معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد

معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد (http://afaqattaiseer.net/vb/index.php)
-   فوائد في مشكل القرآن للعز بن عبد السلام (http://afaqattaiseer.net/vb/forumdisplay.php?f=479)
-   -   سورة البقرة (http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=13905)

إشراق المطيري 7 ربيع الثاني 1432هـ/12-03-2011م 12:12 AM

سورة البقرة
 
سورة البقرة

قال ابن عطية: يقال لسورة البقرة، فسطاط القرآن لعظمها وبهائها، وما فيها من المواعظ والأحكام. وتعلمها عبد الله بن عمر، وما احتوت عليه في ثمانية أعوام، وفيها خمسمائة حكم وخمسة عشر مثلاً.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أي القرآن أفضل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: سورة البقرة. ثم قال: وأيها أفضل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: آية الكرسي، وروي عنه عليه السلام أنه قال: أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه وطواسين من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش. وفي
[فوائد في مشكل القرآن: 59]
الصحيح: اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما. وفي البخاري: من قرأ الآيتين من آخر البقرة في ليلة كفتاه. وروى أبو هريرة: «البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة [لا يدخل فيه الشيطان]».
«وفيها آية هي سيدة أي القرآن، هي آية الكرسي».
فائدة: قيل سبب شرف آية الكرسي، وكونها سيدة آي القرآن، أنها تضمنت واحدًا وعشرين اسمًا لله. وهي: الله، وهو، والحي، والقيوم، والضميران فيهما، لأنهما صفتان يتحملان الضمير، والهاء في: «لا تأخذه سنة» والهاء في «له»، والهاء في «عنده»، والهاء في «بإذنه»، والضمير في «يعلم»، والهاء في «علمه»، والضمير والهاء في
[فوائد في مشكل القرآن: 60]
كرسيه، والهاء في «يؤوده»، والهاء في حفظهما، لأن الناس اختلفوا في أن المصدر كالفعل أم لا. فهذا على أحد القولين، وليس المشهور. و«هو»، والعلي العظيم، وضميراهما.
فائدة: اختلفوا في الحروف التي في أوائل السور: هل هي حروف يستفتح بها للإعلام بانقضاء سورة والشروع في أخرى، أو حروف لو وصلت لكانت هجاء لشيء معروف قد علمه بعض الناس. فـ الر، حم، ن، الرحمن.
وقيل: أخذ من كل اسم حرف. فالكاف من كافي، والهاء من هادي.
وقيل: لكل كتاب سر، وسر القرآن حروف التهجي التي هي دالة على حروب ووقائع، ويكون ذلك من جنس المعمى. وروي أن عليا رضي الله عنه كان يعلم ذلك واستخرج وقعة معاوية من «حم عسق».
والقائلون بأنها حروف من أسماء الله، منهم من قال: هي من أسماء الصفات، ومنهم من قال: من أسماء الذات. فالأولون يقولون: الهاء [من الهدى، والعين من العلم، والقاف من القدرة وهلم جرا. والآخرون يقولون: الهاء]. من الهادي لا من الهدى، والعين من عليم، والقاف من قدير،
[فوائد في مشكل القرآن: 61]
وكذلك سائرها. وهذا جار على استعمال العرب، فإنهم يدلون على الكلمة بحرف واحد، نحو قول بعض العرب:
قلت لها قفي فقالت قال: أي: وقفت.
فائدة: أقسم الله تعالى بهذه الحروف لسر فيها، من جهة أنها مترجمة لكتاب الله، ولأنها سبب لحفظ العلوم والشرائع بالكتابة، ولما تحصل من المقاصد في الحساب والمعاملات والرسائل والسجلات وغير ذلك من الفوائد.
فائدة: جر الحروف بإضمار القسم في أوائل السور لا يجوز إلا على رأي غير سيبويه. فإن سيبويه يجعل ذلك مخصوصًا باسم «الله» عز وجل لكثرته في الألسن، ولا يجيز حذف الحرف وإبقاء عمله.
وأما نصبها، فلا يخلو إما أن يكون بعد الحرف الذي تريد نصبه حرف مخفوض أم لا، نحو قوله تعالى: «يس والقرآن الحكيم». فإن كان امتنع أن تنوي نصبها إن كانت مبنية، أو
[فوائد في مشكل القرآن: 62]
تنصبها لفظًا، إن لم تكن مبنية، على القسم – أعني حذفه وإعماله – إلا أن تجمع بين قسمين على مقسم واحد، وهو ممتنع، لأنك تعد كالراجع عن الأول، لما عدلت إلى القسم بغيره. ولذلك منعوا أن تكون الواو الثانية واو قسم، بل واو عطف في مثل: والفجر وليال عشر، قاله الخليل. وجوز نصب الأول منهما بغير فعل القسم، نحو: اذكر الضحى. وقرأ بعضهم يسَ بالفتح، ويحتمل أن يكون حرك لالتقاء الساكنين.
وهذه الحروف عند الأكثر أسماء للسور، فلا ينصرف في موضع الخفض للعلمية والتأنيث.
فائدة: وإذا تأملت الحروف التي افتتح الله بها السور، وجدتها نصف [أسامي] حروف المعجم، أربعة عشر: الألف واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء والياء والعين، والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم. ثم تجدها مشتملة على أنصاف أجناس حروف المهموسة والمجهورة [والرخوة]
[فوائد في مشكل القرآن: 63]
والشديدة، والمطبعة، [والمنفتحة] والمستعلية، والمنخفضة، وحروف القلقلة. ثم إذا استقرأت الكلام تجد هذه الحروف هي أكثر دورانًا مما بقي. ودليله أن الألف واللام لما كانت أكثر تداولاً، جاءت في معظم هذه الفواتح. فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته.
قوله عز وجل: {ذلك الكتاب} (2: 2).
إشارة بـ«ذلك» إلى البعيد من المكان والزمان حقيقة، وشبه به البعد في الرتب فمن التشبيه قصة يوسف لما قالت النسوة في حقه: ما هذا بشر. فأشرن إليه إشارة القريب، لأنه لم يعل عندهن في الرتبة كما علت رتبته عند زليخا. وزليخا، لما علت رتبته عندها وعظم لديها، أشارت إليه بذلك: إشارة البعد المفرط، فقالت: «فذلكن الذي لمتنني فيه». فتكون الإشارة بذلك إلى القرآن، لعلو رتبته وشرف قدره.
قال الفراء: أشير له بذلك لانقضائه، والمنقضي
[فوائد في مشكل القرآن: 64]
كالغائب، ولو كان شيئًا قائمًا يرى لم يجز أن يجعل «ذلك» موضع «هذا»، ولا «هذا» موضع «ذلك».
قال ابن عطية: قيل «ذلك» بمعنى «هذا» هاهنا، وتكون الإشارة إلى هذه الحروف. وقيل: الإشارة إلى غائب، واختلفوا فيه، فقيل [التوراة والإنجيل، وقيل، اللوح المحفوظ، أي الكتاب] الذي هو القدر. وقيل: الذي وعد الله به نبيه. وقيل: الذي لم ينزل من القرآن بعد. وقيل الذي وعد به بنو إسرائيل.
قوله عز وجل: «الكتاب». الشيء يوصف بما هو ملابس له كقولنا: زيد قائم، إذ كان قائمًا حالة إخبارنا بذلك، وبما يؤول إليه، كقوله عليه السلام: «من قتل قتيلاً فله سلبه»، أي من يؤول إلى القتيل، لأن القتيل لا يقتل، والأول حقيقة والثاني مجاز بلا خلاف، وبما كان عليه، كقوله عز وجل: {وآتوا اليتامى أموالهم}، واليتيم، لا يصدق عليه بعد
[فوائد في مشكل القرآن: 65]
البلوغ اليتيم إلا باعتبار أنه كان يتيمًا. وهل هذا حقيقة أو مجاز؟ للعلماء فيه مذهبان.
الكتاب هاهنا بمعنى المكتوب، وهو مصدر سمي بيه المفعول. ووقت نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مكتوبًا، مع أنه قد أطلق عليه مكتوب حالة الإنزال، فوصفه بذلك: إما باعتبار ما يؤول إليه، لأنه كتب في المستقبل، أو باعتبار ما كان عليه في اللوح المحفوظ، وهذا هو الصحيح. لأن في الصحيح أن الصحابة رضوان الله عليهم لما دُعوا إلى كتابته امتنعوا وكرهوا ذلك، ولو فهموا عن الله عز وجل أنه مكتوب باعتبار المستقبل ما امتنعوا، فدل ذلك على أنهم فهموا أنه مكتوب باعتبار ما كان عليه.
فائدة: كتب عثمان رضي الله عنه القرآن، لأن الناس كانوا يقرؤون بالحروف السبعة، فكان بعضهم ينكر على بعض، ويكفره بعدم علمه بالقراءة الأخرى، فقيل: أدرك الناس، وإلا
[فوائد في مشكل القرآن: 66]
ضلوا كما ضل بنو إسرائيل، فجمعه حينئذ.
وأما عمر رضي الله عنه فجمعه بسب آخر وهو أن يوم اليمامة قتل قراء كثير، فخشي رضي الله عنه أن يعدم القرآن لعدم القراء فجمعه.
وأما تحديد السور فمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكون هذه قبل هذه أيضًا توقيف ثابت على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الأحاديث الواردة في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت على أنه رتبها في الصلاة على نحو ما هي مرتبه الآن. وترتيب السور في نفسها واجب، وتنكيسها محرم، وترتيبها مع غيرها مندوب. فكتب القرآن على عهد رسول الله لكن يسيرًا مفرقًا
[فوائد في مشكل القرآن: 67]
فائدة: اختلف في اشتقاق الآية، فقيل: هي العلامة. وقيل:لما كانت جملة كلام قيل لها: آية لقولهم: جئنا بآيتنا، أي بجماعتنا.
وإذا قلنا بأنها علامة، فهل ذلك لأنها دالة على صدق الآتي بها، أو لأنها علامة تفصل ما قبلها عما بعدها؟ للعلماء فيه قولان.
ووزنها عند سيبويه: فَعَلة، بفتح العين، أصلها: أيية، تحركت الياء الأولى وما قبلها مفتوح فانقلبت ألفًا، فصارت: آية. وقال الكسائي: أصلها: «آيية» على وزن فاعلة، حذفت الياء الأولى مخافة الإدغام، فيصير كدابة. وقال مكي: سكنت الأولى من اليائين، وأدغمت، ثم خففت. وقيل أصلها: (آيية، على وزن) فعلة بسكون العين، أبدلت الياء
[فوائد في مشكل القرآن: 68]
الساكنة ألفًا، وحكي ذلك عن سيبويه.
قوله عز وجل {لا ريب فيه} (2: 2).
فيه سؤالان: أحدهما: كيف يقول «لا ريب فيه»، وقد وقع الريب فيه من أهل الملل. والثاني: أن الريب في المرتاب، لأن الريب: الشك، وهو في الشاك لا في المشكوك فيه. ونفيه عن الكتاب يستلزم صحة وقوعه في الكتاب، وليس كذلك.
والجواب عن الأول: يجوز أن يكون عامًا مخصوصًا بأهل الكفر، أو على حذف مضاف، تقديره: لا سبب ريب فيه، يعني من الركاكة والعي والتناقض والاختلاف.
أو يكون خبرًا بمعنى الأمر، كقوله: فلا رفث ولا فسوق: أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا.
وعن الثاني: أن معنى قولنا: ارتبت في كذا، شككت فيه، واحترت فيه، وأكثرت النظر فيه وما شابه ذلك مما يستحيل فيه ظرفية هذه المعاني. فالمراد أن ما جعل ظرفًا في هذه السور سببه تعلق ما جعله مظروفًا به تعلق المظروف الجسمي بالظرف الجسمي.
[فوائد في مشكل القرآن: 69]
قوله عز وجل: {هدى للمتقين} (2: 2).
قال الزمخشري: المتقى مهتد، بل هو هدى للضالين الذين سيصيرون مهتدين، كقوله: من قتل قتيلاً فله سلبه.
وقيل: لا بل هدى للذين اتقوا العذاب بإيمانهم، فهو يهديهم في فروع لا دين دون أصوله. ويكون الكلام حقيقة.
قوله عز وجل: {وبالآخرة هم يوقنون}. (2: 4)، بعد قوله...{الذين يؤمنون بالغيب} (2: 3).
قال أبو علي: إفراد الآخرة بالذكر وإن كانت من جملة الغيب تخصيصًا لها، كقوله: {خلق * خلق الإنسان من علق} واليقين: العلم الحاصل بعد شك، ولذلك لا يوصف به الباري سبحانه.
فائدة: «على» إذا استعملت في مثل قوله عز وجل: {أولئك على هدى من ربهم} (2: 5) دلت على الاستقرار والتمكن من ذلك المعنى، لأن الجسم إذا علا شيئًا، فقد تمكن منه واستقر عليه.
فائدة: كون الفعل يعود عليه الضمير كما يعود على الاسم يقع على ثلاثة أوجه: إما أن يقام مقام المصدر، كقوله عز وجل:
[فوائد في مشكل القرآن: 70]
{إن الذين كفروا سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم} (2: 6).
فإن فعل هاهنا خبر عن «سواء»، والفعل لا يكون خبرًا، بل مصدره هو الخبر، تقديره: سواء إنذارك وعدمه. فأقيم الفعل مقام المصدر.
وإما أن يكون المصدر معلومًا لدلالة فعله عليه، فيكون المصدر هو العامل في الحقيقة كقولنا: من كذب كان شرًا له. فالضمير في كان يعود على المصدر المعلوم، الذي هو الكذب، وهذا بخلاف القسم الأول. فإن العامل في القسم الأول هو المذكور دون غيره وهاهنا غير المذكور هو العامل.
وإما أن يكون هو جزء العامل المحذوف [وبقية العامل محذوفة] فبقي العامل في الظاهر هو الفعل، وليس كذلك، كقولنا: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه»، تقديره: أن تسمع، فخير هو خبر أن تسمع، فالعامل هو المجموع بخلاف القسمين الأولين.
[فوائد في مشكل القرآن: 71]
قوله عز وجل: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} (2: 7).
ولم قال. وأبصارهم؟
والجواب أن القلوب لما كانت مجوفة، أشبهت الأكياس، فاستعير الختم والطبع والأكنة، والبصر ليس مجوفًا فكان الذي يناسبه الغشاوة.
قوله عز وجل: {ولهم عذاب أليم} ... (2: 10).
قال الزمخشري: أصل «اليم»أن يكون لذي
[فوائد في مشكل القرآن: 72]
العذاب، لأنك تقول: ألم فهو أليم مثل كريم، فوصفت الصفة بما يستحقه الموصوف، نحو شعر شاعر. وأخطب ما يكون الأمير قائمًا، وجنونك مجنون. وإما أن يجعل «أليم» هاهنا بمعنى مؤلم، والعذاب هو المؤلم فيكون حقيقة على هذا التقدير، والحاصل في هذه المسألة أن العذاب سبب للألم، وله مسبب في المعذب يجده ويحسه، فإن حملنا «أليم» على تأثير العذاب كان الكلام حقيقة وإن حملناه على مسبب العذاب، وهو ما يجده المعذب، كان من باب وصف الصفة بما يستحقه الموصوف.
وأصل العذاب: المنع. وسمي الماء عذبًا، لأنه يمنع العطش. والعذاب مصدر، والعذاب، اسم. والعذاب يمنع المعذب من الذنب كرة أخرى.
قوله عز وجل: {بما كانوا يكذبون} (2: 10).
بالتشديد والتخفيف، ونحو ذلك من آيات الكتاب [ليست من القراءات السبع، بل هما خبران عن مخبرين
[فوائد في مشكل القرآن: 73]
أحدهما: أنهم] كذبوا في أنفسهم، والثاني أنهم كذبوا غيرهم. وإنما يدخل في الحروف السبعة ما كان من مختلف اللفظ متحد المعنى، مثل الدنيا والدنيي بالتخفيف والإمالة. وفي الصحيح: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله أمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف» قال: أسأل الله معافاته ومغفرته، إن أمتي لا تطيق ذلك. ثم أتاه ثانية، «فذكر نحو هذا حتى بلغ سبعة أحرف» فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا.
وخرج أحمد في مسنده أنه عليه السلام قال: فإن في أمتي الضعيف والشيخ الكبير. ومعنى ذلك أن من تعود أن يقرأ بالتفخيم يصعب عليه، ويشق أن يقرأ بالإمالة إلى غير ذلك من القراءة. فلم يزل عليه السلام يسأل الله إلى
[فوائد في مشكل القرآن: 74]
أن كمله على سبع لغات، فاتسع ذلك على أولي اللغات المختلفة.
قوله عز وجل: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض}... (2: 11).
ما فائدة قوله: «في الأرض». وهذا بخلاف قوله في براءة: «وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير». لأن معناه: في الأرض كلها. فلو لم يأت بها لاحتمل أن يكون خاصًا ببعض الأرض.
قوله عز وجل: {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أؤمن كما آمن السفهاء}... (2: 13).
فيه سؤال. لأن قائل «آمنوا» إما أن يكون مسلمًا أو كافرًا، فإن كان مسلمًا فكيف يجاب هذا الجواب مع أن المنافقين يسترون أمرهم، وإن كان كافرًا فكيف يصح من الكفار أن يأمروا بالإيمان. فإن قيل: هذا جواب لغير القائل، والقائل مؤمن، لا يحسن على هذا أن يكون الشرط
[فوائد في مشكل القرآن: 75] مسببًا عنه.
والجواب: أن القائل مؤمن، لكنه من القرابة، فلا يستتر منه، لأنه لا يفشي السر.
قوله عز وجل ...{قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم}... (2: 14، 15).
الذي يقتضيه علم البيان أن يقابل اسم الفاعل بمثله، لا بالفعل، فلم عدل عنه؟
الجواب: أن الفعل المضارع يستعمل في لسان العرب للحال المستمرة، نحو: فلان يعطي ويمنع، ويصل ويقطع. فجاء به ليدل على دوام الاستهزاء بهم. واسم الفاعل. وإن كان يستعمل بمعنى الدوام، إلا أن ذلك قليل إلى الفعل.
قوله عز وجل: {ويمدهم في طغيانهم يعمهون} (2: 14).
قال أبو علي: «في طغيانهم» من صلة «يمدهم» لا من صلة «يعمهون»، كقوله: «يمدونهم في الغي».
قال ابن عطية: قال يونس: «مد»، في الشر، وأمد،
[فوائد في مشكل القرآن: 76]
في الخير. وقال غيره: مد الشيء [ومده] ما كان مثله ومن جنسه. وأمده: إذا كان مغايرًا له. وقال ابن قتيبة هما بمعنى واحد. ومادة الشيء ما يمده، والهاء للمبالغة.
قوله عز وجل: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى}... (2: 16).
قال بعض السلف فيه: إن «اشتروا» مستعار لـ «استحبوا» فإن قيل: كان يلزم حذف الباء من «الهدى» لأنا إذا استعرنا فعلاً مكان فعل،: كان الحكم للفعل المستعار قيل: قد يعاملون اللفظ دون المعنى.
فائدة: قال بعض السلف رضي الله عنهم: أطلق عليهم لفظ الشراء، وإن كان الثمن ليس حاصلاً في أيديهم، نظرًا إلى الميثاق المأخوذ عليهم، وهم ذر، فاستصعب عليهم حكمًا
[فوائد في مشكل القرآن: 77]
وهذا لا يقول به المعتزلة، لأنهم لا يعترفون بأخذ ذلك الميثاق.
وفي قوله: «اشتروا» معنى لطيف، وهو: أن الثمن في البياعات يكون من باب الوسائل، والمثمن من باب المقاصد المهمات التي تتعلق الأغراض بها. وقد جعل «الهدى» هو الثمن لدخول الباء عليه، وهي لا تدخل إلا على الثمن، فكأنه يقول جعلوا المقصود الأهم الذي هو الهدى وسيلة لأخذ الضلالة، بخلاف ما لو قال: استبدلوا، لأن الاستبدال، يشعر بالأعلى من الأدنى من المتقابلين.
قوله عز وجل: {فما ربحت تجارتهم}... (2: 16).
[قال الزمخشري: التجارة: البيع والشراء للربح وهذا باطل، بل] التجارة، الشراء للاسترباح لقوله عز وجل: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} فعطف التجارة يدل على المغايرة، بدليل ما لو حلف: «لا يتجر» فاشترى للربح فإنه يحنث. ومعنى قول العرب: ناقة تاجرة: أي تحمل المشتري
[فوائد في مشكل القرآن: 78]
على شرائها، لا أنها تبيع نفسها، كما قال.
[مسألة] قال الفراء: إذا كان المتقابلان في العقود نقدين جاز دخول الباء على كل واحد منهما. فتقول: اشتريت الذهب بالفضة، والفضة بالذهب. وكذلك إذا كان معنيين، نحو: اشتروا الضلالة بالهدى، وكذلك إذا كانا عوضين. فإن كانا عينا وعرضًا فالباء للعين، والذي يدخل عليه الباء هو الثمن.
قال أبو علي في قوله عز وجل: {ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا}، هذا مشكل، لأن الباء دخلت على المثمن دون الثمن، فلا بد أن تضمر ذا ثمن، حتى لا يكون الثمن هو المشترى. وعلى رأي «الفراء» لا يحتاج إلى إضمار أبي علي، لأن كل واحد منهما معنى، لأن المراد بالثمن: الرياسة، لأنها المقصودة لهم، ولأجلها أعرضوا عن آيات الله. و«أبو علي» دون «الفراء» منزلة فيما يرجع إلى اللغة
[فوائد في مشكل القرآن: 79]
دون العربية.
قال الفراء، [في قوله عز وجل: {فما ربحت تجارتهم} تقول: ربح بيعك [وخسر] وإن كنت أنت الرابح الخاسر، كقولهم: «ليل قائم» و«عزم الأمر» ولو قلت: «ربح عبدك» لم يجز. وقول قلت: «ربحت يدك ودرهمك» جاز.
قوله عز وجل: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} ...(2: 17) أي: حالهم كحال الذي استوقد نارًا، أو قضيتهم كقضيته أو شأنهم كشأنه.
قال ابن عطية: مثلهم مبتدأ، والخبر في الكاف، وهي على هذا اسم، كما قال الأعشى:
أتنتهون؟ ولا ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل.
ويجوز أن يكون الخبر محذوفًا، تقديره: مستقر، فالكاف على هذا، حرف، ولا يجوز ذلك في بيت الأعشى، لأن الفاعل لا يجوز حذفه عند جمهور البصريين، ويجوز حذف خبر المبتدأ
[فوائد في مشكل القرآن: 80]
إذا دل عليه غيره. وجوز الأخفش حذف الفاعل، وأن تكون الكاف في البيت حرفًا، والفاعل محذوفًا.
قوله عز وجل: ....{ذهب الله بنورهم}... (2: 17).
والمطابق أن يقول: بضيائهم كقوله: {فلما أضاءت ما حوله}(2: 17) لكنه عدل عن الضياء إلى النور، لأن الضياء أعم من النور. لقوله عز ولج: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا}، فلو نفى الضياء لم يلزم منه نفي النور، إذ لا يلزم من نفي الخاص نفي العام.
والنور، مشتق من نار ينور نورًا، إذا اضطرب. فلما كانت النار تضطرب سميت نارًا
[فوائد في مشكل القرآن: 81]
قوله عز وجل: {أو كصيب من السماء}... (2: 19).
[من السماء أي] من جهة، أو من نحو، أو صوب [أو عبر بالسماء عن السحاب] لأن كل ما علاك وأظلك، فهو سماء، كقوله: «وفروعها في السماء» و{فليمدد بسبب إلى السماء} أي إلى سقف بيته، قال:
إذا نزل السماء بأرض قوم = رعيناه وإن كانوا غضابا
أي إذا نزل المطر رعينا نبته وكلأه. ومثله: {وأرسلنا السماء عليهم مدرارا}، أي المطر. وسمي المطر سماء لأنه كان في جهة العلو قبل نزوله، من باب تسمية الشيء بما كان عليه. وفي الحديث: «كنا إثر سماء من الليل» أي إثر مطر
[فوائد في مشكل القرآن: 82]
قيل: السماء المعروفة، وقيل: السحاب.
قال الحسن: السماء: موج مكفوف، ومعناه أنها للطافتها تخترق كما يخترق الماء.
وقال مقاتل: «بل كل واحدة من معدن، فواحدة رصاص، وأخرى نحاس، وأخرى حديد، وأخرى ذهب، وأخرى فضة». وهذا لا دليل عليه.
وحكى الإمام في الشامل عن الفلاسفة: أن كل ما قرب من كرة الأرض، فهو أكثف مما بعد. فالماء أكثف من الهواء، والهواء أكثف من النار، وسماء الدنيا ألطف من النار، وأكثف من التي بعدها، ثم كذلك ترتيب الأفلاك، وهذا يساعد قول الحسن
[فوائد في مشكل القرآن: 83]
قوله عز ولج:{فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت}... (2: 19).
قال أبو علي في: «فيه ظلمات» والضمير يعود على «الصيب». قال غيره: في مصبه، وهو ضعيف، لأن الرعد والبرق لا يكونان في الأرض التي هي المصب. وقال الزمخشري: إنما قال: «فيه» لأجل الملابسة بين البرق والرعد والصيب، وهو تعسف. وقول أبي علي أحسنها.
قال الزمخشري: وإنما لم يجمع الرعد والبرق كالظلمات لأنه (إن) أراد عين الرعد والبرق، فهما مصدرا أرعدت السماء وبرقت، فلم يجمعهما نظرًا إلى أصلهما، وإن أريد الحدث، فكأنه قيل: فيه إرعاد وإبراق.
وقال غيره: أرعد: إذا خوف. وأبرق: إذا أبان عجبه، ومنه المثل: أرعد وأبرق. فشبه الوعيد في القرآن بالرعد، وظهور الحجج بالبرق. ولكون القرآن من شأنه أن ينقاد إليه من سمعه، شبهه بالبرق، وقال: {يكاد البرق يخطب أبصارهم} (2: 20).
قال ابن عطية: قال ابن عباس، ومجاهد وغيرهما:
[فوائد في مشكل القرآن: 84]
الرعد: ملك يزجر السحاب بهذا الصوت، فإذا اشتد غضبه طارت النار من فيه، فهي الصواعق. وقيل: هو ملك والصوت تسبيحه. وقيل: الرعد اسم الصوت نفسه، قاله علي عليه السلام، وهو المعروف في اللغة. وروي عن ابن عباس: أنه ريح تختنق بين السحاب. وقيل: اصطكاك أجرام السحاب. وأكثر العلماء على أن الرعد ملك، وذلك الصوت تسبيحه يزجر به السحاب.
وقال علي: البرق مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب، وروى عن ابن عباس: أن البرق ملك يتراءى. وقيل: هو ماء، وهو ضعيف.
قال الخليل: الصاعقة: الواقعة الشديدة من صوت الرعد تكون معها أحيانًا نار، قاله الخليل، وحكاه بالسين. وقال النقاش: صاعقة وصاعقة وصعقة، بمعنى واحد.
وقرئ بتقديم القاف.
[فوائد في مشكل القرآن: 85]
قوله عز وجل: {واله محيط بالكافرين} (2: 19).
قال الزمخشري: يجوز أن يكون الإحاطة هاهنا بمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحيط المحاط حقيقة.
وقال أبو علي الفارسي: محيط هاهنا بمعنى مهلك، مثل قوله عز وجل: {وأحاطت به خطيئته} (2: 81)، أو بمعنى عالم بهم علم مجازاة، مثل قوله عز وجل: {وأحاط بما لديهم}، {وما تفعلوا من خير يعلمه الله}، معناه: يجازي عليه.
قوله عز وجل:....{إن الله على كل شيء قدير} (2: 20).
[فوائد في مشكل القرآن: 86]
أي : على كل شيء ممكن، أو على كل شيء يريد. فيه سؤالان:
الأول: يلزم أن يكون المعدوم شيئًا، وهو خلاف المذهب الأشعري.
والثاني: أن قدير، بمعنى: فعيل، وهو من صيغ المبالغة. فيستلزم الزيادة على قادر، والزيادة على قادر محال. إذ الإيجاد شيء واحد لا يمكن فيه التفاضل باعتبار كل فرد فرد.
والجواب عن الأول: أن القدرة لا تتعلق بالمقدور إلا في أول أزمان إيجاده وهو في ذلك الزمان موجود، وحمل الآية على ما قبل ذلك أو بعده مجاز، إذ الباقي والمعدوم لا يصدق أن الله تعالى قدير عليهما إلا مجازًا، باعتبار ما يؤول إليه
[فوائد في مشكل القرآن: 87]
المعدوم، وباعتبار ما كان عليه الباقي. ثم إن الآية مطلقة في الأحوال الثلاثة، أعني: العدم والوجود والبقاء، فيحمل المطلق على المحل المجمع عليه، لأنا أجمعن على أن الله قادر على شيء حالة وجوده، فيسقط الاستدلال بالآية، لأن المطلق إذا عمل في صورة خرج عن أن يكون حجة فيما عداها.
ثم على هذه القاعدة يفسر الكتاب العزيز أينما ذكرت هذه الآية. فإن دل السياق على أنها في أمر يأتي في المستقبل كأمور يوم القيامة خصصنا العام بما أرشد إليه السياق، وقلنا هذا من مجاز التعبير عن الشيء بما يؤول إليه، إذ لو بقيناه على عمومه لزم الجمع بين مجازين على حقيقة واحدة. وقولنا: على حقيقة واحدة احتراز عن التجوز عن المجاز، كما إذا عبرنا عن مقدمات عقد التزويج بالنكاح. فإن النكاح حقيقة في تداخل الأجسام. فإطلاقه على سببه الذي هو العقد، مجاز ثم تجوزنا به عن العقد إلى مقدماته. ومثل هذا المجاز كثير في كلامهم، وإنما القليل ما ذكرناه، وهو مجاز أيضًا، لأن مجموع المجازين لم يوضع له اللفظ،
[فوائد في مشكل القرآن: 88]
وهو مرجوح لقلة الاستعمال.
وبيان أنه يلزم الجمع بين مجازين: أنه يندرج فيه ما سيقع، وهو مجاز، وما وقع ومضى، وهو مجاز. ويلزم أيضًا الجمع بين الحقيقة والمجاز، لأنه يندرج فيه ما هو واقع في الحال وغيره، وهو مرجوح. فلم يبق شيء يليق حمل كتاب الله عليه إلا ما سيقع في مثل هذا السياق، وإن كان السياق في أمر ماض نخصص العام به. ونقول هذا تعبير عن الشيء بما كان عليه، إذ لو عممنا للزم ما ذكرناه.
والجواب عن السؤال الثاني: أن المبالغة لما تعذر حملها على كل فرد، وجب صرفها إلى مجموع الأفراد التي دل السياق عليها. وكذلك قوله عز وجل:{والله بكل شيء عليم} يستحيل عوده إلى كل فرد، إذ العلم بالشيء الواحد لا يصح التفاوت فيه، فيجب صرفه إلى عموم كل [شيء]. وكأن المعنى: أن معلومات الله أكثر من معلومات غيره. وكذلك حفيظ.
ويمكن أن يجاب بأنا عبرنا بـ«شيء» في قولنا: {بكل شيء عليم} عن الشيء ولواحقه، فيكون من باب إطلاق الجزء بإرادة الكل
[فوائد في مشكل القرآن: 89]
قوله عز وجل: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار}... (2: 25).
(مشكل)، لأن الألف واللام في الصالحات، تعم كل أفراد الصالحات، فعلى هذا لا تكون البشارة إلا لمن فعل كل الصالحات، وليس كذلك.
والجواب: أن الألف واللام لبيان الجنس، لا للاستغراق [فهو يبشر كل من حصلت له حقيقة الجنس في أي أنواع الجنس] على حسب ما تعين لكل مكلف عن جهاد أو صلاة.
فائدة: الجنة اسم للشجر، لا للشجر والأرض.
[فوائد في مشكل القرآن: 90]
وهو مصدر محدود. وسمي به لأنه من جن يجن جنا: إذا ستر. والجيم والنون في لسان العرب لا يكون إلا لما فيه ستر، نحو، الجُنَّة: للدرقة. والجان: لأنه خفي عن العيون. والمجن: الترس لأن الإنسان يستتر به عن السهام.
فائدة: والحكم بالجمع على الجمع على قسمين: تارة يثبت الجمع لكل واحد من آحاد المحكوم عليه، كقوله عز وجل: «لهم جنات تجري من تحتها الأنهار». وجنات جمع قلة – وقد ذكر في معرض المدح والامتنان – وهو دون العشرة، لو وزع على أهل الإيمان لما حصل لأحد منهم شيء ينتفع به، ولا يحسن الامتنان بالنزر اليسير. فتعين أن يثبت الجمع لكل واحد من آحاد المحكوم عليه. وكقوله: {فاجلدوهم ثمانين جلدة}، فإنه ليس فيه توزيع أيضًا.
وتارة يوزع الجمع على الجمع، كقوله عز وجل: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم} فإنه لا يمكن إلا التوزيع.
[فوائد في مشكل القرآن: 91]
وتارة يحتمل الأمرين، فيفتقر ذلك إلى دليل منفصل. وأما الوضع فلا مدخل له في كل هذه الأقسام، بل السياق وغيره يرشد إلى ذلك.
فائدة: ينبغي أن يعلم أمران في قوله عز وجل: {تجري من تحتها الأنهار}.
أحدهما: أن الأنهار ما تجري، إذ النهر هو الحفير، وإذ تعذر الحكم عليها بالجريان تعين أن يضاف لما فيها.
الثانية: إنما يضمر في قوله عز وجل – حكاية عن فرعون: {وهذه الأنهار تجري من تحتي}، ومياه هذه الأنهار، ولا يضمر ذلك في قوله عز وجل في حق أهل الجنة: «تجري من تحتهم الأنهار». بل يضمر أشربة الأنهار، لأنها عسل ولبن وخمر وماء. فيتعين الأشربة دون المياه لكذبها وصدق الأشربة.
واختلف أيضًا في المحذوف الذي أضيف إليه الظرف، فقيل: من تحت غصونها، وقال ابن عباس: من تحت غرفها،
[فوائد في مشكل القرآن: 92]
لأنه ظهر في قوله تعالى: {لهم غرف من فوقها غرف} وقال أبو علي: من تحت ثمارها، إذ هو أبلغ في الامتنان. يؤكده: {كلما رزقوا} أي من ثمارها ثمرة مرزوقة، «قالوا»، الآية.
فائدة: ذكر الأزمنة في مثل قوله تعالى: {وإذ نجيناكم} (2: 49) {وإذ واعدنا موسى} (2: 51) وغير ذلك من المواضع التي حصل فيها الامتنان بالنعم يجعل الممتن به نفس الزمان. ومثله قول من قال من العرب:
أنسيت يوم عكاظ إذ لاقيتني = تحت العجاج ولم يشق غباري
والمراد: ما وقع في اليوم لا نفس اليوم. ما فائدة ذلك؟ لو ذكرت النعم فقط، استقل المعنى.
قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا} ... (2: 153).
لم لا يقال: «يا أيها المؤمنون» بحذف الموصول، فإنه أخضر؟
والجواب من وجهين: الأول: أن «المؤمنين» لا يشعر
[فوائد في مشكل القرآن: 93]
بتقديم إيمانهم بخلاف الموصول. الثاني: أن الألف واللام تستعمل للكمال. فإذا رتب الله تعالى على هذا الاسم أمرًا ونهيًا توهم أن ذلك مخصوص [بكمال الإيمان وهو غير] مخصوص بخلاف الموصول بالفعل، فإن الفعل لا يشعر إلا بمطلق الصفة.
قوله عز وجل: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة}... (2: 157) مع أن الصلاة من الله تعالى هي الرحمة، فقوله: «ورحمة» ما معناه؟
الجواب: قال ابن عباس: الصلوات نعمة، والرحمة إنقاذهم من العذاب.
قوله عز وجل: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}... (2: 187).
مشكل، لأن التشبيه في الفجر صادق، إذ طوله أكثر من
[فوائد في مشكل القرآن: 94]
عرضه، وأما الظلام فكثير، فكيف يشبه بالخيط؟
والجواب: قال أبو عبيدة: المراد بالخيط الأسود، الفجر الأول. ويكون من باب وصف الشيء بما يؤول إليه، كقوله: {وسيدا وحصورا}، وقوله: {فبشرناه بغلام حليم} و«عليم». لأن الفجر يصير إلى السواد، وبعد وجوده لا يقال هو يذهب، ولا يقال: اتصف، وإنما يقال: ذهب. لأنا نقول: الفجر عبارة عن جواهر الهواء التي قام بها عرض النور، فالذاهب هو العرض، ثم تتصف الجواهر بعرض الظلام، فالذاهب الصفة لا الموصوف.
والخيط الأبيض: هو الفجر الثاني، وهو أيضًا وصف الشيء بما يؤول إليه، لأنا نحمل البياض على البياض التام لأجل المقابلة بين الصنفين. فمعنى الآية: حتى يتبين لكم الفجر الثاني من الفجر الأول.
[فوائد في مشكل القرآن: 95]
قوله عز ولج: {ثم أتموا الصيام إلى الليل}... (2: 187).
مشكل، لأن إتمام الشيء، فعل أخر أجزائه، وحينئذ لا يتحقق مسمى الإتمام إلا عند أول الليل، فلا يتحقق معنى «إلى» إذ معناها امتداد المغيا بعد حصول حقيقته إلى محل الغاية، الذي هو الليل، وهاهنا لم يتحقق الامتداد بعد حصول المسمى والليل.
والجواب: أن هذا أمر بإتمام آداب الصيام، إذ لا يكون تامًا كاملاً إلا بكمال آدابه.
سؤال: يعود الإشكال. إلى عين الآداب، إذ إتمامها لا يكون إلا بفعل آخر أجزائها.
جوابه: المراد: أدب كل ساعة من ساعات النهار، فكأنه يقول: لا تزالون تعمرون كل ساعة بآدابها إلى الليل.
سؤال: «الساعة» ليست صوما شرعيا، وخطاب الشارع لا يحمل إلا على الصوم الشرعي.
الجواب: صوم كل ساعة، صوم شرعي، بشرط إكمال النهار لأن الحائض في آخر النهار يحكم لها بحصول اليوم الشرعي في أوله بالإجماع.
[فوائد في مشكل القرآن: 96]
قوله عز وجل: {وأتموا الحج والعمرة لله} (2: 196).
إنما قال «لله»، لأن الحج مما يكثر الرياء فيه بخلاف غيره من العبادات، ولذلك لم يأت مثل ذلك في القرآن في أكثر المواضع.
قوله عز وجل:... {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام}... (2: 210) ينظرون، بمعنى ينتظرون. وهذا مشكل، لأنهم كانوا ينكرون البعث فكيف ينتظرونه.
والجواب: أنه عبر بالانتظار عن الاستقبال، لأنه من لوازمه، أو هذا شأنهم، لأنه واقع بهم.
قوله عز وجل: ......{وإلى الله ترجع الأمور}. (2: 210).
بضم «التاء» مشكل، لأنه لا أحد يرجع الأمور إلى الله، بل رجوعها إليه واجب لذاته وما بالذات لا يعلل بالغير. ولا يقال: إن الملائكة يتصرفون في عباد الله بأمره، فإذا ذهب تصرف الملائكة فقد رجعت الأمور إلى الله، لأنا نقول: ليس هذا إرجاعًا من الملائكة بل غاية ما في الباب أنهم ما فعلوا بعد ذلك في أمور العباد شيئًا، أما إنهم ردوها فلا نسلم.
والجواب: أن المراد بهذا أن الخلق يوم القيامة يرجعون بأمورهم إلى الله عز وجل، ويذهب كل من كان يرجع إليه من ملك ووزير، وغير ذلك
[فوائد في مشكل القرآن: 97]
وأما من قرأ بفتح التاء فلا إشكال فيه.
وهذه الآية بخلاف قوله: {واتقوا الله يوما ترجعون فيه إلى الله}، لأن معناه ترجعون فيه إلى موقف الله والملائكة، والنار تسوق الناس إلى «الموقف». فصح ضم التاء، لأن الفاعل متحقق.
قوله عز وجل: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره}... (2: 230).
هذه [الغاية ليست مرادة، وقد خولف ظاهرها، إنها لا تحل بمجرد نكاح الغير، بل حتى يطلقها، وتوفي عدها، ويعقد عليها الأول.
والجواب: أن[ الغاية باقية على وضعها، ولم تخالف ظاهرها. وذلك أن التحريم قد يتعدد لتعدد أسبابه، وقد يتحد لاتحاد أسبابه.
بيانه ذلك: أن الزنى محرم، فلو زنى بأمه كان عقابه أعظم، لانتهاكه حرمة القرابة، وللزنى؛ فلو كان في الكعبة كان عقابه أعظم من الثاني، لانتهاك ثلاث حرمات؛ فلو كان في
[فوائد في مشكل القرآن: 98]
رمضان، كان أعظم لانتهاك أربع حرمات. وهذه حرمات قد اجتمعت لتعدد أسبابها، ويتعدد العقاب بتعدد الحرمات.
إذا تقرر هذا، فنقول: المطلقة ثلاثا، حرام من جهة أنها أجنبية، ومن جهة أنها مطلقة ثلاثا. فإذا نكحت غيره ارتفع التحريم الثابت باعتبار الطلاق، وبقي التحريم باعتبار كونها أجنبية فقط. وإذا ارتفعت إحدى الحرمتين بعد نكاح الغير وجب ثبوت الحل المناقض للحرمة المرتفعة، وإلا لارتفع النقيضان. وثبوت الحل عقيب نكاح الغير هو مقتضى مفهوم هذه الآية، لأن مفهوم «فلا تحل له»: أنها تحل له بعد الغاية، وقولنا: تحل له، مطلق لا عموم له. وإذا كان مطلقًا لا يقتضي ارتفاع جميع أفراد الحرمة حتى يثبت الحل من جميع الوجوه، بل يكفي ثبوت فرد من أفراد الحل، ورفع فرد من أفراد الحرمة، وقد بينا ذلك.
قوله عز وجل: ...{وعلى المولود له رزقهن} ... (2: 233).
لم لا يقال: وعلى الوالد؟ وهو أخص.
[فوائد في مشكل القرآن: 99]
فالجواب: أن الولد ينفع أباه أكثر مما ينفع أمه، لأن الولد يحمل أباه في المحافل، ويدفع عنه في الحروب، إلى غير ذلك من النفع مما لا يحصل للأم. فأراد سبحانه أن يبينه «بالمولود له» على العلة التي لأجلها اختصت نفقة الولد بأبيه دون أمه، ولأن «اللام» تستعمل في النفع، فيقال: شهد له، ومنه: {من عمل صالحا فلنفسه}، وهي هنا مشعرة بالنفع الحاصل من الولد.
قوله عز وجل: {إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح}... (2: 237).
يترجح مذهب «مالك» في قوله: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي من ثلاثة أوجه:
الأول: أن الذي بيده عقدة النكاح بعد الطلاق لو جعل الزوج، لكان من باب تسمية الشيء بما كان عليه، وهو مجاز. ولو جعل للولي، لكان حقيقة، لأنه له سلطة العقد، والحقيقة أولى.
الثاني: أن المعطوف لا بد أن يشارك المعطوف عليه فيما سبق الكلام لأجله. فقوله: «إلا أن يعفون» معناه: فلا يجب لهن شيء. فإذا قلنا: أو يعفو الولي، فيسقط أيضًا ما لهن، فيحصل الاشتراك في الحكم. أما إذا قلنا: أو يعفو الزوج عن
[فوائد في مشكل القرآن: 100]
كمال الصداق، فتأخذ الزوجة كمال صداقها بلا تشطير، كان هذا حكما مخالفًا لذلك الحكم، فلا يحصل مقتضى العطف.
الثالث: أن تلوين الخطاب وتنويعه، أعني الخروج من الخطاب إلى الغيبة وبالعكس أقل في كلامهم من المشي إلى أسلوب واحد. فقوله: «أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح» لو كان الزوج – وهو خطاب غيبة، وقد ذكرهم أولاً بلفظ الخطاب – لكان من قبيل الأقل. لا من قبيل الأكثر فجعله من باب الأكثر أولى.
وأما قول المخالف: إن الولي لا يحل له إسقاط مال المولى عليه. قلنا: إذا كان ثم مصلحة أم لا؟ الأول ممنوع، والثاني مسلم. ولكن نحن لا نقول به إذا تضمن مصلحة.
قوله عز وجل: حكاية عن إبراهيم ونمرود، لما قال إبراهيم: «ربي الذي يحيي ويميت» قال نمرود: «أنا أحيي وأميت» فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ قال: أقتل بعض الأحياء وأترك بعض من استحق دمه بلا قتل.
{قال إبراهيم فإن الله بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر}... (2: 258)
[فوائد في مشكل القرآن: 101]
وبعض أهل الزيغ والضلال يقولون: هذا انقطاع من إبراهيم في الحجة الأولى ... لأنه عدل عنها إلى حجة أخرى.
والجواب: أن الذي ذكره نمرود هذيان، لا يستحق الجواب. لأن إبراهيم عليه السلام أثبت لله خلق الحياة والموت، الذي لا يقدر عليه أحد من الناس. فذكر نمرود أمرًا يقدر عليه كل من في دولته، فينبغي أن يكون كلهم آلهة. وشأن العقلاء أنهم لا يجيبون عن الهذيان، لأن ذلك مشاركة فيه، مع أن إظهار حجة الله واجب على الفور. فلو اشتغل بما شرع فيه نمرود، لكان قد أخر الواجب عليه.
قوله عز وجل:...{أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} ... (2: 260) والله تعالى عالم بإيمانه، فما فائدة الاستفهام؟
قوله عز وجل: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم} ... (2: 280).
فيه سؤالان: الأول: كيف نجعل الإبراء خيرًا من التأخير، والتأخير واجب والإبراء مندوب إليه، والمندوب لا يرجح على الواجب. الثاني: أنه قال: «وأن تصدقوا» ولم يقل: وأن تبرئوا.
[فوائد في مشكل القرآن: 102]
والجواب عن الأول: أن هذا المندوب قد حصل مصلحة ذلك الواجب وزيادة، بخلاف غيره من المندوبات مع الواجبات. وعن الثاني: أنه ذكر ذلك بلفظ الصدقة ليفيد أن ذلك عنده بمنزلة الصدقات يثيب عليه كما يثيب عليها ترغيبًا فيه.
قوله عز وجل: {فتذكر إحداهما الأخرى} بعد قوله: {أن تضل إحداهما} ... (2: 282).
لم عدل عن الظاهر إلى المضمر؟
الجواب: أن هذا ليس من باب إقامة الظاهر مقام المضمر، لأن المضمر ضمير المفعول و«إحداهما» فاعل هاهنا، وإنما «أخرى» هي التي أقيمت مقام المضمر، لأنه لو نطق بالضمير لكان ضمير مفعول تقدم على الفاعل، والقاعدة أن المفعول لا يتقدم على الفاعل إلا إذا كان مهتمًا به أكثر من الفاعل. لكن المفعول هاهنا – هي الناسية – أكثر [فيلزم الاهتمام بالناسية أكثر] من الذاكرة. وهو خلاف القواعد
[فوائد في مشكل القرآن: 103]
لأن الأمر يقتضي العكس، فأتى بالظاهر لنفي هذا المحذور.
قوله عز وجل: {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} (2: 283).
الأصل: في الإثم، أن يضاف للعضو الذي صدر عنه حقيقة – ثم على سائر الجسد حكما. فإذا زنى الإنسان، يقال: أثم فرجه. وإن شتم: أثم لسانه. فينبغي في الشهادة أن يأثم لسانه، لأنه الممتنع من الأداء، فقوله: «قلبه» مشكل.
الجواب: لما كان الأصل في المنع من الأداء، إنما يكون لرغبة أو رهبة وهما في القلب، فالقلب المانع في
[فوائد في مشكل القرآن: 104]
الحقيقة، فإضافة الذنب إليه أولى.
«النصر» إن استعمل بـ«على» كان بمعنى الغلبة، نحو: {فانصرنا على القوم الكافرين} (2: 286). وإن استعمل بـ«من» كان بمعنى المنع، نحو: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا}.


الساعة الآن 12:28 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir