رسالة في تفسير قول الله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
رسالة في تفسير قول الله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} هذه رسالة كريمة من الله تعالى خصّ بها طائفة من عباده ابتلوا ببلاء يشقّ على كثير منهم، فشّرفهم وأكرمهم بهذه الوصية الجليلة التي تدلّ على عنايته تعالى ورحمته بهم، ومعرفته بتفاصيل أحوالهم، وما يريد لهم من الغنى والفضل العظيم. وهي رسالة تضمنت توصية وإرشاداً، ووعداً كريماً، ينبغي لمن تأخّر زواجه أن يقف عند كلّ كلمة منها وقفة تدبّر وتأمّل؛ ليتعرّف معانيها وهداياتها ولطائفها. {الذين لا يجدون نكاحاً}يشمل أصنافاً من الذين تمنعهم من الزواج موانع؛ فيشمل من لا يجد من النفقة ما يتزوّج به، ومن لا يجد امرأة يرغب في خطبتها، ويشمل من لا يتقدم لخطبتها رجلٌ ترضاه، ومن مُنع من الزواج لمانع آخر؛ فكلّهم داخلون في هذا الخطاب. وهذه الرسالة تضمنت: 1: إرشاداً واسع المعاني في كلمة واحدة {وليستعفف}. 2: ووعداً كريماً لا ريب في تحققه {حتى يغنيهم الله من فضله} كان تطلّعهم للكفاية وسدّ الحاجة فوعدهم الله بالغنى، وهو قدر زائد على الكفاية يستغنون به؛ فلا يبقى في نفوسهم مما كانوا يعانونه شيءٌ بإذن الله. {وليستعفف} الاستعفاف هو السعي في تحقيق العفة، والعفة معنى جامع لكل احتراز عما لا ينبغي؛ فيعفّ فرجه عن الفواحش. ويعفّ سمعه وبصره ولسانه عما لا يحلّ له. ويعفّ يده عن الكسب الحرام استعجالاً للزواج والتهيئ له. والخطاب عامّ للرجل والمرأة وقوله تعالى: {وليستعفف} فيه لطيفة بيانية؛ فهذا الأمر فيه ثلاثة ألفاظ: - ليعفّ - ليستعفّ - ليستعفف. وقد قرأ جميع القراء بفكّ الإدغام {وليستعفف} وهي أخفّ درجات هذا الأمر، ولم يقل "ليعفّوا" تيسيراً عليهم؛ فتعلق الوعد بسعي العبد إلى نيل العفة لا بتحقيقها؛ فالمرء قد يسعى لتحقيق العفة فيزلّ، ثم يتوب ويعاود السعي إلى تحقيقها مرة أخرى، ولا يخرج بذلك عن كونه ساعياً إلى تحقيق العفة بهذا الاستعفاف. ولذلك فإن الاستعفاف أمر يتطلب صبراً ومجاهدة حتى تعتاده النفس ويكون خلقاً لها، ومن وقع في خطأ فليستعفف. وللراغبين في الزواج مقاصد مختلفة تتعلق بها بعض النفوس وتظنّ السعادة فيها؛ فجاء الوعد بما هو أوسع من ذلك كلّه، وليقابل سعة معاني الاستعفاف {حتى يغنيهم الله من فضله} فما تريده النفس فستنال بالاستعفاف ما هو أفضل منه بمقتضى هذا الوعد الرباني الكريم. و"حتى" في قوله تعالى: {حتى يغنيهم الله من فضله} جامعة لمعنيين جمعاً بديعاً: أحدهما: التعليل، أي: استعفوا ليغنيكم الله من فضله، وهذا كما يقال: أسلم حتى تدخل الجنة، وقم حتى أكلمك. والآخر: الغاية، أي: استعفوا إلى أن يغنيكم الله من فضله. ولا ينبغي لعبد أن يستطيل مدة الانتظار؛ فالله تعالى هو الذي قدّرها لحكم بيّنها في موضع آخر فقال تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهّركم وليتمّ نعمته عليكم لعلكم تشكرون} وكثيراً ما تُسبق النعم الخاصة بابتلاء لتتطهر النفوس من علل وأدواء قد تخفى عليها ولتستقبل تلك النعم بقلوب طاهرة. ومتى حصلت طهارة القلوب فاعلم أنّ الفرج قريب، وأنّ الوعد قد تحقق أو أوشك. وقوله تعالى: {حتى يغنيهم الله من فضله} ليس كما يُظنّ أنه كناية عن النكاح، بل المعنى أوسع وأعظم ، وهو غنى حقيقي تنعم به النفس المؤمنة وتحيا به حياة طيبة، فقد يكون الخير للعبد في تيسير زواجه، وقد يريد الله له ما هو أفضل وأرفع من ذلك؛ فلا تقصر نظرك على مطلوب دنيوي لا تعلم عاقبة حصوله، وثق بمن وعدك بما يتحقق لك به كفاية حاجتك بل الاستغناء الحقيقي. وإنما طُوي ذكر الموعود ليتعلّق القلب بالواعد لا الموعود، فيطمئنّ القلب وتسمو النفس وتقرّ العين. وقد عُلم أنّ الجزاء من جنس العمل؛ فمن استعفّ فكفّ نفسه عما حرّم الله نال الغنى الحقيقي بفضل الله، وتلك سنّة لا تنخرم، ولكن النفس البشرية قد تستعجل بعض اللذة فتنالها من غير حلّها فيدخل عليها بما جنت شقاء قد يطول ويعظم، وما يعفو الله عنه أكثر، ويتوب الله على من تاب. ومن استعفّ من المؤمنين والمؤمنات فهم من الطيبين والطيبات {أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم} وهذه ثلاث بشارات عظيمات: الأولى: ولاية الله لهم ودفاعه عنهم. والثانية: مغفرة ذنوبهم. والثالثة: الرزق الكريم الذي تُسرّ به النفس، وتقرّ به العين، ففي الدنيا حياة طيبة، وفي الآخرة جنات الخلود. ومما يدخل في الاستعفاف السعي في بذل الأسباب المشروعة للزواج، لأنه سعي في نيل ما تعفّ به النفس، وهو من تمام التوكّل وداخل في ما يتحقق به الوعد. أختم بهذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
الساعة الآن 01:59 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir