معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد

معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد (http://afaqattaiseer.net/vb/index.php)
-   ألفية العراقي (http://afaqattaiseer.net/vb/forumdisplay.php?f=23)
-   -   خطبة الناظم (http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=1236)

عبد العزيز الداخل 16 ذو القعدة 1429هـ/14-11-2008م 04:32 PM

خطبة الناظم
 
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ

يقولُ راجِي ربِّهِ الْمُقْتَدِرِ = عبدُ الرَّحيمِ بنُ الْحُسينِ الأَثَرِي
مِن بعْدِ حَمْدِ اللهِ ذِي الآلاَءِ = على امتنانٍ جَلَّ عن إحصاءِ
ثُمَّ صَلاةٍ وسَلامٍ دائمِ = على نَبِيِّ الْخَيْرِ ذِي الْمَرَاحِمِ
فهذه الْمَقاصِدُ الْمُهِمَّهْ = تُوضِحُ مِن علْمِ الحديثِ رَسْمَهْ
(5) نَظَمْتُها تَبْصِرَةً للمُبْتَدِي = تَذكرةً للمُنْتَهِي والْمُسْندِ
لَخَّصْتُ فيها ابنَ الصَّلاحِ أَجْمَعَهْ = وزِدْتُها علْماً تَراهُ مَوْضِعَهْ
فحيثُ جاءَ الفعْلُ والضميرُ = لوَاحِدٍ ومَن له مَستورُ
كقالَ أو أطْلَقْتُ لفْظَ الشيخِ ما = أُريدُ إلاَّ ابنَ الصلاحِ مُبْهَمَا
وإنْ يَكُنْ لاثْنَيْنِ نحوَ التَزَمَا = فمسلِمٌ مع البخاريِّ هُمَا
(10) واللهَ أَرْجُو في أُمُورِي كُلِّها = معْتَصِمًا في صَعْبِها وسَهْلِها

مسلمة 12 26 ذو الحجة 1429هـ/24-12-2008م 02:25 PM

فتح الباقي لأبي زكريا الأنصاري
 
قالَ المؤلِّفُ:
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ أيْ: أُؤَلِّفُ. والاسمُ مُشْتَقٌّ مِن السُّمُوِّ بضَمِّ السينِ وكَسْرِها وهو العُلُوُّ. وقيلَ: مِن الوَسْمِ وهو العَلاَمَةُ.
واللهِ: عَلَمٌ على الذاتِ الواجِبِ الوُجودِ، المستَجْمِعِ لِجِميعِ الْمَحامِدِ.
والرحمنِ والرحيمِ: صِفتانِ مُشْتَقَّتَانِ بُنِيَتَا للمُبالَغَةِ مِن رَحِمَ؛ كغَضبانَ مِن غَضِبَ.
والرحمةُ لغةً: رِقَّةُ القلْبِ. وهي كَيفيَّةٌ نَفسانيَّةٌ تَستحيلُ في حَقِّ اللهِ تعالى، فتُحمَلُ على غايتِها وهي الإنعامُ، فتكونُ صِفةَ فِعْلٍ، أو الإرادةِ فتكونُ صفةَ ذاتٍ.
والرحمنُ أبْلَغُ مِن الرحيمِ؛ لأنَّ زِيادةَ البِناءِ تَدُلُّ على زيادةِ المعنى؛ كما في (قَطَعَ) و(قَطَّعَ).

يقولُ راجِي ربِّهِ الْمُقْتَدِرِ = عبدُ الرَّحيمِ بنُ الْحُسينِ الأَثَرِي
مِن بعْدِ حَمْدِ اللهِ ذِي الآلاَءِ = على امتنانٍ جَلَّ عن إحصاءِ
ثُمَّ صَلاةٍ وسَلامٍ دائمِ = على نَبِيِّ الْخَيْرِ ذِي الْمَرَاحِمِ
(يقولُ راجِي رَبِّهِ) أيْ: مُؤَمِّلُ عَفْوِ مالِكِه (الْمُقْتَدِرِ) أيْ: تامِّ القُدرَةِ على ما يُريدُ.
قالَ الناظِمُ في (شَرْحِه الكبيرِ): والمقتَدِرُ مِن أسماءِ الجلالِ والعَظمةِ.
قالَ: وكانَ المناسِبُ لراجِي رَبِّه أنْ يَذْكُرَ بدَلَه اسْمًا مِن أسماءِ الرأفةِ والرحمةِ، لكنَّ الذي ذَكَرَه أبْلَغُ في قُوَّةِ الرجاءِ؛ إذْ وُجودُه مع استحضارِ صِفاتِ الجلالِ أدَلُّ على وُجودِه مع استحضارِ صِفاتِ الجمالِ.
(عبدُ الرَّحيمِ) عطْفُ بيانٍ على رَاجِي، أو بَدَلٌ منه، أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ (ابنُ الحسينِ الأَثَرِي) بفتْحِ الهمزةِ والْمُثَلَّثَةِ؛ نِسبةً إلى (الأثَرِ) وهو الأحاديثُ مَرفوعةً أو مَوقوفةً، وإنْ قَصَرَه بعضُ الفُقهاءِ على الموقوفةِ.
(مِن بعدِ حَمْدِ اللهِ) الشامِلِ للبَسمَلَةِ والْحَمْدَلَةِ، فالمرادُ بعدَ ذكْرِ اللهِ، وكُلٌّ منهما ذِكْرٌ لِلَّهِ، فيكونُ قد ابْتَدَأَ بهما اقتداءً بالكتابِ العزيزِ، وعَمَلاً بخبرِ: ((كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِـ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" فَهُوَ أَقْطَعُ)).
وفي روايةٍ: ((بِالْحَمْدُ لِلَّهِ))، وفي روايةٍ: ((بِذِكْرِ اللهِ)). رواه أبو داودَ وغيرُه، وحَسَّنَه ابنُ الصلاحِ وغيرُه.
والحمدُ لغةً: الثناءُ باللسانِ على الجميلِ الاختياريِّ على جِهةِ التبجيلِ والتعظيمِ؛ سواءٌ أَتَعَلَّقَ بالفضائلِ أمْ بالفواضِلِ.
وعُرْفًا: فعْلٌ يُنْبِئُ عن تعظيمِ المنْعِمِ مِن حيثُ إنه مُنْعِمٌ على الحامِدِ أو غيرِه.
وقد بَسَطْتُ الكلامَ عليه، وعلى الشكْرِ والْمَدْحِ في (شرْحِ البهجةِ).
(ذيِ الآلاءِ) أيْ: صاحِبِ النِّعَمِ. وفي مُفْرَدِها لُغاتٌ: أَلَى بفَتْحِ الهمزةِ وكَسْرِها مع التنوينِ وعَدَمِه فيهما، وألْى بتَثليثِ الهمزةِ مع سُكونِ اللامِ والتنوينِ، وأَشْهَرُها الأَلَى بوَزْنِ رَحَى.
(على امتنانٍ) منه تعالى عَلَيَّ. مأخوذٌ مِن الْمِنَّةِ، وهي النِّعْمَةُ وقيلَ: النِّعْمَةُ الثَّقيلةُ.
وتُطْلَقُ الْمِنَّةُ على تعديدِ النِّعَمِ بأنْ يقولَ الْمُنْعِمُ لِمَن أنْعَمَ عليه: فعَلْتُ معكَ كذا وكذا.
وهو في حَقِّ اللهِ - تعالى - صحيحٌ، وفي حَقِّ العبْدِ قَبيحٌ؛ لقولِه تعالى: {لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}.
وتنكيرُ (امتنانٍ) للتكثيرِ والتعظيمِ؛ أي: امْتِنَانَاتٍ كثيرةٍ عظيمةٍ، منها: الإلهامُ لتأليفِ هذا الكتابِ والإقدارُ عليه.
و(على) صِلَةُ حَمْدِ. وإنما حَمِدَ على الامتنانِ، أيْ: في مُقابَلَتِه لا مُطْلَقًا؛ لأنَّ الأوَّلَ واجبٌ، والثاني مَندوبٌ.
ووَصَفَ الامتنانَ بما هو شَأْنُه فقالَ: (جَلَّ) أيْ: عَظُمَ (عن إحصاءِ) أيْ: ضَبْطٍ بالْعَدِّ {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا}.
(ثم) بعدَ (صَلاةٍ) وهي مِن اللهِ رحمةٌ، ومِن الملائكةِ استغفارٌ، ومِن الآدَمِيِّ تَضَرُّعٌ ودُعاءٌ (وسَلامٍ) أيْ: تسليمٍ (دائم) كلٌّ منهما (على نَبِيِّ الخيرِ) الجامِعِ لكلِّ محمودٍ دُنْيَوِيٍّ وأُخْرَوِيٍّ (ذي الْمَرَاحِمِ) جَمْعِ مَرحمةٍ؛ وهي بمعنى الرَّحْمَةِ.
ففي خَبَرِ مُسْلِمٍ: ((أَنَا نَبِيُّ الْمَرْحَمَةِ)). وفي روايةٍ: ((الرَّحْمَةِ)) وفي روايةٍ: ((الْمَلْحَمَةِ)). وهي الْمَعركةُ، والمرادُ بها القِتالُ.
والنبيُّ إنسانٌ أُوحِيَ إليه بشَرْعٍ وإنْ لم يُؤْمَرْ بتَبليغِه، فإنْ أُمِرَ به فرسولٌ أيضًا، فالنبيُّ أعَمُّ مِن الرسولِ.
وقالَ: نَبِيِّ دونَ الرسولِ؛ لأنه أعَمُّ معنًى واستعمالاً، وللتعبيرِ به في خبرِ: ((أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ)) الدالِّ على وَصْفِهِ بها.
ولَفْظُه بالهمزِ مِن النبأِ أي: الخبرِ؛ لأنَّ النبيَّ مُخْبِرٌ عن اللهِ تعالى، وبلا هَمْزٍ وهو الأَكْثَرُ.
قيلَ: إنه مُخَفَّفُ المهموزِ بقَلْبِ هَمزتِه ياءً.
وقيلَ: إنه الأصْلُ مِن النَّبْوَةِ- بفَتْحِ النونِ وإسكانِ الباءِ - أيِ: الرِّفْعَةِ؛ لأنَّ النبيَّ مرفوعُ الرُّتْبَةِ على سائرِ الْخَلْقِ.
فهذه الْمَقاصِدُ الْمُهِمَّهْ تُوَضِحُ مِن علْمِ الحديثِ رَسْمَهْ
نَظَمْتُها تَبْصِرَةً للمُبْتَدِي وَتَذْكِرَهْ للمُنْتَهِي والْمُسْنِدِ
لَخَّصْتُ فيها ابنَ الصَّلاحِ أَجْمَعَهْ وزِدْتُها علْماً تَراهُ مَوْضِعَهْ
ثم بَيَّنَ مَقولَ القوْلِ مُنَبِّهًا على ما حَذَفَه منه بفَاءِ الجزاءِ بقولِه: (فهذه) أيْ: يَقولُ بعدَ ما ذَكَرَ أمَّا بعدُ: فهذه (الْمَقاصِدُ) أيِ: الموجودةُ في كتابِ ابنِ الصلاحِ (الْمُهِمَّه) أيِ: التي يُهْتَمُّ بها (تُوَضِحُ) أيْ: تُبَيِّنُ لك (مِن عِلْمِ الحديثِ رَسْمَه) أيْ: أَثَرَه الذي تُبْنَى عليه أُصولُه؛ يَعنِي ما خَفِيَ عليكَ منه.
ومنه: رَسْمُ الدارِ؛ وهو ما كان مِن آثارِها لاصِقًا بالأرْضِ.
وعَبَّرَ - كما قالَ - بالرسْمِ هنا إشارةً إلى دُروسِ كثيرٍ مِن هذا العلْمِ، وإنْ بَقِيَتْ منه آثارٌ يُهتدَى بها ويُبْنَى عليها.
والحديثُ - ويُرادِفُه الخبرُ - على الصحيحِ: ما أُضيفَ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ - قيلَ: أو إلى صَحَابِيٍّ، أو إلى مَن دُونَه - قولاً، أو فِعْلاً، أو تقريرًا، أو صِفَةً.
ويُعَبَّرُ عن هذا بعِلْمِ الحديثِ رِوايةً، ويُحَدُّ بأنه: عِلْمٌ يَشتمِلُ على نقْلِ ذلك.
وموضوعُه: ذاتُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ مِن حيثُ إنه نَبِيٌّ.
وغايتُه: الفَوْزُ بسعادةِ الدَّارَيْنِ.
وأمَّا علْمُ الحديثِ دِرايةً - وهو المرادُ عندَ الإطلاقِ كما في النَّظْمِ - فهو: علْمٌ يُعْرَفُ به حالُ الراوِي والْمَرْوِيِّ مِن حيثُ القَبولُ والردُّ.
وموضوعُه: الراوي والْمَرْوِيُّ مِن حيثُ ذلك.
وغايتُه: مَعْرِفَةُ ما يُقْبَلُ وما يُرَدُّ مِن ذلك.
ومَسائِلُه: ما يُذْكَرُ في كُتُبِه مِن الْمَقاصِدِ.
(نَظَمْتُها) أيِ: المقاصِدَ؛ أيْ: جَمَعْتُها على بَحْرٍ يُسَمَّى ببَحْرِ الرجَزِ، ووَزْنُه: مُسْتَفْعِلُنْ سِتَّ مَرَّاتٍ.
(تَبْصِرَةً للمُبْتَدِي) - بتَرْكِ الهمزةِ - يَتَبَصَّرُ بها ما لم يَعْلَمْه (وتذكره للمُنْتَهِي) يَتذكَّرُ بها ما عَلِمَه وغَفَلَ عنه.
(و) للراوِي (المسنِدِ) بكسْرِ النونِ، الذي اعْتَنَى بالإسنادِ خاصَّةً يَتبصَّرُ أو يَتذَكَّرُ بها كَيفيَّةَ التحَمُّلِ والأداءِ ومُتَعَلَّقَاتِهما.
والْمُبتدِي: مَن حَصَّلَ شَيْئًا ما مِن الفَنِّ.
والمنتهِي: مَن حَصَّلَ منه أكْثَرَه وصَلَحَ لإفادتِه.
والمتوَسِّطُ مفهومٌ بالأَوْلَى فلا يَخْرُجُ عنهما؛ لأنه بالنِّسبةِ لِمَا أَتْقَنَه مُنْتَهٍ، ولِمَا لم يُتْقِنْهُ مُبْتَدٍ.
ويُقالُ: مَن شَرَعَ في فَنٍّ فإنْ لم يَسْتَقِلَّ بتَصَوُّرِ مَسائلِه فمُبْتَدٍ، وإلاَّ فمُنْتَهٍ إنِ اسْتَحْضَرَ غالِبَ أحكامِه وأَمْكَنَه الاستدلالُ عليها، وإلاَّ فمُتَوَسِّطٌ.
وأشارَ بـ(التبصرةِ والتَّذْكِرَةِ) إلى اسمِ مَنظومتِه.
(لَخَّصْتُ فيها) عُثمانَ أبا عَمْرٍو (بنَ الصلاحِ) أيْ: مَقاصِدَ كتابِه (أَجْمَعَهْ).
فلا يُنافِي ذلك حَذْفَ كثيرٍ مِن أمْثِلَتِه، وتعالِيلِه، ونِسبةِ أقوالٍ لقائلِيها وما تَكَرَّرَ فيه.
(و) مع تَلخيصِي مَقاصِدَه فيها (زِدْتُها عِلْمًا تَرَاه) أيِ: الزائدَ (مَوْضِعَهْ) متَمَيِّزًا أوَّلُ كثيرٍ منه بـ (قُلتُ)، أو بدُونِه كأنْ يكونَ حِكايةً عن متَأَخِّرٍ عن ابنِ الصلاحِ، أو تَعَقُّبًا لكلامِه برَدٍّ أو نحوِه، أو إيضاحًا له وما لم يَتَمَيَّزْ سأُمَيِّزُه في مَحَالِّهِ.
فحيثُ جاءَ الفعْلُ والضميرُ لوَاحِدٍ ومَن له مَستورُ
كقالَ أو أطْلَقْتُ لفْظَ الشيخِ ما أُريدُ إلاَّ ابنَ الصلاحِ مُبْهَمَا
وإنْ يَكُنْ لاثْنَيْنِ نحوُ التَزَمَا فمسلِمٌ مع البخاريِّ هُمَا
واللهَ أَرْجُو في أُمُورِي كُلِّها معْتَصَمًا في صَعْبِها وسَهْلِها
وقد اصْطَلَحَ على شيءٍ للاختصارِ في نَظْمِه، فبَيَّنَه بقولِه:
(فحيثُ جاءَ الفعْلُ والضميرُ) أيْ: أحَدُهما (لواحِدٍ) فقط (ومَن له) أيِ: الفعْلُ أو الضميرُ (مَستورُ) أيْ: غيرُ مذكورٍ (كقالَ)، وله (أو أَطْلَقْتُ لفْظَ الشيخِ، ما أُريدُ) بكُلٍّ مِن ذلك (إلاَّ ابنَ الصلاحِ مُبْهَمَا) بتلك الألفاظِ.
بفَتْحِ الـهاء حالٌ مِن مفعولِ (أُريدُ)، وبكَسْرِها حالٌ مِن فاعِلِه، مع أنَّ هذا يُغنِي عنه إطلاقُ تلك الألفاظِ، إذ الْمُتَبَادَرُ منها الإبهامُ.
(وإنْ يَكُنْ) أيْ: ما ذُكِرَ مِن الفعْلِ أو الضميرِ (لاثنينِ نحوُ) قولِك: (الْتَزَمَا)؛ كقولِه: (واقطَعْ بصِحَّةٍ لِمَا قد أَسْنَدَا)، وقولِه: (وأَرْفَعُ الصحيحِ مَرْوِيُّهُما) (فمُسْلِمٌ مع البُخاريِّ هما) وهما: إمامَا الْمُحَدِّثِينَ أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ بنِ الْمُغِيرَةِ بنِ بَرْدِزْبَةَ الْجُعْفِيُّ البخاريُّ، وأبو الْحُسينِ مسلِمُ بنُ الْحَجَّاجِ بنِ مُسلِمٍ القُشَيْرِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ.
وقَدَّمَه على البُخاريِّ مع أنَّ البُخاريَّ مُقَدَّمٌ عليه رُتبةً اكتفاءً بما هو معلومٌ، أو بتعبيرِه بـ (مع) الْمُشْعِرَةِ بتَبعيَّةِ ما قَبْلَها لِمَا بَعْدَها، أو لضرورةِ النظْمِ عِنْدَه.
(واللهَ) لا غيرَ (أَرْجُو) أيْ: أُؤَمِّلُ (في أُمُورِي كُلِّها) الدُّنيويَّةِ والأُخْرَوِيَّةِ (مُعْتَصَمًا) بفتْحِ الصادِ تَمييزٌ للنِّسبةِ؛ أيْ: أَرْجُوهُ مِن جِهةِ العِصمةِ بمعنى الحفْظِ.
وبكَسْرِها حالٌ مِن فاعلِ (أَرْجُو) بجَعْلِ العِصمةِ بمعنى الْمَنْعِ مِن العِصْمَةِ؛ أيْ: مانِعًا نَفْسِي مَنًّا بلُطْفِ اللهِ تعالى في أمُورِي كلِّها.
(في صَعْبِها وسَهْلِها) عَطْفُ بَيانٍ على (في أُمُورِي) أو بَدَلٌ منه.

مسلمة 12 27 ذو الحجة 1429هـ/25-12-2008م 02:29 PM

فتح المغيث شرح ألفية الحديث للسخاوي
 
قالَ رَحِمَه اللهُ:

يقولُ راجِي ربِّهِ الْمُقْتَدِرِ = عبدُ الرَّحيمِ بنُ الْحُسينِ الأَثَرِي
مِن بعْدِ حَمْدِ اللهِ ذِي الآلاَءِ = على امتنانٍ جَلَّ عن إحصاءِ
ثُمَّ صَلاةٍ وسَلامٍ دائمِ = على نَبِيِّ الْخَيْرِ ذِي الْمَرَاحِمِ
فهذه الْمَقاصِدُ الْمُهِمَّهْ = تُوضِحُ مِن علْمِ الحديثِ رَسْمَهْ
نَظَمْتُها تَبْصِرَةً للمُبْتَدِي = تَذكرةً للمُنْتَهِي والْمُسْندِ
لَخَّصْتُ فيها ابنَ الصَّلاحِ أَجْمَعَهْ = وزِدْتُها علْماً تَراهُ مَوْضِعَهْ
فحيثُ جاءَ الفعْلُ والضميرُ = لوَاحِدٍ ومَن له مَستورُ
كقالَ أو أطْلَقْتُ لفْظَ الشيخِ ما = أُريدُ إلاَّ ابنَ الصلاحِ مُبْهَمَا
وإنْ يَكُنْ لاثْنَيْنِ نحوَ التَزَمَا = فمسلِمٌ مع البخاريِّ هُمَا
واللهَ أَرْجُو في أُمُورِي كُلِّها = معْتَصِمًا في صَعْبِها وسَهْلِها
(يقولُ) مِن (القوْلِ)، وهو لفْظٌ دالٌّ على معنى مفيدٍ كما هنا، أو غيرِ مُفيدٍ (راجِي) اسمُ فاعلٍ مِن (الرَّجاءِ) ضِدِّ الخوْفِ؛ وهو تَوَقُّعُ ممكِنٍ يَقْتَضِي، حُصولَ ما فيه مَسَرَّةٌ (رَبِّهِ) أيْ: مالِكِه الإلَهِ الذي لا تُطْلَقَ الرُّبوبيَّةُ على سِواهُ (الْمُقْتَدِرِ) على ما أَرادَ، وهو مِن صِفاتِ الْجَلالِ والعظَمَةِ، ولذا كانَ أبلَغَ في قُوَّةِ الرجاءِ؛ إذ وُجودُه مِن استحضارِ صِفاتِ الجلالِ أَدَلُّ على وُجودِه، مع استحضارِ صِفاتِ الجمالِ لا سيَّما، وبذلك يكونُ مِن بابِ قولِه تعالى: {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}.
(عبدُ الرَّحيمِ) بيانُ الراجِي، فاعلُ (يقولُ)، أو بَدَل منه (ابنُ الْحُسينِ) ابنُ عبدِ الرحمنِ، الزَّيْنُ أبو الفضْلِ (الأَثَرِي) بفتْحِ الهمزةِ والْمُثَلَّثَةِ، نِسبةً إلى (الأَثَرِ)، وهو لُغةً: الْبَقِيَّةُ، واصطلاحاً: الأحاديثُ مرفوعةً كانتْ أو مَوقوفةً، على المعتمَدِ، ومِنه: (شَرْحُ معاني الآثارِ)؛ لاشتمالِه عليهما، وإنْ قَصَرَهُ بعضُ الفُقهاءِ على الموقوفِ، كما سيأتي في بابِه، وانتسَبَ كذلك جماعةٌ، وحَسُنَ الانتسابُ إليه ممن يُصَنِّفُ في فُنونِه.
ويُعْرَفُ أيضاً بـ(العِرَاقِيِّ) لكونِ جَدِّه كانَ يَكْتُبُها بخَطِّهِ، انتساباً لعراقِ العرَبِ، وهو القُطْرُ الأعَمُّ كما قالَه ابنُه.
كانَ إماماً، عَلاَّمَةً، مُقْرِئاً، فَقيهًا، شافعيَّ المذهَبِ، أُصوليًّا، منقطِعَ القَرينِ في فُنونِ الحديثِ وصِناعتِه، ارْتَحَلَ فيه إلى البلادِ النائِيَةِ، وشَهِدَ له بالتفَرُّدِ فيه أئِمَّةُ عَصْرِه، وعَوَّلُوا عليه فيه، وسارَتْ تَصانيفُه فيه وفي غيرِه، ودَرَّسَ، وأَفْتَى، وحَدَّثَ، وأَمْلَى، ووَلِيَ قَضاءَ المدينةِ الشريفةِ نحوَ ثلاثِ سنينَ.
وانتَفَعَ به الأجِلاَّءُ، مع الزُّهْدِ والورَعِ، والتَّحَرِّي في الطهارةِ وغيرِها، وسلامةِ الفِطرةِ، والمحافظةِ على أنواعِ العبادةِ، والتقَنُّعِ باليسيرِ، وسلوكِ التواضُعِ والكرَمِ والوقارِ، مع الأُبَّهَةِ والمحاسِنِ الْجَمَّةِ.
وقد أفرَدَ ابنُه ترجمتَه بالتأليفِ، فلا نُطيلُ فيها، وهو في مجموعِه كلمةُ إجماعٍ، وقد أُخِذَتْ عن خَلْقٍ مِن أصحابِه.
وأمَّا ألْفِيَّتُه وشرحُها فتَلَقَّيْتُهما، مع جُلِّ أصْلِهما دِرايةً، عن شيخِنا إمامِ الأئمَّةِ وأجَلِّ جماعتِه، والألفيَّةُ فقطْ عن جماعةٍ.
ماتَ في شعبانَ سنةَ سِتٍّ وثمانِمائةٍ (806 هـ) عن أزيدَ مِن إحدى وثمانينَ سنةً، رَحِمَه اللهُ وإيَّانَا.
وهو وإنْ قَدَّمَ ما أسْلَفَه وَضْعاً فذاك.
(مِن بَعْدِ) ذِكْرِ (حَمْدِ اللهِ) لَفْظاً؛ عَمَلاً بحديثِ: ((كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللهِ فَهُوَ أَقْطَعُ))، و(مِن) بالكسْرِ حرْفٌ خافضٌ يَأتي لابتداءِ الغايةِ كما هنا، ولغيرِه، و"بعدِ" بالجَرِّ نَقيضُ (قَبْلُ)، و(الحمدُ) هو الثناءُ على المحمودِ بأفعالِه الجميلةِ، وأوصافِه الحسنَةِ الجليلةِ.
و (اللهِ) علَمٌ على المعبودِ بِحَقٍّ، وهو البارئُ سبحانَه، المحمودُ حقيقةً على كلِّ حالٍ، وهو خاصٌّ به لا يَشْرَكُه فيه غيرُه، ولا يُدْعَى به أحَدٌ سِواهُ، قَبَضَ اللهُ الألْسِنَةَ عن ذلك.
على أنه قد يُقالُ: إنَّ سَبْقَ التعريفِ بالقائلِ غيرُ مُخِلٍّ بالابتداءِ، ولو لم يُلْفَظْ به؛ ففي حديثٍ قالَ الحاكمُ: (إنه غريبٌ حسَنٌ)؛ أنَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كتَبَ إلى مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى مُعَاذٍ، سَلاَمٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللهَ...)) إلى آخِرِه، وكذا في غيرِه مِن الأحاديثِ.
لكنْ مع الابتداءِ قبلَ اسْمِه بالبَسْمَلةِ كما وَقَعَ للمؤلِّفِ، وفَعَلَه أيضاً أبو بكرٍ الصدِّيقُ، وزيدُ بنُ ثابتٍ، رَضِيَ اللهُ عنهما، وعَزاهُ حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ لمكاتَبَةِ المسلمينَ، بل يُقالُ أيضاً: هذا الحديثُ رُوِيَ أيضاً بـ ((بِسْمِ اللهِ)) بَدَلَ ((بِحَمْدِ اللهِ))، فكأنَّه أُريدَ بالحمْدَلَةِ والبَسملةِ ما هو أَعَمُّ منهما؛ وهو ذِكْرُ اللهِ والثناءُ عليه على الجملةِ بصِيغةِ الحمْدِ أو غيرِها، ويُؤَيِّدُه روايةٌ ثالثةٌ لفْظُها: ((بِذِكْرِ اللهِ))؛ وحينئذٍ فالحمْدُ والذكْرُ والبَسملةُ سواءٌ، فمَنِ ابْتَدَأَ بواحِدٍ منها، حَصَلَ المقصودُ مِن الثناءِ على اللهِ.
(ذي الآلاءِ) أيْ: صاحبِ النِّعَمِ والْجُودِ والكرَمِ، وفي واحدِ (الآلاءِ) سَبْعُ لُغاتٍ: "إلًى" بكسْرِ الهمزةِ، وبفَتْحِها؛ مع التنوينِ، وعَدَمِه، ومثلَّثِ الهمزةِ مع سكونِ اللامِ والتنوينِ (على امْتنانٍ) مِن اللهِ به مِن العطاءِ الكثيرِ الذي مِنه التَّوَغُّلُ في عُلومِ الحديثِ النَّبويِّ، على قائلِه أفْضَلُ الصلاةِ والسلامِ، واختصاصُ الناظمِ بكونِه، وللهِ الحمدُ، فيه إماماً مُقْتَدًى به، والمنَّانُ: الذي يَبدأُ بالنوالِ قبلَ السؤالِ (جَلَّ) أيْ: عَظُمَ عَطاؤُه.
(عن إِحصاءِ) بعدَدٍ؛ قالَ تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهُا} (ثمَّ صَلاةٍ وسلامٍ) بالجَرِّ عَطْفاً على (حَمْد) (دائمٍ) كلٌّ منهما، أو تَلَفُّظِي بهما، أو لاقترانِهما غالباً صارَا كالواحدِ، وفي عَطْفِه بـ (ثم) الْمُقْتَضِيَةِ للترتيبِ مع الْمُهْلَةِ إشعارٌ بأنه أَثْنَى على اللهِ سبحانَه زيادةً على ما ذَكَرَ بينَهما.
و(الصلاةُ) مِن اللهِ على نَبِيِّهِ: ثَناؤُه عليه وتَعظيمُه له، ومِن الملائكةِ وغيرِهم: طلَبُ الزيادةِ له بتكثيرِ أَتباعِه أو العلماءِ، ونحوِهم مَثَلاً للعلْمِ بتناهِيهِ في كُلِّ شرَفٍ، ولم يُفْرِدْها عن (السلامِ)؛ لتصريحِ النوويِّ، رَحِمَه اللهُ، بكَراهةِ إفرادِ أحَدِهما عنِ الآخَرِ، وإنْ خَصَّها شَيخِي بمن جَعَلَها دَيْدَنًا؛ لوقوعِ الإفرادِ في كلامِ إمامِنا الشافعيِّ، ومسلِمٍ، والشيخِ أبي إسحاقَ، وغيرِهم مِن أئمَّةِ الْهُدَى، ومِنهم النوويُّ نفْسُه في خُطبةِ (تقريبِه) كما في كثيرٍ مِن نُسَخِه.
وكذا أَتَى بها مع الحمْدِ عَمَلاً بقولِه في بعضِ طُرُقِ الحديثِ الماضي:((بِحَمْدِ اللهِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ فَهُوَ أَبْتَرُ)) مَمحوقٌ مِن كُلِّ بَركةٍ، وإنْ كانَ سنَدُه ضَعيفاً؛ لأنه في الفضائلِ، مع ما في إثباتِها في الكتابِ مِن الفضْلِ، كما سيأتِي في مَحَلِّه (على نَبِيِّ الخيرِ) الجامِعِ لكلِّ محمودٍ في الدنيا والآخِرَةِ (ذي) أيْ: صاحِبِ (الْمَراحِمِ) نَبِيِّنا محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وحقيقةُ "النبيِّ" والأكثَرُ في التلفُّظِ به عدَمُ الهمْزِ: إنسانٌ أُوحِيَ إليه بشَرْعٍ، وإنْ لم يُؤْمَرْ بتَبليغِه، فإنْ أُمِرَ بالتبليغِ فرسولٌ أيضاً، ولذا كانَ الوصْفُ بها أشْمَلَ، فالعدولُ عنها إمَّا للتأسِّي بالخبرِ الآتي في الجمْعِ بينَ وَصْفَيِ النُّبُوَّةِ والرحمةِ، أو لِمناسَبَةِ علومِ الخبرِ؛ لأنَّ أحَدَ ما قيلَ في اشتقاقِه أنه مِن النبَأِ وهو الخبرُ، أو لأنه في مَقامِ التعريفِ الذي يَحْصُلُ الاكتفاءُ فيه بأيِّ صِفةٍ أَدَّتِ المرادَ، لا في مَقامِ الوصْفِ، على أنَّ العِزَّ بنَ عبدِ السلامِ، جَنَحَ لتفضيلِ النبوَّةِ على الرسالةِ، وذَهَبَ غيرُه إلى خِلافِه، كما سأَوُضِّحُهَ في إبدالِ الرسولِ بالنبيِّ.
و"الْمَراحمِ" جَمْعُ مَرحمةٍ مَصْدَرٌ مِيميٌّ مَفْعَلَةٌ مِن الرحمةِ، ففي (صحيحِ مسلِمٍ) أنه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: ((أَنَا نَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الْمَرْحَمَةِ))، وفي نُسخةٍ منه وهي التي اعتَمَدَها الدِّمياطيُّ: ((وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ)) باللامِ بدَلَ الراءِ، وفي أُخْرَى: ((وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ))، وفي حديثٍ آخَرَ: ((إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي مَلْحَمَةً وَمَرْحَمَةً)) وفي آخَرَ: ((أَنَا نَبِيُّ الْمَلاَحِمِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ)).
قالَ النوويُّ: فيما عَدَا الْمَلْحَمَةَ معناها واحدٌ متقارِبٌ، ومَقصودُها أنه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جاءَ بالتوبةِ وبالتراحُمِ.
قلتُ: وأمَّا الْمَلْحَمَةُ فهي الْمَعركةُ، فكأنه المبعوثُ بالقتالِ والجهادِ، وقد وَصَفَ اللهُ المؤمنينَ بقولِه: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} أيْ: يَرحَمُ بعضُهم بعضاً، وهي في حَقِّنَا بالمعنَى اللُّغَوِيِّ: رِقَّةٌ في القلْبِ وتَعَطُّفٌ، ومِن الرحيمِ: إرادةُ الخيرِ بعَبيدِه، ومِن الملائكةِ: طَلَبُها منه لنا.
ثم إنه لِقُوَّةِ الأسبابِ عندَ المرءِ فيما يُوَجِّهُ إليه عَزْمَه، ويَجمَعُ عليه رَأْيَه، يَصيرُ في حكْمِ الموجودِ الحاضِرِ؛ بحيث يُنْزِلُه مَنْزِلَتَه، ويُعامِلُه بالإشارةِ إليه مُعامَلَتَه، ولذا قالَ مع التخَلُّصِ في التعبيرِ أوَّلاً بـ"يَقولُ" عن اعتذارٍ: (فهذه)؛ والفاءُ إمَّا الفَصيحةُ، فالْمَقُولُ ما بعدَها، أو جوابُ شرْطٍ محذوفٍ، تقديرُه: إنْ كنتَ أيُّها الطالِبُ تُريدُ البحْثَ عن عُلومِ الخبَرِ، فهذه (الْمَقاصِدُ) جَمْعُ مَقْصِدٍ، وهو ما يَؤُمُّه الإنسانُ مِن أمْرٍ ويَطْلُبُه (الْمُهِمَّهْ) مِنَ الشيءِ الْمُهِمِّ، وهو الأمْرُ الشديدُ الذي يُقْصَدُ بعَزْمٍ (تُوضِحُ) بضَمِّ أوَّلِه مِن (أَوْضَحَ) أيْ: تُظْهِرُ وتُبِينُ (مِن علْمِ الحديثِ) الذي هو معرِفةُ القواعِدِ الْمُعَرِّفَةِ بحالِ الراوي والْمَرْوِيِّ (رَسْمَهْ) أيْ: أَثَرَه الذي تُبْنَى عليه أصولُه.
وفي التعبيرِ به إشارةٌ إلى دُروسِ كثيرٍ مِن هذا العلْمِ الذي بادَ حُمَّالُه، وحادَ عن السَّنَنِ المعتبَرِ عُمَّالُه، وأنه لم يَبْقَ منه إلا آثارُه، بعدَ أنْ كانتْ ديارُ أوطانِه بأهلِه آهِلَةً، وخُيولُ فُرسانِه في مَيْدَانِه صَاهِلَةً.
وقد كُنَّا نَعُدُّهُم قليلاً فقد صارُوا أَقَلَّ مِنَ القليلِ
و(الحديثُ) لغةً: ضِدُّ القديمِ، واصطلاحاً: ما أُضيفَ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَوْلاً له أو فِعْلاً أو تَقريراً أو صِفةً، حتى الحركاتِ والسكناتِ في اليَقَظةِ والمنامِ، فهو أَعَمُّ مِن السنَّةِ الآتِيةِ قريباً، وكثيرًا ما يَقَعُ في كلامِ أهْلِ الحديثِ، ومِنهمُ الناظِمُ، ما يَدُلُّ لِتَرَادُفِهما.
(نَظَمْتُها) أيْ: المقاصِدَ؛ حيث سَلَكْتُ في جَمْعِها الْمَشيَ على بَحْرٍ مِن البحورِ المعروفةِ عندَ أهْلِ الشعْرِ، وإنْ كانَ النظْمُ في الأصْلِ أَعَمَّ مِن ذلك؛ إذ هو جَمْعُ الأشياءِ على هَيئةٍ مُتناسِقَةٍ.
(تَبْصِرَةً لِلمُبْتَدِي) بتَرْكِ همزهِ، يَتبَصَّرُ بها ما لم يَكنْ به عالِماً، و(تذكرةً لِلمُنْتَهِي) وهو الذي حَصَّلَ مِن الشيءِ أكْثَرَه وأَشْهَرَه، وصَلَحَ مع ذلك لإفادتِه وتَعليمِه، والإرشادِ إليه وتَفهيمِه، يَتذكَّرُ بها ما كان عنه ذاهِلاً،
(و) كذا للرَّاوِي (الْمُسنِدِ) الذي اعْتَنَى بالإسنادِ فقطْ، فهو يَتذكَّرُ بها كيفيَّةَ التَّحَمُّلِ والأداءِ ومُتَعَلِّقَاتِه، كما يَتذكَّرُ بها الْمُنتهِي مَجموعَ الفَنِّ، فبَيْنَ المسنِدِ والمنتهِي عُمومٌ وخُصوصٌ مِن وَجْهٍ، وأُشِيرَ بـ (التَّبْصِرَةِ والتذْكِرَةِ) إلى لقَبِ هذه المنظومةِ، وهما بالنصْبِ مفعولٌ له، تُرِكَ فيه العاطِفُ، ولم أتَكَلَّفْ تَخليصَ ما اشْتَمَلَتْ عليه مِن بُطونِ الكتُبِ والدفاتِرِ.
ولكنْ (لَخَّصْتُ فِيهَا ابنَ الصلاحِ) أيْ: مَقاصِدَ كتابِه الشهيرِ على حَدِّ قولِه: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، حيث اخْتَصَرْتُ مِن ألفاظِه، وأَثبتُّ مَقصودَه (أَجْمَعَهْ) ولا يُنافِي التأكيدَ حذْفُ كثيرٍ مِن أَمْثِلَتِه، وتَعاليلِه وغيرِ ذلك؛ إذ هو تأكيدٌ للمقصودِ الْمُقَدَّرِ؛ كأنه قالَ: لَخَّصْتُ الْمَقصودَ أَجْمَعَهُ.
والتأكيدُ بـ (أَجْمَعَ) غيرَ مسبوقٍ بـ "كلٍّ"، واقِعٌ في القرآنِ وغيرِه، ومنه:
إِذَنْ ظَلَلْتُ الدَّهْرَ أَبْكِي أَجْمَعَا
ويُجْمَعُ بينَهما للتقويةِ كـَ {فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}.
و(الصلاحِ) تَخفيفٌ مِن لَقَبِ والدِه، فإنه هو العَلاَّمَةُ الفقيهُ، حافِظُ الوقْتِ، مُفْتِي الفِرَقِ، شيخُ الإسلامِ، تَقِيُّ الدِّينِ أبو عمرٍو عثمانُ ابنُ الإمامِ البارعِ صلاحِ الدِّينِ أبي القاسِمِ عبدِ الرحمنِ بنِ عثمانَ الشهْرَزُورِيُّ الْمَوْصِلِيُّ ثم الدِّمشقيُّ الشافعيُّ.
كان إماماً بارعاً حُجَّةً، مُتَبَحِّراً في العلومِ الدينيَّةِ، بَصيراً بالمذهَبِ ووُجوهِه، خَبيراً بأصولِه، عارِفاً بالمذاهِبِ، جَيِّدَ المادَّةِ مِن اللغةِ والعربيَّةِ، حافِظاً للحديثِ مُتْقِناً فيه، حَسَنَ الضبْطِ كبيرَ القدْرِ، وافرَ الْحُرْمَةِ، عديمَ النظَرِ في زَمانِه، مع الدِّينِ والعِبادةِ، والنُّسُكِ والصيانةِ، والورَعِ والتقوى.
انْتَفَعَ به خَلْقٌ، وَعَوَّلُوا على تَصانيفِه، خُصوصاً كتابَه المشارَ إليه، فهو كما قالَ شيخُنا وقد سَمِعْتُهُ عليه بَحْثًا إلا يَسيراً مِن أوَّلِه كما تَقَدَّمَ ما نَصُّه: لا يُحْصَى كمْ ناظِمٍ له ومُخْتَصِرٍ، ومستَدْرِكٍ عليه ومُقْتَصِرٍ، ومعارِضٍ له ومُنتَصِرٍ، ماتَ في شهرِ ربيعٍ الآخِرِ سنةَ ثلاثٍ وأربعينَ وستِّمائَةٍ (643 هـ) عن سِتٍّ وستينَ سنةً، رَحِمَه اللهُ.
ومع استيفائِي فيها لِمَقَاصِدِ كتابِه (زِدْتُها عِلْماً) مِن إصلاحٍ لِخَلَلٍ وقَعَ في كلامِه، أو زيادةٍ في عَدِّ أقسامِ تلك المسألةِ، أو فائدةٍ مُسْتَقِلَّةٍ (تَرَاهُ) أيْ: الْمَزيدَ (مَوْضِعَهُ) بملاحَظَةِ أصْلِها؛ لأنه وإنْ مَيَّزَ أوَّلَ كثيرٍ منه بـ"قلتُ"، أو تَمَيَّزَ بنفسِه عندَ العارِفِ؛ لكونِه حِكايةً عن مُتَأَخِّرٍ عنِ ابنِ الصلاحِ بالصريحِ، أو بالإشارةِ، أو تَعَقُّباً لكلامِه برَدٍّ أو إيضاح، فآخِرُه قد لا يَتَمَيَّزُ، وأيضاً فقد فاتَه أشياءُ كثيرةٌ لم يُمَيِّزْها بـ "قلتُ"، ولا تَمَيَّزَتْ بما أُشيرَ إليه، كما سأُوَضِّحُ ذلك في مَحَالِّهِ.
وكذا أَشَرْتُ مِن أَجْلِ التلخيصِ لِعَزْوِ ما يكونُ مِن اختياراتِ ابنِ الصلاحِ وتحقيقاتِه إليه
(فحيث) الفاءُ هي الفَصيحةُ، أو تَفريعيَّةٌ على(لَخَّصْتُ) (جاءَ الفعْلُ والضميرُ) على البدَلِ (لواحدٍ) لا لاثنينِ (ومَن) أيْ: والذي كلٌّ مِنَ الفعْلِ والضميرِ (له مَستورُ) أيْ: غيرُ معلومٍ، تَشبيهاً له بالْمُغَطَّى؛ بأنْ لم يُذْكَرْ فاعلُ الفعْلِ معه، ولا تَقَدَّمَ كُلاًّ مِن الفعْلِ أو الضميرِ الْمُوَحَّدَيْنِ اسمٌ يَعودُ عليه كـ "قالَ" في أَمْثِلَةِ الفعْلِ.
مِن مِثلِ قولِه في الحسَنِ:(وقالَ بَانَ لِي بإمعانِي النظَرْ) و"له" في الضميرِ مِن مِثْلِ قولِه في حُكْمِ الصحيحين: "كذا له" (أو أطْلَقْتُ لفْظَ الشيخِ) كقولِه: "فالشيخُ فيما بعدُ قد حَقَّقَهُ" (ما أُريدُ) بكُلٍّ مِن الفاعلِ وصاحبِ الضميرِ والشيخِ (إلاَّ ابنَ الصلاحِ مُبْهَمَا) بفتْحِ الهاءِ حالٌ مِن المفعولِ، وهو ابنُ الصلاحِ، وبكَسْرِها حالٌ مِن فاعِلِ (أُريدُ) وهو الناظِمُ (وإنْ يَكُنْ) أيْ: المذكورُ مِن الفعْلِ أو الضميرِ (لاثنينِ) ففي الفعْلِ (نحوُ) قولِك: (الْتَزَمَا).
وقولِه: (واقْطَعْ بصحَّةٍلِمَا قد أُسْنِدَا) وفي الضميرِ نحوُ (وأرْفَعُ الصحيحِ مَرْوِيُّهُمَا) (فمُسْلِمٌ مع البخارِيِّ هُمَا) وقَدَّمَ الأوَّلَ للضرورةِ لا سِيَّما، وإضافتُه للثاني بالْمَعِيَّةِ مُشعِرَةٌ بالتبعيَّةِ والْمَرْجُوحِيَّةِ.
وربما يُعَكِّرُ على هذا الاصطلاحِ ما تكونُ ألِفُه للإطلاقِ كقولِه: (وقيلَ ما لم يَتَّصِلْ وقَالاَ).
وكقولِه في اختلافِ ألفاظِ الشيوخِ: (وما ببعضِ ذا وذا وقالاَ) وإنْ كانَ مُتَمَيِّزاً برَسْمِ الكتابةِ، وأمَّا ما له مَرْجِعٌ كقولِه: (وُرودُ ما قالاَ فلا يُرَدُّ) (واللهَ) بالنصْبِ معمولُ (أَرْجُو) وقُدِّمَ للاختصاصِ نحوُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
(في أُمُورِي كُلِّها مُعْتَصَماً) بفتْحِ الصادِ، تَمييزٌ للنِّسبةِ أيْ: أَرجوهُ مِن جِهةِ الاعتصامِ بمعنى الحفْظِ والوِقايةِ، وبِكَسْرِها أيْ: مُمْتَنِعاً على أنَّه حالٌ مِن الفاعلِ وهو الناظِمُ، أيْ: أُؤَمِّلُ اللهَ في حالةِ كَوْنِي مُعْتَصِماً (في صَعْبِها) أيْ: أُمُورِي (و) في (سَهْلِهَا)، والصعْبُ وكذا الْحَزَنُ ضِدُّ السهْلِ؛ فبِأَيِّ لفْظٍ جِيءَ به منهما تَحْصُلُ المطابَقَةُ الْمَحْضَةُ مِن أنواعِ البديعِ، ولكنَّ الإتيانَ بالْحَزَنِ أبْلَغُ لِمَا فيه مِن التأسِّي به صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ حيثُ قَال:
((وَأَنْتَ إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الْحَزَنَ سَهْلاً)) وحيث أَمَرَ بتغييرِ "حَزَنٍ" بـ "سَهْلٍ" واللهُ الْمُوَفِّقُ.


الساعة الآن 02:08 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir