَرْتُم أن يكونَ اللهُ على العرشِ؟ وقد قالَ جلَّ ثناؤُه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقالَ: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وقالَ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} فقالَوا: هو تحتَ الأرضِ السابعةِ كما هو على العرشِ، فهو على العرشِ، وفي السمواتِ، وفي الأرضِ، وفي كلِّ مكانٍ لا يَخلو منه مكانٌ، ولا يكونُ في مكانٍ دونَ مكانٍ، وتَلَوْا آيةً من القرآنِ: {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} فقلنا: قد عَرَفَ المسلِمون أماكنَ كثيرةً ليس فيها من عظمِ الربِّ شيءٌ. فقالوا: أيُّ مكانٍ؟ قلنا: أجسامُكم وأجوافُكم وأجوافُ الخنازيرِ والحُشوشُ والأماكنُ القذرةُ ليس فيها من عظمِ الربِّ شيءٌ، قد أخبَرَنا أنه اللهُ في السماءِ. فقالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ}، {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} وقالَ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وقالَ: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} وقالَ: {بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} وقالَ: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} وقالَ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} وقالَ: {ذِي الْمعَارِجِ} وقالَ: {وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وقالَ: { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}. فهذا إخبارُ اللهِ أَخبرَنا أنه في السماءِ, ووجَدْنا كلَّ شيءٍ أسفلَ منه, حيث يقولُ اللهُ جلَّ ثناؤه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} وقلنا لهم: أتَعْلَمون أن إبليسَ كان مكانَه والشياطينُ مكانَهم؟ فلم يكن اللهُ بِمُجتَمِعٍ هو وإبليسُ في مكانٍ واحدٍ، وإنما معنى قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } يقولُ: هو إلهُ مَن في السمواتِ وإلهُ مَن في الأرضِ، وهو على العرشِ، وقد أحاطَ بعلْمِه ما دونَ العرشِ، ولا يَخْلُو من علْمِ اللهِ مكانٌ، ولا يكونُ علْمُ اللهِ في مكانٍ دونَ مكانٍ. فذلك قولُه تعالى: {لِتَعْلَمُوا أنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } ) انتهى.

وحينئذٍ، فالإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ وغيرُه من أئمَّةِ السنَّةِ لم يُنكِروا التأويلَ بالمعنى الذي جاءَ في الكتابِ والسنَّةِ وتَكلَّمَ به سَلَفُ الأمَّةِ، وهو الكيفيَّةُ والحقيقةُ التي يَؤُولُ إليها الكلامُ، والتفسيرُ وبيانُ مرادِ المتكلِّمِ بكلامِه؛ فإن هذا لا يَذُمُّه أحدٌ من السَلَفِ, وإنما ذمُّهم مُنْصَبٌّ على تأويلاتِ الزنادقةِ وطوائفِ الابتداعِ، حيث حرَّفُوا كلامَ اللهِ عن مواضعِه، وصرَفوا النصَّ عن معناه إلى غيرِ معناه بغيرِ دليلٍ يُوجِبُ ذلك.

وقد بَسَطَ المؤلِّفُ الكلامَ على هذه المسألةِ في غيرِ هذه الرسالةِ ككتابِه: (مُوافَقَةُ صريحِ المعقولِ لصحيحِ المنقولِ ) كما أنه – رَحِمَهُ اللهُ – قد ذكَرَ في أوَّلِ هذه القاعدةِ انقسامَ التأويلِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ بحسبِ تعدُّدِ الاصطلاحاتِ، وبيَّنَ أن تأويلَ أهلِ التحريفِ والبِدَعِ هو الذي حصَلَ فيه الكلامُ من حيث الذمُّ والبُطلانُ.

(الردُّ على أهلِ التفويضِ ):

قولُه:
ومن لم يَعْرِفْ هذا اضطربَتْ أقوالُه، مثلَ طائفةٍ يقولون: إن التأويلَ باطلٌ، وإنه يَجبُ إجراءُ اللفظِ على ظاهِرِه، ويَحْتَجُّون بقولِه تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} ويَحْتَجُّون بهذه الآيةِ على إبطالِ التأويلِ، وهذا تناقُضٌ منهم؛ لأن هذه الآيةَ تَقتضي أن هناك تأويلاً لا يَعْلَمُه إلا اللهُ، وهم يَنْفُون التأويلَ مُطلَقاً. وجِهةُ الغلَطِ أن التأويلَ الذي استأثرَ اللهُ بعلْمِه هو الحقيقةُ التي لا يَعْلَمُها إلا هو. أما التأويلُ المذمومُ والباطلُ: فهو تأويلُ أهلِ التحريفِ والبِدَعِ، الذين يَتأوَّلُون على غيرِ تأويلِه، ويَدَّعُون صرْفَ اللفظِ عن مدلولِه إلى غيرِ مدلولِه بغيرِ دليلٍ يوجِبُ ذلك، ويَدَّعون أن في ظاهِره من المحذورِ ما هو نظيرُ المحذورِ اللازمِ فيما أثبَتُوه بالعقلِ، ويَصْرِفونه إلى معانٍ هي نظيرُ المعاني التي نَفَوْها عنه، فيكونُ ما نَفَوْهُ من جِنْسِ ما أَثبَتوه، فإن كان الثابتُ حقًّا ممكِناً كان المنفيُّ مثلَه، وإن كان المنفيُّ باطلاً ممتنِعاً كان الثابتُ مثلَه.

الشرْحُ:
المعنى أنَّ مَن لم يَعْرِفْ أقسامَ التأويلِ ولم يُميِّزْ صحيحَها من فاسدِها تَناقضَ في أقوالِه واضطربَ في مقالاتِه؛ مثلَ طائفةٍ من الجَهْميَّةِ المفوِّضَةِ تقولُ: (إن التأويلَ باطلٌ, وإنه يَجبُ إجراءُ اللفظِ على ظاهِرِه) وتقولُ: (التأويلُ باطلٌ بدليلِ قولِه تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} فقد تَناقَضَتْ هذه الطائفةُ من جهتين:

أوَّلاً: من جهةِ قولِها ببُطلانِ التأويلِ مع قولِها يَجِبُ إجراءُ اللفظِ على ظاهِرِه؛ فإنَّّّّ الجملةَ الأُولى تعني أنه ليس له معنًى مفهومٌ، والجملةَ الثانيةَ تعني أن ما يَسْبِقُ إلى العقلِ ويَتبادَرُ إلى الفهمِ من اللفظِ هو مرادُ اللهِ بكلامِه.

ثانياً: قولُهم ببُطلانِ التأويلِ فإنه يَتنافَى مع استِدلالِهم بآيةِ (آلِ عِمرانَ) فإن الآيةَ الكريمةَ تُبَيِّنُ أن له تأويلاً, ولكنَّ هذا التأويلَ لا يَعْلَمُه إلا اللهُ، وهم يَنْفُون التأويلَ بجميعِ معانِيه، وجِهَةُ غلَطِهم أنهم لم يَفْهَموا تأويلَ الشيءِ بمعنى حقيقتِه، وتأويلَه بمعنى تفسيرِه، وإنما يَعْرِفون التأويلَ الذي هو صرْفُ النصِّ عن مدلولِه إلى غيرِ مدلولِه بغيرِ دليلٍ يُوجِبُ ذلك، فظنُّوا أن قولَه تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} يُرادُ به هذا المعنى، وهذا غلَطٌ فاحِشٌ؛ فإن هذا التأويلَ من بابِ تَحريفِ الكَلِمِ عن مواضعِه، فهو من جِنسِ تأويلِ القَرامطةِ والباطنيَّةِ، وهو التأويلُ الذي اتَّفقَ سَلَفُ الأُمَّةِ وأئمَّتُها على ذمِّه وصاحوا بأهلِه من أقطارِ الأرضِ، ورَمَوا في آثارِهم بالشُّهُبِ، وبهذا يَتبيَّنُ أن القولَ في بعضِ صفاتِ اللهِ كالقولِ في سائرِها، وأن القولَ في صفاتِه كالقولِ في ذاتِه، فمن نَفَى النزولَ والاستواءَ، أو الرِّضا والغضبَ أو العلْمَ والقدرةَ، أو اسمَ العليمِ أو القديرِ، أو الوصفَ بالوجودِ فِراراً بزعمِه من التشبيهِ والتركيبِ والتجسيمِ لزِمَه فيما أثْبَتَه نظيرُ ما ألزَمَه لغيرِه فيما نَفَاه هو وأثبَتَه المثبِتُ، وكلُّ ما استَدلَّ به على نفيِ النزولِ والاستواءِ والرضا والغضبِ أمْكَنَ منازِعُه أن يَسْتَدِلَّ بنظيرِه على نفيِ الإرادةِ والسمْعِ والبصرِ والقدرةِ والعلْمِ، وكلُّ ما استَدلَّ به على نفيِ القدرةِ والعلْمِ والسمْعِ والبصرِ أمكَنَ منازعُه أن يَستَدلَّ بنظيرِه على نفيِ العليمِ والقديرِ والسميعِ والبصيرِ وكلُّ ما استَدلَّ به على نفيِ هذه الأسماءِ يُمكِنُ مُنازِعُه أن يَستَدِلَّ به على نفيِ الموجودِ والواجبِ.

والحاصلُ أن ما نَفَوْهُ هو من جِنسِ ما أَثبَتوه من حيث لزومُ المحذورِ أو عدمُلزومِه؛ فإن كان المعنى المصروفُ إليه حقًّا ممكِناً لا يَقتضي تشبيهاً فالمعنى المصروفُ عنه حقٌّ ثابتٌ لا يَقتضي تشبيهاً، وإن كان المعنى المصروفُ عنه باطلاً ممتنِعاً يَقتضي تشبيهاً فالمعنى المصروفُ إليه مثلَه.

محمد أبو زيد 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م 04:50 PM

التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي
 

أسبابُ ذَمِّ السلَفِ لتأويلاتِ الجَهْمِيَّةِ
قولُه : ( ولهذا كان الأئِمَّةُ - كالإمامِ أحمدَ وغيرِه - يُنْكِرُونَ على الجَهْمِيَّةِ وأمثالِهم من الذين يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عن مواضِعِه تأويلَ ما تَشَابَهَ عليهم من القُرْآنِ على غيرِ تأويلِه، كما قالَ الإمامُ أحمدُ في كتابِه الذي صَنَّفَهُ في " الرَّدِّ على الزَّنادِقَةِ والجَهْمِيَّةِ فيما شَكَّتْ فيه من مُتَشَابِهِ القرآنِ، وتَأَوَّلَتْهُ على غيرِ تأويلِه, " وإنما ذَمَّهُمْ لكونِهم تَأَوَّلُوهُ على غيرِ تأويلِه ، وذَكَرَ في ذلك ما يَشْتَبِهُ عليهم معناه، وإن كان لا يَشْتَبِهُ على غيرِهم وذَمَّهُمْ على أنهم تَأَوَّلُوهُ على غيرِ تأويلِه ، ولم يَنْفُوا مُطْلَقَ لَفْظِ " التأويلِ" كما تَقَدَّمَ من أنَّ لَفْظَ " التأويلِ " يُرادُ به التفسيرُ الْمُبَيَّنُ لِمُرادِ اللهِ تعالى, فذلك لا يُعَابُ، بل يُحْمَدُ، ويُرادُ بالتأويلِ: الحقيقةُ التي اسْتَأْثَرَ اللهُ بعِلْمِها، فذاك: لا يَعْلَمُه إلا هو . وقد بَسَطْنَا هذا في غيرِ هذا الْمَوْضِعِ .

التوضيحُ

بعدَ بيانِنا لأنواعِ التأويلِ والمُتَشَابِهِ نَعْلَمُ أنَّ السلَفَ الذين رَدُّوا على الجَهْمِيَّةِ, وهم كثيرون, إنما رَدُّوا عليهم؛ لأنهم تَأَوَّلُوا النصوصَ على غيرِ تأويلِها الصحيحِ ، أي: حَرَّفُوا الكَلِمَ عن مواضعِه، ولم يَرُدُّوا عليهم لمُطْلَقِ التأويلِ؛ فإنَّ التأويلَ قد يكونُ من بابِ التفسيرِ والبيانِ كما سَبَقَ، ويَظهَرُ ذلك جَلِيًّا من كتابِ الإمامِ أحمدَ ( الرَّدُّ على الزنادقةِ والجَهْمِيَّةِ فيما شَكَّتْ فيه من مُتَشَابِهِ القرآنِ وتأوَّلَتْهُ على غيرِ تأويلِه ) فأَنْكَرَ عليهم فَسادَ التأويلِ, لا مُطْلَقَ التأويلِ، ولهذا قالَ ابنُ حَزْمٍ : " وهذه الفِرَقُ على اختلافِ مَشَارِبِها لا تَتَعلَّقُ في تأويلاتِها بِحُجَّةٍ أَصْلاً إلا بِدَعْوى الإلهامِ والْمُجَاهَرَةِ بالكَذِبِ " وممن رَدَّ على الجَهْمِيَّةِ وبَيَّنَ أصْلَ خَطَئِهِم جماعةٌ من الأَئِمَّةِ منهم :
الإمامُ الدارِمِيُّ المُتَوَفَّى سنةَ 280 هـ في كتابِه: ‘‘الردُّ على الجَهْمِيَّةِ‘‘.
الإمامُ ابنُ قُتَيْبَةَ المتوفَّى سنةَ 270 هـ في كتابِه: ‘‘الاختلافُ في اللفظِ والردُّ على الجَهْمِيَّةِ والْمُشَبِّهَةِ‘‘.
الإمامُ البخاريُّ في كتابِه:‘‘خَلْقُ أفعالِ العِبادِ‘‘.
الإمامُ ابنُ مَنْدَهْ المتوفَّى سنةَ 395 هـ في كتابِه: ‘‘الردُّ على الجَهْمِيَّةِ‘‘.
الإمامُ الملطيًّ المتوفَّى سنةَ 377 هـ في كتابِه: ‘‘التنبيهُ والردُّ على أهلِ الأهواءِ والبِدَعِ‘‘.
الإمامُ ابنُ خُزَيْمَةَ المتوفَّى سنةَ 311 هـ في كتابِه: ‘‘كتابُ التوحيدِ وإثباتِ صِفاتِ الرَّبِّ عزَّ وجَلَّ‘‘.
الإمامُ السِّجْزِيُّ المتوفَّى سنة 444 هـ في كتابِه: ‘‘الردُّ على مَن أَنْكَرَ الْحَرْفَ والصوتَ‘‘، وغيرُهم كثيرٌ .
وكلُّهم بَيَّنُوا التأويلَ الصحيحَ وأَنْكَرُوا التأويلَ الفاسِدَ، وقد بَيَّنَ شيخُ الإسلامِ نَحْوَ هذا في مُناظَرَتِه في العقيدةِ الوَاسِطِيَّةِ، حيث سُئِلَ عن ذِكْرِه لذَمِّ التحريفِ بَدَلاً عن التأويلِ فقالَ :" لأنَّ من المعاني التي قد تُسَمَّى تَأْوِيلاً ما هو صحيحٌ منقولٌ عن السلَفِ, فلم أَنْفِ ما تَقومُ الْحُجَّةُ على صِحَّتِه ، فإذا قَامَتِ الْحُجَّةُ على صِحَّتِه, وهو مَنقولٌ عن السلَفِ, فليس من التحريفِ " فتَبَيَّنَ أنَّ حقيقةَ ما يَفْعَلُه المُبْتَدِعَةُ هو عينُ التحريفِ, وإنما سَمَّوْهُ تأويلاً ليُقْبَلَ .

مَذْهَبُ أهْلِ التفويضِ

قولُه : ( ومَن لم يَعْرِفْ هذا اضْطَرَبَتْ أقوالُه، مثلَ طائفةٍ يقولون: إنَّ التأويلَ باطِلٌ، وإنه يَجِبُ إجراءُ اللفظِ على ظاهِرِه، ويَحْتَجُّونَ بقولِه تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} ويَحْتَجُّون بهذه الآيةِ على إبطالِ التأويلِ ، وهذا تناقُضٌ منهم ، لأنَّ هذه الآيةَ تَقْتَضِي بأنَّ هناك تأويلاً لا يَعْلَمُه إلا اللهُ, وهم يَنْفُونَ التأويلَ مُطْلَقًا.
وَجِهَةُ الغَلَطِ : أنَّ التأويلَ الذي اسْتَأْثَرَ اللهُ بعِلْمِهِ هو الحقيقةُ التي لا يَعْلَمُها إلا هو.

وأمَّا التأويلُ المذمومُ والباطِلُ فهو تأويلُ أهلِ التحريفِ والبِدَعِ الذين يَتَأَوَّلُونَه على غيرِ تأويلِه، ويَدَّعُونَ صَرْفَ اللفظِ عن مدلولِه إلى غيرِ مدلولِه بغيرِ دليلٍ يُوجِبُ ذلك، ويَدَّعُونَ أنَّ في ظاهِرِه من المحذورِ ما هو نَظيرُ المحذورِ اللازمِ فيما أَثْبَتُوه بالعقْلِ ، ويَصْرِفُونَه إلى مَعانٍ هي نظيرُ المعاني التي نَفَوْهَا عنه, فيكونُ ما نَفَوْهُ من جِنْسِ ما أَثْبَتُوه، فإن كان الثابتُ حَقًّا مُمْكِنًا كان المَنْفِيُّ مِثْلَه، وإن كان المَنْفِيُّ باطلاً مُمْتَنِعًا كان الثابِتُ مِثلَه ) .

التوضيحُ

بعدَ أن قَدَّمَ شيخُ الإسلامِ بتلك الْمَبَاحِثِ في المُحْكَمِ والمُتَشَابِهِ والتأويلِ شَرَعَ هنا في المقصودِ من القاعدةِ, وهو الرَّدُّ على أهلِ البِدَعِ المخالِفِينَ فيها, وبالأخَصِّ أهلُ التفويضِ, وأرادَ بيانَ تَناقُضِهم. أمَّا إبطالُ مَذْهَبِهم جُمْلَةً وتفصيلاً فهو مَبثوتٌ في مباحِثِ هذه القاعدةِ ، والكلامُ عن هذه الفِقرةِ في مَسْأَلَتَيْنِ.

أوَّلاً: مَذْهَبُ الْمُفَوِّضَةِ: التفويضُ لُغَةً : مِن فَوَّضَ الأمْرَ, أي: رَدَّهُ، ومنه قولُه تعالى : { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ} أي أَرُدُّه وأُصَيِّرُه، ويُقالُ: باتَ الناسُ فَوْضَى ، أي : مُخْتَلِطِينَ مُتساوِينَ, كلٌّ فوَّضَ أمْرَه إلى الآخَرِ. ومنه قولُ الشاعِرِ :

لا يَصْلُحُ الناسُ فَوْضَى لا سُرَاةَ لهم = ولا سُرَاةٌ إذا جُهَّالُهُمْ سَادُوا.

ومعناه عندَ أهلِ الشريعةِ رَدُّ العلْمِ بالنصوصِ إلى اللهِ تعالى ، وهذا فيه تفصيلٌ.
فإذا كان المقصودُ أنَّ كيفيَّةَ النصوصِ غيرُ معلومةٍ فهذا صحيحٌ, وهو مَذْهَبُ السلَفِ كما سَبَقَ.
وإذا كان المقصودُ أنه يَجْهَلُ معانِيَ النصوصِ مع أنها مَعلومةٌ عندَ غيرِه, فهذا إنما يَحْكِي جَهْلَه, وليس هو مَذْهَبًا عَقَدِيًّا بهذا المعنى.
وإذا كان المقصودُ أنَّ معانِيَ نصوصِ الصِّفاتِ لا يَعْلَمُ معناها أحدٌ فهذا هو حقيقةُ مَذْهَبِ أهلِ التفويضِ، وهو باطِلٌ, بل إنها مَعلومةُ المعنى, وإن كانت مَجهولةَ الكَيْفِ .
إذًا فحقيقةُ مَذْهَبِ الْمُفَوِّضَةِ :
أنَّ نصوصَ الصِّفاتِ من المُتَشَابِهِ الذي لا يَعْلَمُ معناه إلا اللهُ, وهم في الظاهِرِ طائفتان:

الطائفةُ الأُولى : تَقولُ : إنَّ هذا الظاهِرَ غيرُ مُرادٍ, ولا يَعْلَمُه أحدٌ من الْخَلْقِ.

الطائفةُ الثانيةُ : تَقولُ إنها تَجْرِي على ظاهِرِها, وتأويلُها باطلٌ،ومع ذلك لا يَعْلَمُهَا إلا اللهُ.
والتفويضُ كما سَبَقَ مُتَّفِقٌ مع التأويلِ في كونِه يُفْضِي إلى التعطيلِ ، ومع ذلك فالمفَوِّضَةُ يَنْسِبُونَ مَذْهَبهُمْ إلى السلَفِ ، ومن هنا اشْتَهَرَتْ عبارتُهم " مَذْهَبُ السلَفِ التفويضُ، ومَذْهَبُ الخلَفِ التأويلُ " و" مَذْهَبُ السلَفِ أَسْلَمُ ومَذْهَبُ الخلَفِ أَحْكَمُ " وهذه المقالَةُ باطِلَةٌ في نفسِها فإنَّ الأسلَمَ هو الأحكَمُ, والحكْمَةُ تَقْتَضِي السلامةَ.

ثانيًا : جِهَةُ الغَلَطِ عندَهم من وَجْهَيْنِ :
أنهم جَعَلُوا نصوصَ الصِّفاتِ من قَبيلِ المُتَشَابِهِ دونَ تفصيلٍ لمعنى التَّشَابُهِ المقصودِ فيها.
عَدَمُ مَعْرِفَتِهم لإطلاقاتِ التأويلِ، فإنهم قالوا إنها مُتَشَابِهٌ، والمُتَشَابِهُ لا يَعْلَمُ تأويلَه إلا اللهُ، والتأويلُ الذي اسْتَأْثَرَ اللهُ بعِلْمِه إنما هو الحقيقةُ والكيفيَّةُ ، والتأويلُ الباطلُ إنماهو تأويلُ أهلِ التحريفِ, وهو صَرْفُ اللفظِ عن ظاهِرِه بغيرِ دليلٍ, بل بِمُجَرَّدِ التَّوَهُّمَاتِ الباطِلَةِ التي تَمُجُّهَا العقولُ الفاضلةُ، وهم في تأويلاتِهم تلك يَفِرُّونَ من مَحَاذِيرَ بِزَعْمِهم فيَقَعُون في نظيرِها، كما سَبَقَ ذلك.


الساعة الآن 02:08 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir