معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد

معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد (http://afaqattaiseer.net/vb/index.php)
-   منتدى الدورات العلمية العامة (http://afaqattaiseer.net/vb/forumdisplay.php?f=989)
-   -   الرسالة التبوكية لابن القيم (http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=38225)

محمد أبو زيد 14 جمادى الآخرة 1439هـ/1-03-2018م 09:45 PM

الرسالة التبوكية لابن القيم
 
الرسالة التبوكية لابن القيم

العناصر:
تقدمة
فصل
فصل
فصل
فصل
فصل
فصل
فصل
فصل
فصل
فصل
فصل
فصل
فصل

محمد أبو زيد 14 جمادى الآخرة 1439هـ/1-03-2018م 09:46 PM

تقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[وبه نستعين وعليه نتوكل]
قال الشيخ [الإمام العالم العلامة محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيّم الجوزية] -رضي الله عنه وأرضاه- في كتابه الذي سيّره من تبوك ثامن المحرّم سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة من الهجرة النبوية، بعد إرسال المنظومة التي أولها:
إذا طلعت شمس النهار فإنّها ... . . . . . .). [الرسالة التبوكية: 3]

محمد أبو زيد 14 جمادى الآخرة 1439هـ/1-03-2018م 09:47 PM

فصل
قال ابن قيّم الجوزية: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزُّرعِيُّ الدمشقي (ت:751هـ) : (فصل:
وبعد حمد الله بمحامده التي هو لها أهل، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه ورسله محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله سبحانه يقول في كتابه: {وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتّقوا اللّه إنّ اللّه شديد العقاب (2)}.
وقد اشتملت هذه الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، فيما بينهم في بعضهم بعضا، وفيما بينهم وبين ربهم، فإن كلّ عبد لا ينفكّ من هاتين الحالتين وهذين الواجبين: واجب بينه وبين الله، وواجب بينه وبين الخلق.
فأما ما بينه وبين الخلق من المعاشرة والمعاونة والصّحبة، فالواجب عليه فيها أن يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونا على مرضاة الله وطاعته، التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه، ولا سعادة له إلا بها، وهي "البرّ والتقوى" اللذان هما جماع الدين كله، وإذا أفرد كلّ واحد من الاسمين دخل فيه المسمّى الآخر، إما تضمنا وإمّا لزوما، ودخوله فيه تضمنا أظهر؛ لأن البرّ جزء مسمّى التقوى، وكذلك التقوى فإنه جزء مسمّى البر، وكون أحدهما لا يدخل في الآخر عند الاقتران لا يدل على أنه لا يدخل فيه عند الانفراد.
ونظير هذا لفظ "الإيمان والإسلام"، "والإيمان والعمل الصالح"، و"الفقير والمسكين"، و"الفسوق والعصيان"، و"المنكر والفاحشة"، ونظائره كثيرة.
وهذه قاعدة جليلة، من أحاط بها زال عنه إشكالات كثيرةٌ أشكلت على طوائف كثيرة من الناس. ولنذكر من هذا مثالا واحدا يستدلّ به على غيره، وهو "البرّ والتقوى".
فإن حقيقة البرّ هو الكمال المطلوب من الشيء، والمنافع التي فيه والخير، كما يدلّ عليه اشتقاق هذه اللفظة وتصاريفها في الكلام.
ومنه "البرّ" بالضم؛ لكثرة منافعه وخيره بالإضافة إلى سائر الحبوب.
ومنه رجل بارٌ، وبرٌّ، و{كرام بررة}، والأبرار.
فالبرّ كلمة لجميع أنواع الخير والكمال المطلوب من العبد، وفي مقابلته "الإثم"، وفي حديث النّواس بن سمعان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [له]: (جئت تسأل عن البرّ والإثم) ؛ فالإثم كلمة جامعة للشرّ والعيوب التي يذمّ العبد عليها.
فيدخل في مسمى البرّ الإيمان وأجزاؤه الظاهرة والباطنة، ولا ريب أن التّقوى جزء هذا المعنى، وأكثر ما يعبر بالبرّ عن برّ القلب، وهو وجود طعم الإيمان [فيه] وحلاوته، وما يلزم ذلك من طمأنينته وسلامته وانشراحه وقوته وفرحه بالإيمان، فإن للإيمان فرحة وحلاوة ولذاذة في القلب، فمن لم يجدها فهو فاقد للإيمان أو ناقصه، وهو من القسم الذين قال الله -عز وجل- فيهم: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم}.
فهؤلاء -على أصح القولين- مسلمون غير منافقين، وليسوا بمؤمنين، إذ لم يدخل الإيمان في قلوبهم؛ فيباشرها حقيقته.
وقد جمع [الله] تعالى خصال البرّ في قوله: {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن باللّه واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنّبيّين وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل والسّائلين وفي الرّقاب وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصّابرين في البأساء والضّرّاء وحين البأس أولئك الّذين صدقوا وأولئك هم المتّقون (177)}.
فأخبر سبحانه أن البرّ هو الإيمان به، وبملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وهذه هي أصول الإيمان الخمس التي لا قوام للإيمان إلا بها.
وأنه الشرائع الظاهرة: من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنفقات الواجبة.
وأنه الأعمال القلبية التي هي حقائقه؛ من الصبر والوفاء بالعهد.
فتناولت هذه الخصال جميع أقسام الدين: حقائقه وشرائعه، والأعمال المتعلقة بالجوارح وبالقلب، وأصول الإيمان الخمس.
ئم أخبر سبحانه أن هذه خصال التقوى بعينها، فقال: {أولئك الّذين صدقوا وأولئك هم المتّقون (177)}.
وأما التقوى فحقيقتها العمل بطاعة الله إيمانا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا فيفعل ما أمره الله به إيمانا بالأمر، وتصديقا بموعده، ويترك ما نهى الله عنه إيمانا بالنهي، وخوفا من وعيده.
كما قال طلق بن حبيب: "إذا وقعت الفتنة فادفعوها بالتقوى"، قالوا: وما التقوى؟ قال: "أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله".
وهذه من أحسن ما قيل في حدّ التقوى، فإن كلّ عمل لابدّ له من مبدأ وغاية، فلا يكون العمل طاعة وقربة حتى يكون مصدره عن الإيمان، فيكون الباعث عليه هو الإيمان المحض، لا العادة ولا الهوى ولا طلب المحمدة والجاه وغير ذلك، بل لابدّ أن يكون مبدؤه محض الإيمان، وغايته ثواب الله تعالى، وابتغاء مرضاته، وهو الاحتساب.
و[لهذا] كثيرا ما يقرن بين هذين الأصلين في مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من صام رمضان إيمانا واحتسابًا" و"من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا"، ونظائره.
فقوله: "على نور من الله" إشارة إلى الأصل الأول، وهو الإيمان الذي هو مصدر العمل، والسبب الباعث عليه.
وقوله: "ترجو ثواب الله" إشارة إلى الأصل الثاني، وهو الاحتساب، وهو الغاية التي لأجلها يوقع العمل، ولها يقصد به.
ولا ريب أن هذا جامع لجميع أصول الإيمان وفروعه، وأن البرّ داخل فى هذا المسمى.
وأما عند اقتران أحدهما بالآخر كقوله تعالى: {وتعاونوا على البرّ والتّقوى} فالفرق بينهما فرق بين السّبب المقصود لغيره والغاية المقصودة لنفسها؛ فإن البرّ مطلوب لذاته، إذ هو كمال العبد وصلاحه الذي لا صلاح له بدونه، كما تقدّم.
وأما التقوى فهي الطريق الموصلة إلى البرّ، والوسيلة إليه، ولفظها يدلّ على هذا؛ فإنها فعلى من وقى يقي، وكان أصلها وقوى، فقلبوا الواو تاء، كما قالوا: تراث من الوراثة، وتجاه من الوجه، وتخمة من الوخم، ونظائره، فلفظها دالٌ على أنها من الوقاية، فإن المتّقي قد جعل بينه وبين النار وقاية، فالوقاية من باب دفع الضرر، والبرّ من باب تحصيل النفع، فالتقوى كالحمية، والبرّ كالعافية والصحة.
وهذا بابٌ شريف ينتفع به انتفاع عظيم في فهم ألفاظ القرآن ودلالته، ومعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله؛ فإنه هو العلم النافع، وقد ذمّ سبحانه في كتابه من ليس له علم بحدود ما أنزله على رسوله. فإن عدم العلم بذلك مستلزم مفسدتين عظيمتين:
إحداهما: أن يدخل في مسمّى اللفظ ما ليس منه؛ فيحكم له بحكم المراد من اللفظ؛ فيسوّى بين ما فرق الله بينهما.
والثانية: أن يخرج من مسمّاه بعض أفراده الداخلة تحته؛ فيسلب عنه حكمه؛ فيفرّق بين ما جمع الله بينهما.
والذّكيّ الفطن يتفطّن لأفراد هذه القاعدة وأمثلتها، فيرى أن كثيرا من الاختلاف أو أكثره إنما نشأ عن هذا الموضع، وتفصيل هذا لا يفي به كتاب ضخم.
ومن هذا لفظ "الخمر"؛ فإنه اسم شامل لكل مسكر، فلا يجوز إخراج بعض المسكرات منه، وينفى عنها حكمه.
وكذلك لفظ "الميسر"، وإخراج بعض أنواع القمار منه.
وكذلك لفظ "النكاح"، وإدخال ما ليس بنكاح في مسمّاه.
وكذلك لفظ "الربا"، وإخراج بعض أنواعه منه، وإدخال ما ليس بربًا فيه.
وكذلك لفظ "الظلم والعدل"، و"المعروف والمنكر"، ونظائره أكثر من أن تحصى.
والمقصود أن المقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم التعاون على البر والتقوى؛ فيعين كلّ واحد صاحبه على ذلك علما وعملا. فإنّ العبد وحده لا يستقلّ بعلم ذلك ولا بالقدرة عليه، فاقتضت حكمة الربّ سبحانه أن جعل النوع الإنساني قائما بعضه ببعض، معينًا بعضه لبعض.

ثم قال تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}.
والإثم والعدوان في جانب النهي نظير البرّ والتّقوى في جانب الأمر.
والفرق ما بين الإثم والعدوان فوق ما بين محرّم الجنس ومحرّم القدر.
فالإثم: ما كان حراما لجنسه.
والعدوان: ما حرّم الزيادة في قدره، وتعدي ما أباح الله منه.
فالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، ونحوها إثم. ونكاح الخامسة، واستيفاء المجنيّ عليه أكثر من حقه، ونحوه عدوان.
فالعدوان هو تعدّي حدود الله التي قال فيها: {تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود اللّه فأولئك هم الظّالمون (229)}، وقال في موضع آخر: {تلك حدود اللّه فلا تقربوها}.
فنهى عن تعدّيها في آية، وعن قربانها في آية، وهذا لأن حدوده سبحانه هي النهايات الفاصلة بين الحلال والحرام، ونهاية الشيء تارة تدخل فيه فتكون منه، وتارة لا تكون داخلةً فيه فيكون لها حكم مقابله، فبالاعتبار الأول نهى عن تعدّيها، وبالاعتبار الثاني نهى عن قربانها).
[الرسالة التبوكية 4: 14]

محمد أبو زيد 14 جمادى الآخرة 1439هـ/1-03-2018م 09:47 PM

فصل
قال ابن قيّم الجوزية: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزُّرعِيُّ الدمشقي (ت:751هـ) : (فصل:
فهذا حكم العبد فيما بينه وبين الناس، وهو أن تكون مخالطته لهم تعاونا على البر والتّقوى، علما وعملًا.
وأما حاله فيما بينه وبين الله تعالى: فهو إيثار طاعته، وتجنّب معصيته، وهو قوله تعالى: {واتّقوا اللّه}.
فأرشدت الآية إلى ذكر واجب العبد بينه وبين الخلق، وواجبه بينه وبين الحقّ.
ولا يتمّ الواجب الأول إلا بعزل نفسه من الوسط، والقيام بذلك لمحض النصيحة والإحسان ورعاية الأمر.
ولا يتم له أداء الواجب الثاني إلا بعزل الخلق من البين، والقيام به لله إخلاصا ومحبةً وعبودية.
فينبغي التّفطن لهذه الدّقيقة التي كلّ خلل يدخل على العبد في أداء هذين الواجبين إنما هو من عدم مراعاتها علما وعملا.
وهذا هو معنى قول الشيخ عبد القادر -قدّس الله روحه-: "كن مع الحقّ بلا خلق، ومع الخلق بلا نفس، ومن لم يكن كذلك لم يزل في تخبيط، ولم يزل أمره فرطا".
والمقصود بهذه المقدمة ذكر ما بعدها). [الرسالة التبوكية 14: 15]

محمد أبو زيد 14 جمادى الآخرة 1439هـ/1-03-2018م 09:47 PM

فصل
قال ابن قيّم الجوزية: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزُّرعِيُّ الدمشقي (ت:751هـ) : (فصل
لما فصلت عير السّير، واستوطن المسافر دار الغربة، وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه، أحدث له ذلك نظرا آخر؛ فأجال فكره في أهمّ ما يقطع به منازل سفره إلى الله وينفق فيه بقية عمره، فأرشده من بيده الرشد إلى أن أهمّ شيء يقصده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله، فإنها فرض عين على كلّ أحد في كلّ وقت، وأنه لا انفكاك لأحد من وجوبها، وهي مطلوب الله ومراده من العباد، إذ الهجرة هجرتان:
- هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة، وليس المراد الكلام فيها.
- والهجرة الثانية هجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا، وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعةٌ لها، وهي هجرة تتضمن "من" و"إلى":
فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته.
ومن عبودية غيره إلى عبوديته.
ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه.
ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذّلّ له والاستكانة له إلى دعاء ربّه وسؤاله والخضوع له والذلّ والاستكانة له.
وهذا هو بعينه معنى الفرار إليه، قال تعالى: {ففرّوا إلى اللّه}. فالتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه.
وتحت "من" و"إلى" في هذا سرّ عظيم من أسرار التوحيد؛ فإنّ الفرار إليه سبحانه يتضمن إفراده بالطلب والعبودية، ولوازمها من المحبة والخشية والإنابة والتوكل وسائر منازل العبودية، فهو متضمن لتوحيد الإلهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم [أجمعين].
وأما الفرار منه إليه؛ فهو متضمن لتوحيد الربوبية وإثبات القدر، وأن كلّ ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفرّ منه العبد، فإنما أوجبته مشيئة الله وحده؛ فإنه ما شاء الله كان ووجب وجوده بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وامتنع وجوده لعدم مشيئته، فإذا فرّ العبد إلى الله فإنما يفرّ من شيء وجد بمشيئة الله وقدره؛ فهو في الحقيقة فارّ من الله إليه.
ومن تصوّر هذا حقّ تصوّره فهم معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأعوذ بك منك" وقوله: "لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك". فإنه ليس في الوجود شيءٌ يفرّ منه ويستعاذ منه ويلجأ منه إلا وهو من الله خلقا وإبداعا.
فالفارّ والمستعيذ فارّ مما أوجبه قدر الله ومشيئته وخلقه، إلى ما تقتضيه رحمته وبرّه ولطفه وإحسانه؛ ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه، ومستعيذ بالله منه.
وتصوّر هذين الأمرين يوجب للعبد انقطاع تعلّق قلبه من غير الله بالكلّية خوفا ورجاء ومحبة؛ فإنه إذا علم أن الذي يفرّ [منه] ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه، لم يبق في قلبه خوف من غير خالقه وموجده؛ فتضمّن ذلك إفراد الله وحده بالخوف والحب والرجاء، ولو كان ذلك فراره مما لم يكن بمشيئة الله ولا قدرته لكان ذلك موجبا لخوفه منه، مثل من يفرّ من مخلوق آخر أقدر منه، فإنه في حال فراره من الأول إلى الآخر خائفا منه حذر أن لا يكون الثاني يعيذه منه، بخلاف ما إذا كان الذي يفر إليه هو الذي قضى وقدر وشاء ما يفرّ منه؛ فإنه لا يبقى في القلب التفات إلى غيره بوجه.
فتفطّن لهذا السر العجيب في قوله: "أعوذ بك [منك]"، و"لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك"؛ فإن الناس قد ذكروا في هذا أقوالا، وقلّ منهم من تعرض لهذه النكتة التي هي لبّ الكلام ومقصوده، وبالله التوفيق.

فتأمّل كيف عاد الأمن كلّه إلى الفرار من الله إليه؛ وهو معنى الهجرة إلى الله [تعالى]. ولهدا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
ولهذا يقرن سبحانه بين الإيمان والهجرة في القرآن في غير موضع؛ لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر.
والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن هجران ما يكرهه، وإتيان ما يحبه ويرضاه، وأصلها الحبّ والبغض؛ فإن المهاجر من شيء إلى شيء لابد أن يكون ما يهاجر إليه أحبّ إليه مما يهاجر منه؛ فيؤثر أحبّ الأمرين إليه على الآخر، وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوه إلى خلاف ما يحبه الله ويرضاه وقد بلي بهؤلاء الثلاث فلا تزال تدعوه إلى غير مرضاة ربه، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه، فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله، ولا ينفكّ في هجرة حتى الممات). [الرسالة التبوكية 15: 20]

محمد أبو زيد 14 جمادى الآخرة 1439هـ/1-03-2018م 09:51 PM

فصل
قال ابن قيّم الجوزية: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزُّرعِيُّ الدمشقي (ت:751هـ) : (فصل
وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب قوة داعي المحبة وضعفه، فكلما كان داعي [المحبة] في قلب العبد أقوى كانت هذه الهجرة [أقوى و] أتمّ وأكمل، وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة، حتى إنه لا يكاد يشعر بها علما، ولا يتحرك بها إرادة.
والذي يقضى منه العجب أن المرء يوسّع الكلام، ويفرّع المسائل في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وفي الهجرة التي انقطعت بالفتح، وهذه هجرة عارضةٌ ربما لا تتعلق به في العمر أصلا.
وأما هذه الهجرة التي هي واجبةٌ على مدى الأنفاس [فإنه] لا يحصل [فيها] علما ولا إرادة، وما ذاك إلا للإعراض عما خلق له، والاشتغال عما لا ينجيه غيره، وهذه حال من غشيت بصيرته، وضعفت معرفته بمراتب العلوم والأعمال، والله المستعان، وبه التوفيق، لا إله غيره، ولا رب سواه). [الرسالة التبوكية 20: 21]

محمد أبو زيد 14 جمادى الآخرة 1439هـ/1-03-2018م 09:52 PM

فصل
قال ابن قيّم الجوزية: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزُّرعِيُّ الدمشقي (ت:751هـ) : (فصل
وأما الهجرة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فمعلم لم يبق منه سوى رسمه، ومنهج لم تترك منه بنيّات الطريق سوى اسمه، ومحجّةٌ سفت عليها السّوافي فطمست رسومها، وأغارت عليها الأعادي فغوّرت مناهلها وعيونها، فسالكها غريب بين العباد، فريد بين كل حيٍّ وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران، مستوحش مما [به] يستأنسون، مستأنس مما به يستوحشون، مقيم إذا ظعنوا، ظاعن إذا قطنوا، منفرد في طريق طلبه، لا يقرّ قراره حتى يظفر بأربه، فهو الكائن معهم بجسده، البائن منهم بمقصده، نامت في طلب الهدى أعينهم وما ليل مطيه بئائم، وقعدوا عن الهجرةٍ النبوية وهو في طلبها مشمّر قائم، يعيبونه بمخالفة آرائهم، ويزرون عليه إزراء على جهالاتهم وأهوائهم؛ قد رجموا فيه الظّنون، وأذكوا عليه العيون، وتربّصوا به ريب المنون. {فتربّصوا إنّا معكم متربّصون (52)}. {قال ربّ احكم بالحقّ وربّنا الرّحمن المستعان على ما تصفون (112)}.
نحن وإيّاكم نموت ولا ... أفلح عند الحساب من ندما
والمقصود أن هذه الهجرة النبوية شأنها شديد، وطريقها على غير المشتاق وعير بعيد.
[بعيدٌ على كسلان أو ذي ملالةٍ ... وأما على المشتاق فهو قريب]

ولعمر الله ما هي إلا نور يتلألأ ولكن أنت ظلامه، وبدر أضاء مشارق الأرض ومغاربها ولكن أنت غيمه وقتامه، ومنهلٌ عذب صافي ولكن أنت كدره، ومبتدأ له خبر عظيم ولكن ليس عندك خبره.
فاسمع الآن شأن هذه الهجرة والدلالة عليها، وحاسب نفسك بينك وبين الله هل أنت من المهاجرين لها أو المهاجرين إليها؟
فحدّ هذه الهجرة: سفر الفكر في كل مسألة من مسائل الإيمان، ونازلة من نوازل القلوب، وحادثةٍ من حوادث الأحكام، إلى معدن الهدى ومنبع النور المتلقى من فم الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى {إن هو إلّا وحيٌ يوحى (4)}، فكل مسألةٍ طلعت عليها شمس رسالته وإلا فاقذف بها في بحار الظلمات، وكل شاهد عدّله هذا المزكّي الصادق وإلا فعدّه من أهل الريب والتهمات؛ فهذا هو حدّ هذه الهجرة.
فما للمقيم في مدينة طبعه وعوائده، القاطن في دار مرباه ومولده، القائل: إنا على طريقة آبائنا سالكون، وإنا بحبلهم مستمسكون، وإنا على آثارهم مقتدون، وما لهذه الهجرة؟ قد ألقى كلّه عليهم، واستند في معرفة طريق نجاته وفلاحه إليهم، معتذرا بأن رأيهم له خير من رأيه لنفسه، وأن ظنونهم وآراءهم أوثق من ظنّه وحدسه.
ولو فتّشت عن مصدر هذه الكلمة لوجدتها صادرة عن الإخلاد إلى أرض البطالة، متولدة بين بعل الكسل وزوجته الملالة.
والمقصود أن هذه الهجرة فرض على كل مسلم، وهي مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله، كما أن الهجرة الأولى مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله.
وعن هاتين الهجرتين يسأل كل عبد يوم القيامة وفي البرزخ، ويطالب بهما في الدنيا، فهو مطالب بهما في الدّور الثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار.
قال قتادة: "كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ ".
وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين، وقد قال تعالى: {فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممّا قضيت ويسلّموا تسليمًا (65)}؛ فأقسم سبحانه بأجل مقسم به -وهو نفسه -عز وجل-- على أنهم لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله، حتى يحكّموا رسوله في جميع موارد النزاع، وهو كل ما شجر بينهم من مسائل النزاع في جميع أبواب الدين. فإن لفظة "ما" من صيغ العموم؛ فإنها موصولة تقتضي نفي الإيمان إذا لم يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم.
ولم يقتصر على هذا حتى ضمّ إليه انشراح صدورهم بحكمه، حيث لا يجدوا في أنفسهم حرجا -وهو الضّيق والحصر- من حكمه، بل يتلقّوا حكمه بالانشراح، ويقابلوه بالقبول، لا أنهم يأخذونه على إغماض، ويشوبونه على أقذاء، فإن هذا مناف للإيمان، بل لابدّ أن يكون أخذه بقبول ورضى وانشراح صدر.
ومتى أراد العبد أن يعلم منزلته من هذا فلينظر في حاله، وليطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه، أو على خلاف ما قلّد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها، {بل الإنسان على نفسه بصيرةٌ (14) ولو ألقى معاذيره (15)}.
فسبحان الله كم من حزازةٍ في قلوب كثير من الناس من كثير من النصوص وبودّهم أن لو لم ترد؟
وكم من حرارة في أكبادهم منها؟.
وكم من شجى حلوقهم من موردها؟
ستبدو لهم تلك السرائر بالذي ... يسوء ويخزي يوم تبلى السّرائر

ثم لم يقتصر [سبحانه] على ذلك حتى ضمّ إليه قوله: {ويسلّموا تسليمًا (65)}؛ فذكر الفعل مؤكدًا له بمصدره القائم مقام ذكره مرتين، وهو الخضوع له، والانقياد لما حكم به طوعا ورضى، وتسليمًا لا قهرا ومصابرةً؛ كما يسلّم المقهور لمن قهره كرها، بل تسليم عبدٍ محب مطيع لمولاه وسيّده الذي هو أحبّ شيء إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه، ويعلم بأنه أولى به من نفسه، وأبرّ به منها، وأرحم به منها، وأنصح له منها، وأعلم بمصالحه منها، وأقدر على تحصيلها.
فمتى علم العبد هذا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - استسلم له، وسلّم إليه، وانقادت كل ذرّة من قلبه إليه، ورأى أنه لا سعادة له إلا بهذا التسليم والانقياد.
وليس هذا مما يحصل معناه بالعبارة، بل هو أمر قد انشقّ [له] القلب واستقرّ في سويدائه، لا تفي العبارة بمعناه، ولا مطمع في حصوله بالدعوى والأماني.
فكلٌّ يدعون وصال ليلى ... ولكن لا تقرّ لهم بذاكا

وفرقٌ بين علم الحبّ وحال الحبّ؛ فكثيرا ما يشتبه على العبد علم الشيء بحاله ووجوده.
وفرق بين المريض العارف بالصحة والاعتدال وهو مثخنٌ بالمرض، وبين الصحيح السليم وإن لم يحسن وصف الصحة والعبارة عنها.
وكذلك فرق بين وصف الخوف والعلم به، وبين حاله ووجوده.
وتأمّل تأكيده سبحانه لهذا المعنى المذكور في الآية بوجوه عديدة من التأكيد:
أولها: تصديرها بلا النافية، وليست زائدة كما يظنّ من يظنّ ذلك، وإنما دخولها لسرٍّ في القسم، وهو الإيذان بتضمّن المقسم عليه للنّفي، وهو قوله: {لا يؤمنون}.
وهذا منهج معروف في كلام العرب، إذا أقسموا على نفي شيء صدروا جملة القسم بأداة نفي، مثل هذه الآية، ومثل قول الصديق - رضي الله عنه -: "لاها الله، لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله؛ فيعطيك سلبه".
وقال الشاعر:
فلا وأبيك ابنة العامر ... يّ لا يدّعي القوم أنّي أفرّ

وقال الآخر:
فلا والله لا يلفى لما بي ... ولا للديهم أبدا دواء

وهذا في كلامهم أكثر من أن يذكر.
وتأمّل جمل القسم التي في القرآن المصدّرة بحرف النفي، كيف تجد المقسم عليه منفيا ومتضمنا لنفي، ولا يخرم هذا قوله: {فلا أقسم بمواقع النّجوم (75) وإنّه لقسمٌ لو تعلمون عظيمٌ (76) إنّه لقرآنٌ كريمٌ (77)}. فإنه لما كان المقصود بهذا القسم نفي ما قاله الكفار في القرآن: من أنه شعر، أو كهانة، أو أساطير الأولين، كيف صدّر القسم بأداة النفي، ثم أثبت له خلاف ما قالوه، فتضمنت الآية معنى ليس الأمر كما يزعمون، ولكنه قرآن كريم.
ولهذا صرّح بالأمرين النفي والإثبات في مثل قوله: {فلا أقسم بالخنّس (15) الجوار الكنّس (16) واللّيل إذا عسعس (17) والصّبح إذا تنفّس (18) إنّه لقول رسولٍ كريمٍ (19)}.
وكذلك قوله: {لا أقسم بيوم القيامة (1) ولا أقسم بالنّفس اللّوّامة (2) أيحسب الإنسان ألّن نجمع عظامه (3) بلى قادرين على أن نسوّي بنانه (4)}.
والمقصود أن افتتاح هذا القسم بأداة النفي يقتضي تقوية المقسم عليه وتأكيده وشدة انتفائه.
وثانيها: تأكيده بنفس القسم.
وثالثها: تأكيده بالمقسم به، وهو إقسامه بنفسه لا بشيءٍ من مخلوقاته، وهو سبحانه يقسم بنفسه تارة، وبمخلوقاته تارة.
ورابعها: تأكيده بانتفاء الحرج، ووجود التسليم.
وخامسها: تأكيد الفعل بالمصدر.
وما هذا التأكيد والاعتناء إلا لشدة الحاجة إلى هذا الأمر العظيم، وأنه مما يعتنى به، ويقرّر في نفوس العباد بما هو من أبلغ أنواع التقرير.

وقال تعالى: {النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم}، وهذا دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين.
وهذه الأولوية تتضمن أمورًا:
منها: أن يكون أحبّ إلى العبد من نفسه؛ لأن الأولوية أصلها الحب، ونفس العبد أحب إليه من غيره، ومع هذا فيجب أن يكون الرسول أولى به منها، وأحبّ إليه منها؛ فبذلك يحصل له اسم الإيمان.
ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضى والتسليم وسائر لوازم المحبة، من الرضى بحكمه، والتسليم لأمره، وإيثاره على كل من سواه.
ومنها: أن لا يكون للعبد حكمٌ على نفسه أصلًا، بل الحكم
على نفسه للرسول، يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده، والوالد على ولده؛ فليس له في نفسه تصرف قط إلا ما تصرف فيه الرسول الذي هو أولى به منها.
فيا عجبًا كيف تحصل هذه الأولوية لعبد قد عزل ما جاء به الرسول عن منصب التحكيم، ورضي بحكم غيره، واطمأن إليه أعظم من طمأنينته إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وزعم أن الهدى لا يتلقّى من مشكاته, وإنما يتلقى من دلالات العقول، وأنّ ما جاء به لا يفيد اليقين، إلى غير ذلك من الأقوال التي تتضمن الإعراض عنه وعما جاء به، والحوالة في العلم النافع على غيره، وذلك هو الضلال المبين.
ولا سبيل إلى ثبوت هذه الأولوية إلّا بعزل كل ما سواه، وتوليته في كل شيء، وعرض ما قاله كل أحد سواه على ما جاء به؛ فإن شهد له بالصحة قبله، وإن شهد له بالبطلان ردّه، وإن لم تتبين شهادته له بصحةٍ ولا بطلانٍ جعله بمنزلة أحاديث أهل الكتاب، ووقفه حتى يتبيّن أي الأمرين أولى به؟
فمن سلك هذه الطريقة استقام له سفر الهجرة، واستقام له علمه وعمله، وأقبلت وجوه الحقّ إليه من كلّ جهة.
ومن العجب أن يدّعي حصول هذه الأولوية والمحبة التامة من كان سعيه واجتهاده ونصبه في الاشتغال بأقوال غيره وتقريرها، والغضب والحمية لها، والرضى بها والتحاكم إليها، وعرض ما قال الرسول عليها؛ فإن وافقها قبله، وإن خالفها التمس وجوه الحيل، وبالغ في ردّه ليًّا وإعراضًا؛ كما قال تعالى: {وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا (135)}.
وقد اشتملت هذه الآية على أسرار عظيمة نحن ننبّه على بعضها لشدة الحاجة إليها.


قال تعالى: {ياأيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللّه أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا (135)}.
فأمر سبحانه بالقيام بالقسط، وهو العدل، وهذا أمر بالقيام به في حقّ كل أحد عدوًّا كان أو وليًّا، وأحقّ ما قام له العبد بالقسط: الأقوال والآراء والمذاهب؛ إذ هي متعلقة بأمر الله وخبره؛ فالقيام فيها بالهوى والعصبية مضادٌّ لأمر الله, منافٍ لما بعث به رسله، والقيام فيها بالقسط وظيفة خلفاء الرسول في أمته، وأمنائه بين أتباعه، ولا يستحقّ اسم الأمانة إلا من قام فيها بالعدل المحض، نصيحةً لله ولكتابه ولرسوله ولعباده.
أولئك هم الوارثون حقًا, لا من يجعل أصحابه ونحلته ومذهبه عيارًا على الحق وميزانًا له؛ يعادي من خالفه ويوالي من وافقه لمجرد موافقته ومخالفته. فأين هذا من القيام بالقسط الذي فرضه الله على كل أحد؟ وهو في هذا الباب أعظم فرضًا، وأكبر وجوبًا.
ثم قال: {شهداء للّه} والشاهد هو المخبر، فإن أخبر بحق فهو شاهد عدل مقبول، وإن أخبر بباطل فهو شاهد زور؛ فأمر تعالى أن نكون شهداء له مع القيام بالقسط، وهذا يتضمن أن تكون الشهادة بالقسط أيضًا، وأن تكون لله لا لغيره.
وقال في الآية الأخرى: {كونوا قوّامين للّه شهداء بالقسط}.
[فتضمنت الآيتان أمورًا أربعة:
أحدها: القيام بالقسط].
والثاني: أن يكون لله.
والثالث: الشهادة بالقسط.
والرابع: أن تكون لله.
واختصت آية النساء بالقيام بالقسط والشهادة لله، وآية المائدة بالقيام لله والشهادة بالقسط، لسرٍّ عجيبٍ من أسرار القرآن ليس هذا موضع ذكره.

ثم قال تعالى: {ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين}، فأمر سبحانه بأن يقام بالقسط، ويشهد به على كل أحد، ولو كان أحبّ الناس إلى العبد، فيقوم به على نفسه، ووالديه اللذين هما أصله، وأقربيه الذين هم أخصّ به وألصق من سائر الناس،فإنّ ما في العبد من محبته لنفسه ولوالديه وأقربيه يمنعه من القيام عليهم بالحق، [ولاسيما إذا كان الحق] لمن يبغضه ويعاديه قبلهم؛ فإنه لا يقوم به في هذه الحال إلا من كان الله ورسوله أحبّ إليه من [كل] ما سواهما.
وهذا يمتحن به العبد إيمانه؛ فيعرف منزلة الإيمان من قلبه ومحلّه منه، وعكس هذا عدل العبد في أعدائه ومن يشنؤه، وإنه لا ينبغي له أن يحمله بغضه لهم على أن يجنف عليهم، كما لا ينبغي أن يحمله حبّه لنفسه ووالديه وأقاربه على أن يترك القيام عليهم بالقسط، فلا يدخله ذلك البغض في باطل، ولا يقصر به هذا الحبّ عن الحقّ، كما قال بعض السلف: "العادل هو الذي إذا غضب لم يدخله غضبه في باطل، وإذا رضي لم يخرجه رضاه عن الحقّ".
فاشتملت الآيتان على هذين الحكمين وهما القيام بالقسط والشهادة به على الأولياء والأعداء.

ثم قال تعالى: {إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللّه أولى بهما}؛ أي: إن يكن المشهود عليه غنيًّا ترجون وتأملون عود منفعة غناه عليكم فلا تقومون عليه، أو فقيرًا فلا ترجونه ولا تخافونه، فالله أولى بهما منكم، هو ربهما ومولاهما، وهما عبداه كما أنكم عبيده، فلا تحابوا غنيًّا لغناه، ولا تطمعوا في فقيرٍ لفقره؛ فإن الله أولى بهما منكم.
وقد يقال: فيه معنى آخر أحسن من هذا، وهو أنهم ربما خافوا من القيام بالقسط وأداء الشهادة على الغني والفقير؛ أما الغنيّ فخوفًا على ماله، وأما الفقير فلإعدامه، وأنه لا شيء له؛ فتتساهل النفوس في القيام عليه بالحق، فقيل لهم: الله أولى بالغني والفقير منكم، أعلم بهذا، وأرحم بهذا؛ فلا تتركوا أداء الحق والشهادة على غنيٍّ ولا فقير.

ثم قال تعالى: {فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا} نهاهم عن اتباع الهوى الحامل على ترك العدل.
وقوله: {أن تعدلوا} منصوب الموضع على أنه مفعول لأجله. وتقديره عند البصريين: كراهية أن تعدلوا، أو حذار أن تعدلوا؛ فيكون اتّباعكم الهوى كراهية العدل وفرارًا منه. وعلى قول الكوفيين التقدير: أن لا تعدلوا.
وقول البصريين أحسن وأظهر.

ثم قال تعالى: {وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا} ذكر سبحانه السّببين الموجبين لكتمان الحق محذرًا منهما، متوعدًا عليهما:
أحدهما: اللّيّ.
والآخر: الإعراض.
فإن الحقّ إذا ظهرت حجّته، ولم يجد من يروم دفعها طريقًا إلى دفعها، أعرض عنها وأمسك عن ذكرها، فكان شيطانًا أخرس، وتارةً يلويها أو يحرّفها.
واللّيّ مثل الفتل، وهو التحريف. وهو نوعان: ليٌّ في اللفظ، وليٌّ في المعنى.
فاللّيّ في اللفظ: أن يلفظ بها على وجهٍ لا يستلزم الحقّ؛ إما بزيادة لفظة، أو نقصانها، أو إبدالها بغيرها، أو ليًّا في كيفية أدائها، وإيهام السامع لفظًا ومراده غيره؛ كما كان اليهود يلوون ألسنتهم بالسّلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهذا أحد نوعي اللّيّ.
والنوع الثاني منه: ليّ المعنى، وهو تحريفه، وتأويل اللفظ على خلاف مراد المتكلم به، وتحماله ما لم يرده، أو يسقط منه بعض ما أراد به، ونحو هذا من ليّ المعاني، فقال تعالى: {وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا (135)}.
ولما كان الشاهد مطالبًا بأداء الشهادة على وجهها، فلا يكتمها ولا يغيّرها، كان الإعراض نظير الكتمان، واللّيّ نظير تغييرها وتبديلها.
فتأمل ما تحت هذه الآية من كنوز العلم.
والمقصود أن الواجب الذي لا يتمّ الإيمان بل لا يحصل مسمّى الإيمان إلا به مقابلة النصوص بالتّلقّي والقبول، والإظهار لها، ودعوة الخلق إليها, لا تقابل بالإعراض تارةً، وباللّيّ أخرى. قال تعالى: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}؛ فدلّ هذا على أنه إذا ثبت لله ولرسوله في كل مسألة من المسائل حكمٌ طلبيٌّ أو خبريٌّ، فإنه ليس لأحد أن يتخيّر لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه، وأن ذلك ليس لمؤمن [ولا مؤمنة] أصلًا، فدلّ على أن ذلك منافٍ للإيمان.
وقد حكى الشافعي - رضي الله عنه - إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أنّ من استبانت له سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد.
ولا يستريب أحدٌ من أئمة الإسلام في صحّة ما قال الشافعي - رضي الله عنه -. فإن الحجّة الواجب اتباعها على الخلق كافّةً إنما هو قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وأما أقوال غيره فغايتها أن تكون سائغة الاتباع لا واجبة الاتباع، فضلًا عن أن تعارض بها النصوص، وتقدّم عليها، عياذًا بالله من الخذلان.
وقال تعالى: {قل أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول فإن تولّوا فإنّما عليه ما حمّل وعليكم ما حمّلتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرّسول إلّا البلاغ المبين (54)}، فأخبر سبحانه أن الهداية إنما هي في طاعة الرسول لا في غيرها، فإنه معلّق بالشرط؛ فينتفي بانتفائه، وليس هذا من باب دلالة المفهوم، كما يغلط فيه كثير من الناس، ويظن أنه يحتاج في تقرير الدلالة منه إلى تقرير كون المفهوم حجة، بل هذا من الأحكام التي رتّبت على شروط وعلّقت، فلا وجود لها بدون شروطها، إذ ما علّق على الشرط فهو عدم عند عدمه؛ وإلا لم يكن شرطًا له. إذا ثبت هذا فالآية نصٌّ على انتفاء الهداية عند عدم طاعته.
وفي إعادة الفعل في قوله: {قل أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول} دون الاكتفاء بالفعل الأول سرٌّ لطيف وفائدةٌ جليلة، سنذكرها عن قربٍ إن شاء الله تعالى.
وقوله: {فإن تولّوا فإنّما عليه ما حمّل}، الفعل للمخاطبين، وأصله: تتولوا، فحذفت إحدى التاءين تخفيفًا. والمعنى: أنه قد حمّل أداء الرسالة وتبليغها، وحمّلتم طاعته والانقياد له والتسليم؛ كما ذكر البخاري في "صحيحه" عن الزهري قال: "من الله البيان، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم".
فإن تركتم أنتم ما حمّلتموه من الإيمان والطاعة، فعليكم لا عليه؛ فإنه لم يحمّل طاعتكم وإيمانكم، وإنما حمّل تبليغكم وأداء الرسالة إليكم، فإن تطيعوه فهو حظّكم وسعادتكم وهدايتكم، وإن لم تطيعوه فقد أدّى ما حمّل، وما على الرسول إلا البلاغ المبين، ليس عليه هداكم وتوفيقكم.
وقال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللّه والرّسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلًا}؛ فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله. وافتتح الآية بندائهم باسم الإيمان المشعر بأن المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نودوا وخوطبوا به، كما يقال: يا من أنعم الله عليه وأغناه من فضله! أحسن كما أحسن الله إليك. ويا أيها العالم علّم الناس ما ينفعهم. ويا أيها الحاكم احكم بالحقّ، ونظائره.
ولهذا كثيرًا ما يقع الخطاب في القرآن بالشرائع بقوله: {ياأيّها الّذين آمنوا}.
{يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام}.
{يا أيّها الّذين آمنوا إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة}.
{يا أيّها الّذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلّت لكم}، ونظائره.
ففي ذلك إشارة إلى أنكم إن كنتم مؤمنين؛ فالإيمان يقتضي منكم كذا وكذا، فإنّه من موجبات الإيمان وتمامه.

ثم قال: {أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول}؛ ففرق بين طاعته وطاعة رسوله في الفعل، ولم يسلّط الفعل الأول عليها، وقال: {وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم}، فقرن بين طاعة الرسول وطاعة أولي الأمر، وسلّط عليهما عاملًا واحدًا، وقد كان ربّما يسبق إلى الوهم أن الأمر يقتضي عكس هذا؛ فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، ولكن الواقع في الآية هو المناسب، وتحته سرٌّ لطيف وهو دلالته على أن ما يأمر به رسوله تجب طاعته فيه وإن لم يكن مأمورًا به بعينه في القرآن، فتجب طاعة الرسول مفردةً ومقرونةً، فلا يتوهّم متوهّمٌ أن ما يأمر به الرسول إن لم يكن في القرآن وإلا فلا تجب طاعته فيه؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك رجلٌ شبعان متكئٌ على أريكته يأتيه الأمر من أمري؛ فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من شيء اتبعناه، ألا وإنّي أوتيت الكتاب ومثله معه".
وأما أولو الأمر فلا تجب طاعة أحدهم إلا إذا اندرجت تحت طاعة الرسول، لا طاعة مفردة مستقلة؛ كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "على المرء السّمع والطاعة [فيما أحبّ وكره] ما لم يؤمر بمعصية الله، فإن أمر بمعصية الله، فلا سمع ولا طاعة".
فتأمّل كيف اقتضت إعادة هذا المعنى قوله تعالى: {فردّوه إلى اللّه والرّسول}، ولم يقل: وإلى الرسول؛ فإن الردّ إلى القرآن ردٌّ إلى الله والرسول، والردّ إلى السنة ردٌّ إلى الله والرسول، فما يحكم به الله هو بعينه حكم رسوله, وما يحكم به الرسول هو بعينه حكم الله.
فإذا رددتم إلى الله ما تنازعتم فيه، يعني إلى كتابه؛ فقد رددتموه إلى الله ورسوله، وكذلك إذا رددتموه إلى رسوله فقد رددتموه إلى الله والرسول، وهذا من أسرار القرآن.
وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد في أولي الأمر، فعنه فيهم روايتان:
إحداهما: أنهم العلماء.
والثانية: أنهم الأمراء.
والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الآية. والصحيح: أنها متناولة للصنفين جميعًا؛ فإن العلماء والأمراء هم ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله.
فالعلماء ولاته حفظًا، وبيانًا، وبلاغًا، وذبًّا عنه، وردًّا على من ألحد فيه وزاغ عنه، وقد وكّلهم الله بذلك، فقال تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين (89)}. فيا لها من وكالةٍ أوجبت طاعتهم والانتهاء إلى أمرهم، وكون الناس تبعًا لهم.
والأمراء ولاته قيامًا، ورعايةً، وجهادًا، وإلزامًا للناس به، وأخذهم على يد من خرج عنه.
وهذان الصنفان هم الناس، وسائر النوع الإنساني تبعٌ لهم ورعيةٌ.

ثم قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللّه والرّسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر}.
وهذا دليل قاطعٌ على أنه يجب ردّ موارد النّزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كلّه إلى الله ورسوله، لا إلى أحدٍ غير الله ورسوله، فمن أحال الردّ على غيرهما فقد ضادّ أمر الله، ومن دعا عند النزاع إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية. فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يردّ كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله؛ ولهذا قال تعالى: {إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر}، وهذا مما ذكرناه آنفًا أنّه شرطٌ ينتفي المشروط بانتفائه، فدلّ على أن من حكّم غير الله ورسوله في موارد النزاع كان خارجًا عن مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر. وحسبك بهذه الآية القاصمة العاصمة بيانًا وشفاءً، فإنها قاصمة لظهور المخالفين لها، عاصمةٌ للمتمسكين بها الممتثلين لما أمرت به؛ {ليهلك من هلك عن بيّنةٍ ويحيى من حيّ عن بيّنةٍ وإنّ اللّه لسميعٌ عليمٌ (42)}.
وقد اتفق السّلف والخلف على أن الردّ إلى الله هو الردّ إلى كتابه، والردّ إلى رسوله هو الردّ إليه في حياته والردّ إلى سنّته بعد وفاته.

ثم قال تعالى: {ذلك خيرٌ وأحسن تأويلًا (59)}؛ أي هذا الذي أمرتكم به من طاعتي وطاعة رسولي وأولي الأمر، وردّ ما تنازعتم فيه إليّ وإلى رسولي، خيرٌ لكم في معاشكم ومعادكم، وهو سعادتكم في الدارين، فهو خيرٌ لكم وأحسن عاقبةً.
فدلّ هذا على أن طاعة الله ورسوله، وتحكيم الله ورسوله، هو سبب السعادة عاجلًا وآجلًا.
ومن تدبّر العالم والشّرور الواقعة فيه علم أن كل شرٍّ في العالم فسببه مخالفة الرسول والخروج عن طاعته، وكل خير في العالم فإنما هو بسبب طاعة الرسول.
وكذلك شرور الآخرة وآلامها وعذابها إنما هي موجبات مخالفة الرسول ومقتضياتها.
فعاد شرّ الدنيا والآخرة إلى مخالفة الرسول وما يترتب عليه، فلو أن الناس أطاعوا الرسول حق طاعته لم يكن في الأرض شرٌّ قط.
وهذا كما أنه معلوم في الشّرور العامّة والمصائب الواقعة في الأرض؛ فكذلك هو في الشّر والألم والغمّ الذي يصيب العبد في نفسه، فإنما هو بسبب مخالفة الرسول، وإلّا فطاعته هي الحصن الذي من دخله فهو من الآمنين، والكهف الذي [من] لجأ إليه فهو من الناجين.
فعلم أن شرور الدنيا والآخرة إنما هي الجهل بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخروج عنه، وهذا برهان قاطعٌ على أنه لا نجاة للعبد ولا سعادة إلا باجتهاده في معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - علمًا، والقيام به عملًا.
وكمال هذه السعادة بأمرين آخرين:
أحدهما: دعوة الخلق إليه.
والثاني: صبره وجهاده على تلك الدّعوة.
فانحصر الكمال الإنسانيّ في هذه المراتب الأربعة:
إحداها: العلم بما جاء به الرسول.
الثانية: العمل به.
الثالثة: بثّه في الناس، ودعوتهم إليه.
الرابعة: صبره وجهاده في أدائه وتنفيذه.
ومن تطلّعت همّته إلى معرفة ما كان عليه الصحابة وأراد اتباعهم؛ فهذه طريقتهم حقًا.
فإن شئت وصل القوم فاسلك طريقهم ... وقد وضحت للسالكين عيانا

وقال تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قل إن ضللت فإنّما أضلّ على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربّي إنّه سميعٌ قريبٌ (50)}.
فهذا نص صريح في أن هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما حصل بالوحي، فيا عجبًا كيف يحصل الهدى لغيره من الآراء والعقول المختلفة والأقوال المضطربة؟ ولكن {من يهد اللّه فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا (17)}.
فأيّ ضلالٍ أعظم من ضلال من يزعم أن الهداية لا تحصل بالوحي، ثم يحيل فيها على عقل فلان ورأي فلتان؟ وقول زيدٍ وعمرو؟
فلقد عظمت نعمة الله على عبدٍ عافاه من هذه البلية العظمى والمصيبة الكبرى، والحمد لله رب العالمين.
وقال تعالى: {المص (1) كتابٌ أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرجٌ منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين (2) اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلًا ما تذكّرون (3)}؛ فأمر سبحانه باتباع ما أنزل على رسوله، ونهى عن اتباع غيره، فما هو إلا اتباع المنزل أو اتباع أولياء من دونه، فإنه لم يجعل بينهما واسطة، فكل من لم يتّبع الوحي فإنما اتبع الباطل واتبع أولياء من دون الله، وهذا بحمد الله ظاهر لا خفاء به.
وقال تعالى: {ويوم يعضّ الظّالم على يديه يقول ياليتني اتّخذت مع الرّسول سبيلًا (27) ياويلتى ليتني لم أتّخذ فلانًا خليلًا (28) لقد أضلّني عن الذّكر بعد إذ جاءني وكان الشّيطان للإنسان خذولًا (29)}.
فكل من اتخذ خليلًا غير الرسول، يترك لأقواله وآرائه ما جاء به الرسول؛ فإنه قائلٌ هذه المقالة لا محالة، ولهذا فإنه سبحانه لم يعيّن هذا الخليل، وكنّى عنه باسم فلان، إذ لكلّ متبعٍ أولياء من دون الله فلانٌ وفلانٌ.
فهذا حال هذين الخليلين المتخالّين على خلاف طاعة الرسول، ومآل تلك الخلّة إلى العداوة واللعنة؛ كما قال تعالى: {الأخلّاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدوٌّ إلّا المتّقين (67)}.
وقد ذكر تعالى حال هؤلاء الأتباع وحال من اتبعوهم في غير موضع من كتابه؛ كقوله تعالى: {يوم تقلّب وجوههم في النّار يقولون ياليتنا أطعنا اللّه وأطعنا الرّسولا (66) وقالوا ربّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السّبيلا (67) ربّنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنًا كبيرًا (68)}.
تمنى القوم طاعة الله وطاعة رسوله حين لا ينفعهم ذلك، واعتذروا بأنهم أطاعوا كبراءهم ورؤساءهم، واعترفوا بأنهم لا عذر لهم في ذلك، وأنهم أطاعوا السادات والكبراء وعصوا الرسول، وآلت تلك الطاعة والموالاة إلى قولهم: {ربّنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنًا كبيرًا (68)}. وفي بعض هذا عبرةٌ للعاقل وموعظة شافية، وبالله التوفيق.


وقال تعالى: {فمن أظلم ممّن افترى على اللّه كذبًا أو كذّب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتّى إذا جاءتهم رسلنا يتوفّونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون اللّه قالوا ضلّوا عنّا وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين (37) قال ادخلوا في أممٍ قد خلت من قبلكم من الجنّ والإنس في النّار كلّما دخلت أمّةٌ لعنت أختها حتّى إذا ادّاركوا فيها جميعًا قالت أخراهم لأولاهم ربّنا هؤلاء أضلّونا فآتهم عذابًا ضعفًا من النّار قال لكلٍّ ضعفٌ ولكن لا تعلمون (38) وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضلٍ فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون (39)}.
فليتدبر العاقل هذه الآيات وما اشتملت عليه من العبر...
قوله تعالى: {افترى على اللّه كذبًا أو كذّب بآياته} ذكر الصنفين المبطلين:
أحدهما: منشىء الباطل والفرية، وواضعها، وداعي الناس إليها.
والثاني: المكذّب بالحق.
فالأول كفره بالافتراء وإنشاء الباطل، والثاني كفره بجحود الحق. وهذان النوعان يعرضان لكل مبطل؛ فإن انضاف إلى ذلك دعوته إلى باطله، وصدّ الناس عن الحقّ، استحقّ تضعيف العذاب؛ لتضاعف كفره وشرّه؛ ولهذا قال تعالى: {الّذين كفروا وصدّوا عن سبيل اللّه زدناهم عذابًا فوق العذاب بما كانوا يفسدون (88)}، فلما كفروا وصدّوا عباده عن سبيله عذّبهم عذابين: عذابًا بكفرهم، وعذابًا بصدّهم عن سبيله.
وحيث يذكر الكفر المجرد لا يعدّد العذاب؛ كقوله: {وللكافرين عذابٌ أليمٌ (104)}.
وقوله تعالى: {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} يعني: ينالهم ما كتب لهم في الدنيا من الحياة والرزق وغير ذلك.
{حتّى إذا جاءتهم رسلنا يتوفّونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون اللّه}؛ أين من كنتم توالون فيه وتعادون فيه، وترجونه وتخافونه من دون الله؟ {قالوا ضلّوا عنّا}. زالوا وفارقوا، وبطلت تلك الدعوة.
{وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين (37) قال ادخلوا في أممٍ قد خلت من قبلكم من الجنّ والإنس في النّار}، ادخلوا في جملة هذه الأمم.
{كلّما دخلت أمّةٌ لعنت أختها حتّى إذا ادّاركوا فيها جميعًا قالت أخراهم لأولاهم} كل أمة متأخرة ضلّت بأسلافها.
{ربّنا هؤلاء أضلّونا فآتهم عذابًا ضعفًا من النّار} ضاعف عليهم العذاب بما أضلّونا وصدّونا عن طاعة رسلك.
[قال] الله تعالى: {لكلٍّ ضعفٌ} من الاتباع والمتبوعين بحسب ضلاله وكفره.
{ولكن لا تعلمون (38)} لا تعلم كل طائفة بما في أختها من العذاب المضاعف.
{وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضلٍ}؛ فإنكم جئتم بعدنا فأرسلت فيكم الرسل، وبينوا لكم الحق، وحذّروكم من ضلالنا، ونهوكم عن اتباعنا وتقليدنا؛ فأبيتم إلا اتباعنا وتقليدنا، وترك الحق الذي أتتكم به الرسل، فأيّ فضلٍ كان لكم علينا، وقد ضللتم كما ضللنا، وتركتم الحق كما تركناه؛ فضللتم أنتم بنا كما ضللنا نحن بقوم آخرين، فأي فضل لكم علينا؟ {فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون (39)}.
فلله ما أشفاها من موعظة، وما أبلغها من نصيحةٍ، لو صادفت من القلوب حياةً، فإن هذه الآيات وأمثالها مما تذكّر قلوب السائرين إلى الله، وأما أهل البطالة الثكلة فليس عندهم من ذلك خبر).[الرسالة التبوكية 21: 55]

محمد أبو زيد 14 جمادى الآخرة 1439هـ/1-03-2018م 09:52 PM

فصل
قال ابن قيّم الجوزية: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزُّرعِيُّ الدمشقي (ت:751هـ) : (فصل:
فهذا حكم الأتباع والمتبوعين المشتركين في الضلالة، وأما الأتباع المخالفون لمتبوعيهم، العادلون عن طريقتهم، الذين يزعمون أنهم تبع لهم، وليسوا متّبعين لطريقتهم، فهم المذكورون في قوله تعالى: {إذ تبرّأ الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب (166) وقال الّذين اتّبعوا لو أنّ لنا كرّةً فنتبرّأ منهم كما تبرّءوا منّا كذلك يريهم اللّه أعمالهم حسراتٍ عليهم وما هم بخارجين من النّار (167)}.
فهؤلاء المتبوعون كانوا على الهدى، وأتباعهم ادّعوا أنهم على طريقتهم ومنهاجهم، وهم مخالفون لهم سالكون غير طريقهم، يزعمون أنّهم يحبونهم، وأن محبّتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم لهم، فيتبرءون منهم يوم القيامة، فإنهم اتخذوهم أولياء من دون الله، وظنوا أن هذا الاتخاذ ينفعهم.
وهذه حال كل من اتّخذ من دون الله ورسوله وليجةً وأولياء، يوالي لهم ويعادي لهم، ويرضى لهم ويغضب لهم، فإن أعماله كلها باطلة، يراها يوم القيامة حسراتٍ عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه، إذ لم يجرّد موالاته ومعاداته، ومحبته وبغضه، وانتصاره وإيثاره لله ورسوله؛ فأبطل الله -عز وجل- ذلك العمل كلّه، وقطع تلك الأسباب، وهي الوصل والموالاة التي كانت بينهم في الدنيا لغيره كما قال: {وتقطّعت بهم الأسباب (166)}؛ فينقطع يوم القيامة كل سببٍ ووصلةٍ ووسيلة ومودّة [وموالاة] كانت لغير الله, ولا يبقى إلا السبب الواصل بين العبد وبين ربه، وهو حظه من الهجرة إليه وإلى رسوله، وتجريد عبادته وحده، ولوازمها من الحبّ والبغض، والعطاء والمنع، والموالاة والمعاداة، والتقريب والإبعاد، وتجريد متابعة رسوله وترك أقوال غيره لقوله، وترك كل ما خالف ما جاء به، والإعراض عنه، وعدم الاعتداد به، وتجريد متابعته تجريدًا محضًا بريئًا من شوائب الالتفات إلى غيره، فضلًا عن الشركة بينه وبين غيره، فضلًا عن تقديم قول غيره عليه.
فهذا السبب هو الذي لا ينقطع بصاحبه، وهذه هي النسبة التي بين العبد وبين ربه، وهي نسبة العبودية المحضة، وهي آخيته التي يجول ما يجول، ثم إليها مرجعه.
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحبّ إلا للحبيب الأوّل
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدًا لأوّل منزل

وهذه النسبة هي التي تنفع العبد، فلا ينفعه غيرها في الدّور الثلاثة؛ أعني: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار؛ فلا قوام له ولا عيش ولا نعيم ولا فلاح إلا بهذه النسبة، وهي السبب الواصل بين العبد وبين الله، ولقد أحسن القائل حيث قال:
إذا تقطّع حبل الوصل بينهم ... فللمحبين حبلٌ غير منقطع
وإن تصدّع شمل الوصل بينهم ... فللمحبين شملٌ غير منصدع

والمقصود أن الله سبحانه يقطع يوم القيامة الأسباب والعلق والوصلات التي كانت بين الخلق في الدنيا كلها, ولا يبقى إلا السبب والوصلة التي بين العبد وبين ربّه فقط، وهو سبب العبودية المحضة التي لا وجود لها ولا تحقّق إلا بتجريد متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، إذ هذه العبودية إنما جاءت على ألسنتهم، وما عرفت إلا بهم, ولا سبيل إليها إلا بمتابعتهم، وقد قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثورًا (23)}.
فهذه الأعمال التي كانت في الدنيا على غير سنّة رسله وطريقتهم ولغير وجهه، يجعلها الله هباءً منثورًا، لا ينتفع منها صاحبها بشيء أصلًا؛ وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة أن يرى سعيه كلّه ضائعًا لم ينتفع منه بشيء، وهو أحوج ما كان العامل إلى عمله، وقد سعد أهل السّعي النافع بسعيهم). [الرسالة التبوكية 56: 59]

محمد أبو زيد 14 جمادى الآخرة 1439هـ/1-03-2018م 09:53 PM

فصل
قال ابن قيّم الجوزية: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزُّرعِيُّ الدمشقي (ت:751هـ) : (فصل
فهذا حكم الأتباع الأشقياء، فأما الأتباع السّعداء فنوعان:
أتباعٌ لهم حكم الاستقلال، وهم الذين قال الله -عز وجل- فيهم: {والسّابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسانٍ رضي اللّه عنهم ورضوا عنه}.
فهؤلاء هم السّعداء الذين ثبت لهم رضى الله عنهم، وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكل من تبعهم بإحسان، وهذا يعمّ كل من اتبعهم بإحسان إلى يوم القيامة، ولا يختصّ ذلك بالقرن الذين رأوهم فقط، وإنما خصّ التابعون بمن رأى الصحابة تخصيصًا عرفيًا؛ ليتميزوا به عمن بعدهم فقيل التابعون مطلقًا لذلك القرن فقط، وإلا فكل من سلك سبيلهم فهو من التابعين لهم بإحسان، وهو ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه.
وقيّد سبحانه هذه التبعية بأنها تبعية [بإحسانٍ، ليست مطلقة فتحصل بمجرد النسبة والاتباع في شيء والمخالفة في غيره، ولكن تبعية] مصاحبةٌ للإحسان؛ فإن الباء هنا للمصاحبة، والإحسان في المتابعة شرطٌ في حصول رضى الله عنهم وجنّاته.
وقال تعالى: {هو الّذي بعث في الأمّيّين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ وآخرين منهم لمّا يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم (4)}.
فالأولون هم الذين أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبوه، والآخرون الذين لم يلحقوا بهم هم كل من بعدهم على منهاجهم إلى يوم القيامة، فيكون التّأخّر وعدم اللّحاق بهم في الزمان.
وفي الآية قول آخر: إن المعنى لم يلحقوا بهم في الفضل والمرتبة، بل هم دونهم فيكون عدم اللحاق في الرتبة.
والقولان كالمتلازمين؛ فإنّ من بعدهم لا يلحقون بهم لا في الفضل ولا في الزمان، فهؤلاء الصنفان هم السّعداء.
وأما من لم يقبل هدى الله الذي بعث به رسوله، ولم يرفع به رأسًا، فهو من الصنف الثالث، وهم {الّذين حمّلوا التّوراة ثمّ لم يحملوها}.

وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسام الخلائق بالنسبة إلى دعوته وما بعثه الله به [من الهدى] في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم: كمثل غيثٍ أصاب أرضًا؛ فكانت منها طائفةٌ طبّبةٌ قبلت الماء؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء؛ فسقى الناس وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا, ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
فشبّه - صلى الله عليه وسلم - العلم الذي جاء به بالغيث؛ لأن كلًّا منهما سبب الحياة، فالغيث سبب حياة الأبدان، والعلم سبب حياة القلوب.
وشبّه القلوب القابلة للعلم بالأرض القابلة للغيث؛ كما شبّه سبحانه القلوب بالأودية في قوله تعالى: {أنزل من السّماء ماءً فسالت أوديةٌ بقدرها}.
وكما أن الأرضين ثلاثة بالنسبة إلى قبول الغيث:
إحداها: أرضٌ زكيّةٌ قابلةٌ للشّرب والنبات؛ فإذا أصابها الغيث ارتوت منه، ثمّ أنبتت من كل زوجٍ بهيجٍ.
فهذا مثل القلب الزّكي الذّكي؛ فهو يقبل العلم بذكائه، ويثمر فيه وجوه الحكم ودين الحق بزكائه؛ فهو قابلٌ للعلم، مثمرٌ لموجبه وفقهه وأسرار معادنه.
والثانية: أرضٌ صلبة قابلة لثبوت الماء فيها وحفظه، فهذه ينتفع الناس بورودها والسّقي منها والازدراع.
وهذا مثل القلب الحافظ للعلم، الذي يحفظه كما سمعه، ولا تصرّف له فيه ولا استنباط، بل له الحفظ المجرد، فهو يؤدي كما سمع، وهو من القسم الذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربّ حامل فقه غير فقيه".
فالأول مثل الغني التاجر الخبير بوجوه المكاسب والتجارات؛ فهو يكسب بماله ما شاء، والثاني مثل الغني الذي لا خبرة له بوجوه الربح والكسب، ولكنه حافظٌ لماله، لا يحسن التصرف والتقلّب فيه.
والأرض الثالثة أرض قاعٌ؛ وهو المستوي الذي لا يقبل النبات، ولا يمسك ماءً، فلو أصابها من المطر ما أصابها لم تنتفع بشيء منه.
فهذا مثل القلب الذي لا يقبل العلم ولا الفقه والدراية فيه، وإنما هو بمنزلة الأرض البوار التي لا تنبت ولا تحفظ الماء، وهو مثل الفقير الذي لا مال له، ولا يحسن يمسك مالًا.
فالأول: عالمٌ معلّمٌ، داعٍ إلى الله على بصيرة، فهذا من ورثة الرّسل.
والثاني: حافظٌ مؤدٍّ لما سمعه، فهذا يحمل إلى غيره ما يتّجر به المحمول إليه ويستثمر.
والثالث: لا هذا ولا هذا، فهو الذي لم يقبل هدى الله، ولا رفع به رأسًا.
فاستوعب هذا الحديث أقسام الخلق في الدعوة النبوية ومنازلهم، منها قسمان سعيدان، وقسمٌ شقي). [الرسالة التبوكية 59: 64]

محمد أبو زيد 14 جمادى الآخرة 1439هـ/1-03-2018م 09:53 PM

فصل
قال ابن قيّم الجوزية: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزُّرعِيُّ الدمشقي (ت:751هـ) : (فصل
وأما النوع الثاني من الأتباع السّعداء: فهم أتباع المؤمنين من ذريّتهم، الذين لم يثبت لهم حكم التكليف في دار الدنيا، وإنما هم مع آبائهم تبعٌ لهم، قال الله تعالى فيهم: {والّذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيّتهم بإيمانٍ ألحقنا بهم ذرّيّتهم وما ألتناهم من عملهم من شيءٍ كلّ امرئٍ بما كسب رهينٌ (21)}.
أخبر سبحانه أنه ألحق الذّرية بآبائهم في الجنة، كما أتبعهم إياهم في الإيمان, ولما كان الذّرية لا عمل لهم يستحقون به تلك الدرجات قال تعالى: {وما ألتناهم من عملهم من شيءٍ}، والضمير عائد إلى الذين آمنوا؛ أي: وما نقصناهم شيئًا من عملهم، بل رفعنا ذريّتهم إلى درجاتهم، مع توفيتهم أجور أعمالهم؛ فليست منزلتهم منزلة من لم يكن له عمل، بل وفّيناهم أجورهم، وألحقنا بهم ذرياتهم فوق ما يستحقونه من أعمالهم.
ثم لما كان هذا الإلحاق في الثواب والدرجات فضلًا من الله، فربما وقع في الوهم أن إلحاق الذرية أيضًا حاصلٌ بهم في حكم العدل، فإذا اكتسبوا سيئاتٍ أوجبت عقوبة، كان كل عامل رهينًا بكسبه لا يتعلق بغيره منه شيء.
فالإلحاق المذكور إنما هو في الفضل والثواب لا في العدل والعقاب، وهذا ونحوه من أسرار القرآن وكنوزه، التي يختص الله بفهمها من شاء.

فقد تضمنت هذه الآيات أقسام الخلائق كلهم سعدائهم وأشقيائهم: السعداء المتبوعين والأتباع، والأشقياء المتبوعين والأتباع.
فعلى العاقل الناصح لنفسه أن ينظر من أيّ الأقسام هو, ولا يغترّ بالعادة ويخلد إلى البطالة.
فإن كان من قسم سعيد انتقل منه إلى ما فوقه، وبذل جهده، والله ولي التوفيق والنجاح.
وإن كان من قسم شقي انتقل منه إلى القسم السعيد في زمن الإمكان، قبل أن يقول: {يا ليتني اتّخذت مع الرّسول سبيلًا (27)} ). [الرسالة التبوكية 65: 66]

محمد أبو زيد 14 جمادى الآخرة 1439هـ/1-03-2018م 09:53 PM

فصل
قال ابن قيّم الجوزية: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزُّرعِيُّ الدمشقي (ت:751هـ) : (فصل
والمقصود بهذا أن من أعظم التعاون على البرّ والتّقوى التعاون على سفر الهجرة إلى الله ورسوله, باليد واللسان والقلب، مساعدةً، ونصيحةً، وتعليمًا، وإرشادًا، ومودةً.
ومن كان هكذا مع عباد الله كان الله بكل خير إليه أسرع، وأقبل الله إليه بقلوب عباده، وفتح على قلبه أبواب العلم، ويسّره لليسرى، ومن كان بالضد فبالضدّ، {وما ربّك بظلّامٍ للعبيد (46)}.

فإن قلت: فقد أشرت إلى سفرٍ عظيم وأمر جسيمٍ، فما زاد هذا السّفر وما طريقه وما مركبه؟
قلت: زاده العلم الموروث عن خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -، ولا زاد له سواه؛ فمن لم يحصل هذا الزاد فلا يخرج من بيته، وليقعد مع الخالفين، فرفقاء التخلّف البطّالون أكثر من أن يحصوا فله أسوةٌ بهم، ولن ينفعه هذا التأسي يوم الحسرة شيئًا كما قال تعالى: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنّكم في العذاب مشتركون (39)}.
فقطع الله سبحانه انتفاعهم بتأسّي بعضهم بعضًا في العذاب؛ فإن مصائب الدنيا إذا عمّت صارت مسلاةً، وتأسّى بعض المصابين ببعض؛ كما قالت الخنساء:
فلولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أسلّي النّفس عنهم بالتأسّي

فهذا الروح الحاصل من التأسي معدومٌ بين المشتركين في العذاب يوم القيامة.

وأما طريقه: فهو بذل الجهد, واستفراغ الوسع، فلن ينال بالمنى, ولا يدرك بالهوينا، وإنما كما قيل:

فخض غمرات الموت واسم إلى العلا ... لكي تدرك العزّ الرفيع الدعائم
فلا خير في نفسٍ تخاف من الرّدى ... ولا همّةٍ تصبو إلى لوم لائم

ولا سبيل إلى ركوب هذا الظهر إلا بأمرين:
أحدهما: أن لا يصبو في الحق إلى لومة لائم؛ فإن اللوم يدرك الفارس؛ فيصرعه عن فرسه, ويجعله طريحًا في الأرض.
والثاني: أن تهون عليه نفسه في الله؛ فيقدم حينئذٍ ولا يخاف الأهوال, فمتى خافت النّفس تأخرت وأحجمت, وأخلدت إلى الأرض.
ولا يتمّ له هذان الأمران إلا بالصبر؛ فمن صبر قليلًا صارت تلك الأهوال ريحًا رخاءً في حقه تحمله بنفسها إلى مطلوبه, فبينما هو يخاف منها, إذ صارت أعظم أعوانه وخدمه, وهذا أمر لا يعرفه إلا من دخل فيه.
وأما مركبه: فصدق اللّجأ إلى الله, والانقطاع إليه بكلّيته, وتحقيق الافتقار إليه من كل وجه, والضراعة إليه, وصدق التوكل عليه، والاستعانة به، والانطراح بين يديه كالإناء المثلوم المكسور الفارغ الذي لا شيء فيه، يتطلع إلى قيّمه ووليّه أن يجبره، ويلمّ شعثه، ويمدّه من فضله ويستره، فهذا الذي يرجى له أن يتولى الله هدايته، وأن يكشف له ما خفي على غيره من طريق هذه الهجرة، ومنازلها). [الرسالة التبوكية 67: 70]

محمد أبو زيد 14 جمادى الآخرة 1439هـ/1-03-2018م 09:54 PM

فصل
قال ابن قيّم الجوزية: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزُّرعِيُّ الدمشقي (ت:751هـ) : (فصل
ورأس مال الأمر وعموده في ذلك إنما هو دوام التفكر وتدبر آيات القرآن، بحيث يستولي على الفكر، ويشغل القلب، فإذا صارت معاني القرآن مكان الخواطر من قلبه وهي الغالبة عليه، بحيث يصير إليها مفزعه وملجؤه، تمكّن حينئذٍ الإيمان من قلبه، وجلس على كرسيه، وصار له التصرف، وصار هو الآمر المطاع أمره؛ فحينئذٍ يستقيم له سيره، ويتضح له الطريق، وتراه ساكنًا وهو يباري الريح: {وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمرّ مرّ السّحاب} ).[الرسالة التبوكية: 70]

محمد أبو زيد 14 جمادى الآخرة 1439هـ/1-03-2018م 09:54 PM

فصل
قال ابن قيّم الجوزية: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزُّرعِيُّ الدمشقي (ت:751هـ) : (فصل
فإن قلت: إنك قد أشرت إلى مقام عظيم فافتح لي بابه، واكشف لي حجابه، وكيف تدبّر القرآن وتفهّمه والإشراف على عجائبه وكنوزه؟ وهذه تفاسير الأئمة بأيدينا، فهل في البين غير ما ذكروه؟
قلت: سأضرب لك أمثالًا تحتذي عليها، وتجعلها إمامًا لك في هذا المقصد.
قال الله تعالى: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين (24) إذ دخلوا عليه فقالوا سلامًا قال سلامٌ قومٌ منكرون (25) فراغ إلى أهله فجاء بعجلٍ سمينٍ (26) فقرّبه إليهم قال ألا تأكلون (27)} إلى قوله: {الحكيم العليم (30)}.
فعهدي بك إذا قرأت هذه الآيات، وتطلّعت إلى معناها وتدبرتها؛ فإنما تطلع منها على أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة أضيافٍ يأكلون، وبشّروه بغلام عليم، وأن امرأته عجبت من ذلك؛ فأخبرتها الملائكة أن الله قال ذلك، ولم يجاوز تدبرك غير ذلك.
فاسمع الآن بعض ما في هذه الآيات من الأسرار..
وكم قد تضمنت من أنواع الثناء على إبراهيم.
وكيف جمعت آداب الضيافة وحقوقها.
وكيف يراعى الضيف.
وما تضمنت من الرد على أهل الباطل من الفلاسفة والمعطلة.
وكيف تضمنت علمًا عظيمًا من أعلام النبوة.
وكيف تضمنت جميع صفات الكمال، التي مردّها إلى العلم والحكمة.
وكيف أشارت إلى دليل إمكان المعاد بألطف إشارة وأوضحها، ثم أفصحت بوقوعه.
وكيف تضمنت الإخبار عن عدل الرب وانتقامه من الأمم المكذّبة.
وتضمنت ذكر الإسلام والإيمان والفرق بينهما.
وتضمنت بقاء آيات الرب الدالة على توحيده، وصدق رسله، وعلى اليوم الآخر.
وتضمنت أنه لا ينتفع بهذا كله إلا من في قلبه خوفٌ من عذاب الآخرة، وهم المؤمنون بها، وأما من لا يخاف الآخرة ولا يؤمن بها، فلا ينتفع بتلك الآيات.
فاسمع الآن بعض تفاصيل هذه الجملة:

قال الله تعالى: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين (24)} افتتح الله سبحانه القصة بصيغة موضوعة للاستفهام، وليس المراد به حقيقته من الاستفهام. ولهذا قال بعض الناس: إن "هل" في مثل هذا الموضع بمعنى "قد" التي تقتضي التحقيق.
ولكن في ورود الكلام في مثل هذا الاستفهام سر لطيف، ومعنى بديع، فإن المتكلم إذا أراد أن يخبر مخاطبه بأمر عجيب ينبغى الاعتناء به، وإحضار الذهن له، صدّر له الكلام بأداةٍ تنبّه سمعه وذهنه للخبر، فتارةً يصدّره بـ"ألا"، وتارةً يصدّره بـ"هل"، [فيقول: هل علمت ما كان من كيت وكيت؟ إما مذكّرًا به، وإما واعظًا له مخوّفًا]، وإما منبّهًا على عظمة ما يخبر به, وإما مقرّرًا له.
فقوله تعالى: {هل أتاك حديث موسى (15)}, و{هل أتاك نبأ الخصم}, و{هل أتاك حديث الغاشية (1)}, و{هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين (24)} متضمن لتعظيم هذه القصص، والتنبيه على تدبرها، ومعرفة ما تضمنته.
وفيه أمر آخر، وهو التنبيه على أن إتيان هذا إليك علمٌ من أعلام النّبوة؛ فإنه من الغيب الذي لا تعلمه أنت ولا قومك، فهل أتاك من غير إعلامنا وإرسالنا وتعريفنا أم لم يأتك إلا من قبلنا؟
فانظر ظهور هذا الكلام بصيغة الاستفهام، وتأمل عظم موقعه في جميع موارده يشهد أنه من الفصاحة في ذروتها العليا.

وقوله: {ضيف إبراهيم المكرمين (24)} متضمن لثنائه على خليله إبراهيم؛ فإن في {المكرمين} قولين:
أحدهما: إكرام إبراهيم لهم؛ ففيه مدحٌ له بإكرام الضيف.
والثاني: أنهم مكرمون عند الله؛ كقوله: {بل عبادٌ مكرمون (26)}، وهو متضمن أيضًا لتعظيم خليله ومدحه؛ إذ جعل ملائكته المكرمين أضيافًا له.
فعلى كلا التقديرين فيه مدح لإبراهيم.

وقوله تعالى: {فقالوا سلامًا قال سلامٌ} متضمن لمدحٍ آخر لإبراهيم حيث ردّ عليهم أحسن مما حيّوه به؛ فإن تحيتهم باسم منصوبٍ متضمن لجملةٍ فعليّةٍ تقديره: سلّمنا عليك سلامًا، وتحية إبراهيم لهم باسمٍ مرفوعٍ متضمن لجملةٍ اسميّةٍ، تقديره: سلامٌ ثابتٌ أو دائم أو مستقرٌّ عليكم. ولا ريب أن الجملة الاسمية تقتضي الثبوت واللزوم، والفعلية تقتضي التجدد والحدوث؛ فكانت تحية إبراهيم أكمل وأحسن.

ثم قال: {قومٌ منكرون (25)}، وفي هذا من حسن مخاطبة الضيف والتذمّم منه وجهان من المدح:
أحدهما: أنه حذف المبتدأ، والتقدير أنتم منكرون، فتذمّم منهم، ولم يواجههم بهذا الخطاب لما فيه من بعض الاستيحاش، بل قال: {قومٌ منكرون (25)}، ولا ريب أن حذف المبتدأ في هذا من محاسن الخطاب، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يواجه أحدًا بما يكرهه، بل يقول: "ما بال أقوامٍ يقولون كذا، ويفعلون كذا".
والثاني: قوله {قومٌ منكرون}؛ فحذف فاعل الإنكار، وهو الذي كان أنكرهم؛ كما قال تعالى في موضع آخر: {نكرهم}، ولا ريب أن قوله: {منكرون (25)} ألطف من أن يقول: أنكرتكم.

وقوله: {فراغ إلى أهله فجاء بعجلٍ سمينٍ (26) فقرّبه إليهم قال ألا تأكلون (27)} متضمنٌ وجوهًا من المدح، وآداب الضيافة، وإكرام الضيف:
منها: قوله {فراغ إلى أهله} , والروغان: الذهاب في سرعة واختفاءٍ، وهو يتضمن المبادرة إلى إكرام الضيف، والاختفاء ترك تخجيله وألا يعرّضه للحياء، وهذا بخلاف من يتثاقل، يتبارد على ضيفه، ثم يبرز بمرأًى منه، ويحلّ صرّة النفقة، ويزن ما يأخذ، ويتناول الإناء بمرأى منه، ونحو ذلك مما يتضمن تخجيل الضيف وحياءه، فلفظة "راغ" تنفي هذين الأمرين.
وفي قوله: {إلى أهله} مدحٌ آخر، لما فيه من الإشعار بأن كرامة الضيف معدّةٌ حاصلةٌ عند أهله، وأنه لا يحتاج أن يستقرض من جيرانه، ولا يذهب إلى غير أهله، إذ نزل الضيف حاصل عندهم.
وقوله: {فجاء بعجلٍ سمينٍ (26)} يتضمن ثلاثة أنواع من المدح:
أحدها: خدمة ضيفه بنفسه، فإنه لم يرسل به، وإنما جاء به بنفسه.
الثاني: أنه جاءهم بحيوان تام لم يأتهم ببعضه؛ ليتخيّروا من أطايب لحمه ما شاءوا.
الثالث: أنه سمين ليس بمهزولٍ، وهذا من نفائس الأموال، ولد البقرة السمين، فإنهم يعجبون به، فمن كرمه هان عليه ذبحه وإحضاره.
وقوله: {إليهم} متضمنٌ لمدحٍ وأدبٍ آخر، وهو إحضار الطعام إلى بين أيدي الضيف، بخلاف من يهيّئ الطعام في موضع، ثم يقيم ضيفه؛ فيورده عليه.
وقوله: {قال ألا تأكلون (27)} فيه مدحٌ وأدب آخر؛ فإنه عرض عليهم الأكل بقوله: {ألا تأكلون (27)}، وهذه صيغة عرضٍ مؤذنة بالتلطف، بخلاف من يقول: ضعوا أيديكم في الطعام، كلوا، تقدموا، ونحو ذلك.

وقوله: {فأوجس منهم خيفةً}؛ لأنه لما رآهم لا يأكلون من طعامه أضمر منهم خوفًا أن يكون منهم شر؛ فإن الضيف إذا أكل من طعام ربّ المنزل اطمأنّ إليه وأنس به، فلما علموا منه ذلك {قالوا لا تخف وبشّروه بغلامٍ عليمٍ (28)}، وهذا الغلام إسحاق لا إسماعيل؛ لأن امرأته عجبت من ذلك، وقالت: عجوزٌ عقيمٌ لا يولد لمثلي، فأنى [لي] بالولد؟ وأما إسماعيل فإنه من سرّيته هاجر، وكان بكره وأول ولده، وقد بين سبحانه في سورة هود في قوله تعالى: {فبشّرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب (71)} في هذه القصة نفسها.

وقوله: {فأقبلت امرأته في صرّةٍ فصكّت وجهها}؛ فيه بيان ضعف عقل المرأة وعدم ثباتها؛ إذ بادرت إلى النّدبة وصكّ الوجه عند هذا الإخبار.

وقوله: {وقالت عجوزٌ عقيمٌ (29)} فيه حسن أدب المرأة عند خطاب الرجال، واقتصارها من الكلام على ما يتأدى به الحاجة، فإنها حذفت المبتدأ، فلم تقل: أنا عجوز عقيم، واقتصرت على ذكر السبب الدال على عدم الولادة، لم تذكر غيره، وأما في سورة هود فذكرت السبب المانع منها ومن إبراهيم، وصرّحت بالتعجب.

وقوله: {قالوا كذلك قال ربّك} متضمن لإثبات صفة القول [له].

وقوله: {إنّه هو الحكيم العليم (30)} متضمنٌ لإثبات صفة الحكمة والعلم اللذين هما مصدر الخلق والأمر، فجميع ما خلقه سبحانه صادرٌ عن علمه وحكمته، وكذلك أمره وشرعه مصدره عن علمه وحكمته.
والعلم والحكمة متضمنان لجميع الكمال، فالعلم يتضمن الحياة ولوازم كمالها من القومية، [والقدرة]، والبقاء، والسمع، والبصر، وسائر الصفات التي يستلزمها العلم التّام.
والحكمة تتضمن كمال الإرادة، من العدل، والرحمة، والإحسان، والجود، والبر، ووضع الأشياء مواضعها على أحسن وجوهها، ويتضمن إرسال الرسل، وإثبات الثواب والعقاب.
كلّ هذا يعلم من اسمه "الحكيم"، كما هي طريقة القرآن في الاستدلال على هذه المطالب العظيمة بصفة الحكمة، والإنكار على من يزعم أنه خلق الخلق عبثًا أو سدىً أو باطلًا. فنفس حكمته تتضمن الشرع والقدر، والثواب والعقاب، ولهذا كان أصح القولين أن المعاد يعلم بالعقل، وأن السمع ورد بتفصيل ما يدل العقل على إثباته.
ومن تأمل طريقة القرآن وجدها على ذلك، وأنّ الله سبحانه يضرب لهم الأمثال المعقولة التي تدلّ على إمكان المعاد تارةً ووقوعه أخرى، فيذكر أدلة القدرة الدالة على إمكان المقدور، وأدلة الحكمة المستلزمة لوقوعه.
ومن تأمل أدلّة المعاد في القرآن وجدها كذلك مغنيةً -بحمد الله ومنّته على عباده- عن غيرها، كافية شافية موصلةً إلى المطلوب بسرعة، متضمّنة للجواب عن الشّبه العارضة لكثير من الناس.
وإن ساعد التوفيق من الله كتبت في ذلك سفرًا كبيرًا، لما رأيت في الأدلة التي أرشد إليها القرآن من الشفاء، والهدى، وسرعة الإيصال، وحسن البيان، والتنبيه على مواضع الشبه والجواب عنها بما ينثلج له الصدر؛ ويشرق معه اليقين، بخلاف غيره من الأدلة، فإنها على العكس من ذلك، وليس هذا موضع التفصيل.
والمقصود أن مصدر الأشياء خلقًا وأمرًا على علم الرب وحكمته.
واختصت هذه القصة [بذكر] هذين الاسمين لاقتضائها لهما؛ لتعجّب النفوس من تولد مولودٍ بين أبوين لا يولد لمثلهما عادة، وخفاء العلم بسبب هذا الإيلاد، وكون الحكمة اقتضت جريان هذه الولادة على [غير] العادة المعروفة؛ فذكر في الآية اسم العلم والحكمة المتضمن لعلمه سبحانه بسبب هذا الخلق وغايته، وحكمته في وضعه موضعه من غير إخلالٍ بموجب الحكمة.

ثمّ ذكر سبحانه قصة الملائكة في إرسالهم لإهلاك قوم لوط، وإرسال الحجارة المسوّمة عليهم، وفي هذا ما يتضمن تصديق رسله وإهلاك المكذّبين لهم، والدلالة على المعاد والثواب والعقاب؛ لوقوعه عيانًا في هذا العالم، وهذا من أعظم الأدلة الدالة على صدق رسله وصحة ما أخبروا به عن ربهم.

ثمّ قال: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين (35) فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين}، ففرّق بين الإسلام والإيمان هنا لسرٍّ اقتضاه الكلام؛ فإن الإخراج هنا عبارة عن النجاة، فهو إخراج نجاةٍ من العذاب، ولا ريب أن هذا مختصٌّ بالمؤمنين المتبعين للرسل ظاهرًا وباطنًا.

وقوله: {فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين (36)} لما كان الموجودون من المخرجين أوقع اسم الإسلام عليهم؛ لأنّ امرأة لوط كانت من أهل هذا البيت، وهي مسلمةٌ في الظاهر، فكانت في البيت الموجودين لا في القوم الناجين. وقد أخبر الله سبحانه عن خيانة امرأة لوط، وخيانتها أنّها كانت تدلّ قومها على أضيافه وقلبها معهم، وليست خيانة فاحشةٍ، فكانت من أهل البيت المسلمين ظاهرًا، وليست من المؤمنين الناجين.
ومن وضع دلالات القرآن وألفاظه مواضعها، تبين له من أسراره وحكمه ما يهزّ العقول، ويعلم معه تنزّله من حكيم حميد.
وبهذا خرج الجواب عن السؤال المشهور، وهو أن الإسلام أعمّ من الإيمان، فكيف استثنى الأعمّ من الأخصّ، وقاعدة الاستثناء تقتضي العكس؟
وتبين أن المسلمين مستثنين مما وقع عليه فعل الوجود، والمؤمنين غير مستثنين منهم، بل هم المخرجون الناجون.

وقوله تعالى: {وتركنا فيها آيةً للّذين يخافون العذاب الأليم (37)}، فيه دليل على أن آيات الله سبحانه وعجائبه التي فعلها في هذا العالم وأبقى آثارها دالّةً عليه وعلى صدق رسله، إنما ينتفع بها من يؤمن بالمعاد، ويخشى عذاب الله؛ كما قال تعالى في موضع آخر: {إنّ في ذلك لآيةً لمن خاف عذاب الآخرة}، وقال تعالى: {سيذّكّر من يخشى (10)}.
فإن من لا يؤمن بالآخرة غايته أن يقول: هؤلاء قومٌ أصابهم الدهر كما أصاب غيرهم، ولا زال الدهر فيه الشقاء والسعادة، وأما من آمن بالآخرة وأشفق منها، فهو الذي ينتفع بالآيات والمواعظ.
والمقصود بهذا إنما هو التثميل والتنبيه على تفاوت الأفهام في معرفة القرآن، واستنباط أسراره، وإثارة كنوزه، واعتبر بهذا غيره، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء). [الرسالة التبوكية 71: 84]

محمد أبو زيد 14 جمادى الآخرة 1439هـ/1-03-2018م 09:55 PM

فصل
قال ابن قيّم الجوزية: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزُّرعِيُّ الدمشقي (ت:751هـ) : (فصل:
والمقصود أن القلب لما تحوّل لهذا السفر طلب رفيقًا يأنس به في السفر، فلم يجد إلا معارضًا مناقضًا، أو لائمًا بالتأنيب مصرّحًا ومعرّضًا، أو فارغًا عن هذه الحركة معرضًا، وليت الكلّ كانوا هكذا، فلقد أحسن إليك من خلّاك وطريقك ولم يطرح شرّه عليك؛ كما قال القائل:
إنّا لفي زمنٍ ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسانٌ وإجمال

وإذا كان هذا المعروف من الناس، فالمطلوب في هذا الزمان المعاونة على هذا السفر بالإعراض، وترك اللائمة والاعتراض، إلا ما عسى أن يقع نادرًا فيكون غنيمةً باردةً لا قيمة لها.
وينبغي أن لا يتوقف العبد في سيره على هذه الغنيمة، بل يسير ولو وحيدًا غريبًا، فانفراد العبد في طريق طلبه دليلٌ على صدق المحبة.
ومن نظر في هذه الكلمات التي تضمنتها هذه الوريقة، علم أنها من أهمّ ما يحصل به التعاون على البرّ والتقوى، وسفر الهجرة إلى الله ورسوله، وهذا الذي قصد مسطّرها بكتابتها، وجعلها هديته المعجّلة السابقة إلى أصحابه ورفقائه في طلب العلم.
وأشهد الله -وكفى بالله شهيدًا- لو توافيه من أحدٍ منهم لقابلها بالقبول، ولبادر إلى تفهّمها وتدبّرها، وعدّها من أفضل ما أهدى صاحبٌ إلى صاحبه، فإن غير هذا من ماجريات الرّكب الخبريّة، -وإن تطلعت [النفوس] إليها- ففائدتها قليلة، وهي في غاية الرّخص لكثرة جالبيها، وإنما الهدية النافعة كلمةٌ من الحكمة يهديها الرجل إلى أخيه المسلم.

ومن أراد هذا السفر فعليه بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء، فإنّه يبلغ بمرافقتهم إلى مقصده، وليحذر من مرافقة الأحياء الذين في الناس أموات، فإنهم يقطعون [عليه] طريقه، فليس لهذا السالك أنفع من تلك المرافقة، وأوفق له من هذه المفارقة، فقد قال بعض من سلف: "شتّان بين أقوامٍ موتى تحيا القلوب بذكرهم، وبين أقوامٍ أحياءٍ تموت القلوب بمخالطتهم".
فما على العبد أضرّ من عشرائه وأبناء جنسه، فإن نظره قاصر، وهمّته واقفةٌ عند التشبه بهم ومباهاتهم والسلوك أيّةً سلكوا، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لأحبّ أن يدخل معهم.
فمتى ترقّت همّته من صحبتهم إلى صحبة من أشباحهم مفقودةٌ، ومحاسنهم وآثارهم الجميلة في العالم مشهودةٌ، استحدث بذلك همةً أخرى وعملًا آخر، وصار بين الناس غريبًا، وإن كان فيهم [مشهورًا و] نسيبًا، ولكنه غريب محبوبٌ يرى ما الناس فيه، وهم لا يرون ما هو فيه، يقيم لهم المعاذير ما استطاع، وينصحهم بجهده وطاقته، سائرًا فيهم بعينين:
عين ناظرة إلى الأمر والنهي؛ بها يأمرهم وينهاهم، ويواليهم ويعاديهم، ويؤدي إليهم الحقوق، ويستوفيها عليهم.
وعين ناظرة إلى القضاء والقدر، بها يرحمهم ويدعو لهم ويستغفر لهم، ويلتمس لهم وجوه المعاذير فيما لا يخلّ بأمرٍ ولا يعود بنقض شرعٍ، قد وسعتهم بسطته ورحمته ولينه ومعذرته، واقفًا عند قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)}، متدبرًا لما تضمنته هذه الآية من حسن المعاشرة مع الخلق، وأداء حقّ الله فيهم، والسلامة من شرهم. فلو أخذ الناس كلّهم بهذه الآية لكفتهم وشفتهم؛ فإن العفو ما عفا من أخلاقهم، وسمحت به طبائعهم، ووسعهم بذله من أموالهم وأخلاقهم؛ فهذا ما منهم إليه.
وأما ما يكون منه إليهم؛ فأمرهم بالمعروف، وهو ما تشهد به العقول وتعرف حسنه، وهو ما أمر الله به.
وأما ما يتّقي به أذى جاهلهم؛ فالإعراض عنهم، وترك الانتقام لنفسه والانتصار لها.
فأيّ كمالٍ للعبد وراء هذا؟
وأي معاشرة وسياسة للعالم أحسن من هذه المعاشرة والسياسة؟
ولو فكّر الرّجل في كل شرٍّ يلحقه من العالم -أعني الشرّ الحقيقيّ الذي لا يوجب له الرّفعة والزّلفى من الله- وجد سببه الإخلال بهده الثلاث أو ببعضها، وإلا فمع القيام بها، فكل ما يحصل له من الناس فهو خيرٌ له وإن كان شرًّا في الظاهر، فإنّه متولّدٌ من القيام بالأمر [بالمعروف]، ولا يتولّد منه إلا خيرٌ وإن ورد في حالة شرٍّ وأذًى؛ كما قال تعالى: {إنّ الّذين جاءوا بالإفك عصبةٌ منكم لا تحسبوه شرًّا لكم بل هو خيرٌ لكم}، وقال تعالى لنبيه: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على اللّه}.
وقد تضمنت هذه الكلمات مراعاة حقّ الله وحقّ الخلق؛ فإنهم إمّا أن يسيئوا في حقّ الله أو في حقّ رسوله؛ فإن أساءوا في حقّك فقابل ذلك بعفوك عنهم، وإن أساءوا في حقّي فاسألني أغفر لهم، واستجلب قلوبهم، واستخرج ما عندهم من الرأي بمشاورتهم، فإن ذلك أحرى في استجلاب طاعتهم وبذلهم النصيحة، فإذا عزمت على أمرٍ فلا استشارة بعد ذلك، بل توكّل على الله، وامض لما عزمت عليه من أمرك؛ فإن الله يحبّ المتوكلين.
فهذا وأمثاله [من الأخلاق] التي أدّب الله بها رسوله، وقال فيه: {وإنّك لعلى خلقٍ عظيمٍ (4)}. قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كان خلقه القرآن".
وهذه لا تتمّ إلا بثلاثة أشياء:
أحدها: أن يكون العود طيبًا، فأما إذا كانت الطبيعة جافيةً غليظةً يابسةً عسر عليها مزاولة ذلك علمًا وإرادةً وعملًا، بخلاف الطبيعة المنقادة اللّينة السّلسة القياد، فإنها مستعدّةٌ إنما تريد الحرث والبذر.
الثاني: أن تكون النفس قويةً غالبةً قاهرةً لدواعي البطالة والغيّ والهوى، فإن هذه أعداء الكمال، فإن لم تقو النفس على قهرها وإلا لم تزل مغلوبةً مقهورةً.
الثالث: علمٌ شافٍ بحقائق الأشياء، وتنزيلها منازلها، يميز به بين الشّحم والورم، والزجاجة والجوهرة.
فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال الثلاثة، وساعده التوفيق فهو من القسم الذين سبقت لهم من ربهم الحسنى، وتمّت لهم العناية.
وهؤلاء هم القسم الأوّل المذكورون في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم" الحديث، وقد تقدم). [الرسالة التبوكية 84: 91]

محمد أبو زيد 14 جمادى الآخرة 1439هـ/1-03-2018م 09:55 PM

فصل
قال ابن قيّم الجوزية: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزُّرعِيُّ الدمشقي (ت:751هـ) : (فصل
ثمّ ذكر الشيخ -رضي الله عنه وأرضاه- أخبار الرّكب وأشياء، إلى أن قال: هذا، وأول الأمر وآخره: إنما هو معاملة الله وحده، والانقطاع إليه بكلّيّه القلب، ودوام الافتقار إليه، فلو وفّى العبد هذا المقام حقّه لرأى العجب العجيب من فضل ربّه وبرّه ولطفه ودفاعه عنه، والإقبال بقلوب عباده إليه، وإسكان الرّحمة والمحبة له في قلوبهم، ولكن نقول: ربّنا غلب علينا لؤمنا، وجهلنا وظلمنا وإساءتنا من أدلّ شيءٍ منه، فها نحن مقرّون بالتفريط والتقصير، ومن ادّعى منّا عندك وجاهةً فليس إلّا ذليلٌ حقيرٌ، فإن تكلنا إلى أنفسنا تكلنا إلى ضيعةٍ وعجز وذنب وخطيئة؛ فوا حسرتاه ووا أسفاه على رضاك! ولو غضب كل أحدٍ سواك، وعلى إيثار طاعتك ومحبتك على ما سواهما، وعلى صدق المعاملة معك.
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ ... وبيني وبين العالمين خراب
إذا صحّ منك الودّ فالكلّ هيّنٌ ... وكلّ الذي فوق التراب تراب

وقد كان يغني من كثير من هذا التطويل ثلاث كلماتٍ كان يكتب بها بعض السلف إلى بعض، فلو نقشها العبد في لوح قلبه يقرؤها على عدد الأنفاس لكان ذلك بعض ما يستحقه، وهي: "من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله مؤونة دنياه".
وهذه الكلمات برهانها وجودها، ولمّيّتها إنّيّتها، والتوفيق بيد الله، ولا إله غيره ولا ربّ سواه.

ثمّ قال -رضي الله عنه وأرضاه-: وليعذر الأصحاب في هذه الكلمات؛ فإنها والله نفثة مصدورٍ، وتنفّس محرورٍ.
أقلّب طرفي لا أرى من أحبّه ... وفي الحيّ ممن لا أحبّ كثير

فهو نفس من قد أكل بعضه بعضًا، فهو المبتدأ والخبر، ومنه الغناء ومنه الطرب.
ما في الخيام أخو وجدٍ يطارحه ... حديث ليلى ولا صبٌّ يجاريه

فأحبّ محبّكم مطارحة من بعدت عنده دياره، وشطّ عنه مزاره؛ فهو كما قيل:
يا ثاويًا بين الجوانح والحشا ... [منّي] وإن بعدت عليّ دياره
عطفًا على قلبٍ يحبّك هائمٍ ... إن لم تصله تقطّعت أعشاره
وارحم كئيبًا فيك يقضي نحبه ... أسفًا عليك وما انقضت أوطاره
لا يستفيق من الغرام وكلّما ... نحّوك عنه تهتّكت أستاره

وكلّ ذي شجوٍ يصرف هذا وأمثاله إلى شجوه، وهذا مما يستروح إليه المكروب بعض الاسترواح، وهيهات هيهات إن القلب لن يقرّ له قرارٌ حتى يوضع في موضعه، ويستقرّ في مستقرّه الذي لا مقرّ له سواه، كما قيل:
إذا ما وضعت القلب في غير موضعٍ ... بغير إناءٍ فهو قلبٌ مضيّع

وتحت هذا البيت معنًى شريفٌ جدًّا؛ قد شرحته في كراسةٍ مفردةٍ، والله أعلم.

هذا آخر ما ذكره الشيخ رضي الله عنه وأرضاه في هذا الباب.
والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تمّت). [الرسالة التبوكية 91: 93]


الساعة الآن 06:20 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir