معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد

معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد (http://afaqattaiseer.net/vb/index.php)
-   الدعوة بالقرآن (http://afaqattaiseer.net/vb/forumdisplay.php?f=1016)
-   -   رسالة في تفسير قول الله تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام...} الآيات (http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=45947)

صفية الشقيفي 28 جمادى الأولى 1444هـ/21-12-2022م 05:52 PM

رسالة في تفسير قول الله تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام...} الآيات
 

قال الله - عز جل - : { قد جاءكم من اللهِ نورٌ وكتابٌ مبين (15) يهدي به اللهُ من اتَّبَع رِضوانهُ سبُل السلام ويخرجهم من الظلماتِ إلى النّورِ بإذنه ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم (16)} [سورة المائدة]
جاءت هذه الآيات في سياق مخاطبة أهل الكتاب من اليهودِ والنصارى ودعوتهم إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباع رسالته التي أُرسل بها وهي القرآن الكريم؛ فوصفه الله لهم على أتم وصفٍ وأكمل بيان، إرشادًا لهم لطريق الحق، وترغيبًا لهم في اتباعه.
وما أحوجنا ونحنُ نقرأ هذه الآيات أن نتوقف أمام كل كلمة منها، حتى نتعرف من خلالها على عظمة هذا الكتاب الذي نحمله بين أيدينا.
فقوله عز وجل: {قد جاءكم من الله}
بدأ الوصف بـ " قد " وهي أداة تفيد التحقيق والتأكيد على أن القرآن جاء من عند الله تعالى، وعلى أنه نور وكتاب مبين.
وقوله: {جاءكم من الله} يُشعر بعظمة الرسالة وأهميتها فهي من الله - عز وجل- ، الذي خلقنا ويسر لنا سبل العيش ويدُبر لنا أمورنا في كل لحظة من لحظات حياتنا، وكل ما يأتي من الله حق لا باطل فيه؛ ففيه الهدى الكامل الذي تحتاج إليه، وإذا استقر في نفوسنا الإيمان بهذا المعنى، أورثنا الأمان والطمأنينة بأننا سنجد فيه كل ما نحتاجه من هداية في جميع شئون حياتنا، وأن عاقبة اتباعه ستكون على أحسن حال، لأنه اتباع للمنهج الذي جاءنا من عند الله عز وجل.
واختيار صفة الألوهية دون غيرها من صفات الله عز وجل، له فائدة أخرى؛ ففيه دلالة على واجبنا نحن تجاه هذه الرسالة، فلم يقل قد جاءكم من خالقكم أو رازقكم، وإنما قال: {قد جاءكم من الله}؛ ومعنى لفظ الجلالة (الله) المألوه أي : المعبود، المستحق للعبادة وحده.
فحق القرآن أن نؤمن بأنه كلام الله - عز وجل -، فنتوقف عند أخباره فنصدقها، وعند أمره فنفعله، وعند نهيه فنجتنبه.
ولما كان هذا الحق صعبًا على النفوس التي اعتادت الكسل والضعف عند الطاعات والمسارعة نحو المعاصي؛ زادنا لله بيانا لوصف هذا الكتاب الذي أنزله إلينا وآثار اتباعه، زيادة في الترغيب؛ فوصفه الله - عز وجل - بأنه: {نورٌ وكتابٌ مبين}
فهو في نفسه نور يضيء درب السائرين إلى الله عز وجل، ويبصرهم بمعالم الطريق وما عليهم الحذر منه.
قال الله - عز وجل - : {وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناهُ نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} [سورة الشورى: 52]
فمن استضاء به اهتدى ، ومن أعرض عنه غرِق في ظلمات الضلال.
قوله عز وجل: {وكتاب مبين}
فيه بيان أن القرآن في نفسه بيِّن واضح الدلالة لمن قرأه، ومبين لكل ما يحتاج إليه المرء من أمور دينية ودنيوية.
قال عبد الله بن مسعودٍ: " إنّ اللّه عزّ وجلّ أنزل هذا القرآن تبيانًا لكلّ شيءٍ، ولكن علمنا يقصر عمّا بيّن لنا في القرآن، ثمّ قرأ {ونزّلنا عليك الكتاب تبيانًا لكلّ شيءٍ}". (1)

فإن قيل : إن كان هذا وصفُ كتابِ المسلمين ؛ فما لأمة المسلمين غارقة في ظلمات الجهل والخوف والتفرق والضعف؟
ومن بيان القرآن أن كان الجواب في الآية التالية مباشرة حيث قال الله - عز وجل -: {يهدي به الله من اتبع رضوانه}
ففي هذه الكلمات بيان شرطين :
الشرط الأول: يستفاد من قول الله عز وجل: {يهدي به الله}: وهكذا يجب على المؤمن أن يوقن أن الهداية من عند الله - عز وجل - ؛ فيسأله إياها.
والهداية على نوعين:
النوع الأول: الهداية العامة لجميع المخلوقات، وهي هداية الإرشاد؛ فقد هدى الله - عز وجل - جميع المخلوقات لما تقوم عليه حياتها ، قال تعالى: {الذي أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى} [سورة طه: 50]
وقال: {الذي قدر فهدى} [سورة الأعلى: 3]
وبالنسبة للمكلفين، مثل الإنسان، فإن الله -عز وجل- بيَّن له طريقي الخير والشر وأعطاه قوة الاختيار، ليحاسبه على اختياره.
والقرآن جاء هداية لعموم الناس بكونه: {نورٌ وكتاب مبين}، وهذه هي هداية الإرشاد إلى السبيل؛ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
وأما النوع الثاني من أنواع الهداية فهو: هداية التوفيق ؛ وهي أن يهديه الله في طريقه إليه، فيعينه ويوفقه للخير، وهذه هي المقصودة في قوله :{يهدي به الله}، وتحصل لمن أقبل على الله، واستجاب لداعي الهدى.
وقد قال الله - عز وجل - في الحديث القدسي : " ياعبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ". (2)
ومعنى " فاستهدوني " أي: اطلبوا الهداية من الله؛ فإذا كان الإنسان معرضا حتى عن مجرد طلب الهداية، فأنّى له الخروج من الظلمات إلى النور!
قال تعالى: {وأما ثمودُ فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [سورة فُصلت: 17]
فإذا تقرر لك ذلك فقد ذكر الله - عز وجل - بعد ذلك الشرط الثاني وهو: {من اتبع رضوانه}
والمقصود أن يكون قصدك من قراءة القرآن الاهتداء إلى ما يُرضي الله - عز وجل - فتفعله.
ولفظ {اتّبع} يوحي بالاجتهاد والحرص؛ فاجتمع له حسن القصد، وحسن العمل؛ فاستحق الهداية من الله - عز وجل -، كما قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإنّ الله لمعَ المحسنين} [سورة العنكبوت: 69]

ثم بين الله - عز وجل - آثار هذه الهداية زيادةً في الترغيب؛ فإن من عرف أن عاقبة سعيه واجتهاده حسنة، جد في السير، قال تعالى:
{يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم}
فوصف الطريق الذي يهديهم إليه بأنه : {سبل السلام}
والسلامُ اسمٌ من أسماء الله - عز وجل - ، والطريق إليه سالمٌ من كل نقص وآفة بل كل ما فيه خير حتى وإن كان ظاهره البلاء؛ فهو خيرٌ لك في دينك ومعاشك وآخرتك ، مؤد بكَ إلى دار السلام؛ دار النعيم الذي لا شقاء بعده أبدًا.
وقوله: {ويُخرجهم من الظلمات إلى النور}
هذا الوصف محفز للناس بطبيعة الحال التي يعيشون فيها ؛ فهم يغرقون في ظلمات الكفر، وبعضهم يغرق في ظلمات المعصية والجهل والخوف وكثير من الفتن؛ ظلمات بعضها فوق بعض، ولا سبيل للخروج من هذه الظلمات إلا أن نستنير بالنور الذي أنزله الله إلينا ليخرجنا من الظلمات إلى النور.
وقوله: {بإذنه}
فيه تأكيد على أن الأمر بيد الله - عز وجل- وحده؛ فلا ينفك المرء عن السؤال له بالهداية، ولا يغتر إن هو سلك الطريق واهتدى، بل يتذكر دومًا أنها من الله وأنه لولا الله ما اهتدى، كما كان رسول الله صلى الله عليه يقول هو وأصحابه وهم يحفرون الخندق:
" لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا". (3)


وقوله عز وجل: {ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم}
وفي هذا وصف آخر للطريق وهو الاستقامة، وحتى يكون الطريق مستقيمًا؛ فلابد أن يكون واضحًا، موصلا للمقصود.
قال ابن جرير الطبري: ( أجمعت الحجة من أهل التّأويل جميعًا على أنّ الصّراط المستقيم هو الطّريق الواضح الّذي لا اعوجاج فيه) (4)

وقال ابن القيم: (والصراط ما جمع خمسة أوصاف أن يكون طريقا مستقيما سهلا مسلوكا واسعا موصلا إلى المقصود فلا تسمي العرب الطريق المعوج صراطا ولا الصعب المشتق ولا المسدود غير الموصول ومن تأمل موارد الصراط في لسانهم واستعمالهم تبين له ذلك) (5)
فإذا كان هذا وصف الطريق الذي يهديك الله إليه، باتّباعك للقرآن، وكل امرئ راغبٌ في الوصول إلى مقصوده بالثبات على الحق في هذه الدنيا وبلوغ جنة الخلد والنجاة من عذاب النار في الآخرة، فكيف يمكنك تحقيق مقصودك دون الهداية إلى الصراط المستقيم؟!
وكيف يمكنك الهداية إلى الصراط المستقيم دون اتباع الكتاب الذي أنزله الله إليك نورًا وهدى وجعله الرسالة الخاتمة للعالمين، مصدقًا لما قبله من الكتب، ومهيمنا عليها؟!

فإلى كل من أضناه التعب من مشاق الحياة، والتخبط في الظلمات، ويبحث عن نور الهدى؛ إليك القرآن ، فاقرأه بنفس المسترشد به، المحتاج، واسأل الله أن يفتح عليَّ وعليكَ من بركاته وينير به حياتنا، فقد قال تعالى: {ومن لم يجعلِ الله له نورًا فما له من نور}
______________________________________________________________
(1) رواه ابن بطة في الإبانة الكبرى من طريق محمد بن فضيل عن الأشعث عن أبي صفوان عن عبد الله بن مسعود به، ورواه ابن جرير في تفسيره من ذات الطريق إلا أنه أبهم الواسطة بين أشعث وابن مسعود، ورواه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور.

(2) رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة.

(3) رواه البخاري في صحيحه من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
(4) تفسير ابن جرير الطبري (ج:1- ص: 170)
(5) بدائع الفوائد: (ج:2- ص:16)



* أصل هذه الرسالة كانت ضمن واجبات دورة أساليب التفسير للشيخ عبد العزيز الداخل -حفظه الله-، كتبتها بتاريخ: 16 صفر 1438 هـ، الموافق 6 نوفمبر 2016 م، وعدلتها على مرات آخرها بتاريخ 27 جمادى الأولى 1444هـ، الموافق 21 ديسمبر 2022م.


الساعة الآن 01:58 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir