معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد

معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد (http://afaqattaiseer.net/vb/index.php)
-   الإكسير في علم التفسير (http://afaqattaiseer.net/vb/forumdisplay.php?f=272)
-   -   بيان العلوم التي اشتمل القرآن عليها (http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=12304)

محمد أبو زيد 23 محرم 1432هـ/29-12-2010م 08:24 PM

بيان العلوم التي اشتمل القرآن عليها
 

القسم الثاني
في بيان العلوم التي اشتمل القرآن عليها

[الإكسير في علم التفسير: 45]

القسم الثاني
في بيان العلوم التي اشتمل القرآن عليها، وينبغي للمفسر النظر فيها، وصرف العناية فنقول:
أولاً: اعلم أن العلم من حيث هو علم، يمكن تقسيمه باعتبارين:
أحدهما: جهة مادته، فيقال: هو إما عقلي محض، كالحساب، والهيئة، والنجوم، والهندسة، والطب، وسائر الرياضيات، أو نقلي محض، كالقرآن والحديث، والتفسير، وأحكام النحو، ومفردات اللغة.... أو مركب منهما كالفقه، وأصوله. ذكر هذه القسمة الغزالي وغيره، وليست حاصرة، لأنها لا تشمل المحسات، ولا الوجدانيات.
والثاني: جهة غايته ومقصوده، فيقال هو إما ديني، أو بدني، أو معاشي: ما متعلقه وموضوعه الدين على الجملة، أما على التفصيل فمتعلقه، إما على العقائد، وهو: أصول الدين، وإما الأفعال، أعني: أفعال المكلفين، وهو: الفقه، وإما أدلة الفقه وطرقه، وهو أصول الفقه، وهو واسطة بين العلمين الأولين، يستمد من الأول ويمد الثاني.
وأما علم النحو، والتصريف، واللغة، فمواد لهذا العلم، وعلم الخلاف ونحوه من نتائجه.
[الإكسير في علم التفسير: 47]
وفائدة العلم الديني: التوصل به إلى السلامة والغنيمة في الآخرة.
والبدني: ما متعلقه البدن، وهو: الطب. وينقسم إلى علم، وعمل. ومادته البحث عن أحكام العناصر الأربعة. وفائدته: حفظ صحة موجودة، أو رد صحة مفقودة.
والمعاشي: ما متعلقه تدبير المعاش: كعلم الحساب المتوصل به إلى قسمة البيادر، والمساحات، واستيفاء الخراجات، وكالعلم بسائر الصناعات، وسياسة التجارات، وما تحتاج إليه من التصرفات. والدليل على أن هذا يسمى علمًا أن قارون قال: {إنما أُتيتُهُ على علمٍ عندي} أي بأسباب تنمية المال بالتجارة والمعاش، وخبرتي بالتصرف فيه، وقيل: أراد على علم عندي بعمل الكيمياء فإن صح هذا فكأن الكيمياء وجود، وهو أيضًا من قبيل العلم المعاشي.
أما علم القرآن فهو: إما لفظي، وإما معنوي أي: متعلق بلفظه، أو معناه، فكل منهما على أنواع:
أما أنواع اللفظي، فمنها:
علم الغريب: وهو معرفة مفردات اللغة، كالقسورة، والهَلُوع، والكنود، والهُمزة، واللُمزة، في الأسماء.
[الإكسير في علم التفسير: 48]
ونحو: وسق. وعسعس في الأفعال.
ومنها، علم التصريف، وهو: ما يعرض للكلمة من حيث تنقلها في الأزمنة، نحو: ضرب يضرب ضربًا.
أو من جهة الزيادة فيها، نحو: اضطرب.
أو القلب، نحو: ميقات، وميعاد، وموقن، وموسر، وآدم، وأُخر.
أو البدل، أو الإدغام، نحو: شد، ومد.
ومنها علم الإعراب، وهو: معرفة ما يعرض لأواخر الكلم من حركة، أو سكون، كألقاب الإعراب، والبناء.
وإنما رتبنا هذه العلوم الثلاثة هذا الترتيب، لأن مفردات اللغة إذا وردت، نظر حينئذ في تعريفها، لأنه عرض عام لاحق لها حال إفرادها وتركيبها، ثم في إعرابها، لأنه عرض خاص، لاحق بأواخرها فقط حال تركيبها.
ومنها معرفة القراءات المنقولة عن الأئمة السبعة، ورواتهم، وما يلحق بها: من شاذ فصيح، أو متوجه.
وأما أنواع المعنوي، فمنها:
الوجودي: المتعلق بالموجودات، كالتنبيه على النظر في السموات، والأرض، وما فيهما من الأفلاك، والنجوم، وحركاتها، والدواب والمعادن وكيفية امتزاجاتها، والجبال والبحار، ونموهما، وما بينهما من السحاب ونحوه من الكائنات العلوية، والعناصر الأربعة: النار، والهواء، والماء، والأرض، وقد ساق الله تعالى ذكرها في
[الإكسير في علم التفسير: 49]
قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ}، {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ. أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ}. والزرع إنما يخرج من الأرض، ويقوم في الهواء، ثم قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ}.
فكمل ذكر الأربعة، لكن اثنين منها مطابقة، وهما: الماء، والنار. واثنين التزما، وهما: الأرض، والهواء.
وهذا العلم، أعني: علم الوجود، والموجودات، هو موضوع نظر الفلاسفة وهو الذي اصطلحوا على تسميته بعلم الحكمة.
ومنها الاعتقادي، وهو: علم الاعتقاد، المسمى: بأصول الدين. وموضوعه: البحث عن أحكام الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين، وعن هذه الأقسام تتفرع مسائله.
ومنها التاريخي، وهو: معرفة تاريخ القرون الماضية، والأمم الخالية، وقصصهم، كقصة آدم في خلقه، وسجود الملائكة له، وإهباطه إلى الأرض، وقصة قابيل في قتله هابيل، وقصة إدريس: في رفعه مكانًا عليًا، وقصة نوح وقومه، وعاد، وثمود، وإبراهيم، ولوط، ويوسف، وموسى، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، ويونس، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من وقائع بني إسرائيل وغيرها.
ومنها الوعظي، وهو: المذكور لترقيق القلوب، وإقبالها بكليتها على طاعة علام الغيوب، وصرفها إلى الرب عن المربوب، والترغيب عن الدنيا، وفي الآخرة، وتحذير العباد في يوم التغابن من الصفقة الخاسرة، وذلك مثل قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا}، {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} الآيات، ونحوها، من المرققات الوعديات، والوعيديات وقد قال الله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
[الإكسير في علم التفسير: 50]
وَعِظْهُمْ}. وقال {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} ويصلح هذا متمسكًا للوعاظ على شرف علمهم ويؤكده فعل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أممهم، والسلف الصالح في عصرهم، إلا أن وعظ أولئك كان خاليًا من التكلف، فهم لا يتكلفون فيه، فيكسبه التكلف غثاثة، وركاكة، ولعل المفسدة في وعظ بعضهم أرجح من مصلحته، لما يهيج لسامعه من الأغراض الخبيثة التي تنسيه الله، والدار الآخرة خصوصا إن كان الواعظ لم يعرض له عارض، وهذا شيء جرب وصح، والله أعلم.
ومنها: علم التناسخ والمنسوخ.
ومنها: أصول الفقه، إذ قد دل، أي: القرآن، على غالب نكته، لقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}. وقوله تعالى: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} على وجوب القياس وصحته، وأنه دليل معتمد، كقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا}، {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} على جواز النسخ ووقوعه، وقوله تعالى: ‏{أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة} على جواز النسخ لا إلى بدل، وقوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} على نسخ الأثقل إلى الأخف، وكقوله
[الإكسير في علم التفسير: 51]
تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ}، {و إِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ}. على أن الأمر للوجوب، وكتأخير بيان بقرة بني إسرائيل عن وقت الأمر بذبحها على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} على جواز تأخيره إلى وقت الحاجة، ونحو ذلك مما يطول استقراؤه.
ومنها: علم الفقه، وهو لكثرته في القرآن غني عن إيراد الأمثلة له.
ومنها: علم المعاني والبيان، والقسم الثالث موضوع له، وسيأتي إن شاء الله.
واعلم أن القرآن بحر لا تُستوفى مطالبه، ولا تنقضي عجائبه، كما جاء في الخبر، ولهذا غالب طوائف العلماء يتمسكون على دعواتهم بشبه.
فهؤلاء أصحاب صناعة الكيمياء يتمسكون على صحتها منه بقوله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء} إلى قوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} يشيرون إلى أن معناه: أن في الغثاء ما إذا خالط المعادن الممتزجة سطا عليها بطبعه، فميز الإكسير النافع منها وأفرده عن المزاج الزبدي الذي لا نفع فيه، أو إلى أنه بالوقيد والتقصية يحصل ذلك. ولا شك أن اللفظ يحتمل احتمالاً ما ذكروه، إلا أنه ليس مرادًا منه باتفاق المفسرين، وإنما هو مثل ضربه الله تعالى للإيمان والكفر،
[الإكسير في علم التفسير: 52]
والحق والباطل، وشبهه بماء الغيث - الذي تجري به الأودية فيحمل الغثاء، وهو: ما تحمله من عود أو شجر أو غيره - ولذلك فالغثاء، وهو: الزبد، يذهب جفاء: أي يلقى مطرحًا، وينتفع بالماء بما يُنبت من الكلأ، ويروى من الظمأ، وبالمعادن كالحديد والصفر والنحاس إذا عولجت بالنار، فإنها تذهب خبثها، وما لا ينتفع منها، ويبقى الجوهر الصافي ينتفع به، باتخاذه حلية أو متاعًا. وذكر بعض المفسرين أن معنى قوله تعالى: {فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} أن المعادن تقذف زبدها فتلقيه، ويبقى خالصها، مستترة في مستقر من الأرض، وهذا موافق لقول الكيميائيين.
وهؤلاء الناسخة يحتمون لمذهبهم في التناسخ بقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أي كانوا بشرًا مثلكم ثم نسخت أرواحهم في أجسام الدواب والطيور، بدليل قوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}، {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} وبقوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} لكنه احتجاج ضعيف يرده المعقول والمنقول، وهؤلاء المتصوفة، وأصحاب الرياضيات والمجاهدات يحتجون على ثبوت العلم اللدني بقوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} ويقولون: إن الإنسان إذا راض نفسه بالعبادة وقلة الغذاء، استعدت لقبول الفيض الإلهي، فيفيض عليها منه علم تدرك به حقائق بعض الغائبات، كالمرآة إذا جليت أشرقت، واستعدت لحكاية صور المقابلات، إلا أن هذه دعوى صحيحة، ومتمسك صحيح، لا وجه للنزاع فيها بعد تحقيق وقوع ذلك كثيرًا من صالحي هذه الأمة وغيرها، ويكفي من ذلك قصة الخضر عليه السلام، قال بشر بن الحارث الحافي رحمه الله: الجوع ينور القلب، ويكسر شره النفس، ويورث العلم الدقيق. والظاهر أنه أشار إلى هذا.
[الإكسير في علم التفسير: 53]
وقال بعض الحكماء: البِطنةُ تُذهب الفِطنة فمفهومه عكسه، ووفق ما سبق وحكى لي بعض أصحابنا البغداديين السالكين آثار القوم، قال:
كنت ذات ليلة مضطجعًا في بيت مظلم، وأنا أفكر في كيفية إدراك الكاشفين للغائبات. فبينما أنا كذلك، إذ رأيت دائرة نور في سقف البيت فجعلت أنظر بها إلى جميع ما في البيت فأحسه. قال: وسمعت هاتفًا يقول، أو قال: -وقع في روعي- (هكذا يكون).
وقد صنف الغزالي رحمه الله جزءًا حسنًا في العلم اللدني، وبين فيه شروط حصوله، وكيفية فيضانه، والله أعلم.
ونحن إنما ذكرنا العلوم التي ينبغي للمفسر الاعتناء ببيانها، وغالب التفاسير المتأخرة يقتصر من هذه العلوم على اللفظي. ومن المعنوي على الأقاصيص والفقه، ويتفاوت بعضها على بعض في هذه العلوم قلة وكثرة.
ومنهم من يقتصر على الأحاديث المتعلقة بأسباب النزول والتفسير ونحوها من النقليات: كعبيد بن حميد، وعبد الرزاق ونحوهما من مفسري المتقدمين.
ومنهم من يقتصر على الأحكام اللغوية من إعراب وتصريف ونحوهما، وشيء من علم المعاني، كالزجاج، والفراء، والزمخشري.
ومنهم من استوفى كثيرًا من علومه، كابن الجوزي، والرشغتي.
[الإكسير في علم التفسير: 54]
وأجمع ما رأيته من التفاسير لغالب علم التفسير كتاب القرطبي، وكتاب مفاتح الغيب ولعمري كم فيه من زلة وعيب. وحكى لي الشيخ شرف الدين اليصني المالكي أن شيخه الإمام الفاضل سراج الدين المغربي السرمساحي المالكي صنف كتاب (المآخذ على مفاتح الغيب) وبين ما فيه من البهرج والزيف في نحو مجلدين، وكان ينقم عليه كثيرًا خصوصًا إيراده شبه المخالفين في المذهب والدين، على غاية ما يكون من القوة، وإيراد جواب أهل الحق منها على غاية ما يكون من الدهاء.
ولعمري إن هذا لدأبه في غالب كتبه الكلامية والحكمية، كالأربعين، والمحصل، والنهاية، والمعالم، والمباحث المشرقية، ونحوها. وبعض الناس يتهمه في هذا وينسبه إلى أنه ينصر بهذا الطريق ما يعتقده ولا يجسر على التصريح به.
ولعمري إن هذا ممكن، لكنه خلاف ظاهر حاله، فإنه ما كان يخاف من قول يذهب إليه، أو اختيار ينصره، ولهذا تناقضت آراؤه في سائر كتبه وإنما سببه عندي، أنه كان شديد الاشتياق إلى الوقوف على الحق، كما صرح به في وصيته التي أملاها عند موته، فلهذا كان يستفرغ وسعه، ويكد قريحته في تقرير شبه الخصوم، حتى لا يبقى لهم بعد ذلك مقال، فتضعف قريحته عن جوابها على الوجه، لاستفراغه قوتها في تقرير الشبه، ونحن نعلم بالنفسية الوجدانية، أن أحدنا إذا استفرغ قوة بدنه في شغل ما من الأشغال، ضعف عن شغل آخر، وقوى النفس على وزان قوى البدن غالبًا. وقد ذكر في مقدمة كتاب (نهاية العقول) ما يدل على صحة ما أقول، لأنه التزم فيه أن يقرر مذهب كل خصم، لو أراد ذلك الخصم تقريره، لما أمكنه الزيادة عليه أو أوفى بذلك. ولهذا السبب قرر في كتاب الأربعين أدلة القائلين بالجهة، ثم أراد الجواب عنها، فما تمكن منه على الوجه، فغالط فيه في موضعين قبيحين، ذكرهما في مواضع كثيرة، والله أعلم.
[الإكسير في علم التفسير: 55]
تنبيهان:
أحدهما: قد ذكرنا أن أقسام العلم وأنواعه متعددة متكثرة، وذلك ظاهر في أن حقيقة العلم يلحقها التعدد والتكثر، والذي يجب اعتقاده أن ذلك لا يلحقها، بل هي ماهية واحدة تتصف النفس بها، ولهذا عُرف العلم بأنه صفة توجب تميزًا، وإنما التعدد والتكثر في متعلقه، وهو المعلوم، ثم يطلق عليه اسم العلم مجازًا، إطلاقًا لاسم المتعلق -بكسر اللام- على المتعلق –بفتحها- وكذلك استعملناه في التقسيم، وممن حكي عنه هذا المعنى سيبويه.
الثاني: أننا ذكرنا أن علم القرآن، وكذا غيره، إما متعلق باللفظ أو المعنى، والمراد: أن بعضه يتعلق بالمعنى بواسطة اللفظ، وبعضه يتعلق به من غير واسطة، لا أن بعضه يتعلق باللفظ لذاته، لما ثبت من أن الألفاظ آلة يتوصل بها إلى المعاني التي هي الأغراض، وأنها خدم لها، فالمقصود لذاته إنما هو المعنى، فبهذا الاعتبار جميع العلوم معنوية.
وإنما يتجه انقسامها إلى لفظي ومعنوي بالاعتبار الذي ذكرناه من الواسطة وعدمها، ويدل على أن الألفاظ غير مقصودة لذاتها وجوه:
الأول: أن العرب متى فهمت المعنى بدون اللفظ، حذفته وجوبًا، نحو: جواب لولا، وفي نحو ضربي زيدًا قائمًا، وأخطب ما يكون الأمير جالسًا، وكحذف الخبر تارة، والمبتدأ أخرى، والجملة، نحو: نعم، جوابًا لمن قال: أقام زيد؟ أو أعندك عمرو؟
الثاني: أن من نطق بألفاظ لا معنى تحتها، عد هاذيًا لا متكلمًا. ولو أفاد معنى بدون اللفظ، كالإشارة والرمز، لعد متكلمًا عرفًا، وحيث دار القصد مع المعنى وجودًا وعدمًا، دل على أنه المقصود لذاته لا الألفاظ.
الثالث: أننا نتصرف في الكلام بالحذف والتقدير، لتصحيح المعنى. فتقدر الجملة
[الإكسير في علم التفسير: 56]
في المفرد نحو: زيد قام، أي: قائم، والجار والمجرور بمفرد منصوب على المفعول، نحو: مررت بزيد، أي: لابسته، أو جاوزته، ويرد المحذوف، لتكميل معنى اللفظ الناقص، نحو: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} وذلك دليل على أن المقصود المعنى لا اللفظ، وإنما جيء باللفظ ضرورة للتخاطب، وما ثبت للضرورة يقدر بقدرها وهي قاعدة مطردة شرعًا، كأكل الميتة للمضطر. ولغة، كأحد أدلة أبي حنيفة، على أن الاستثناء المتعقب جملاً يتعلق بالأخيرة، وتقريره: أن تعلق الاستثناء بما قبله لضرورة أنه تابع لا يستقل بنفسه، وتعلقه بالجملة الأخيرة يزيل الضرورة، فلا حاجه إلى تعليقه بغيرها، والله أعلم.
[الإكسير في علم التفسير: 57]


الساعة الآن 12:09 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir