معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد

معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد (http://afaqattaiseer.net/vb/index.php)
-   الدعوة بالقرآن (http://afaqattaiseer.net/vb/forumdisplay.php?f=1016)
-   -   أهل القرآن (http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=45772)

صفية الشقيفي 8 ذو القعدة 1443هـ/7-06-2022م 03:55 PM

أهل القرآن
 

الحمد لله وسلامٌ على عبادهِ الذين اصطفى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أرسله الله بالقرآن رحمةً للعالمين، وأما بعد:
روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ لله أهلين من الناس)، قالوا: يارسول الله من هم؟، قال: (هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته).
رواه النسائي في السنن الكبرى وابن ماجة وأحمد، وصححه الألباني.
وقد اعتنى الشيخ عبد العزيز الداخل في برنامجه لمعهد إعداد المفسر ببيان سير أعلام المفسرين وطبقات القراء والمفسرين
وتدرّب طلاب البرنامج على كتابة سير تعريفية بالقراء والمفسرين، وكان الهدف من التدرب على هذه المهارة هو استغلالها في الدعوة إلى الله عز وجل، وفيها ما لا يخفى عليكم، من بيان أثر القرآن على أهله، فهي دعوة عملية للناس عامة أن يقبلوا على القرآن، ولطلاب العلم خاصة أن يعتنوا بتعلمه والعمل به
وفي هذا الموضوع سأنشر بعض الرسائل التي كتبتها في التعريف ببعض القراء والمفسرين وأرجو من جميع طلاب وطالبات برنامج إعداد المفسر المشاركة بنشر كتاباتهم، بشرط استدراك الأخطاء التي نبه عليها أعضاء هيئة التصحيح.
وستخصص هذه المشاركة بإذن الله لعمل فهرس لهذه الكتابات مع ترتيبها على تاريخ وفاة المفسر أو القارئ المترجم له.

- الصِّديقُ أبو بكر رضي الله عنه(ت:13 هـ) لصفية الشقيفي.

- عمر بن الخطاب رضي الله عنه، (ت: 23 هـ) لصفية الشقيفي.
- سيرة صاحب السر بصير الفتن (حذيفة بن اليمان-ت:36 هـ)، لإنشاد راجح.
- حذيفة بن اليمان بن جابر العبسي الغطفاني (ت: 36 هـ) لإيمان جلال.

- أبو سعيد زيد بن ثابت (ت: 45 هـ)، لضحى الحقيل.

- أبو عائشة الكوفي مسروق بن الأجدع الهمْداني (ت: 62 هـ) لمنيرة محمد.

- "عبد الله بن عمرو _ عزيمة وثبات " (ت: 65 هـ) لمنيرة محمد.

- (( لعلّ خُفًا يقعُ على خُف ))، مقتطفات من سيرة عبد الله ابن عمر -رضي الله عنهما- (ت:74هـ)، لصفية الشقيفي.
- أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري الأنصاري (ت:74هـ) لإيمان جلال.

- أبو العالية رُفيع بن مهران الرياحي (ت: 93هـ) لإيمان جلال.

- فقيه المدينة سعيد بن المسيِّب (ت: 93 هـ) لصفية الشقيفي.

- جهبذ العلماء التابعي الجليل سعيد بن جبير (ت:95 هـ) لضحى الحقيل.
- أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي: (ت:102هـ) لإيمان جلال.

- العابد الزاهد التابعي الجليل محمد بن كعب بن حبان بن سليم بن أسد القرظي (ت: 108هـ) لضحى الحقيل.
- سِيرَةُ الحَافِظِ الصَدُوقِ: "يَحيَى بن يَمان العَجْلِي أَبُو زَكَرِيَّا الْكُوفِيِّ" (ت: 189 هـ) لضحى الحقيل.

- فصول من حياة الإمام ورش (ت: 197 هـ) لصفية الشقيفي

- فصول من حياة الشيخ محمود خليل الحصري (ت:1401 هـ) لصفية الشقيفي.










علمني الله وإياكم ما ينفعنا ونفعنا بما علمنا ونفع بنا

صفية الشقيفي 8 ذو القعدة 1443هـ/7-06-2022م 04:01 PM

الصِّديقُ أبو بكر رضي الله عنه

أردتُ أن أختارَ عنوانًا آخرًا لهذه الرسالة، قلبتُ في حياة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أحاول البحث عن فكرةٍ أخرى للعنوان، فلم أجد أفضل من هذه الكلمة (الصِّديقُ)
ولمَ لا، وهو اللقب الذي لقبه به رسول الله صلى الله عليه وسلم جزاءً له على تصديقه له في كل شيء، تصديقٍ لم يشُبْه أدنى شك
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحدًا، وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فقال: ((اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)). رواه البخاري.
والصديق هو أبو بكر رضي الله عنه، والشهيدان عمر وعثمان رضي الله عنهما.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن كان آمنوا به وصدقوه، وسمعوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه،
فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس،
قال: أو قال ذلك؟
قالوا: نعم،
قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق،
قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟
قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة.
فلذلك سُمي أبو بكر الصديق). رواه الحاكم في المستدرك من طريق محمد بن كثير الصنعاني عن معمر بن راشد عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، وصححه الألباني بشواهده.



هذه قصة لقبه الصديق، فأما قصة كنيته التي اشتُهِر بها (أبي بكر)؛ فقد كانت له زوجة في الجاهلية يقال لها أم بكر، فتكنى به ولم يكن من أبنائه. (1)
وأما اسمه فهو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، يلتقي نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب.(2)

وكنية أبيه (أبو قحافة) واشتُهر بها، لهذا يقال: (أبو بكر بن أبي قحافة)

وكان أبو بكر الصديق رفيقًا للنبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، وكان سنه قريبًا منه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أكبر منه بسنتين أو ثلاث.
وكان ذا خلُق حسن في الجاهلية، أمينًا، كريمًا يقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، لم يشرب الخمر ولم يسجد لصنم قط!

وبلغ أبو بكر الصديق رضي الله عنه مكانة كبيرة في الإسلام فهو أخص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول بعثته حتى عُدّ أول من أسلم من الرجال، وواساه بنفسه وماله.

عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما صاحبكم فقد غامر»
فسلَّم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك،
فقال: «يغفر الله لك يا أبا بكر» ثلاثا،
ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلَّم،
فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، مرتين،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي»
[قال أبو الدرداء: قالها النبي]مرتين، فما أوذي بعدها. رواه البخاري.


فما ظنُّكم برجُلٍ هذا حاله مع دعوة الله عز وجل، ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم، كيف تكونُ سيرته، وكيف يكون تلقيه لأمر الوحي، ثم كيف تكون حياته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
قضى الله فيما قضى به أن يكون حظ المرء من فهمِ كتابه بقدر حظ قلبه من خشية الله
قال تعالى: {ما أنزلنا عليكَ القُرآن لتشقى. إلا تذكرة لمن يخشى}
فكان أبو بكرٍ رضي الله أكثرُ الصحابة فهمًا لكتاب الله عز وجل ولأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيثبتُ وإن عصفت بالأمة الفتن العظيمة، فتثبتُ بثباته الأمة، ويُسلِّم وإن حارت في التماس الحكمة أجلُّ الأفهام، فتسكنُ لسكينته القلوب !
وهاكُم بعض المواقف التي تدلُّ على هذه المعاني
(1)
خرج الصحابة من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بصحبته قاصدين البيت الحرام معتمرين، بعد سنوات من جهاد الكفار والمشركين، والحِرمان من الطواف بالبيت، خاصةً بعد أن عرفوا معنى التوحيد لله عز وجل، ومقتوا ما كان منهم من أمر الشرك في الجاهلية وتعبدهم للأصنام، خرجوا وما أرادوا غير العمرة لله وحده لا شريك له.
إلا أن كِبرَ صناديد قريش أبى أن يمضي رسول الله وأصحابه إلى البيت الحرام، فصدوهم عنه، ثم وقع الصلح بين المسلمين والمشركين فيما عُرف بصلح الحديبية
وجاءت شروط الصلح مُجحفة في حق المسلمين !
فكيف للمُسلمين وهم اليوم أقوى وأعز وأكثر، أن يقبلوا بهذا الظلم
صُدُّوا عن البيت وتصالحوا صُلحًا لا يرون فيه إلا مزيد ظلُم لهم !
ما الذي يدفعهم لقبول هذه الشروط؟، وما الذي يمنعهم من دخول مكة بقوة السلاح؟
غير أن إرادة الله ومن ثم إرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن موافقة لذلك
فكان أمرُ الله عز وجل، قبول الصلح!
وهنا زُلزلتِ القلوب، حتى أنهم كادوا يعصون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا رحمة الله بهم ...
أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ألست رسول الله حقا،
قال: «بلى» ،
قال: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟،
قال: «بلى» ،
قال: فلم نعطي الدنية في ديننا،
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني رسول الله، ولست أعصي ربي، وهو ناصري» ،
قال عمر رضي الله عنه: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت، فنطوف به؟،
قال: «بلى» ، فخبرتك أنك تأتيه العام،
قال: لا،
قال: فإنك تأتيه، فتطوف به،
قال عمر رضي الله عنه: فأتيت أبا بكر الصديق رضوان الله عليه،
فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا،
قال: بلى، قلت: أو لسنا على الحق، وعدونا على الباطل،
قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا،
إذا قال أبو بكر رضي الله عنه: أيها الرجل إنه رسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، حتى تموت، فوالله إنه على الحق،
قلت: أو ليس كان يحدثنا، أنا سنأتي البيت، ونطوف به؟، قال: بلى، قال: فأخبرك أنا نأتيه العام، قلت: لا، قال: فإنك آتيه، وتطوف به)). رواه ابن حبان في صحيحه وصححه شعيب الأرناؤوط.

فانظروا كيف وافقت مقولة أبي بكر رضي الله عنه مقولة النبي صلى الله عليه وسلم !
وانظروا كيف ثبَت، وثبَّتَ بصدقه وتصديقه وقوة تسليمه !!

(2)
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم !
حين يموت في دنيانا من اعتدنا عطاءه، وعز علينا فراقه، ندخل في مرحلة من الصدمة طالت بنا أو قصُرت، لا نستوعبُ فيها كيف أصابنا الفراق!
فكيف بمن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين يُذاع فيهم هذا الخبر " مات رسول الله " !!
يظنُّ الناس أن قوة الصدمة على قدر قوة الحب !
لكن لأبي بكر رضي الله عنه قولٌ آخر ...
وأنا إذ أنظر لموقف أبي بكر رضي الله عنه عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
أضطر للرجوع إلى الوراء، وإعادة النظر في موقفه إذ كان صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في الغار
وهو يروي أمرهما معًا: (( يارسول الله لو أنّ أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) رواه مسلم.
وحين لحقهم سراقة بن مالك، يقول أبو بكر: ((هذا الطلب يا رسول الله قد لحقنا، فبكيت،
قال: «ما يبكيك؟»،
قلت: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك). رواه ابن حبان في صحيحه.
وفيه نزل قول الله تعالى :{ إذ يقولُ لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} فكان أبو بكر رضي الله عنه يبكي - بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم - ويقول: (أنا والله صاحبه) ! رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

ولمّا مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرضَ الموتِ قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، وأعاد فأعادوا له، فأعاد الثالثة، فقال: «إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس» رواه البخاري.
ومعنى كلمة أسيف: (رقيق القلب سريع البكاء)
فكيف بمن هذا صفته، وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم وحزنه على أدنى شوكة تصيب النبي صلى الله عليه وسلم، أن يثبت هذا الثبات حين يُقال له: (مات رسول الله) !!

مات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ بالسُّنْحِ،
فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالَتْ عائشة رضي الله عنها: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ، وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ، فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ،
فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ " فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُذِيقُكَ اللَّهُ المَوْتَتَيْنِ أَبَدًا،
ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أَيُّهَا الحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ،
فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ،
فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ،
وَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وَقَالَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]،
قَالَ: فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ)) رواه البخاري.


أولم يقرأ المسلمون قول الله تعالى: {إنك ميّت وإنهم ميتون}؟
أولم ينزل عليهم كما نزل على أبي بكرٍ رضي الله عنه قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]؟
فلماذا استحضرها أبو بكرٍ في هذا المصاب الجلل، وغابت عن أذهان الجميع؟
أي شيء ثبّته إن لم يكن من الله عز وجل
ومن أين أتاه هذا الفهمُ حتى يسُنّ قانونًا فيقول: (( من كان يعبُدُ محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبدُ الله فإن الله حيٌ لا يموت))
إن لم تكن قوة صدقه وتصديقه لله ورسوله، وعُمران قلبه بخشية الله عز وجل، فماذا يكون؟!
أوليس هو أحقُّ بالحزن على فراق النبي صلى الله عليه وسلم وقد صاحبه طيلة عمره في الجاهلية والإسلام !
وهل الحزن ينافي الثبات، لا والله !
فهذا أوان الجد واستلام الراية ياخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم !


(3)
لولا أبو بكر رضي الله عنه - بفضل الله وتوفيقه له -
لما دامت دولة الإسلام ...
يموت رسول الله صلى الله عليه ويسارع القوم في الردة عن دين الله عز وجل
ويمنع بعضهم الزكاة التي كانوا يؤدونها للنبي صلى الله عليه وسلم
وما كانت الزكاة للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يمنعوها مع وفاته
وإنما هي حق الله عز وجل في المال
فيأمر خليفةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو بكر -رضي الله عنه- بالحرب
سيحارب المرتدين
يروي أبو هريرة رضي الله عنه قصة قرار أبي بكر رضي الله عنه بالحرب
فيقول: ((لما تُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستُخلِف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب،
قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه، إلا بحقه وحسابه على الله
فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عِقَالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه،
فقال عمر: «فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق»)) رواه البخاري ومسلم.
هذه البصيرة في رؤية الحق لم تأتِ من فراغ !
هذه البصيرة في فهم أمر الله ورسوله هي ثمار قوة صدقه وتصديقه، وهي دليل على قلب عامر بخشية الله
أبو بكرٍ الرجل الأسيف سريع البكاء هو نفسه الرجل الشديد اليوم
وهذا ما يصنعه الإسلام بالقلوب ...
ما أرقها وأخشاها عند سماع كلام الله عز وجل، وما أرحمها بالمؤمنين
وما أشدها على أعداء الله عز وجل، كما قال تعالى: {محمّدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}
ومن مِثلُ أبي بكر رضي الله عنه

وفي الختام فائدة وعبرة:

من أراد أن يفتح الله عليه بالبصيرة في أمور دينه ودنياه، ووأن يرزقه فهمَ كِتابه والعمل به فعليه بالصدق، والتسليم لله، وخشيته
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام فلاح
وفي سيرته العطرة مواقفٌ كثيرة، غير أن المقام لا يسمح بالإطالة
رحِم الله أبا بكر، وجزاه عن أمة الإسلام خير الجزاء
ربِّ أدخلني مُدخل صدقٍ وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا.
_______________________________________________________________________
(1) روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها: (أن أبا بكر رضي الله عنه تزوّج امرأة من كلب يقال لها أم بكر، فلما هاجر أبو بكر طلقها، فتزوجها ابن عمها).


تحديث: الثلاثاء 29 ربيع أول 1444هـ، 25 أكتوبر 2022.

إنشاد راجح 9 ذو القعدة 1443هـ/8-06-2022م 12:24 PM

بسم الله الرحمن الرحيم
سيرة صاحب السر بصير الفتن


(يا أمير المؤمنين.. أدرك هذه الأمة، قبل أن يختلفوا في الكتاب، كما اختلف اليهود والنصارى..)(1)
هكذا أطلقها حذيفة صرخةً مدويةً تستنهض أمير المؤمنين قبل وقوع فتنة عظيمة وشقاق بعيد..

كان ذلك سنة خمس وعشرين من الهجرة، وقد اجتمع أهل الشام وأهل العراق في فتح أرمينية وأذربيجان، وكان حذيفة بن اليمان ضمن تلك الغزوة فحزن لما رأى من حال المسلمين، كلٌ يستنصر لقرائته وينكر على أخيه القراءة التي يقرأ بها، وسمع ما كانت تنطق به ألسنتهم من كلمات التجريح، والتأثيم، فاستعظم ذلك، ففزع إلى عثمان رضي الله عنه، وأخبره بما رأى، وقال له: (أدرك الناس قبل أن يختلفوا في كتابهم كما اختلف اليهود والنصارى).(2)

وقد أدرك عثمان ثاقب النظر، حصيف الرأي، خطورة التحذير لا سيما أنه جاء من صحابي عارف بالفتن ومكامنها، وبعد المشورة كان جمعُ الناس على مصحف إمام هو سبيل حل النزاع واستئصال الخلاف.(3)

وهكذا هو الناصح لدينه، القوي في الحق، يفزع لما قد يُحدِثُ شرخا بالأمة، ويُنزلُ بقلوب أبنائها البغضاء، يسعى في الإصلاح والنصح لأولي الأمر..

فمن ذاك العَلَم المتبصر بالفتن، سليم القلب والمقصد.. إنه حذيفة بن اليمان.

يكنى بأبي عبد الله، وهو حذيفة بن حسيل (4) بن جابر من بني عبس(5)، وقيل حسل، ولُقب أبوه بــ(اليمان) لأنه أقام عند بني عبد الأشهل وهم من اليمن، وكان قد أصاب دما في قومه، فهرب إلى المدينة، وحالف بني عبد الأشهل من الأنصار، فسماه قومه اليمان(6)، وأمه هى الرباب بنت كعب بن عدي بن كعب بن عبد الأشهل(7).

أسلم حذيفة هو وأبوه، وهاجرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (8) وخيّره الرسول صلى الله عليه وسلم بين الهجرة والنصرة فاختار النصرة (9)، وأرادا أن يشهدا معه بدراً، وكان المشركون قد استحلفوهما ألا يشهدا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فحلفا لهم، ثم سألا النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم:(انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم). (10).

ولما أتت الفرصة التي ينتظرها حذيفة، سارع وشمر، وأعد العدة ليقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحد، وبدأت المعركة واشتد القتال وحذيفة يظهر براعة وبسالة، وكان أبوه شيخا كبيرا قد جُعل هو وغيره من الشيوخ الذين لا يقوون على حمل السلاح أو القتال في الآطام مع النساء، فلم يصبر وكان ينتظر الشهادة، فلحق بالمقاتلين (11)، وحين اختلط المسلمون أبصر حذيفة بعضا منهم يلاحقون أباه ولم يعرفوه، فصرخ حذيفة وقلبه يكاد ينخلع: عباد الله أبي أبي..
لكن سبقت سيوفهم، وكل ما قدر الرحمن مفعول..
قُتل أبوه خطأ على أيديهم..

فقال حذيفة بأسى ورباطة جأش لما علم الصدق منهم: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين..
ثم ما لبث أن أنطلق لساحة المعركة يقاتل، فلم يغفل عن الهدف الأسمى والمطلب الأعظم..
وزاده ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، وأمر بديّة اليمان أن تُخرج، فتصدق حذيفة بدم أبيه على المسلمين (12).
قال أبو بكر رضي الله عنه: فوالله ما زالت في حذيفة منها بقية خير حتى لقى الله عز وجل (13).
فتلك منقبة لحذيفة من مناقبه الجليلة التي سنذكرها..


صاحب السر
روي عن علقمة أنه أتى المدينة فجلس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم يسر لي جليسا صالحا، فجلس إليه أبو الدرداء، فلما علم أن علقمة أتى من الكوفة قال له: أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره، يعني حذيفة، وعدد له أسماء من الصحابة كل بما عُرف عنه (14).

لكن لمَ عُرف حذيفة بصاحب السر؟ وأي سر هذا ؟!
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أسرَّ لحذيفة بالمنافقين وأحوالهم، ولا يعلم أحد سواه هذا السر (15)، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحذيفة: إني مسر إليك أمرا فلا تذكرنه، إني نهيت أن أصلي عن فلان وفلان وفلان -رهط عدة من المنافقين -(16)، وكان عمر بن الخطاب يتحرى خبر المنافقين، فسأل حذيفة: هل في عمالي أحد منهم؟ قال: "نعم، واحد"، قال: من هو؟ قال: "لا أذكره"، فعزله عمر كأنما دَلّ عليه (17)، وكان إذ مات الرجل وأعرض حذيفة عن الصلاة عليه علم عمر فينصرف ولا يصلي عليه (18).

قد سأل عمر حذيفة يوما: يا حذيفة أنشدك بالله أمن القوم أنا؟قال حذيفة: اللهم لا، ولن أبري أحدا بعدك.
فجادتا عينا عمر.(19)
لله درك يا عمر تخاف أن تكون منهم وقد بُشرت بالجنة !
فها هي منقبة أخرى لحذيفة، فهو الوحيد الذي عرف بصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

علمت الشر لتوقيه
خالط حذيفة أهل الصفة مدة فنسب إليهم، وعكف على العلم والعبادة، وكان عارفا بالفتن متبصرا بها، فزهد في الدنيا وعزف عنها (20) ولربما كان ذلك لكثرة ما سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم من أحاديث الفتن، وما علمه من أحوال المنافقين، فأورث قلبه الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة.

كان حذيفة يكثر من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن أحاديث الفتن والشر ليجتنبها، وكان أعلم الصحابة بها، وجاء عن حذيفة فيما روي في الصحيحين أنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني) (21)، وهذا يدل على عقل وبصيرة، فإن العالم بالخير يأتيه، وقد يعرض له أمر لا تتبين حقيقته أخير هو أم شر، فإن عَلِمَ الشر كان ذلك أدعى لاجتنابه، والحرص على لزوم الخير، فيمضي واثق الخطى، على بينة فيما يعرض له..

وقد سئل حذيفةُ يوما: أي الفتن أشد؟ قال: أن يعرض عليك الخير والشر، ولا تدري أيهما تترك (22).
وروي عن حذيفة أنه قال: والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة، فيما بيني وبين الساعة، وما بي إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلي في ذلك شيئا، لم يحدثه غيري، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وهو يحدث مجلسا أنا فيه عن الفتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو يعد الفتن: (منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئا، ومنهن فتن كرياح الصيف منها صغار ومنها كبار)قال حذيفة: فذهب أولئك الرهط كلهم غيري(23).
ومقولة حذيفة تبنئ عن علمه بنفسه، ومعرفته بإمكاناته، وحق له أن يقول ذلك فقد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث الفتن، وكان عمر رضي الله عنه يسأله عنها..


ففي جمع عند عمر كان فيه حذيفة، سأل عمر: أيكم سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتن التي تموج موج البحر؟فقال حذيفة وقد علم أن عمر يريده: أنا.
قال عمر: أنت لله أبوك.
فقال حذيفة: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء ، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز، مجخيا لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه)ثم حدث حذيفة عمر بفتنة عظيمة وأن بينه وبينها بابا مغلقا يوشك أن يكسر كسراً..
فقال عمر: كسرا لا أبا لك.
قال حذيفة: نعم.
قال: فلو أنه فُتح لكان لعله أن يُعاد فيغلق.
فأعاد حذيفة: بل كسرا(24).

وكان هذا الباب عمر، فموته دبت الفتنة في الأمة، وكانت أول الفتن مقتل عثمان بن عفان..
وروي عن حذيفة أنه قال بعد موت عمر: كان كان الإسلام في زمان عمر كالرجل المقبل لا يزداد إلا قربًا، فلما توفي صار كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعدًا(25).

من مناقب حذيفة
لحذيفة مناقب عديدة، ومواقف تفصح عن شخصية ذات بصيرة
..
ومن مناقب حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له فكفي، وكان ذلك في ليلة من ليالي الحصار في غزوة الخندق، حيث البرد الشديد والجوع، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل من يأتي بخبر القوم،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟)فسكتنا فلم يجبه منا أحد، فقال: (قم يا حذيفة، فأتنا بخبر القوم)، فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال: (اذهب فأتني بخبر القوم، ولا تذعرهم علي)، فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهما في كبد القوس فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولا تذعرهم علي)، ولو رميته لأصبته فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم، وفرغت قررت، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائما حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: (قم يا نومان).(25)هكذا كان حذيفة حين يُطلبُ، رجل المهام الحكيم..

وفي يوم قال عمر لأصحابه: تمنوا، فتمنوا ملء البيت الذي هم فيه جوهرًا لينفقوهفي سبيل الله، فقال عمر: لكنى أتمنى رجالاً مثل أبى عبيدة، ومعاذ بن جبل، وحذيفة، وأستعملهم في طاعة الله تعالى (26).
وفي خلافة عمر كانت الفتوحات الإسلامية لأرض فارس، وكان عمر يُحسن استثمار الرجال كل في موقعه، فأمر بجيش تحت قيادة حذيفة، يسير به إلى النعمان بن مقرن ليلتحم معه تحت راية النعمان في قتال الفرس، وقد سار مع حذيفة خلق كثير من أمراء العراق، والوجهة كانت نهاوند، وفي المعركة اشتد القتال بين العرب والفرس، وكان عمر قد كتب بأن يتولى حذيفة الراية بعد النعمان، فلما قتل النعمان، أخفى حذيفة خبر موته لئلا تفتر العزائم، وأقام أخ النعمان ويقال له نعيم- وقيل سويد- مكانه تقديرا له،(27)،وما كان ذلك إلا من مبصر حكيم ،وذهب يحث المسلمين على القتال ويستنهض الهمم، ويرغبهم فيما عند الله من ثواب، حتى انتهى القتال بهزيمة الفرس هزيمة نكراء، وفتح حذيفة بعد ذلك همذان والدينور وماء سندان (28) وشهد فتح الجزيرة ونزل نصيبين، وتولى المدائن (29).

وروي عن حذيفة أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر له ولأمه، وكان قد عرض للنبي صلى الله عليه وسلم عارض، فقال لحذيفة: ما لك؟ فحدثه حذيفة بالأمر.
فقال: غفر الله لك ولأمك، أما رأيت العارض الذي عرض لي قبل؟ قال حذيفة: بلى.
قال: هو ملك من الملائكة لم يهبط إلى الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه أن يسلم عليّ وبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة.(30)
فشهد حذيفة نزول ملك لم ينزل إلى الأرض قط.

من أقوال حذيفة
لحذيفة أقوال أحق أن تحفظ في الصدور،انتقيت منها ما قل ودل عنه، فقال
: إن الحق ثقيل وهو مع ثقله مرئ، وإن الباطل خفيف وهو مع خفته وبئ، وترك الخطيئة أيسر- أو قال: خير- من طلب التوبة، ورب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا.
وعنه قال: ليس خياركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا خياركم من ترك الآخرة للدنيا، ولكن خياركم من أخذ من كل. (31)
وهذه مقولة بليغة، فالصحابة رضي الله عنهم لا سيما كبارهم قد فهموا حقيقة الزهد في الدنيا فلم يجتنبوها بالكلية، بل سخروها لتخدم آخرتهم..

وفاته
كان حذيفة مدركا لحقيقة الدنيا وأنه لابد من يوم يغادرها فيه، فأرسل من يشتري له كفنا، فاشتروا له كفنا حلة عصب بثلاث مائة درهم، فقال
: ما هذا لي بكفن، إنما يكفيني ريطتان بيضاوان ليس معهما قميص، وإني لأترك إلا قليلا حتى أنال خيرا منهما أو شرا منهما، فابتاعوا له ريطتين بيضاوين. (32)
*
الريطة: كل ملاءة غير ذات لفقين كلها نسج واحد، وقيل هو كل ثوب لين دقيق.
(
انظر: لسان العرب لابن منظور
).

وروي عن حذيفة أنه قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن الدجال، والذي نفسي بيده لا يموت رجل وفي قلبه مثقال حبة من حب قتل عثمان إلا تبع الدجال إن أدركه وإن لم يدركه آن به في قبره، فشهد حذيفة أول الفتن التي كان يُحدثه بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان مقتل عثمان، ولما علم حذيفة بمقتله قال: والله لئن كان قتله خيراً ليحلبنه لبناً، وإن كان قتله شراً ليمتص بِهِ دَمًا (33)، وما لبث أن توفى بعده بأربعين ليلة، فمات في أوائل سنة ست وثلاثين بالمدائن.(34)

رحم الله حذيفة بن اليمان العارف بالمحن وأحوال القلوب، المشرف على الفتن والآفات والعيوب، سأل عن الشر فاتقاه، وتحرى الخير فاقتناه.. (35)

-
لا شك أن سير الصحابة رضي الله عنهم تفيض بالحكم والمواعظ، وفي أكناف هديهم ما يبصر المرء بالحق ويهديه في غياهب الفتن، ويثير في نفس المتأمل الطالب للحق الهمة، فالاطلاع على سيرهم تكسب المروءة، وتهذب الأخلاق، وما أحوجنا لذلك في هذا الزمان.
واعلم أن المؤمن الفطن لا يكتفي بمعرفة سبل الخير، بل عليه معرفة الشر ليتقيه، وكم من بدعة انتشرت وروج لها بدافع الخير!

-
وفي الختام أقول لك:كن عالما بقدرك وإمكاناتك واعلم ذوي الخير وأهل الصلاح بها، وانفع أمتك.

المراجع:
(1) [
دلائل النبوة: 7/150]
(2) [
معجم حفاظ القرآن عبر التاريخ 1/423]بتصرف.(3) [معجم حفاظ القرآن عبر التاريخ 1/423] بتصرف.
(4) [
تهذيب الكمال: 5/496](5) [الطبقات الكبرى: 6/15] بتصرف.
(6)
[تهذيب الأسماء واللغات 1/153] بتصرف.
(7)،(8)[تهذيب الأسماء واللغات: 1/154] بتصرف.
(9) [
المعجم الكبير للطبراني: 3/163]
(10) [ صحيح مسلم:3/1414 ] (11) [المغازي للواقدي: 1/233-234] بتصرف
(12) [
المغازي للواقدي: 1/233-234] بتصرف(13) [صحيح البخاري: 5/39](14) [صحيح البخاري: 5/25]
(15) [
تهذيب الكمال: 5/496] بتصرف.
(16) [
المغازي للواقدي: 3/1045]
(17) [تهذيب الأسماء واللغات: 1/154]
(18) [
المغازي للواقدي: 3/1045]
(19) [
الزهد لوكيع: 1/791]
(20) [
حلية الأولياء: 1/ 354].
(21) [تهذيب الأسماء واللغات: 1/155](22)[تهذيب الأسماء واللغات: 1/154]
(23)
[صحيح مسلم: 4/2216]
(24) [
صحيح مسلم: 1/128]
(25) [اصحيح مسلم: 3/1414]
(2
6) [تهذيب الأسماء واللغات: 1/154]
(2
7) [ البداية والنهاية: 7/123-125]
(
28) [ الثقات لابن حبان: 2/232](29) [ تهذيب الأسماء واللغات: 1/154]
(
30) [ فضائل الصحابة: 1/58]
(3
1) [ تهذيب الكمال: 5/506]
(3
2) [المعجم الكبير للطبراني: 3/163]
(3
3) [البداية والنهاية: 7/214]
(3
4) [تهذيب الأسماء واللغات: 1/154]
(3
5) [ حلية الأولياء: 1/270]


صفية الشقيفي 9 ذو القعدة 1443هـ/8-06-2022م 01:04 PM

(( لعلّ خُفًا يقعُ على خُف ))
مقتطفات من سيرة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما

عاش صغار الصحابة رضي الله عنهم في المدينة وشهدوا عز الإسلام ونصرته على أعدائه، وتنعموا بالتعلم على يدي النبي صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة، ثم عاشوا من بعدهم سنوات طويلة وابتُلوا بأداء الأمانة التي تحملوها في شبابهم من نشر الإسلام وتعليم التابعين ما تعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة، فكانوا خير من أدى الأمانة بعدهم، وخير من نصح الأمة
ومن هؤلاء، عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
عُرف عبد الله بن عمر رضي الله عنه بشدة متابعته للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، حتى قالت عنه عائشة رضي الله عنها: ((ما رأيت ألزم للأمر الأول من عبد الله بن عمر)) (1)
وقال عنه نافع: لو نظرت إلى ابن عمر إذا اتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم لقلت: ((هذا مجنون)) (2)
وكان يركب راحلته ويسير بها في الطريق ويأخذ رأس راحلته يثنيها، ويقول: (( لعل خُفًا يقع على خُف)) (3)
يعني لعل خُف راحلة عبد الله بن عمر تقع على أثر خُف راحلة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هذا من شدة محبته للنبي صلى الله عليه وسلم وشدة حرصه على اتباعه
فإذا كان هذا حاله في تتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف حاله في تتبع هديه والاستقامة عليه؟!
لنتوقف أمام بعض المواقف من سيرته - رضي الله عنه - نستضيء بنورها في ظلمة واقعنا الحالي، ونسترشد بها، ولم لا وهو في كل فعله يسترشد بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
أسلم عبد الله بن عمر رضي الله عنه صغيرًا مع والده في مكة، وهاجر معه، ثم نشأ وشبّ في المدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فنشأ في عبادة الله، وحكى عن نفسه هذه القصة:
عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: كان الرجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا رأى رؤيا قصَّها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وكنت غلاما شابا عزبا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان كقرني البئر، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، قال فلقيهما مَلَك فقال لي: لم تُرَع، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل».
قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلا). (4)
فانظروا إلى ثبات ابن عمر رضي الله عنه، والتزامه أمر النبي صلى الله عليه وسلم طيلة حياته !
يتوفى النبي صلى الله عليه وسلم وعمر عبد الله بن عمر أربعة وعشرون عامًا، (5) صحب الخلفاء الراشدين، وشهد معهم بعض الفتوحات.
وأوصى عمر رضي الله عنه مشورة الستة الذين سيختارون منهم الخليفة من بعد عمر رضي الله عنه على ألا يكون له من الأمر شيء، (6).
ثم توالت الفتن على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليظهر حسن فهم ابن عمر رضي الله عنه للقرآن وحسن اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم
عن عبد الله بن عبيد بن عمير: قال ابن عمر: (إنما كان مثلنا في هذه الفتنة كمثل قوم كانوا يسيرون على جادّة يعرفونها؛ فبينا هم كذلك إذ غشيتهم سحابة وظلمة؛ فأخذ بعضنا يمينا، وبعضنا شمالا، وأخطأنا الطريق وأقمنا حيث أدركنا ذلك حتى تجلى عنا ذلك؛ حتى أبصرنا الطريق الأول فعرفناه فأخذنا فيه). (7).
ولما حدثت الفتنة الثانية بعد يزيد بن معاوية، قال مروان بن الحكم لابن عمر: ألا تخرج إلى الشام فيبايعوك؟ قال: فكيف أصنع بأهل العراق؟ قال: تقاتلهم بأهل الشام، قال: والله ما يسرني أن يبايعني الناس كلهم إلا أهل فدك، وأني قاتلتهم فقتل منهم رجل واحد). (8).
ولما حدثت فتنة ابن الزبير أتى ابن عمر رجلان فقالا: إنّ النّاس صنعوا وأنت ابن عمر، وصاحب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فما يمنعك أن تخرج؟ فقال «يمنعني أنّ اللّه حرّم دم أخي» فقالا: ألم يقل اللّه: {وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ} [الأنفال: 39] ، فقال: «قاتلنا حتّى لم تكن فتنةٌ، وكان الدّين للّه، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتّى تكون فتنةٌ، ويكون الدّين لغير اللّه» (9)

ستون سنة عاشها ابن عمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، يشارك في الفتوحات ويفتي الناس، ويعلمهم أمور دينهم:
عن الإمام مالك بن أنس قال: (أقام ابن عمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستين سنة يفتي الناس في الموسم وغير ذلك).
قال: (وكان ابن عمر من أئمة الدين). (10).
ستون سنة، والفتن تتوالى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيبصرهم رضي الله عنه مواطن الحق، ويتبرأ من كل بدعة وضلالة.
عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ - أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ - فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ، فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ، فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ، وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ، قَالَ: «فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي»، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ «لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ» ثم روي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث جبريل الطويل، (11)
ستون سنة يصبِر ويصابر على فراق النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة واحدًا تلو الآخر
وكلما ذُكر أمامه النبي صلى الله عليه وسلم يبكي، حتى روى عنه حفــــــيده محمد بن زيد هذا الأمر ! (12)
ستون سنة ...
شعاره فيها: (إني لقيت أصحابي على أمر، وإني أخاف إن خالفتهم خشية ألا ألحق بهم). (13).
فأكرِم به من متبعٍ حسن، وصاحبِ وفي، علِم فعمل، وثبت حتى لقي الله عز وجل
يصيبه سهمُ جنود الحجاج بن يوسف الثقفي، في السنة التي غلب فيها الحجاج على مكة وقتل ابن الزبير رضي الله عنه
فيزوره الحجاج ويقول: (لو نعلم من أصابك)
فلم يمنعه بطش الحجاج من قول الحق، فقال ابن عمر: (أنت أصبتني)
فقال الحجاج: وكيف؟
قال ابن عمر: «حملت السلاح في يوم لم يكن يُحمل فيه، وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم» (14).
وكان هذا سنة أربعة وسبعين للهجرة، وعمره إذ ذاك أربع وثمانون عامًا.

وفي الختام فائدة وعبرة ...
محبة النبي صلى الله عليه وسلم ليست مجرد كلام يقال، ولا ادّعاء خال من العمل؛ بل مقياسه الاتباع، والمجاهدة لضبط سيرك على نهجه، مهما لاقيت من ابتلاءات وعقبات وفتن، في كل مرة ترجع لهديه صلى الله عليه وسلم، وتتبع أمره ولا تبغ عنه حولا.
ولكّ في عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - خير قدوة، وتأمل كيف عاش هذا العمر الطويل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ومدى صعوبة الثبات على ما تركه عليه النبي صلى الله عليه وسلم، رغم كل الفتن التي تعرض إليها
فاللهم يامقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك حتى نلقاك، وأرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعًا، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابًا.
______________________________
(1) رواه الحاكم في المستدرك
(2)، (3) رواهما أبو نعيم في حلية الأولياء.
(4) متفق عليه.
(5) مستفاد من رواية الخطيب البغدادي في رقم (10) ومن تاريخ وفاته رضي الله عنه.
(6) رواه البخاري.
(7) و (8) رواهما ابن سعد
(9) رواه البخاري.
(10) رواه الخطيب البغدادي.
(11) رواه مسلم.
(12) رواه الدارمي.
(13) رواه ابن سعد في الطبقات
(14) رواه البخاري.

إيمان جلال 9 ذو القعدة 1443هـ/8-06-2022م 03:58 PM

أبو العالية رُفيع بن مهران الرياحي (ت: 93هـ)

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:
حديثنا اليوم هو عن أحد أسلافنا الأفذاذ، من التابعين الكرام، الذين جاءوا بعد عصر النبوة، فلم يلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما صحبوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري (3651) ، ومسلم (2533) عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَه ).
قال النووي رحمه الله :
" الصَّحِيحُ أَنَّ قَرْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الصَّحَابَةُ ، وَالثَّانِي : التَّابِعُونَ ، وَالثَّالِثُ : تَابِعُوهُمْ " انتهى من " شرح النووي على مسلم " (16/85) .
إنه الإمام القارئ المفسر الفقيه، التابعي المخضرم، أبو العالية الرياحي رحمه الله تعالى.
أدرك الجاهلية، وأسلم في خلافة أبي بكر الصديق، وقرأ القرآن على عمر، وابيّ بن كعب، وزيد بن ثابت رضوان الله عليهم أجمعين. كان مملوكاً لامرأة من بني رياح؛ فوافت به المسجد والإمام على المنبر فأشهدت المسلمين على عتقه سائبة لله.
أحب العلم وأهله، وانكب على كتاب الله علما وعملا، فحرص على التتلمذ على يد الصحابة في التفسير وعلوم القرآن. وقد روى عن عائشة وابن مسعود وأبيّ بن كعب، وأبي موسى، وابن عباس وأنس بن مالك، وغيرهم. وإن كل من يتصفح كتب التفسير فلابد وأن يجد اسمه لما له من مرويات عديدة في التفسير.
قال قتادة: قال أبو العالية: (قرأت القرآن بعد وفاة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- بعشر سنين). [1]
ودعونا نتوقف عند وقفات من سيرته، نستلهم منها الدروس، ونستقي منها العبر:

- شكره لله واعترافه بمنته عليه أن رفعه في الدنيا بالعلم الذي حصله، فأعزه الله وشرفه ورفعه لمكانة غبطته قريش عليها.
ودليله: أنه قال: (كنت آتي ابن عباس وهو أمير البصرة، فيجلسني على السرير، وقريش أسفل، فتغامزت قريش بي، فقالت: يرفع هذا العبد على السرير! ففطن بهم، فقال: إن هذا العلم يزيد الشريف شرفا، ويجلس المملوك على الأسرة). [2]
فنتعلم منه طلب العلم مخلصين فيه لله لا طمعا بلعاعة من لعاع الدنيا، فيكون همنا الرفعة عند الله يوم القيامة، والله يرفع الصادقين المخلصين في الدنيا والآخرة.

- حرصه رحمه الله على الاحتياط لدينه والسؤال عما قد يشكل عليه.
دليله: ما قاله أبو خلدة: أنه سمع أبا العالية يقول: (كنا عبيدا مملوكين، منا من يؤدي الضرائب، ومنا من يخدم أهله، فكنا نختم كل ليلة، فشق علينا، حتى شكا بعضنا إلى بعض، فلقينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعلَّمونا أن نختم كل جمعة، فصلينا ونمنا ولم يشق علينا).[3]
فنستفيد من هذا الأثر:
o أن نقتدي بسلفنا الصالح بالسؤال عما قد يعرض لنا في أمور ديننا، ونحتاط له لئلا نهلك.
o وأن نكون في خدمة أهلنا وذوينا.
o الحرص على الاجتهاد في الطاعات، لنيل الدرجات العلا عند الله، مهما ضاق الوقت علينا.

- التثبت من الدليل والتأكد من صحته، قبل امتثاله أو تعليمه.
ودليله: ما قاله أبو قطن: (أن أبا خلدة حدثه عن أبي العالية أنه قال: كنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم نرض حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم). [4]
فنتعلم التحقق من صحة العمل قبل القيام به، وأنه مما قام الدليل عليه.

- تواضعه رحمه الله مع وفرة علمه.
دليله: ما قاله عاصم الأحول: (أن أبا العالية كان إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام وتركهم). [5]
فنتعلم منه ألا نغتر بما آتانا الله من العلم، ولنتذكر دوما أننا مهما جاءنا من العلم فنحن ما زلنا عند أول عتبة منه، فنتواضع لله ثم للخلق، ونسأل الله من فضله أن يزيدنا علما وتقىً.

- رجوعه إلى الحق متى ما تبين له بالدليل الصحيح.
دليله: ما قاله سلام بن مسكين: أن محمد بن واسع نقل عن أبي العالية الرياحي قوله: (ما أدري أي النعمتين علي أفضل. إذ أنقذني الله من الشر وهداني إلى الإسلام أو نعمة إذ أنقذني من الحرورية). [6]
فنتعلم أن نبحث عن الحق فنتبعه ونجتنب الهوى، وأن نبقى معترفين بفضل الله علينا أن خلقنا مسلمين، على الدين الحق الحنيفية السمحة، وعلى مذهب أهل السنة والجماعة بلا حول منا ولا قوة.

مات رحمه الله سنة تسعين، وقيل ثلاث وتسعين للهجرة، وقد ترك موروثا قيّما من العلم، اهتم به من جاء بعده من أهل العلم لأهميته، فرحمه الله تعالى ورضي عنه، وجمعنا وإياه ونبينا وصحابته وسلفنا الصالح في مستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين.

[1] سير أعلام النبلاء للذهبي.
[2] تاريخ الإسلام للذهبي.
[3] ابن سعد في الطبقات.
[4] ابن سعد في الطبقات.
[5] ابن سعد في الطبقات.
[6] ابن سعد في الطبقات.

إيمان جلال 9 ذو القعدة 1443هـ/8-06-2022م 04:05 PM

أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري الأنصاري (ت:74هـ)

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:
فلازلنا نتنقل في الحديقة الغنّاء، من سير ملهمة تتعلق بخير البشر بعد الأنبياء، نطوف بين رياضها العطرة، التي يفوح أريجها معطرا بشذا الجنان الفيحاء. رجال ونساء، تربوا على مائدة القرآن على يد خير معلم ومربي - صلى الله عليه وسلم - لنستلهم منها الدروس، ونستقي منها العبر. هم خير جيل عرفته البشرية، اختارهم الله لصحبة خير أنبيائه صلوات الله وسلامه عليه، حملوا راية الإسلام بعد نبيهم، فقاموا بها حق القيام، ليكملوا المسير، دون تغيير ولا تبديل.
وما أجمل ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه عن أصحاب الحبيب – صلى الله عليه وسلم – حين قال: (إنَّ اللهَ نظرَ في قلوبِ العبادِ فوجدَ قلبَ محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خيرَ قلوبِ العبادِ فاصطفاهُ لنفسِهِ فابتعثهُ برسالتِهِ ثم نظرَ في قلوبِ العبادِ بعدَ قلبِ محمدٍ فوجدَ قلوبَ أصحابِهِ خيرَ قلوبِ العبادِ فجعلهم وُزَرَاءَ نبيِّهِ يُقاتلونَ على دِينِهِ فما رأى المسلمونَ حسنًا فهوَ عندَ اللهِ حَسَنٌ وما رَأَوا سيِّئًا فهو عندَ اللهِ سيئٌ). [1]

وهنا، دعونا نتوقف عند صحابي كريم، إمام جليل، ومجاهد شجاع، وفقيه بارع، شهد الخندق وما بعدها من الغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم.
هو سعد بن مالك بن سنان الملقب بأبي سعيد الخدري، خزرجي من الأنصار، والده مالك بن سنان الذي استشهد يوم أحد، ولد في السنة العاشرة قبل الهجرة في المدينة، وهو من أسنان عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وسمرة بن جندب – رضوان الله عليهم أجمعين -، اعتنق الإسلام باكرا، فقد كان من الذين أسلموا قبل سن البلوغ.

وسأسرد عطر سيرته في نقاط، نستمد من كل واحدة منها عبرة وفائدة، تقرأها المربية فتربي النشء عليها، ويقرأها أبناء هذا الجيل فيمتثلون مآثرها، لعلي بذلك أسهل عليهم الاقتداء بقدوات شامخة، أسحب بها البساط من تحت أرجل مشاهير مفلسة تهدم الشخصية ولا تعمرها، وتشتت البيوت ولا تجمعها.

- هو مثال للشجاعة والإقدام ورباطة الجأش: فقد روى عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه أنه قال: (عُرضت يوم أحد على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاث عشرة، فجعل أبي يأخذ بيدي فيقول: يا رسول الله إنه عبل العظام، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصعّد في النظر ويصوبه، ثم قال: (رده)، فردني). [2].
فنلحظ كيف أنه رغم حداثة سنه، إلا أنه أبدى استعداده لخوض معارك ترتعد منها فرائص الرجال، إلا أنه كان مصرا على خوضها، لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم رده. ومع ذلك، وحين سنحت له الفرصة للمشاركة في غزوة الخندق اقتنصها، وشهد أيضا بيعة الرضوان.
- فقهه وغزارة علمه رضي الله عنه: فقد روى حنظلة بن أبي سفيان عن أشياخه أنهم قالوا: (لم يكن أحد من أحداث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أفقه من أبي سعيد الخدري). [3]
فما كان من انكبابه على العلم، وحرصه على ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أصبح من أبرز المحدثين، فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قرابة الألف والمائة وسبعين حديثا.
- طاعته للنبي صلى الله عليه وانقياده لأوامره، كما جاء في الحديث الذي رواه رضي الله عنه حين قال: أعوزنا مرة فقيل لي: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته! فانطلقت إليه مُعْنِقا، فكان أول ما واجهني به: "من استعفَّ أعفَّه الله، ومن استغنى أغناه الله، ومن سألنا لم ندخر عنه شيئا نجده". قال: فرجعت إلى نفسي، فقلت: ألا أستعف فيعفني الله! فرجعت، فما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بعد ذلك من أمر حاجة، حتى مالت علينا الدنيا فغرقتنا، إلا من عصم الله). رواه ابن جرير، وأصله في الصحيحين من غير قصّة الحديث، وأنه وافق النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بهذا الحديث على المنبر.
وهكذا يجب أن نكون، في اقتدائنا بالصحابة الأجلاء، فنطيع الله ورسوله، فنأتمر بأوامر الله ورسوله، وننتهي عما نهانا عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
- ومن القصة ذاتها نلحظ عزة نفسه وذلك حين امتنع عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم من لعاع الدنيا على الرغم من شدة فاقته.
- ويظهر كذلك صبره على نوائب الدهر، وذلك حين امتنع عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم من متاع الدنيا شيئا حين أعرضت عنه، وهكذا يجب أن يكون حال المؤمن، بين صبر على الضراء وشكر للمولى على السراء.
- وكذلك يظهر حياؤه من النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى الرغم من شدة فاقته رضي الله عنه، إلا أنه استحى أن يصرح للنبي صلى الله عليه وسلم الذي بادره بدوره بالنصيحة قبل أن يطلب منه ما جاء لأجله.
- عرف عنه رضي الله عنه شدة ورعه وتقواه، وحبه للقرآن العظيم، فكان غالبا ما يوصي الناس بها، فقد روى الذهبي وغيره من طريق إسماعيل بن عياش: أنبأنا عقيل بن مدرك أن رجلًا أتى أبا سعيد فقال له: أوصني يا أبا سعيد. فقال له: (سألتَ عما سألتُ من قبلك، قال: عليك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإنه روحك في أهل السماء وذكرك في أهل الأرض، وعليك بالصمت إلا في حق، فإنك تغلب الشيطان). [4]
وقد امتثل - رضي الله عنه - النصيحة التي أسداها للآخرين، فقد ألم ّ بالقرآن علما وتفسيرا وتلاوة، فتعددت مروياته في التفسير، كما روى عنه في التفسير العديد من الصحابة: كابن عباس، ومن التابعين كابنه عبد الرحمن، وعطاء وعطية العوفي، وغيرهم.
توفى -رحمه الله تعالى- سنة أربع وسبعين من الهجرة على الصحيح عن عمر يناهز السادسة والثمانين، فرضي الله عنه وأرضاه وجمعنا وإياه ونبينا وبقية الآل والصحب أجمعين يا رب العالمين.

ولا غرابة من كل تلك الشمائل في صحب النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان هو معلمهم ومزكيهم، ساروا معه وقد ملأ الإيمان كل دروب الحياة، وخالطت بشاشته قلوبهم، وشرحت له صدورهم، ووجدوا محبة النبي صلى الله عليه وسلم غالبة على محابهم ومواجيدهم، حتى قال أبو سفيان – رضي الله عنه – وقد كان وقتئذ على الكفر: (ما رأيت أحدا يحب أحدا كما يحب أصحاب محمد محمدا). [5]

أبعد هذا الكم من القدوات، الذين أثنى تعالى عليهم في كتابه، ومات نبيه صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم، يأتي من ينتقص منهم؟ أو يحيد الجاهل عن اقتفاء أثرهم؟
فيا أبناء وبنات هذا الجيل، هلموا لهؤلاء الرجال الشامخين فاقتدوا بهم، وتعلموا سيرهم، فوالله إن الخير كل الخير باتباع هديهم، فبهداهم اقتدوا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الآل والأصحاب صلاة وسلاما زاكيين إلى يوم القيامة .



[1] رواه أحمد في المسند (1/379) رقم (3600) وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح.
[2] سير أعلام النبلاء "3/ 169"، تاريخ الإسلام "3/ 220"، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر "6/ 113".
[3] رواه ابن سعد.
[4] تاريخ الإسلام "3/ 220"، سير أعلام النبلاء "3/ 170".
[5] السيرة النبوية لابن هشام (2/172)

إيمان جلال 9 ذو القعدة 1443هـ/8-06-2022م 05:27 PM

حذيفة بن اليمان بن جابر العبسي الغطفاني (ت: 36 هـ)

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، ثم أما بعد
لقد جلت حكمة الله تعالى أن يرسل النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للثقلين، بعد أن كانت الخليقة في جاهلية عمياء، غارقة في أنواع الموبقات، فانتشلها من حضيض الأخلاق، إلى أسمى المقامات.
ولم يتحقق للأمم السابقة ما تحقق لهذه الأمة، بأن أرسل لها خير الرسل، وقيض له أشرف الخلق بعد الأنبياء، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم فقاموا بهذا الدين حق القيام، وهم الأبر قلوبا، والأعمق فكرا، والأقل تكلفا، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
هم صحبة ليس لهم مثيل ولا نظير، ويكفينا شرفا وفخرا بتلك الصحبة أن نعلم أنهم ليسوا كأصحاب أي نبي قبله، عليهم الصلاة والسلام أجمعين، كيف لا؟ وقد أثنى تعالى عليهم بقوله: "مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ ۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَىٰهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا ۖ سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِى ٱلْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًۢا" [الفتح: 29].
ويتمثل ذلك جليا حين ندرك سوء أدب بعض أصحاب موسى عليه السلام حين قالوا له: "اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون" [المائدة 24]. ومثلهم في بعض أصحاب عيسى عليه السلام حين قالوا له: "هل يستطيع ربك" [المائدة 112]. أما أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم فقد آزروا النبي صلى الله عليه وسلم ونصروه وأحبوه، فها هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يروي ما قاله المقداد بن الأسود رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (لا نقول كما قال قوم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك وخلفك) [البخاري 3952].
ودعونا اليوم نتناول سيرة واحد من تلك النخبة المنتقاة، لنستلهم من سيرته العبر، ونستقي منها الدروس والحكم. وهذه هي الغاية التي لأجلها سأسرد فيها سيرته العطرة رضي الله عنه وأرضاه، حيث سأعرضها في نقاط، تشير فيها كل نقطة لفائدة سلوكية نقتدي به فيها عبر تطبيق عملي، سائلين المولى عزوجل أن يجمعنا به وبنبينا وبصحبه أجمعين.
إنه الصحابي الجليل: أبو عبد الله حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
- هو صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم، نال هذا الشرف بسبب أمانته وحفظه للسر وكتمانه، فقد صان ما استودعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه، ولم يفشه مهما حاول الغير استنطاقه، فنقتدي به في حفظ الأمانات، والحرص على الأسرار. [1]
- عرف عنه بره بوالده، الذي رافقه في إسلامه، وفي هجرته للنبي صلى الله عليه وسلم لولا أن قريشا منعتهما من الوصول إليه. [2]
- ومما اتصف به هذا الصحابي الجليل: امتثاله لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم بحذافيرها، مهما خالفت ما تهواه نفسه، فقد التزم أمر النبي صلى الله عليه وسلم في الوفاء بالعهد الذي قطعه وأبوه عن نفسيهما مع قريش في عدم مشاركتهما النبي صلى الله عليه وسلم في قتالهم. [3]
- اختار رضي الله عنه نصرة النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الغزوات باستثناء بدر وفاء للعهد الذي قطعه لقريش، فشارك ووالده في أُحد دفاعا عن النبي صلى الله عليه وسلم ونصرة لهذا الدين العظيم. مما يدل على حبهما للإسلام واستماتتهما في الدفاع عنه. [4]
- ونلحظ سماحة نفسه في غزوة أحد حين دعا للصحابة - الذين قتلوا أباه اليمان خطأ - بالمغفرة، حيث لم تفلح محاولات ولده في ذب سيوف الصحابة عنه. ظهرت لنا سجية عطرة من سجاياه: وهي العفو والصفح مع شدة الأمر على النفس، فتنازل للصحابة عن الثأر لمقتل أبيه لعلمه بالتباس الأمر عليهم، فرضي الله عنهم أجمعين وأرضاهم. [5]
- ونستلهم من تلك القصة أيضا زهده وكيف أنه لا يلتفت للعاع الدنيا، فلم يطالب بفدية، بل كان جل همه الآخرة وأن ينال عفو الله عنه وأن يتجاوز عنه. ومثلها مما يدل على زهده في الدنيا: أمره بتكفينه بأقل ما يمكن أن يقوم به الأمر، فلم يستكثر من الدنيا حتى عند آخر رمق فيها. [6]
- تفرس النبي صلى الله عليه وسلم بحذيفة الذكاء وسرعة البديهة، التي ظهرت منه رضي الله عنه حين سمع أصوات بعض المنافقين تدعو لقتل النبي صلى الله عليه وسلم حين نعس بدفعه عن راحلته، فما كان منه رضي الله عنه إلا أن حال بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام، فائتمنه النبي صلى الله عليه وسلم على سر أسماء المنافقين، وهذه الخصيصة خصه بها النبي صلى الله عليه وسلم لفراسة تفرسها به عليه السلام، فكان جديرا بهذا الشرف رضي الله عنه. [7]
- ومن ذات القصة يظهر لنا توقيره للنبي صلى الله عليه وسلم حين لم يشأ أن يوقظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه، بل اختار أن يقترب منه تاليا لآيات من القرآن ليلفت انتباهه عليه الصلاة والسلام، فيا له من إحساس مرهف، وحسٍّ لا يتمتع به إلا خير البشر بعد الأنبياء رضوان الله عليهم أجمعين. [8]
- كان رضي الله عنه لامع الذهن، يحتاط لدينه أشد الاحتياط، حين خالف الناس في سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير، فقد كان يسأله عن الشر، خوفا منه على دينه الذي هو رأس ماله، وغاية ما يملكه. [9]
- ظهرت شجاعته وقوته حين ندبه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب ليجس له خبر العدو رغم الخوف والبرد الشديد، فأتم الله على يديه فتح الدينور عنوة، فتحلى بالشجاعة بالحق وعدم الاكتراث لقوة وبطش العدو، كما شارك في فتوحات العراق كلها. فظهرت كرامة حذيفة رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم حين أوكل له مهاما دون غيره من كبار الصحابة، وتابع الصحابة نبيهم صلى الله عليه وسلم في اختياره في المهام الثقال حين استخلفهم الله تعالى بعد النبي صلى الله عليه وسلم. [10]
- ويظهر لنا شدة حب حذيفة لهذا الدين وغيرته عليه جليا حين سارع منتفضا إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، يشير عليه جمع الناس على مصحف واحد حين اختلفت قراءاتهم، خشية من أن تختلف قلوبهم فتحدث المقتلة بين المسلمين التي لا تبقي ولا تذر، وهذا إن دل كذلك على شيء، فإنما يدل على حصافته، ومعرفته للعواقب التي قد تؤول إليها الأمور الظاهرة. [11]
- أحب القرآن حبا جما، حتى كتب لعثمان مصحفا وعرضه عليه حين خشي على المسلمين الفرقة والتشرذم والاقتتال.
ولذلك الحرص منه على كتاب الله رضي الله عنه، قام بعض المفسرين من الصحابة بالرواية عنه رضي الله عنهم جميعا، أمثال: أنس بن مالك، وأبو الطفيل، وجندب بن عبد الله، رضي الله عنهم أجمعين. كما روى عنه بعض التابعين، وأرسل عنه آخرون. [12]

أبعد كل ما تقدم من مآثر، يبحث أبناء هذا الجيل عن قدوات من هنا وهناك؟ أبعد هؤلاء النخب يقتدي أبناؤنا بمشاهير لا همّ لهم سوى الدنيا ودناءاتها؟ فهؤلاء هم منارات الدنا، حملوا لنا الدين، وحفظه تعالى بهم، فساروا على هدي المختار، وقاموا به خير قيام.
وقد صدق الشاعر حين قال في مدحهم:
فإنَّ للأصحاب جزمًا *** فضائلَ جـــمـــَّةٍ ثبتت يقيــــنـــَــا
فقد كانوا بنص الوحي عونًا *** لخيْرِ الخــــلق أيضا نــاصرينَا
وهم وزراءُ أحمد خيرُ صحب *** وما غفلوا عن الخيرات حينا
وقد عبدوا الإلهَ الحقَّ صدقًا *** فكانوا مخلِصين ومخلَصينَا
وقد لبسُوا التقى ثوبًا جميلًا *** فصاروا قـــــــــــــدوةً للصالحينَا
وقد حملوا السيوف على الأعادي*** فكانوا أسوةً للفاتحينَا
أشــــــــداءٌ على الكــــــفـــــــار كانوا *** وكان جهــــــــادهم لله ديـــــنَا
وفاضت رحمة الرحمن فيهمْ *** وفضلُهُمُ يَغيض الكافرينَا
وقد رضي الإلهُ الحقُّ عنهمْ *** فكانوا في القيامة فائزينَا
وهم حقًّا وعاةَ العلم كانوا *** وهم صدقًا نجوم السالكينَا
وأوصانا النبيُّ بهم جميعًا *** وحــــــرَّم سبَّــــهم وتلا اليــــميـــنَا
وأعقبهُ بأن لهم مقامًا *** ولن يـــرقــــاه خــيرُ المُــنْـــفِـــــقـــيــــنَـــــا
فلا تسمع لسَبٍّ جاء فيهمْ *** ولا تسمع لقدح القادحينَا
فمن سب الصحابة كان رِجْسًا *** وكان مشابهًا للكافرينَا
ومــــــــــن آذاهـــــــــــــمُ آذى إلــــــهًا *** عـــزيزًا قادرًا حكمًا متينَا

رضي الله عنه وأرضاه، وجمعنا معه ومع نبينا والصحابة كلهم أجمعين في مستقر رحمته، فصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الغر الميامين إلى يوم الدين.


[1] الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/334)
[2] سير أعلام النبلاء (2/363)
[3] سير أعلام النبلاء (2/364)
[4] سير أعلام النبلاء (2/362)
[5] سير أعلام النبلاء (2/362)
[6] سير أعلام النبلاء (2/396)
[7] سير أعلام النبلاء (2/ 364)
[8] المغازي (1/145)
[9] سير أعلام النبلاء (2/365)
[10] البداية النهاية لابن كثير (4/ 113)
[11] تهذيب ابن عساكر (4/100)
[12] الإصابة في تمييز الصحابة (2/44)

إيمان جلال 9 ذو القعدة 1443هـ/8-06-2022م 05:34 PM

أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي: (ت:102هـ)

علم من أعلام التابعين، تكرر ورود اسمه في كتب التفسير، حتى عدّ من أعلم الناس بالتفسير.
كان مولى لقيس بن السائب المخزومي، ولد في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلازم الصحابة وخاصة ابن عباس، الذي فقد صحبه مدة طويلة، فكان هذا سببا في أخذ العلم الغزير عنه في القرآن والتفسير والفقه.
ومما يشهد على ذلك، ما رواه محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن مجاهد أنه قال: (لقد عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات أقف عند كل آية أسأله فيم أنزلت، وفيم كانت؟). [1] رواه الدارمي وابن جرير.
ومن نجابته في علم التفسير، أنه قد رويت عنه صحيفة قديمة في التفسير، عرفت ب "تفسير مجاهد"، وقد نشرها له: عبد الرحمن الطاهر السورتي عن طريق مجمع البحوث الإسلامية في باكستان، ونشره أيضاً محمد عبد السلام أبو النيل عن طريق دار الفكر الإسلامي.
وهذا التفسير يرويه عبد الرحمن بن الحسن الهمذاني (ت:356هـ) وهو مضعف، عن الحافظ إبراهيم بن الحسين ابن ديزيل (ت: 281هـ) عن آدم بن أبي إياس العسقلاني (ت:221هـ)، وهذه الصحيفة كانت لدى ابن ديزيل، ولم يروها؛ فوجدها عبد الرحمن بن الحسن وحدّث بها، وفيها آثار يرويها آدم بن أبي إياس عن غير مجاهد كأبي هريرة وأنس والحسن البصري وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة، لكن أكثر ما روى فيها عن مجاهد، ولذلك كان بعض أهل العلم يسمّيها تفسير آدم بن أبي إياس، وهي رواية بالوجادة لا يحتجّ بها، لكن يُستفاد منها في المتابعات والشواهد؛ لأن منها ما هو موافق لما في كتب التفسير المشهورة من الطرق المروية بها.
ودعونا اليوم نقف عدة وقفات مع سيرته العطرة – رحمه الله – التماسا لفوائد تعيننا وأبناء هذا الجيل على تصحيح المسار، وتعديل سلّم الأولويات، لعلنا نعود بهذه الأمة إلى حاضر مجدها وعزتها وتمكينها.
فمما يستقى من سيرته رحمه الله:
- حرصه على طلب العلم من مصدره الصحيح السليم، وانكبابه على العلم طلبا وفهما، وعلو همته التي ناطحت السحاب.
فقد قال ابن أبي مليكة: (رأيت مجاهدًا يسأل ابن عباسٍ عن تفسير القرآن ومعه ألواحه فيقول له ابن عباسٍ: اكتب، قال: حتى سأله عن التفسير كله). رواه ابن جرير. [1]
- تحديده لأولوية ما يطلب من العلم، وسعيه إليه بجد ومثابرة، فعندما اختار ما يصب جل وقته وجهده فيه من أنواع العلوم، عمد إلى التفسير رأس العلوم وأشرفها، فأقبل عليه حتى وصف كأنه رجل أضل دابته فهو يطلبها.
ذكر الذهبي عن بقية عن حبيب بن صالح قوله: سمعت مجاهدا يقول: (استفرغ علمي القرآن). [2]
- شغفه في نشر العلم وخاصة علم التفسير نشرا لم يبلغه غيره من التابعين.
قال فضيل بن مرزوق عن عبيدٍ المكتب: (رأيتهم يكتبون التفسير عند مجاهدٍ). رواه الدارمي [3].
قال أبو بكر الحنفي: سمعت سفيان الثوري يقول: (إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به). رواه ابن جرير. [4]
- روى عن عدد من الصحابة وأمهات المؤمنين: كابن عباس وعائشة وابن عمر وعبد الله بن عمرو وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد وقع في تفسيره شيء يسير من الإسرائيليات، والإسرائيليات المروية عن مجاهد ليست كثيرة، وأكثر علمه بالتفسير كان عن ابن عباس، وكان قد اجتهد رحمه الله في تعلّم التفسير اجتهاداً بالغاً.
فقد روى عن تبيع بن عامر الحميري ابن امرأة كعب الأحبار؛ فربما وافق تفسيره التفسير المروي عن كعب الأحبار؛ فيعلّ بذلك.
كما روى عن رجل يقال له يوسف بن الزبير المكي مولى آل الزبير، كان يهودياً فأسلم، وكان يقرأ الكتب.
قال أبو حاتم الرازي في شأن يوسف بن الزبير: (كان يقرأ الكتب، روى عن عبد الله بن الزبير، روى عنه مجاهد). [5]
- علو همته وتنوع علومه. فقد أتقن تفسير آيات الأحكام الفقهية، مما أهله أن يتصدر للفتوى في زمانه.
قال إسماعيل بن عبد الملك: حدثني يونس بن خباب عن مجاهد قال: (كنت أقود مولاي السائب وهو أعمى فيقول: يا مجاهد دلكت الشمس؟ فإذا قلت نعم قام فصلى الظهر). [6]
- كان لا يحب الشهرة خوفا من أن يقع في الرياء، وهذا من أكثر الأسباب التي يرفع الله بها مكانة العبد عنده وعند الناس، وقد ظهر ذلك جليا على سمته ومنهجه في الطلب.
قَالَ سَلَمَةُ بنُ كُهَيْلٍ: (مَا رَأَيْتُ أَحَداً يُرِيْدُ بِهَذَا العِلْمِ وَجْهَ اللهِ إِلاَّ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةَ: عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَاوُوْسٌ). [7]
روى الأجلح عن مجاهد أنه قال: (طلبنا هذا العلم وما لنا فيه نية، ثم رزق الله النية بعد). [8]
قال منصور: قال مجاهد: (لا تنوهوا بي في الخلق). [9]
- انكبابه على القرآن، علما وتعلما وتعليما ونشرا لعلمه كالتفسير وغيره، فقد روى عنه كثير من الرواة، قسمها العلماء لخمس طبقات:
أصحابه الذين صاحبوه وسمعوا منه التفسير (كابن أبي نجيح) – من سمع منه شيئا يسيرا من التفسير وهم بين مقل (كالأعمش) ومستكثر (كابن جريج) – الذين أرسلوا عنه وقد كان يمكنهم السماع منه (كقتادة) – الذين لم يسمعوا منه ولم يدركوه ولكنهم رووا عن كتبه التي كتبها بعض أصحابه (كسفيان الثوري) – الضعفاء بن أصحابه (كليث بن أبي سليم).
قال الفضل بن دكين: (توفي مجاهد سنة اثنتين ومائة وهو ساجد). [10]
وفي رواية عند ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل أنه مات وهو ساجد خلف المقام.
وقيل: مات سنة 103هـ، وقيل: سنة 104هـ.. [11]
والأكثرون على القول الأول.
فرحمه الله تعالى، وغفر له، ورضي عن صحابته الكرام، وجمعنا ونبينا وسلفنا الصالح جميعهم في مستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

المراجع
[1] سير أعلام النبلاء للذهبي.
[2] سير أعلام النبلاء للذهبي.
[3] العلل ومعرفة الرجال لأحمد برواية ابنه عبد الله.
[4] جامع البيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير
[5] تاريخ دمشق لابن عساكر
[6] رواه ابن سعد
[7] تاريخ دمشق لابن عساكر
[8] سير أعلام النبلاء للذهبي.
[9] سير أعلام النبلاء
[10] سير أعلام النبلاء
[11] سير أعلام النبلاء

صفية الشقيفي 10 ذو القعدة 1443هـ/9-06-2022م 03:02 PM

فقيه المدينة سعيد بن المسيِّب



سعيد بن المسيب
إذا ذُكر الفقه، ذُكر معه سعيد بن المسيب؟
وإذا ذُكر الزهد، ذُكر معه سعيد بن المسيب؟
وإذا ذُكر الخوف من الجرأة على القول في تفسير القرآن بغير علم، ذُكِر سعيد بالمسيب؟
فكيف اجتمع له كل ذلك؟

وُلِد سعيد بن المسيب لسنتين خلتا من خِلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ونشأ في وفرةٍ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحرص على طلب العلم تحت أقدامهم، والنهل من معينهم
وكان شابًا حسن الفهم، سريع الحفظ، فوعى عنهم علمًا كثيرًا.
ولزم سعيد بن المسيب زيد بن ثابت وأبا هريرة رضي الله عنه
أما زيد بن ثابت رضي الله عنه، فكان من أفقه أهل المدينة وأعلمهم بالقرآن والأحكام والقضاء، وأما أبو هريرة رضي الله عنه فكان من أعلم الصحابة بالحديث وأحفظهم له؛ فاجتمع لسعيد بن المسيب علمٌ كثيرٌ
ولم يمنعه وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو صغير، من السؤال عن قضاياه، وطلب حديثه، حتى كان يحيى بن سعيد الأنصاري يقول: (يقال ابن المسيب راوية عمر) (1)
قال الليث بن سعد: (لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته) (2)
وكان حريصًا على طلب العلم حيث وُجد حتى قال الإمام مالك: قال سعيد بن المسيب: ( إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد) (3)
وما زال هذا شأنه، حتى تأهل للفتوى وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياء، وحتى كان يقال عنه فقيه الفقهاء، وعالم العلماء (4)
وإذا كان هذا قدرُه في العلم، فلابد وأن يظهر أثر علمه على شخصيته ومن ذلك زهدُه في الدنيا، زُهد العلماء، وخشيته من القول على الله بغير علم، وهل يحقق الخشية غير العلماء
قال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}
أما زُهدُه، فقد عُرضَت عليه الدنيا فأباها.
قال مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، قَالَ: «كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يُمَارِي غُلَامًا لَهُ فِي ثُلُثَيْ دِرْهَمٍ وَأَتَاهُ ابْنُ عَمِّهِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهَا» (5)
جاءه رسول عبد الملك بن مروان يدعوه إليه مِرارًا فيأبى
قال عِمْرَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ طَلْحَةَ: (دُعِيَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ إِلَى نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا لِيَأْخُذَهَا فَقَالَ: «لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا وَلَا بَنِي مَرْوَانَ حَتَّى أَلْقَى اللهَ فَيَحْكُمُ بَيْنِي وَبَيْنَهُم) (6)
وقال عمران بن عبد الله بن طلحة الخزاعي ، قال : حج عبد الملك بن مروان ، فلما قدم المدينة ووقف على باب المسجد أرسل إلى سعيد بن المسيب رجلا يدعوه ولا يحركه ، فأتاه الرسول وقال : أجب أمير المؤمنين ، واقف بالباب يريد أن يكلمك . فقال : ما لأمير المؤمنين إلي حاجة ، وما لي إليه حاجة ، وإن حاجته لي لغير مقضية ، فرجع الرسول ، فأخبره فقال : ارجع فقل له : إنما أريد أن أكلمك ، ولا تحركه . فرجع إليه ، فقال له : أجب أمير المؤمنين . فرد عليه مثل ما قال أولا . فقال : لولا أنه تقدم إلي فيك ما ذهبت إليه إلا برأسك ، يرسل إليك أمير المؤمنين يكلمك تقول مثل هذا ! فقال : إن كان يريد أن يصنع بي خيرا ، فهو لك ، وإن كان يريد غير ذلك فلا أحل حبوتي حتى يقضي ما هو قاض ، فأتاه فأخبره ، فقال : رحم الله أبا محمد ; أبى إلا صلابة . (7)
وأراد عبد الملك بن مروان أن يخطب ابنة سعيد بن المسيب لابنه الوليد، فأبى سعيد، وزوجها لتلميذه ابن أبي وداعة على درهمين ! (8)
وكان - رحمه الله - راغبًا في طاعة الله عز وجل، زاهدًا عن معصيته، حتى قال «ما دخل علي وقت صلاة إلا وقد أخذت أهبتها ولا دخل علي قضاء فرض إلا وأنا إليه مشتاق» (9)
وقال عنه يزيد بن حازم «كان يسرد الصوم» (10)
وقال عنه عمران بن عبد الله بن طلحة الخزاعي «إن نفس سعيد بن المسيب كانت أهون عليه في ذات الله من نفس ذباب» (11)
وما أجمل ما وصفه به أبو نعيم في مقدمة حديثه عنه في حلية الأولياء حيث قال: (وكان كاسمه بالطاعات سعيدا ومن المعاصي والجهالات بعيدا) (12)
وكيف لا يكون هذا وصفه الذي يُعرف به، إن كانت هذه رؤية سعيد بن المسيب للطاعة والمعصيبة
قال سعيد: ((ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله عز وجل ولا أهانت أنفسها بمثل معصية الله )) 13

فإذا عرفت ذلك عن سعيد بن المسيب فلا تتعجب أن يبلغك عنه هذه المقولة التي اشتهرت
(( إنّا لا نقول في القرآن شيئًا )) (14)
وقال يزيد بن أبي يزيد، قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت، كأن لم يسمع). (15)
لماذا وهو صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
لماذا ودأبه عبادة الله عز وجل، وتعليم الناس، والزهد في الدنيا والمعاصي
إلا أنه يأبى أن يقول على الله بغير علم
وإلا فقد أُثرت عنه بعض الأقوال في التفسير، أغلبها في المسائل الفقهية وبعضها في غير ذلك
ومن تفسيره عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، {إنه كان للأوابين غفورا} قال: «الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب ولا يعود في شيء قصدا» (16)
وفي الختام فائدة وعبرة:
كما قيل: (هتفَ العلمُ بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل)
لا معنى لهذه القائمة الطويلة من الإجازات والشهادات والإنجازات العلمية، إذا لم يكن لهذا العلم أثرٌ على عملك.
وما قيمة العلم إذا كنت تزداد منه ولم يزدك خشية لله عز وجل، وزهدًا في الدنيا وطلبًا للآخرة؟!
ما قيمة العلم إذا كنت تطلب به عرضًا زائلا من الحياة الدنيا ؟!
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وانفع بنا.
______________________________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد.
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد.
(3) سير أعلام النبلاء
(4) الطبقات الكبرى لابن سعد، وسير أعلام النبلاء.
(5) (6) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء.
(7) سير أعلام النبلاء
من (8) لـ (13) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء
(14) (15) رواه ابن جرير.
(16)حلية الأولياء وطبقات الأصفياء.

ضحى الحقيل 11 ذو القعدة 1443هـ/10-06-2022م 07:10 PM

العابد الزاهد

التابعي الجليل
محمد بن كعب بن حبان بن سليم بن أسد القرظي

"يا بني! لولا أني أعرفك صغيراً طيباً، وكبيراً طيّباً، لظننت أنّك أذنبت ذنبا موبقا، لما أراك تصنع بنفسك في الليل والنهار".

والدة محمد القرظي

غزوة الأحزاب
سارت قريش وغطفان ومن والاهما بتحريض من يهود بني النضير في عشرة آلاف مقاتل لحرب المسلمين في المدينة، واستقبلهم المسلمون بجيش لا يجاوز الألف مقاتل يحيط بهم البرد والجوع والقلة..
في هذا الأثناء ورسول الله عليه أتم الصلاة والتسليم مع صحبه في شدة الكرب وقد ألجأهم ضيق الوقت إلى الركون للعهد الذي بينهم وبين قريظة فلم يحفروا خندقا من قبلهم.. في هذا الموقف الصعب تعلن قريظة نقض العهد!!
ليستجد لقوات العدو منفذا يمكنها أن تعبر إلى المدينة خلاله..
وليعظم البلاء ويشتد الخوف..
ولتقوى عزيمة المشركين..
وليظهر نجم المنافقين..

وليحق وصفه سبحانه لحال المعركة بأبلغ وصف إذ قال:

{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} [الأحزاب]



ثم تسير المعركة كما شاء الله لها أن تسير منتهية بنصر محقق للمسلمين وهزيمة نكراء للمشركين.

ويبقى أمر بني قريظة يحتاج إلى حسم جاء به جبريل عليه السلام حين جاء للنبي عليه السلام فور عودته للمدينة إذ قال له: (قد وضعت السلاح؟ والله ما وضعناه، أخرج إليهم ..)
وبعد الحصار ينتهي الأمر بنزول بني قريظة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستسلامهم، وتحكيم سعد بن معاذ فيهم ليلهمه الله أن يحكم فيهم بحكمه فيأمر أن تقتل الرجال وتسبى الذراري والنساء لينالوا جزاء نقضهم للعهد وخيانتهم ..

وبرحمة الله ينجو كعب الطفل الذي لم ينبت، حيث كان الحكم ببلوغ الصبي منهم مرتبط بالإنبات..
ليخرج من صلبه أبا حمزة محمد بن كعب بن حبان بن سليم بن أسد القرظي العالم الجليل الزاهد العابد إمام من أئمة التفسير، بارع في دراسة القرآن وتدبره، وإعمال الفكرة فيه، واستخراج الحجج منه

قال عنه عون بن عبد الله: ((ما رأيت أعلم بتأويل القرآن من القرظي))

فسبحان مدبر الأمور، أخرج برحمته من أصلاب هؤلاء الخونة عالما عابدا زاهدا، مرجعا في علمه وورعه وتقواه.

يجهد الذهن وهو يتأمل في هذه القصة، فبين رحمة الله بالنجاة من القتل على الكفر، الذي لم يمنع منه إلا نقص يسير في العمر، وبين التأمل في إحسان المسلمين وتوادهم وتراحمهم ليمكنوا من كان أصله الكفر والرق ونقض العهد ليبلغ هذا المبلغ من العلم والفهم، وبين عظمة هذا العلم الذي أخذ بلب أهل العقول وأشغلهم عن سفاسف الأمور.

فيارب ..
هداية من عندك، وعلما نافعا بمحض فضلك،
أحسن تدبير أمورنا وتولنا وذرياتنا برحمتك

ولد عالمنا الجليل في آخر خلافة علي بن أبي طالب قرابة العام 40 من الهجرة.
وكان محل ثقة عند أهل العلم زكاه العجلي، وابن سعد، والذهبي، وغيرهم وقد رويت عنه أخبار تدلّ على فضله وإخلاصه ونصحه، وكان ممن غلب عليه الخشوع، والخوف من الله، فاجتهد في العبادة ودراسة القرآن اجتهاداً بالغاً حتى أنس به، وشغل به عن غيره.

روى ابن كثير المصري أن أم محمد بن كعب القرظي قالت لابنها: يا بني! لولا أني أعرفك صغيراً طيباً، وكبيراً طيّباً، لظننت أنّك أذنبت ذنبا موبقا، لما أراك تصنع بنفسك في الليل والنهار.
قال: (يا أمَّاه! وما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع عليَّ وأنا في بعض ذنوبي؛ فمقتني، وقال: اذهب، لا أغفر لك.
مع أن عجائب القرآن ترد بي على أمور حتى إنه لينقضي الليل ولم أفرغ من حاجتي.

كان محمّد بن كعب القرظي ممن يقصّ، وله مواعظ حسنة، ومجالس في التفسير، قال عنه أبو معشر: "كان محمد بن كعب القرظي يقصّ ودموعه تجري على خديه" وكان إذا أراد أن يتكلم قرأ آيات قبل أن يتكلم، وكان من أحسن الناس صوتا، فإذا قرأ بكى وأبكى، ثم يتكلم بعد ذلك.

كما أنه عرف بالزهد والورع فقد عرض عليه عمر بن عبد العزيز أن يستعين به فأبى متهما نفسه بعدم الأهلية تواضعا، ولما أصاب مالا قيل له ادخر لولدك قال: "لا، ولكن أدّخر لنفسي عند ربي، وأدّخر ربي لولدي"

نشأ محمد القرظي في القرون المفضلة، في زمن وفرة العلم المستقى من صحابة الحبيب صلى الله عليه وسلم ، حيث روى عن جمع منهم وممن تبعهم فله مرويات عن كعب بن عجرة، وأبي هريرة، وابن عباس، وزيد بن أرقم، ومعاوية بن أبي سفيان، وفضالة بن عبيد، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وغيرهم.
كما أن له بعض المراسيل عن: أبي ذر، وأبي الدرداء، وعلي، والعباس، وابن مسعود، وسلمان، وعمرو بن العاص.

هذه السيرة الطيبة، والانشغال بالقرآن عما سواه والزهد في الدنيا، والإقبال على الطاعة، أخلت قلب عالمنا الجليل للتفكر والتدبر الذي يحرمه من تشتت قلبه خلف مشاغل الدنيا وأهوائها، فكان له عجائب في التفسير والاستنباط، تبهر أهل النظر حتى يقول أحدهم عن الآية التي يفسرها محمد بن كعب: "فوالله لكأني لم أقرأها قط"!
ومن ذلك:
- استنباطه لأن الله غفر للصحابة جميعهم وأوجب لهم الجنة محسنهم ومسيئهم، واشترط على تابعيهم أن يقتدوا بأعمالهم الحسنة، ولا يقتدون بهم في غير ذلك، من قوله تعالى:
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [100/ التوبة]
- واستنباطه لكون المأمور بذبحه من ولد إبراهيم هو إسماعيل عليه السلام من قوله تعالى بعد قصة الذبح: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين} وقوله: {بشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب}
وكان يقول عن نفسه: وكنت إذا سمعت حديثا عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم التمسته في القرآن
ومن ذلك:
- ربطه بين ما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما توضأ عبد فأسبغ الوضوء ثم قام إلى الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الأخرى" بأن تمام النعمة يأتي بعد مغفرة الذنوب في مواقع من كتاب الله منها قوله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك سراطا مستقيما}، وقوله تعالى: في آخر آية الوضوء في سورة المائدة: {ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم}
ومنه:
- استحضاره للآية عندما قرأ عليه سعيد المقبري وهو يذاكره ما في بعض الكتب: " إن لله عبادا ألسنتهم أحلى من العسل، قلوبهم أمر من الصبر، لبسوا للناس مسوك الضأن من اللين، يجترون الدنيا بالدين، قال الله تبارك وتعالى: أعلي يجترئون، وبي يغترون؟ وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران ". حيث تذكر قوله تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد}
كما كان له مرويات جليلة في التفسير تقرب الفهم وتوسع الإدراك وتفتح لطالب هدى القرآن المغاليق، منها :
- ما فسر به قوله تعالى:{فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}
حيث قال: "من يعمل مثقال ذرة من خير من كافر يرَ ثوابها في نفسه وأهله وماله، حتى يخرج من الدنيا وليس له خير؛ ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن يرَ عقوبتها في نفسه وأهله وماله، حتى يخرج وليس له شر"
- ما فسر به قوله تعالى: {ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين}
بقوله "ولقد علمنا المستقدمين منكم} الميت والمقتول، {والمستأخرين} من يلحق بهم من بعد، {وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم}
- ما فسر به قوله تعالى: {خافضة رافعة}
حيث قال: " تخفض رجالا كانوا في الدنيا مرتفعين، وترفع فيها رجالا كانوا فيها مخفوضين"
- ما فسر به قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات}
بأنها الطوفان والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والبحر، وعصاه، والطمسة، والحجر.
وفسر الطمسة بأنها اجابته تعالى لدعاء موسى عليه السلام حين قال {ربنا اطمس على أموالهم}

التدبر في كتاب الله والعلم بتفسيره المبني على صلاح النية وعلى القواعد السليمة لا بد أن يثمر مادة طيبة للموعظة والدعوة إلى الله فينطلق لسان صاحب التفسير بالنصيحة للخلق بعبارة سهلة تحوي معان جليلة اكتسبها من طول مطالعته لكتاب ربه وتدبره وتفكره فيه وفهمه لمعانية، وقد كان لمحمد القرظي نصيب من ذلك ومن مواعظه المأثورة النافعة:

- "إن بين أيديكم مرصدا، فخذوا له جوازه" ثم قرأ: {إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مئابا}
- "ثلاث خصال من كن فيه كنَّ عليه: البغي، والنكث، والمكر، وقرأ: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}، {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم}، {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه}".
- وعندما سُئل: ما علامة الخذلان؟ قال: "أن يستقبح الرجل ما كان يستحسن، ويستحسن ما كان قبيحا".
- "إذا أراد الله بعبد خيرا زهَّده في الدنيا، وفقَّهه في الدين، وبصَّره عيوبه، ومن أوتيهن أوتي خير الدنيا والآخرة".
- "ما يكذب الكذاب إلا من مهانة نفسِه"

وفاته:
لكل أمر إذا ما تم نقصان، توفي هذا العالم الفذ، وفقدته الأمة في عام 108 على الراجح وقد روي أن وفاته كانت على إثر زلزلة أصابته وهو مجتمع بأصحابه وجلسائه من أهل التفسير في المسجد وأنهم ما توا معه جميعا رحمهم الله وتقبلهم في الشهداء، ورغم أن خاصة أصحابه وأعلمهم بالتفسير ما توا معه، إلا أنه لم يعدم من يروي عنه التفسير فقد روى عنه في كتب التفسير أكثر من خمسين راويا مصنفين بين مكثر ومقل وثقة ومتكلم فيه وضعيف ومتروك ، وأكثر ما يُروى عنه في كتب التفسير المسندة من أقواله في التفسير، وقد روي عنه من مروياته عن الصحابة وغيرهم شيء يسير.


رحم الله محمد بن كعب القرظي وغفر له وأجزل له المثوبة، ورزقنا وذرياتنا الاقتداء بسيرته العطرة في العلم والزهد والعبادة

والحمد لله رب العالمين ..

دروس وعبر من القصة:
- الهداية بيد الله وحدة يخرج المؤمن من صلب الكافر والكافر من صلب المؤمن، توكلنا عليه وحده وفوضناه أمر صلاح قلوبنا وذرياتنا ومجتمعاتنا.
- إذا شاء الله أن يكتب رحمته كتبها بأيسر الأسباب، فقد نجا كعب من القتل بنقص يسير في العمر، نسأل الله أن يعلق به قلوبنا ويفرج برحمته كربنا وكرب كل مسلم.
- عظمة الإسلام التي لا تفرق بين عربي وعجمي وغني وفقير ومسلم ورث الإسلام عن آبائه أو دخل فيه اختيارا، ولا تعترف بميزان غير ميزان التقوى مما يمكن الجميع من التصدر في العلم والإمامة في الدين.
- سمو علوم الشريعة وارتفاعها عن سائر العلوم حيث تأخذ بلب من اشتغل بها مخلصا صادقا وتزهده في كل أمور الدنيا.
- أثر الانشغال بعلوم القرآن والسنة على زيادة التقوى وصحة القلب وحصول الخشية.
- العلاقة الطردية بين طلب العلم الشرعي والتحلي بالخشية والتخفف من الدنيا، وبين تدبر القرآن والاتعاظ بمواعظه فكل منهما مجلبة للآخر وطريق إليه.
- حتى يكون الواعظ مؤثرا وينتفع السامع بكلامه عليه أولا أن يتزود بالعلم الراسخ والتقوى، ثم يحرص على ما يتمم ذلك من أسباب مثل سلامة اللغة والفصاحة وحسن الإلقاء وغير ذلك.
- حاجة الأمة للعلماء الربانيين العباد الزهاد الذين يفتح عليهم بتقريب علوم القرآن وفوائده وعبره واستنباط حكمه ودرره.

ضحى الحقيل 11 ذو القعدة 1443هـ/10-06-2022م 11:29 PM

الحمد لله رب العالمين، الحمدلله حمد الشاكرين، الحمدلله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا..

قال تعالى:
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
[التوبة: (100)]


{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ويا لسعادتهم برضى من رضاه أكبر من نعيم الجنة..

{وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} لا يبغون عنها حولا ولا يطلبون منها بدلا.

لمن هذا الفضل؟
للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار..
وعد عظيم نالهم بشرف صحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ونصرته..

والعجب.. أن يطال هذا الوعد من تبعهم بإحسان فيا للكرم!!

اللهم اجعلنا ممن أحبهم وتبعهم بإحسان ففاز فوزا عظيما..

ولعل مما يساعد على الاتباع التعرف على سير هؤلاء الفضلاء لنستطيع احتذاء حذوهم والتأسي بسيرهم..

قيل لابن المبارك: "إذا أنت صليت؛ لم لا تجلس معنا؟!"، قال: "أجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر في كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم؟! أنتم تغتابون الناس!".

في الأسطر القادمة نحاول تقريب سيرة بطل من الأبطال الذين كان لهم شرف الصحبة نستقي من سيرته ما تُروى به أنفسنا الظامئة لعذب أيامه مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم..

نسلط الضوء على صفحات من حياته، ونتفيأ ظلالا من ساعاته المعطرة بصحبة الحبيب، والمشبعة بعبير التلاوة والذكر والتعلم والتعليم..

لعلنا نحظى بشرف الاقتداء بهذا النجم الزاهر وإن علا الاقتداء به في سماء المجد وصعب على أهل الهوى والغفلة..


فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم * إن التشبه بالكرام فلاح


أنه الصحابي الجليل: أبو سعيد زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار الخزرجي الأنصاري.

"والله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن"

قالها زيد بن ثابت لما تولى هذه المهمة العظيمة وحق له..

وكيف لا يهتم وقد كلف بمهمة لا يضاهيها في الشرف مهمة على وجه الأرض

جمع كتاب الله..

من صحف الصحابة التي كتبوها على العُسُبِ واللخافِ...

ومما حفظوه في صدورهم..

جمع كتاب الله في صحف كانت مرجعا للأمة.. قرنا بعد قرن وزمانا بعد زمان

كم كان أبو بكر رضي الله عنه موفقا حين اختار زيد بن ثابت وقال له:

" إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه."


رجل..
شاب..
عاقل..
غير متهم..

له خبرة بكتابة الوحي بين يدي رسول الله..


والأخيرة وحدها تفي وزيادة..

فقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ وزيد ابن إحدى عشرة سنة، وكان غلاماً ذكيا فَهماً فطناً، حسن التعلم، ماهراً بالكتابة؛ فكان النبي صلى الله عليه السلام يعلّمه القرآن، ويأمره بكتابة الوحي؛ فلزم زيد النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلّم منه، وشاهد نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه القرآن مراراً.

وكأنما كان يعده لهذه المهمة العظيمة..

فسبحان من قال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.

بلغ من ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم حضوره لتنزل الوحي وهو بين يديه صلى الله عليه وسلم يكتب الوحي..

فقد أخبر عن نفسه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} {والمجاهدون في سبيل الله} فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملّها عليَّه، قال: يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، وكان أعمى، «فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سري عنه»، فأنزل الله: {غير أولي الضرر}). رواه البخاري في صحيحه.

كان زيد ممن جمع القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

عن أنس رضي الله عنه قال: " جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة، كلهم من الأنصار: أبي، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيد بن ثابت ". رواه البخاري.


من هذه السيرة العطرة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يتبين لنا حكمة أبي بكر رضي الله عنه في اختيار زيد وتكليفه بجمع القرآن..

وقد اجتهد زيد في جمعه وأحسن، ولم يستفرد بالجمع بل كان جمعه بنظر قراء الصحابة ومراجعتهم.

وقد انتهج عثمان رضي الله عنه في خلافته نهج أبي بكر في اختيار زيد لكتابة المصحف الإمام، حيث رأسه على الكتَبَة الذين كتبوا المصاحف العثمانية التي بعث بها عثمان إلى الأمصار.

لم يكن جمعه للمصحف على عهد أبي بكر، وكتابته على عهد عثمان المنقبة الوحيدة لهذا الشاب الفطن، وإن كانت لكافية في الفضل والشرف، بل كان له مناقب عدة.

منها.. أنه تعلم كتاب يهود في خمس عشرة ليلة!
قال زيد: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ذُهِب بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعجب بي، فقالوا: يا رسول الله، هذا غلام من بني النجار، معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة، فأعجب ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "يا زيد، تعلم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتابي" قال زيد: فتعلمت له كتابهم، ما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب ".


ومنها.. أنه كان محبا للجهاد مقداما..
تاقت نفسه للمشاركة في غزوة أحد لكن النبي صلى الله عليه وسلم رده لصغر سنّه، فكانت أوّل مشاهده يوم الخندق، ثم شهد ما بعدها من الغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنها.. أنه كان محل ثقة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء والأمراء بعده
فقد استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمر يستخلفه على المدينة إذا سافر للحجّ، ولمّا ذهب إلى القدس، وكان عثمان يستعمله على بيت مال المسلمين، وكان معاوية يكتب إليه يستفتيه في المعضلات، وهو الذي تولى قسمة غنائم اليرموك.

ومنها أنه كان من أصحاب الفراسة:
قال محمد بن سيرين: (حجَّ بنا أبو الوليد ونحن سبعةٌ ولدُ سيرين؛ فمرَّ بنا على المدينة؛ فلما دخلنا على زيد بن ثابت، قيل له: هؤلاء بنو سيرين.
قال: فقال زيد: (هذان لأمّ، وهذان لأمّ، وهذان لأمّ، وهذا لأمّ، قال: فما أخطأ، وكان معبد أخا محمد لأمه.

ومنها علمه بالفرائض والحساب وتوثيقه لهذا العلم:
خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس بالجابية فقال: (من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني؛ فإن الله تعالى جعلني له خازنا وقاسما).
قال الزهري: (لو هلك عثمان بن عفان وزيد بن ثابت في بعض الزمان لهلك علم الفرائض إلى يوم القيامة، ولقد جاء على الناس زمان وما يعلمها غيرهما).
وقال: (لولا أن زيد بن ثابت كتب الفرائض لرأيت أنها ستذهب من الناس).

وقد كان لطول ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم أثرا في تخلقه بالحلم والإحسان للأهل

قال ثابت بن عبيد: (ما رأيت رجلا أفكه في بيته من زيد بن ثابت ولا أحلم في القوم إذا جلس بينهم)

اتفق العلماء على جلالة قدره وسطر عدد منهم عبارات في ذكر مناقبه:
قال مسروق: (كان القضاة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة: عمر، وعلي، وعبد الله، وأبي، وزيد، وأبو موسى).

وقال: (شاممت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم انتهى إلى ستة نفر، انتهى إلى: عمر، وعلي، وعبد الله، وأبي الدرداء، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت).
وقال مالك بن أنس: (كان إمام الناس عندنا بعد عمر بن الخطاب: زيد بن ثابت وكان إمام الناس بعد زيد: ابن عمر).

ويكفي لبيان فضله ثناء ابن عباس رضي الله عنه عليه وهو من هو في العلم والصحبة والقرابة.

قال ابن عباس: «لقد علم المحفظون من أصحاب محمد أن زيد بن ثابت من الراسخين في العلم»
وقال الشعبي: (ذهب زيد بن ثابت ليركب ووضع رجله في الركاب؛ فأمسك ابن عباس بالركاب؛ فقال: (تنحَّ يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فقال: (لا هكذا نفعل بالعلماء والكبراء).


وكما نشأ رضي الله عنه صغيرا في كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب له الوحي ويقرأ له الكتاب ويأتمر بأمره في التعلم فقد حرص على نقل العلم لمن بعده، فقد اجتمعت له الفطنة التي عرفته بأسباب حفظ العلم مع التدرب على يد خير البشر بآليات نقل العلم وتعليمه، واحتاط ذلك توفيق رب العالمين وحفظه لدينه.

وقد لخص لنا ابن المديني من أخذ عنه العلم بقوله:

( لم يكن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد له أصحاب حفظوا عنه وقاموا بقوله في الفقه إلا ثلاثة: زيد وعبد الله وابن عباس؛ فأعلم الناس بزيد بن ثابت وقوله عشرة: سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد بن ثابت، وسليمان بن يسار، وأبان بن عثمان، وقبيصة بن ذؤيب، وذكر آخر، وكان أعلم الناس بقولهم وحديثهم ابن شهاب ثم بعده مالك بن أنس ثم بعد مالك عبد الرحمن بن مهدي).
وقد روى عنه في التفسير ابن عباس وابن عمر وجمع ممن تتلمذ على يديه وأرسل عنه بعض أهل العلم.
وعرض عليه القرآن ابن عباس، وأبو العالية، وأبو عبد الرحمن السلمي.


وفاته
اختلف في تاريخ وفاته رضي الله عنه ولعل أقرب الأقوال أنه توفي في سنة 45
ولما مات قال أبو هريرة: «اليوم مات حبر هذه الأمة، وعسى الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفا».
وقال ابن عباس: «من سره أن يعلم كيف ذهاب العلم؛ فهكذا ذهاب العلم، والله لقد دفن اليوم علم كثير».

وقال حسان بن ثابت
فمن للقوافي بعد حسان وابنه * ومن للمثاني بعد زيد بن ثابت


تأملات وفوائد:
- منظومة استدامة العلم منظومة قديمة خطت أصولها في عهد النبوة، لها أصول وقواعد يحسن بطلبة العلم اقتفاء أثرها ليتحقق لهم بإذن الله ما يطمحون له من استدامة.
- العالم الذي يقصر في احتواء تلامذته وإكرامهم وتقريبهم وتوجيههم والصبر عليهم يخسر كثيرا من توثيق علمه وانتشاره.
- عناية النبي صلى الله عليه وسلم بزيد بن ثابت تحكي قصة العناية بالموهوبين في أبهى صورها.
- يتجلى لنا في القصة تكامل جوانب الحياة فقد كان رضي الله عنه عالما برع في عدد من العلوم مجاهدا لم يدع الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أجيز صاحب مبادرات وأعمال تخدم الأمة فكها في بيته حليما مع الناس.
- قدم النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة وعمر زيد إحدى عشرة سنة وكلف زيد بجمع القرآن في خلافة أبي بكر أي أن عمره قرابة 22 سنة.. أي بناء جعله يتولى هذه المهمة العظيمة في هذا العمر!!
- لا تزال القراءة والكتابة مفتاحا عظيما من مفاتيح العلم يحسن بالمربي العناية بتأصيلها لدى الصغار والحذر من تعثر العلوم المتعلقة بها، والأمثلة على تفوق صاحب المهارة في القراءة والكتابة وتعثر غيره لا تنتهي، أتأمل في واقع بعض العجائز اللاتي لم يواجهن صعوبة في التعامل مع برامج الجوال لمجرد أنهن كن من القلائل الذين حظوا بتعلم القراءة والكتابة.

والحمد لله رب العالمين

ضحى الحقيل 12 ذو القعدة 1443هـ/11-06-2022م 10:59 AM

جهبذ العلماء
التابعي الجليل سعيد بن جبير
ولد عام 46هـ وتوفي عام 95هـ


"لقد حفظت عني علما كثيرا"
قالها ابن عباس رضي الله عنه لتلميذه النجيب مولى بني أسد، أبو محمد، سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي، العالم الفقيه المفسر مفتي أهل الكوفة.

أدرك ابن عباس رضي الله عنه نجابة سعيد وحرصه على العلم، مما رأى من حسن مساءلته وحفظه وفهمه فاعتنى به، وحدّثه فأكثر.

لم يكتف سعيد بن جبير بالسماع، بل كان يكتب ما يسمع، ولم تشبعه سؤالاته بل اعتنى بمسائل أصحاب ابن عباس وتفهم إجاباته عليها وحفظها حتى حصل علما غزيرا، وبلغ به العلم مبلغا نال معه ثقة ابن عباس فأمره بالفتوى والتحديث، وهو شابُّ..
ولما استنكر أن يتولى الحديث مع وجود ابن عباس رضي الله عنه قال له: " أوليس من نعمة الله عليك أن تحدث وأنا شاهد؛ فإن أصبت فذاك، وإن أخطأت علَّمتك؟"
وكان ابن عباس بعدما عَمِي إذا أتاه أهل الكوفة يسألونه قال: "تسألوني وفيكم بن أم دهماء " يعني سعيد بن جبير.

إذا قرأت هذه الآثار وعرفت أن عمر سعيد بن جبير عند وفاة ابن عباس كان اثنان وعشرون عاما!! تبين لك مدى حصافته وذكائه وهمته حتى استحق وصف " جهبذ العلماء" والجهبذ هو الناقد البصير؛ الذي يميّز الصحيح من غيره.
روى ابن أبي حاتم عن أشعث بن إسحاق قوله: (كان يقال: سعيد بن جبير جهبذ العلماء).

عرف عن سعيد حرصه على ضبط العلم: ضبط صدر، وضبط كتاب، وضبط تمييز بين صحيحه وضعيفه، وله مواقف ومراجعات مع ابن عمر وغيره تنبئ عن تثبته وحرصه على تصحيح علمه من مصادره الموثوقة.

أخذ سعيد جلّ علمه عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما وروى عنهما ولم يكتف بذلك بل أخذ عن غيرهما من الصحابة وكبار التابعين، وروى عنهم، فروى عن أبي موسى الأشعري وأبي هريرة، وعمران بن الحصين، وأبي عبد الرحمن السلمي، وأبي الهياج الأسدي، وأبي الصهباء البكري، وعمرو بن ميمون، وعكرمة، وغيرهم. .
وروى أيضا عن نوف البكالي ابن امرأة كعب الأحبار، ولذلك قد تقع في مروياته بعض الإسرائيليات.
وأرسل عن عمر بن الخطّاب وأبيّ بن كعب.

وكما وفق الله سبحانه سعيدا لأخذ العلم عن جهابذة العلماء في عصره، سخر له من يروي علمه وينقله فروى عنه جمع حفظوا بتوفيق الله ما حصله من علم ونقلوه لمن بعدهم.
ولا شك أنه بذل في سبيل ذلك ما أمر الله به من الأسباب وحمل هم تبليغ العلم الذي بلغه..
فكان يحدث كل يوم مرتين فلما عذله بعض أصحابه قال: (إنّي أحدّثك وأصحابك أحبّ إليَّ من أن أذهب به معي إلى حفرتي).


كان لعالمنا عناية خاصة بالتفسير جعلته من أكثر من يُروى عنهم التفسير من التابعين؛ وله في التفسير أقوال ومرويات، تظهر تميزه في هذا العلم وبعد نظره وتفوقه على أصحابه ومن ذلك ما رواه أبو بشر عن قول سعيد في {الذي بيده عقدة النكاح} أنه الزوج فلما راجعه بقول مجاهد وطاوس أنه الولي قال: " أرأيت لو أنَّ الولي عفا وأبتِ المرأة أكان يجوز ذلك؟" فرجع أبو بشر لهما فحدثهما فرجعا عن قولهما وتابعا سعيدا.

ومع هذه الحياة الحافلة بالعلم والتعلم والتحمل والأداء، يبقى زاد المؤمن نصيبا من العبادة يضيء قلبه ويشد عزمه ويعينه على تحمل أعباء الحياة، وقد نقل لنا عن عالمنا الجليل من طرق أنه كان يختم كلّ ليلتين من بعد مقتل الحسين إلا أن يكون مريضاً أو مسافراً، فسبحان من ألهمه العناية بكتابه ليجمع بين لذة العبادة وتثبيت العلم.


انتهى بعالمنا المطاف إلى أن خرج مع ابن الأشعث على الحجاج بن يوسف، ولما هزموا في وقعة الجماجم سنة 83هـ هرب إلى مكّة، وتخفّى ثنتي عشرة سنة، وكان مع ذلك يحجّ ويفتي ويحدّث؛ إلى أن وشى به رجل إلى أمير مكّة خالد بن عبد الله القسري؛ فقيّده، وبعث به إلى الحجاج؛ فقتله سنة 95هـ.
قال ابن حبان: (قتله الحجاج بن يوسف سنة خمس وتسعين صبراً وله تسع وأربعون سنة).
ولم يمهل الحجّاج بعده إلا قليلاً، وروي أنه ندم على قتله وقال: ما لي ولسعيد بن جبير!!

رحم الله سعيد بن جبير الذي عطرت سيرته الآفاق حتى قال عنه إبراهيم النخعي: (ما خلف سعيد بن جبير بعده مثله). وأعاننا على حفظ علمه والاقتداء بسيرته..

تأملات وفوائد:
1. عناية العلماء بالنجباء من الطلاب ليضمنوا بتوفيق الله حفظ علمهم وتناقله.
2. تتكرر علينا ثلاثة زوايا في حياة الموفقين من أهل العلم هي الموازنة بين التعلم والتعليم وتتويج ذلك بالعبادة، ولا أظن الأمر يستقيم لمن فقد أحدها.
3. لا تزال كثرة قراءة كتاب الله وترداده فارقة في حياة المؤمن، وما من معين على الحفظ والفهم والتدبر وحتى ضبط التجويد والتلاوة يوازي كثرة القراءة والترداد.
4. العناية بالنجباء الصغار من أهل الهمم يتيح بحول الله فرصة أكبر لامتداد التمكن والعطاء.
5. تمكين العالم لطلابه مع متابعتهم وملاحظتهم وتوجيههم تصرف سليم ظهر في تمكين ابن عباس لسعيد في أثناء حياته.
6. تنوع مصادر التعلم والحرص على الضبط بأنواعه (الحفظ والكتابة والتثبت) من وسائل تصدر العالم وتفوقه على أقرانه.
7. يظهر لنا من خلال المواقف المتناثرة في المرويات تواضع أهل الفضل ورجوعهم للحق متى ما تبين لهم الصواب، ومن ذلك رجوع مجاهد وطاووس لقول سعيد بن جبير.
8. أهمية الدور الذي يقوم به بعض الموفقين من طلبة العلم في تثبيت العلم وتصويبه ومن ذلك مراجعة سعيد لابن عمر ومراجعة أبو بشر لسعيد وطاووس ومجاهد حتى اتضح الرأي الصواب.
9. أتفكر فيما قرأت من سير لأناس مروا على هذه الحياة ومضوا فبين سيرة مشرقة ناصعة البياض لا يكاد يكدر صفوها شيء، وبين سقطة مضت لذتها وبقيت حوبتها، وأسأل الله أن يثبتنا ويطيب آثارنا ويحسن خواتيمنا.
10. لقراءة سير الأنبياء والصالحين والعلماء، أثرا بالغا في تهذيب النفس ورسم القدوة المشرقة والتهيؤ للأحداث المتكررة في حياة المؤمن، ولا تكاد تخطئ الفارق بين من تربى على قصص الأنبياء، وسيرة الحبيب وصور من حياة الصحابة وقصص من التاريخ وغيرها وكان له معها تأملات وعزمات وقرارات.
11. لعل جمع السير بالطريقة المكتوبة في الدروس وتثبيت الصحيح مما روي عن صاحب السيرة سردا يتيح لأهل الفنون استقاء مادة علمية لفئة من المستهدفين، فبين الكتابة الأدبية لليافعين والمبسطة للأطفال والمقاطع القصيرة وانتقاء الفوائد وغيره، مما يجود به عقل المبدع لنقل السيرة بشكل يستفاد منه. " وكأني فهمت أن هذا هو هدف الواجب".
12. يوجد جهود مشكورة في هذا الجانب لكنها لا تغطي اطلاقا حاجة النشء، فيما مضى لم تكن كافية، والآن مع التسارع التقني والانفتاح صارت الحاجة لبذل الجهد في هذا الجانب أعظم.

والحمد لله رب العالمين

ضحى الحقيل 12 ذو القعدة 1443هـ/11-06-2022م 11:25 AM

بحث في سيرة مفسر

سِيرَةُ الحَافِظِ الصَدُوقِ: "يَحيَى بن يَمان العَجْلِي أَبُو زَكَرِيَّا الْكُوفِيِّ"


معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد
المستوى الأول
اسم الطالبة: ضحى بنت عثمان بن إبراهيم الحقيل


اطلب العلم ولا تكسل فما***********أبعد الخيرات عن أهل الكسل


لا تقل قد ذهبت أربابه***************كل من سار على الدرب وصل



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد..
فهذا بحث مختصر في سيرة مفسر، اخترت فيه المفسر "يحيى بن اليمان"، أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وله ولموتى المسلمين الرحمة والمغفرة.

1. اسمه ونسبه
يحيى بن يمان العجلي أَبُو زكريا الكوفي (1)

لم أجد خلافا في اسمه إلا أنهم يذكرون مرة "اليمان" ومرة "يمان" بال التعريف وبدونها.

2. مولده ونشأته
"روى الخطيب البغدادي بإسناده عن هارون بن حاتم قال: سألت يحيى ابن يمان، فقلت: يا أبا زكريا متى ولدت ؟ قال سنة سبع عشرة ومئة".(2)

لم أجد من ذكر شيئا عن نشأته، أو طلبه للعلم.
إلا أنه يظهر من تاريخ ولادته أنه:
ولد في خلافة "هشام بن عبد الملك بن مروان" أي في آخر عهد الخلافة الأموية قال ابن كثير:
"لما مات هشام تولى ملك بني أمية، واضطرب أمرهم جدا، وإن كان قد تأخرت أيامهم بعده نحو سبع سنين ، ولكن في اختلاف وهيج"( 3) . انتهى.. وهشام توفي في عام 125هـ
وتوفي "يحيى بن اليمان" في عصر "هارون الرشيد" الخليفة العباسي الخامس.
أي أنه عاش..
15 عاما في الخلافة الأموية..
و57 عاما في الخلافة العباسية، جزء منها في عصر تأسيس الدولة العباسية، وجزء منها في عصر القوة والذي جاء في وصفه:
"شهد عصر القوة العباسية نهضة علمية بالغة القوة والتنوع، ويتحدث الأستاذ "نيلكسون" عن النهضة الثقافية في العصر العباسي قائلا: وكان لانبساط رقعة الدولة العباسية ووفرة ثروتها، ورواج تجارتها أثر كبير في إنشاء نهضة ثقافية لم يشهدها الشرق من قبل، حتى لقد بدا أن الناس جميعًا من الخليفة إلى أقل الأفراد شأنًا غدوا فجأة طلابًا للعلم، أو على الأقل أنصارًا للأدب. وفي عهد الدولة العباسية كان الناس يجوبون ثلاث قارات سعيًا إلى موارد العلم والعرفان؛ ليعودوا إلى بلادهم كالنحل يحملون الشهد إلى جموع التلاميذ المتلهفين, ثم يصنِّفون بفضل ما بذلوه من جهد متصل هذه المصنفات التي هي أشبه شيء بدوائر للمعارف، والتي كان لها أكبر الفضل في إيصال هذه العلوم الحديثة إلينا بصورة لم تكن متوقعةً من قبل".(4)
3. شيوخه
ذكر المزي في تهذيب الكمال أنه:
"رَوَى عَن: إِبْرَاهِيم بْن يزيد الخوزي، وأسامة بْن زَيْد بْن أسلم، وإسماعيل بْن أَبي خالد (بخ) ، وأشعث بْن إسحاق القمي، والأَغَر الرقاشي (ق) ، وحمزة بن حبيب الزيات (ق) ، وأبي سنان سَعِيد بْن سنان الشيباني، وسَعِيد بْن الوليد الضبعي، وسفيان الثوري (بخ د ت ق) ، وسُلَيْمان الأعمش (ق) ، وعائذ بْن نسير، وعُبَيد اللَّهِ الأشجعي، وعثمان بْن الأسود، وعُمَر بْن مُحَمَّد بْن زيد العُمَري، ومحمد بن عجلان، ومَعْمَر بن راشِد (ت ق) ، والمنهال ابن خليفة (ت ق) ، وهشام بْن عروة (م) ، وأبيه يمان العجلي".(5)
أما ابن عبد الهادي، والذهبي فقد ذكرا من العلماء السابقين :
هشام بن عروة واسماعيل بن أبي خالد والمنهال بن خليفة والثوري
وزادا بأنه: قرأ القرآن على حمزة (6)
وأضاف ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب بأنه روى عن أبيه (7)
4. تلاميذه
جاء في تهذيب الكمال قوله:
"رَوَى عَنه: أَحْمَد بْن أسد البجلي، وإسحاق بْن إِبْرَاهِيم بْن حبيب بْن الشهيد (س) ، وأبو بكر إسماعيل بن حفص الأبلي (ق) ، وبشر الحافي، والحسن بْن إِسْمَاعِيل المجالدي (س) ، والحسن بْن عرفة، وابنه داود بْن يحيى بْن يمان وكان من الحفاظ، وسفيان بْن وكيع بْن الجراح (ت) ، وأبو سَعِيد عَبد اللَّهِ بْن سَعِيد الأشج (ت) ، وعَبد الله بْن مُحَمَّد بْن سالم المفلوج، وأبو بكر عَبد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن أَبي شَيْبَة (ق) ، وعَبد اللَّه بْن الوضاح اللؤلؤي، وعبد الرحمن بْن عُبَيد اللَّهِ الحلبي، وأبو بكر عَبْد الرحمن بْن عفان الصوفي، وعُبَيد بْن أسباط بْن مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيّ، وعثمان بن محمد"(8)
وذكر بعض من سبق ابن عبد الهادي في طبقات علماء الحديث، وزاد " أبو كريب" (9)
وزاد الذهبي " أبو كريب" و "علي بن حرب "(10)
وزاد ابن حجر العسقلاني "يحيى بن معين" "وعمرو الناقد" و "محمد بن عبد الله بن نمير" و" أبو هشام الرفاعي" و " أبو بكر بن خلاد الباهلي" و " محمد بن عمرو السواق "(11)
وقال صاحب مقدمة " الجزء فيه تفسير ..": "معروف برواية يزيد بن موهب عنه فيزيد بن موهب هو الراوي لتفسير يحيى بن يمان وهو الواسطة بين جامع التفاسير الأربعة وبين يحيى بن يمان"(12)
5. أقوال العلماء فيه
فيما يلي محاولة لجمع وتنظيم أقوال العلماء في "يحيى بن اليمان" والتي وردت في "تهذيب الكمال" بما في ذلك الحاشية، و"طبقات علماء الحديث"، و "طبقات الحفاظ" و " تهذيب التهذيب" و"جامع الجرح والتعديل"، ومقدمة "جزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان..."
ضبطه في أول الأمر ثم تغير حاله وسبب وقوعه في الوهم والخطأ:
- قال ابن المديني :صدوق فلج فتغير حفظه(13)
- عن وكيع قال :ما كان أحد من أصحابنا أحفظ للحديث من يحيى بن يمان كان يحفظ في المجلس الواحد خمسمئة حديث ثم نسي (14)
- قال محمد بن عبيد الله بن نمير :كان سريع الحفظ سريع النسيان.(15)
- قال البرذعي قال لي أبو زرعة يحيى بن اليمان لم يكن عندي ممن يكذب، لكن كان يخيل إليه الشيء.(16)
- قال يحيى بن يمان عن نفسه: ما حملت إلى سفيان ألواحا قط، وكنت أقوم عنه بالسبعين ونحوها، ويقومون من عند سفيان فيطلبوا لي فأملي عليهم، فذكر ذلك لوكيع فقال: صدق كان إذا كتبها نسيها... ، قال وكيع وكنا نعدها عند سفيان، ثم نكتب في البيت، وكان يحيى ابن يمان يعقد خيطا – يعني يعد به الحديث عند سفيان ثم يذهب إلى البيت فيحل عقده ويكتب حديثا، ولكن عنده تخليط(17)
- عن عثمان بن أبي شيبة عن ابن معين: كان يضعف في آخر عمره في حديثه(18)
- قال ابن شاهين: وقال عثمان :كان صدوقا ثقة ولكن في حفظه تخليط(19)
- قال بن عدي عامة ما يرويه غير محفوظ وهو في نفسه لا يعتمد الكذب إلا أنه يخطىء ويشتبه عليه.(20)
بعض من ذكر ضعف مروياته:
قال أَحْمَد بْن حنبل: ليس بحجة،(21) وضعفه ، وَقَال: حدث عَن الثوري بعجائب لا أدري لم يزل هكذا أو تغير حين لقيناه أو لم يزل الخطأ فِي كتبه، وروى من التفسير عَن الثوري عجائب. (22)
- قَال يحيى بْن مَعِين: ليس بثبت، لم يكن يبالي أي شيء حدث، كَانَ يتوهم الحديث(23)
- قَال وكيع: هذه الأحاديث التي يحدث بها يحيى بْن يمان ليست من أحاديث سفيان(24)
- قال ابن معين: ربما عارضت أحاديث يحيى بن يمان بأحاديث الناس فما خالف ضربت عليه.(25)
- عن أحمد بن سعيد بن أبي مريم عن ابن معين: ضعيف الحديث(26)
- قَال أَبُو عُبَيد الآجري: سمعت أبا داود، وذكر يحيى بن يمان، فقال: يخطئ في الاحاديث ويقلبها.(27)
- قال النَّسَائي: ليس بالقوي.(28 )وقال أيضا لا يحتج بحديثه لسوء حفظه وكثرة خطئه(29)
- قال أبو زرعة الرازي: يهم كثيرا(30)
- قال يعقوب بن سفيان: سألت ابن نمير أن يخرج لي حديث يحيى بن اليمان فأخرج إلي أجزاء ثم رأيته يتثاقل فقلت له ما هذا قال تخفف فإن حديثه لا يشبه حديث أصحابنا يتوهم الشيء فيحدث به وخاصة لما أفلج فامتنع على أن يخرج إلي بقية سماعه منه.(31)
 بعض من وثقه:
- وصفه ابن عبد الهادي في "طبقات علماء الحديث" والذهبي في " طبقات الحفاظ" ب "الحافظ الصدوق" وعداه من علماء "الطبقة السادسة" (32)
- قال عنه الذهبي: "وكان من العلماء العابدين"(33) وقال "كان من العلماء العاملين (34)
- قال يحيى بْن مَعِين: أرجو أن يكون صدوقا، وقال: ليس به بأس(35) وقال مرة ضعيف(36)
- ذكره ابنُ حِبَّان فِي كتاب "الثقات". (37)
( تتمة كلام ابن حبان: ربما أخطأ)(38)
- وفي رواية الدارمي عن ابن معين: أرجو أن يكون صدوقا.(39)
- وعن عبد الخالق بن منصور عن ابن معين قال: ليس به بأس.(40)
- قال ابن الجزري: ثقة صالح روى القراءة عرضا عن حمزة الزيات.(41)
- قال العجلي: كان من كبار أصحاب الثوري وكان ثقة جائز الحديث.(42)
كثرة مروياته
- قَال يعقوب بْن شَيْبَة: كَانَ صدوقا كثير الحديث، وإنما أنكر عَلَيْهِ أصحابنا كثرة الغلط، وليس بحجة إذا خولف (43)، وهو من متقدمي أصحاب سفيان فِي الكثرة عنه(44).
- قَال أَبُو هشام الرفاعي، عَن يحيى بْن يمان: أحفظ عَن سفيان الثوري أربعة آلاف حديث فِي التفسير(45)
- قال الآجري: سمعت أبا داود يقول: كان عند الأشجعي ويحيى بن يمان عن سفيان ثلاثون ألفا.(46)
 أمثلة على وقوعه في أخطاء في الرواية
- "ساق له ابن عدي في "الكامل" حديث النبيذ واستنكره، وبين أن الخطأ فيه من يحيى بن يمان فقال: سمعت عبدان يقول: سمعت ابن نمير يقول: أخطأ ابن يمان على الثوري، عن الكلبي، عَن أبي صالح، عن المطلب، قال: عطش النبي صلى الله عليه وسلم"(47)
- "وساق له حديثًا آخر فقال: حَدَّثَنَا محمد ابن علي بن القاسم غلام طالوت، حدثنا حسين بن حميد بن الربعي الخراز، حَدَّثَنَا محمد بن إسحاق البلخي، حَدَّثَنَا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن خالد، عَن أبي مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تتم على عبد نعمة إلا بالجنة" وهذا لا اعرفه الا من هذا الطريق، ومحمد بن إسحاق البلخي لعل البلاء منه ... والراوي حسين بن حميد ضعيف، ويحيى بن يمان قد وهم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم".(48)
- " ذكر أبو داود يحيى بن يمان وذكر شيئا من خطئه فقال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا يحيى بن يمان عن مسعر عن عبدالملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم إن عمر لمن أهل الجنة قال الآجري الحديث عن معاذ فجعله عن عبدالله."(49)
6. نبذة من أخباره
-"عن أَبَي حاتِم الرازي، قال: سمعتُ ابن الطباع، يَقُولُ: كُنَّا ببغداد فقدمها الأشجعي، ويحيى بْن يَمان فدعوناهما إلى البستان فأجابا، وحَمَلا معهما كُتبًا وانتخبنا عليهما"(50)
- "قَالَ: بشر ابن الحارث: كنت جالِسًا بين يدي يَحْيَى بْن يَمان، قَالَ: فكنتُ أعجب من ثيابه، وكان يعجب من ثيابي قَالَ بشر: أخذتُ جوربًا فخيطته ثُمَّ شددته، أي عَلَى عورته؛ لأنه لَم تكن تسترني ثيابي، وذكر كثرة رقاع فِي جبة يَحْيَى بْن يَمان، قَالَ بشر: فمر إنسان عَلَيْهِ بزة، فقال: ثيابك أحسن من ثيابي قَالَ بشر: أراد أن يقويني"(50)
"-قَالَ: أَبَا بَكْر بْن عَيَّاش، وذكر يَحْيَى بْن يَمان، فقال: ذاك راهب( 51)، يعني لعبادته".(52)
- "كان متقشفا" (53)
- "قال العجلي كان من كبار أصحاب الثوري وكان ثقة جائز الحديث متعبدا معروفا بالحديث صدوقا إلا أنه فلج بآخره فتغير حفظه وكان فقيرا صبورا"(54)
7. آثاره
قال المزي في تهذيب الكمال: روى له البخاري في "الأدب"، والباقون (55)
وتدل الرموز التي ذكرها أمام من روى عنهم، ورووا عنه، أن له روايات في:
البخاري في كتاب الأدب، ومسلم في الصحيح، وأبو داود في السنن، والترمذي في الجامع، وابن ماجة في كتاب السنن، والنسائي في كتاب السنن.
كما ذكر ابن عبدالهادي في "طبقات أصحاب الحديث" أن مسلم وأصحاب السنن الأربعة كلهم خرجوا له
وقال الذهبي: أخرج له الجماعة سوى البخاري(56)
هذا بالإضافة للتفسير الذي رواه عن سعيد بن جبير.
8. وصف مختصر لتفسير يحيى بن يمان وبعض نماذج من تفسيره
التفسير مطبوع في كتاب بعنوان "الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان وتفسير لنافع بن أبي نعيم القارئ وتفسير لمسلم بن خالد الزنجي وتفسير لعطاء الخرساني"، برواية أبي جعفر محمد بن أحمد بن نصر الرملي الفقيه المتوفى سنة 295هـ، تحقيق ودراسة د. حكمت بشير ياسين، الناشر: مكتبة الدار بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى: 1408هـ
ابتدأ المحقق بمقدمة بين فيها أهمية كتب التفسير بالمأثور، والتي لها الأثر الكبير في فهم القرآن الكريم، وندرة كتب التفسير بالمأثور في هذا الزمان مقارنة بكتب الفقه والحديث والتاريخ، ثم عرف الكتاب بعبارات منها:
"هذا الجزء الذي أقدمه هو من البقية الباقية من كتب التفسير بالمأثور وبالرغم من صغر حجمه إلا أنه أصل قديم من أصول الرواية بالتفسير"(57)
"ولهذا الجزء أهمية كبرى لدى أهل الرواية وخاصة أهل التفسير بالرواية لأن كل قطعة من هذا التفسير تعد لبنة أساسية من لبنات التفسير بالمأثور فقد اعتمد الأئمة الرواة على النقل من هذه التفاسير على مر العصور"(58)
ثم عرف بالجامع لهذه التفاسير ووثقه وأشاد بدقته
ثم ترجم للرواة عن المؤلف ووثقهم وذكر اختلافا في أحدهم جعله يدقق فيما رواه عنه
ثم عرف بتفسير يحيى بن اليمان بقوله:
"في الحقيقة أن التفسير لسعيد بن جبير وإنما نسب إلى يحيى بن يمان لأنه هو الراوي بنفس الإسناد إلى سعيد بن جبير وما رواه جزء من تفسير سعيد بن جبير"(59)
ثم ترجم لرجال الإسناد الأول في "تفسير يحيى بن يمان" وفي آخر التراجم حكم على الإسناد بقوله
"رجال الإسناد كلهم ثقات إلا أشعث وجعفر فكلاهما صدوقان ورواية جعفر عن سعيد هنا من نسخة تفسير سعيد بن جبير فالإسناد حسن وصححه الحافظ ابن حجر والإمام العيني وذلك في وصل المعلق الذي رواه البخاري في صحيحه"(60)
ثم قال: "وأظن تصحيح بن حجر، والعيني، يعود إلى كون الرواية من نسخة، فأشعث وجعفر صدوقان، ولكن تصحيح روايتهما إذا رويا من نسخة أو كتاب، فهما يرويان من السطور لا من الصدور، فلا يضر خفة الضبط."(61)
ثم ترجم لرواة بقية التفاسير الواردة في الكتاب وذكر عمله في التحقيق ووصف النسخة التي حققها
ثم شرع في تحقيق التفسير وكان أول تفسير هو التفسير المسمى تفسير يحيى بن يمان وفيما يلي نماذج من تفسيره:
1- ثنا أشعث عن جعفر عن سعيد في قوله عز وجل: {وأذنت لربها وحقت}
قال: سمعت وأطاعت.(62)
2- ثنا أشعث عن جعفر عن سعيد وعكرمة في قوله عز وجل: {إنه على رجعه لقادر} قال يرده في صلب أبيه.(63)
3- ثنا أشعث عن جعفر عن سعيد قال أرض الجنة فضة.(64)
4- قال ثنا أشعث عن جعفر عن سعيد في قوله عز وجل: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} قال: فقالت اليهود: افتقر ربنا فنزلت: {لقد كفر الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ..}إلى آخر الآية.(65)
5- ثنا أشعث عن جعفر عن سعيد في قوله عز وجل: {ومن ورائهم برزخ} قال بعد الموت.(66)
6- وفاته
بالرجوع للمصادر التي عرفت ب يحيى بن اليمان فإن بعضها ذكر أن وفاته كانت في سنة تسع وثمانين ومئة
وبعضها ذكر خلافا بسيطا :
إما في سنة ثمان وثمانين ومئة(67)
أو سنة تسع وثمانين ومئة (68)
وذكر بعضهم أن وفاته كانت في رجب (69)

رحمه الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه على ما أعان ويسر، أسأل الله أن يهيئ، للأمة من شبابها ذوي الهمم من يعتني بهذا العلم.


____________________________________________________________________________________________________________

(1)تهذيب الكمال[ جزء32/ ص59] ، جامع الجرح والتعديل [المجلد الثالث/ ص 309]، طبقات علماء الحديث لابن عبد الهادي [ جزء1 ص412]، الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان وتفسير لنافع بن أبي نعيم القارئ وتفسير لمسلم بن خالد الزنجي وتفسير لعطاء بن رباح الخرساني برواية أبي جعفر الفقيه [ ص 11]، طبقات الحفاظ للذهبي الطبقة السادسة من الكتاب [جزء 1 ص 209]، غاية النهاية في طبقات القراء، تاريخ الإسلام [ جزء 4/ 1004]، تهذيب التهذيب [ جزء 11 / ص 306]]
(2) [ الجزء فيه تفسير القرآن..[ ص 11] ، تاريخ بغداد [ جزء 16/ ص 183]]
(3) [ البداية والنهاية [ جزء 13/ ص 159]]
(4) [ موقع قصة الإسلام إشراف د. راغب السرجاني]
(5) [ تهذيب الكمال[ جزء32/ ص59]]
(6) [ طبقات علماء الحديث لابن عبد الهادي [جزء1 ص412]، طبقات الحفاظ للذهبي الطبقة السادسة من الكتاب [جزء 1 ص 209]، تاريخ الإسلام [ جزء 4/ 1004]]
(7) [ تهذيب التهذيب [ جزء 11 / ص 306]]
(8) [ تهذيب الكمال[ جزء32/ ص59]]
(9) [ طبقات علماء الحديث لابن عبد الهادي [جزء1 ص412]]
(10) [ طبقات الحفاظ للذهبي الطبقة السادسة من الكتاب [جزء 1 ص 209]]
(11) [تهذيب التهذيب [ جزء 11 / ص 307]]
(12) [الجزء فيه تفسير القرآن..[ ص 11]]
(13) تهذيب الكمال [ جزء 32 / ص58]، طبقات علماء الحديث [ ص 413]، طبقات الحفاظ للذهبي الطبقة السادسة من الكتاب [جزء 1 ص 209]، تاريخ الإسلام [ جزء 4/ 1004]
(14) [ تهذيب الكمال [ جزء 32 / ص58]، طبقات علماء الحديث [ ص 413]، طبقات الحفاظ للذهبي الطبقة السادسة من الكتاب [جزء 1 ص 209]، تاريخ الإسلام [ جزء 4/ 1004]]
(15) [ طبقات علماء الحديث [ ص 413]، طبقات الحفاظ للذهبي الطبقة السادسة من الكتاب [جزء 1 ص 209]، تاريخ الإسلام [ جزء 4/ 1004] ]
(16) [ جامع الجرح والتعديل [المجلد الثالث/ ص 309]]
(17) [ الجزء فيه تفسير القرآن ..[ ص 12]]
(18) [ الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان [ ص 12] ]
(19) [الجزء فيه تفسير القرآن ..[ ص 13]، تاريخ أسماء الثقات [ جزء 1 / ص 262]]
(20) [تهذيب التهذيب [ جزء 11 / ص 307]]
(21) تهذيب الكمال [ جزء 32 / ص58]، طبقات علماء الحديث [ ص 413]، الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان وتفسير لنافع بن أبي نعيم القارئ وتفسير لمسلم بن خالد الزنجي وتفسير لعطاء بن رباح الخرساني برواية أبي جعفر الفقيه [ ص 11]، طبقات الحفاظ للذهبي الطبقة السادسة من الكتاب [جزء 1 ص 209]، تاريخ الإسلام [ جزء 4/ 1004]، تهذيب التهذيب [ جزء 11 / ص 306]
(22) تهذيب الكمال [ جزء 32 / ص58] ، الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان وتفسير لنافع بن أبي نعيم القارئ وتفسير لمسلم بن خالد الزنجي وتفسير لعطاء بن رباح الخرساني برواية أبي جعفر الفقيه [ ص 11]، تهذيب التهذيب [ جزء 11 / ص 306]
(23) [تهذيب الكمال [ جزء 32 / ص58]، تهذيب التهذيب [ جزء 11 / ص 306]]
(24) [ تهذيب الكمال [ جزء 32 / ص58]، تهذيب التهذيب [ جزء 11 / ص 306]]
(25) [ الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان...[ ص12]]
(26) [ الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان [ ص 12]]
(27) [ تهذيب الكمال [ جزء 32 / ص58]، جامع الجرح والتعديل [ المجلد الثالث/ ص 309]، تهذيب التهذيب [ جزء 11 / ص 306]]
(28) [ جامع الجرح والتعديل [ ص 309]
(29) [ جامع الجرح والتعديل [ ص 309]
(30) [حاشية تهذيب الكمال [ جزء 32/ ص 59]، جامع الجرح والتعديل [ ص 309]]
(31) [طبقات علماء الحديث لابن عبد الهادي [ جزء1 ص412] ،[ طبقات الحفاظ للذهبي الطبقة السادسة من الكتاب [جزء 1 ص 209]]
(32) ،[ طبقات الحفاظ للذهبي الطبقة السادسة من الكتاب [جزء 1 ص 209]]
(33) [ تاريخ الإسلام [ جزء 4/ 1004]]
(34) تهذيب التهذيب [ جزء 11 / ص 306]
(35) [ تاريخ الإسلام [ جزء 4/ 1004]]
(36) .[ تهذيب الكمال [ جزء 32 / ص58] جاء في الحاشية : ) في الطبقة الرابعة: 9 / 255 وَقَال: ربما أخطأ.، تهذيب التهذيب [ جزء 11 / ص 306] ]
(37) [ تهذيب التهذيب [ جزء 11 / ص 306]]
(38) [ تهذيب الكمال [ جزء 32 / ص58]، الجزء فيه تفسير القرآن [ ص 12]]
(39) [الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان [ ص 12]]
(40) [ الجزء فيه تفسير القرآن..[ ص 12]]
(41) [ الجزء فيه تفسير القرآن.. [ ص 12]]
(42) الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان وتفسير لنافع بن أبي نعيم القارئ وتفسير لمسلم بن خالد الزنجي وتفسير لعطاء بن رباح الخرساني برواية أبي جعفر الفقيه [ ص 11]
(43) تهذيب الكمال [ جزء 32 / ص58]، تهذيب التهذيب [ جزء 11 / ص 306]
(44) تهذيب الكمال [ جزء 32 / ص 59]، الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان وتفسير لنافع بن أبي نعيم القارئ وتفسير لمسلم بن خالد الزنجي وتفسير لعطاء بن رباح الخرساني برواية أبي جعفر الفقيه [ ص 11]
(45) تهذيب الكمال [ جزء 32 / ص58]، جامع الجرح والتعديل [ ص 309]
(46) حاشية تهذيب الكمال [جزء 8/ ص 80]باختصار
(47) حاشية تهذيب الكمال [جزء 8 ص 80] باختصار
(48) اتريخ الإسلام [ جزء 4/ 1004]
(49) تاريخ الإسلام [ جزء 4/ 1004]
(50) تاريخ الإسلام [ جزء 4/ 1004]
(51) تهذيب التهذيب [ جزء 11 / ص 306]
(52) تهذيب التهذيب [ جزء 11 / ص 306]
(53) تهذيب التهذيب [ جزء 11 / ص 306]
(54) تهذيب الكمال[جزء 32/ ص60]
(55) طبقات الحفاظ للذهبي الطبقة السادسة من الكتاب [جزء 1 ص 209]
(56) مقدمة كتاب " الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان وتفسير لنافع بن أبي نعيم القارئ وتفسير لمسلم بن خالد الزنجي وتفسير لعطاء بن رباح الخرساني برواية أبي جعفر الفقيه [ ص 5]
(57) مقدمة كتاب " الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان وتفسير لنافع بن أبي نعيم القارئ وتفسير لمسلم بن خالد الزنجي وتفسير لعطاء بن رباح الخرساني برواية أبي جعفر الفقيه [ ص 5]
(58) مقدمة كتاب " الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان وتفسير لنافع بن أبي نعيم القارئ وتفسير لمسلم بن خالد الزنجي وتفسير لعطاء بن رباح الخرساني برواية أبي جعفر الفقيه [ ص 11]
(59) الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان وتفسير لنافع بن أبي نعيم القارئ وتفسير لمسلم بن خالد الزنجي وتفسير لعطاء بن رباح الخرساني برواية أبي جعفر الفقيه [ص 15]
(60) لجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان وتفسير لنافع بن أبي نعيم القارئ وتفسير لمسلم بن خالد الزنجي وتفسير لعطاء بن رباح الخرساني برواية أبي جعفر الفقيه [ص 16]
(61) مقدمة كتاب " الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان وتفسير لنافع بن أبي نعيم القارئ وتفسير لمسلم بن خالد الزنجي وتفسير لعطاء بن رباح الخرساني برواية أبي جعفر الفقيه [ ص 33]
(62) مقدمة كتاب " الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان وتفسير لنافع بن أبي نعيم القارئ وتفسير لمسلم بن خالد الزنجي وتفسير لعطاء بن رباح الخرساني برواية أبي جعفر الفقيه [ ص 34]
(63) مقدمة كتاب " الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان وتفسير لنافع بن أبي نعيم القارئ وتفسير لمسلم بن خالد الزنجي وتفسير لعطاء بن رباح الخرساني برواية أبي جعفر الفقيه [ ص 34]
(64) مقدمة كتاب " الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان وتفسير لنافع بن أبي نعيم القارئ وتفسير لمسلم بن خالد الزنجي وتفسير لعطاء بن رباح الخرساني برواية أبي جعفر الفقيه [ ص 35]
(65) مقدمة كتاب " الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان وتفسير لنافع بن أبي نعيم القارئ وتفسير لمسلم بن خالد الزنجي وتفسير لعطاء بن رباح الخرساني برواية أبي جعفر الفقيه [ ص 35]
(66) تاريخ بغداد [ جزء 16/ ص 183] ، مقدمة كتاب " الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان وتفسير لنافع بن أبي نعيم القارئ وتفسير لمسلم بن خالد الزنجي وتفسير لعطاء بن رباح الخرساني برواية أبي جعفر الفقيه [ ص 12]، تهذيب الكمال [ جزء 32 / ص59]، تاريخ الإسلام [ جزء 4/ 1004]
(67) تاريخ بغداد [ جزء 16/ ص 183] ، مقدمة كتاب " الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان وتفسير لنافع بن أبي نعيم القارئ وتفسير لمسلم بن خالد الزنجي وتفسير لعطاء بن رباح الخرساني برواية أبي جعفر الفقيه [ ص 12]، تهذيب الكمال [ جزء 32 / ص59]، تاريخ الإسلام [ جزء 4/ 1004]، طبقات علماء الحديث لابن عبد الهادي [جزء1 ص412]، طبقات الحفاظ للذهبي الطبقة السادسة من الكتاب [جزء 1 ص 209]
(68) تاريخ بغداد [ جزء 16/ ص 183]


_____________________________________________________________________________________________________________
المراجع

1 الجزء فيه تفسير القرآن ليحيى بن يمان، وتفسير لنافع بن أبي نعيم القارئ ،وتفسير لمسلم بن خالد الزنجي، وتفسير لعطاء بن رباح الخرساني، برواية أبي جعفر محمد بن أحمد بن نصر الرملي الفقيه المتوفى سنة 295 ه ، تحقيق د. حكمت بشير ياسين مكتبة الدار بالمدينة الطبعة الأولى 1408هـ، المكتبة الوقفية
2 تاريخ أسماء الثقات، بو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد بن محمد بن أيوب بن أزداذ البغدادي المعروف بـ ابن شاهين (المتوفى: 385هـ)، تحقيق صبحي السامرائ ،الدار السلفية – الكويت الأولى، 1404 الشاملة
3 تاريخ بغداد، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي (المتوفى: 463هـ)، تحقيق بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي - بيروت الأولى، 1422هـ 16 الشاملة
4 تهذيب الكمال في أسماء الرجال، يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف، أبو الحجاج جمال الدين ابن الزكي أبي محمد القضاعي الكلبي المزي (المتوفى: 742هـ)، تحقيق د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأولى، 1400 هـ 35 الشاملة
5 طبقات علماء الحديث أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الدمشقي الصالحي لمتوفى سنة 744 ، تحقيق أكرم البوشي – إبراهيم الزيبق، مؤسسة الرسالة الثانية، 1417 4 المصدر المكتبة الوقفية
6 تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748 هـ)، تحقيق بشار عوّاد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 2003 م 15 الشاملة
7 تذكرةالحفاظ=طبقات الحفاظ للذهبي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748هـ)الناشر دار الكتب العلمية بيروت- لبنان، الطبعة الأولى ، 1419 هـ ، الشاملة
8 البداية والنهاية، الحافظ عماد الدين أبو الفدا إسماعيل ابن عمر بن كثير القرشي الدمشقي المتوفى عام 747 ه د.عبدالله بن عبدالمحسن التركي مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر الطبعة الأولى، 1 4 19 ه، مطبوع
9 غاية النهاية في طبقات القراء : شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، محمد بن محمد بن يوسف (المتوفى: 833 هـ)، مكتبة ابن تيمية عني بنشره لأول مرة عام 1351 هـ ج. برجستراسر ، الشاملة
10 تهذيب التهذيب، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى: 852هـ)، مطبعة دائرة المعارف النظامية، الهند، لطبعة الأولى، 1326 هـ، الشاملة
11 الجامع في الجرح والتعديل، جمع وترتيب السيد أبو العاطي النوري، حسن عبدالمنعم شلبي، أحمد عبدالرزاق عيد، محمود محمد خليل الصعيدي عالم الكتب الأولى 1412 هـ موقع جامعة أم القرى

كما استفدت من بعض المواقع منها :
1. موقع: الجمعية العلمية السعودية للسنة وعلومها
2. موقع: قصة الإسلام

صفية الشقيفي 18 ذو القعدة 1443هـ/17-06-2022م 12:15 PM

الْوَرْشُ كَلِمَةٌ فِي الْلُغَةِ الْعَرَبِيَةِ تُطْلَقُ عَلَى شَيْءٍ يُصْنَعُ مِنَ الْلَبَنِ شَدِيدِ البَيَاض
وَالْوَرْشَانُ طَائِرٌ جَمِيلٌ مِنْ فَصِيلَةِ الْحَمَامِ، رِيشُهُ مُتَعَدِدُ الْأَلْوَانِ وَرِجْلُهُ قَصِيرَة
فَمَا عَلَاقَةُ كُلِّ هَذَا بِشَيْخِ إِقْرَاءِ القُرْآنِ فِي مِصْرَ فِي القَرْنِ الثَّانِي الْهِجْرِيِّ (وَرْشْ)؟
إِلَيْكُمُ الْقِصَه
وُلِدَ الْإِمَامُ وَرْشٌ فِي مِصْرَ سَنَةَ مِائَةٍ وَعَشرٍ هِجْرِيًا، وَعَاشَ بِهَا، وِكَانَ يَعْمَلُ فِي بَيْعِ رُءُوسِ الْغَنَمِ حَتَى لُقِّبَ بِالرَّوَاسِ.
ثُمَّ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ فَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ فَيهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَقْنَعْ بِهَذَا، وَتَاقَتْ نَفْسُهُ لِأَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى مَنْ قَرَأَ عَلَى التَّابِعِين؛
وَالتَّابِعُونَ هُمْ مَنْ صَاحَبُوا أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمْ
فَتَصَوَرْ !!
أَنْ يَتَصِلَ سَنَدُ قِرَاءَتِهِ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهٌ عليهِ وَسَلَّم.
أَيَصْبِرْ!
قَرَّرَ الْسَّفَرَ إِلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَِ وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، فَلَمْ يُقْعِدْهُ هَذَا عَنِ السَّعْيِّ وَالطَّلَبِ.
وَصَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَسْأَلَ عَنِ الإِمَامِ نَافِعِ، وَالْإِمامُ نَافِعٌ كَانَ مِمَّنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى " عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزٍالْأَعْرَجِ " وَالْأَعْرَجُ قَرَأَ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ قَرَأَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأُبَيٌّ قَرَأَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم.
أَنْ تَتَعَلَّمَ قِرَاءَةِ القُرْآنَ كَمَا قَرَأَهَا النَّبِيُّ صَلَى اللهُ عليهِ وَسَلَّم، أَلَا يَسْتَحِّقُّ هَذَا التَّضْحِيَةَ بِتَعَبِ السَّفَرِ وَالْغُرْبَه؟
لَكِن لَمْ يَكُنْ تَحْقِيقُ هَذَا الْأَمْرِ سَهْلًا - فِي الْبِدَايَةِ - بِالْنِّسْبَةِ لِوَرْشْ
إِذْ وَصَلَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ تَحَلُّقِ أَهَلَ الْمَدِينَةِ حَوْلَ الْإِمَامِ نَافِعْ
فَجَلَسَ فِي آخِرِ الْحَلَقَةِ يُحَاوِلُ أَنْ يَصِلَ بِبَصَرِهِ لِلْإِمَامِ، فَعَلِمَ أَنَّهُ مِنَ المُسْتَحِيلِ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ مَهْمَا فَعَلَ إِلَّا أَن يَبْحَثَ عَنْ طَرِيقًةٍ أُخْرَى
فَسَأَلَ أَحَدَ الْجَالِسِينَ عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْإِمَامِ نَافِعٍ فَدلَّهُ عَلَى كَبِيرِ الْجَعْفَرِيينَ، فَسَأَلَهُ وَرْشْ: وَكَيْفَ أَصِلُ إِلَيْهِ؟
فَأَكْرَمَهُ الْرَّجُلُ بِعَرْضِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ هُوَ إِلَيْه،
وَبِالْفِعْلِ قَابَلَ وَرْشٌ كَبِيرَ الْجَعْفَرِيين، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ غَرِيبٌ عَنِ اْلمَدِينَةِ وَجَاءَ مِنْ سَفَرٍ يَطْلُبُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَلَى الْإِمَامِ نَافِعٍ وَلَمْ يَجِدْ سَبِيلًا لِلْوُصُولِ إِلَيْه.
فَأَخَذَهُ كَبِيرُ الْجَعْفَرِيِينَ إِلَى نَافِعٍ، وَشَفَعَ لَهُ عِنْدَه، وَقَالَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِلْمَدِينَةِ لِأَيِّ حَاجَةٍ، إِلَّا أَن يَقْرَأَ عَلَيْك.
فَتَحَيَّرَ الْإِمَامُ نَافِعٍ فِيمَا يَصْنَع، فَأَحْفَادُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، يَجْتَمِعُونَ حَوْلَ الْإِمَامِ نَافِعٍ يُرِيدُونَ اْلِقرَاءَةَ، فَكَيْفَ سَيُقدِّمُ اْلغَرِيبَ عَلَيْهِمْ؟
ثُمَّ فَكَّرَ فِي الْأَمْرِ وَسَأَلَ وَرْشًا هَلْ بِإِمْكَانِهِ أَنْ يَبِيتَ فِي الْمَسْجِد؟
فَقَالَ وَرْشٌ: نَعَمْ.
وَفِي فَجْرِ الْيَوْمِ التَّالِي
ذَهَبَ نَافِعٌ إِلَى الْمَسْجِدِ لِلْصََّلاةِ وَسَأَلَ عَنِ الْغـَرِيبْ؟
فَقَالَ وَرْش: هَا أَنَا رَحِمَكَ الله.
فَقَالَ أَنْتَ أَوْلَى بِالْقِرَاءَه، لِمَا وَجَدَ مِنْ حِرْصِهِ
وَكَانَ كُلُّ طَاِلبٍ يَقْرَأُ عَلَى الْإِمَامِ ثَلَاثِينَ آيةً فَقَطْ، فَبَدَأَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمِصْرِيُّ الْقِرَاءَةَ، وَهَذَا هُوَ الْاسْمُ الْحَقِيقِيُّ لِوَرْش، وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ فَمَلأَ صَوْتُهُ الْمَسْجِدَ، حَتَّى خَتَمَ الثَّلَاثِينَ آيةً فَقَالَ لَهُ الْإَمَامُ نَافِعٌ حَسْبُكْ.
ثُمَّ حَصَلَتِ الْمُفَاجَأةُ إِذْ قَامَ أَحَدُ الْطُّلًابِ لِيَسْتَأْذِنَ الْإِمَامَ نَافِعَ وَيَقُول: أَعَزَّكَ الله، هَذَا رَجُلٌ غَرِيبٌ وَنَحْنُ مَعَكْ، فَأَنَا أُعْطَيهِ مِنْ حِصَّتِي عَشْرَ آيَاتٍ يَقْرُؤُهَا، وَأَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكَ عِشْرِينَ آيَةٍ فَقَطْ.
ثُمَّ قَامَ طالبٌ آخَرٌ فَفَعَلَ مِثْلَه.
فَكَانَ وَرْشٌ يَقْرَأُ خَمْسِينَ آيَة، وَأَكْثَرُ طُلَابِ نَافِعٍ إِنَّمَا يَقْرَؤُونَ ثَلَاثِينَ فَقَطْ.
وَظَلَّ يَقْرَأُ عَلِى اْلِإمَامِ نَافِعٍ حَتَّى خَتَمَ الْقُرْآنَ أَرْبَعَ مَرَات.
وَكَانَ كُلَّمَا قَرَأَ قَالَ لَهُ الْإِمَامُ نَافِعٌ اقْرَأْ يَاوَرْشَانْ، اقْرَأْ يَاوَرْشَان.
ذَلِكَ أَنَّ وَرْشَ كَانَ أَشْقَرَ أَبْيَض، فَقِيلَ أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ مِنْ بَيَاضِ الْوَرْشِ الّذِي يُصْنَعُ مِنَ الْلَبَن،
وَقِيلَ بَلْ نِسْبَةً إِلَى طَائِرِ الْوَرْشَانِ، لِأَنَّ وَرْشَ كَانَ قَصِيرًا وَيَلْبَسُ ثِيَابًا قَصِيرَه، فَتَتَعَدَّدُ الْأَلْوَانُ فِي هَيْئَتِه، فَلَقَّبَهُ شَيْخُهُ بِذَلِك
وَكَانَ هَذَا الْلَقبُ أَحَبَّ الْأَلْقَابِ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ (وَرْشْ)، فَكَانَ يَقُولُ سَمَّانِي شَيْخِي بِه،
فَلَا زَالَ يُعْرَفُ بِهِ حَتَى يَوْمِنَا هَذَا.
وَعَادَ وَرْشٌ إِلَى مِصْرَ لِيُعَلِّمَ النَّاس، وَأَطَالَ اللهُ فِي عُمُرِهَ لِيَعِيشَ بَعْدَ عَوْدَتِه اثنَيْ وَثَلاثينَ سنةً، وَرَحَلَ إِلَيْهِ طُلَابُ الْقُرْآنِ مِنْ شَتَّى البِلادِ يَقْرَؤُونَ عَلَيْهِ، فَنَفَعَ اللهُ بِهِ الْأُمَّةَ وَبَارَكَ فِي عُمُرِهِ وَعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ، وَخَلَّدَ ذِكْرَهُ حَتَّى يَوْمِنَا هَذَا.
صَدَقَ اللهَ فِي طَلَبِهُ لِلقُرآنِ فَصَدَقَه، فَسُبْحَانَ الله، وَحْدَهُمُ الصَّادِقُونَ مَنْ يُمْكِنَهُمُ التَّرَقِيَ إِلَى الْعَلْيَاء.
كُنْ صَادِقًا وَنَضْمَنُ لَكَ الْوُصُول، بَلْ يَضْمَنُهُ لَكَ رَسُولُ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَال: (إِنْ تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكْ) رواه النسائي وصححه الألباني.

.........
الفئة المستهدفة: الأطفال، وعموم الناس.
المقصد الرئيس من الرسالة: الحث على الإقبال على تعلم القرآن مهما كانت العوائق، والحث على الصدق في تعلمه وتعليمه، وبيان كيف يرفع الله بهذا القرآن عباده المخلصين.
- في أثناء الرسالة عرض لفكرة تلقي القرآن بالإسناد وهي مقصودة
- لي عودة للتنسيق وإضافة المراجع بإذن الله.

صفية الشقيفي 18 ذو القعدة 1443هـ/17-06-2022م 12:33 PM

الشَّيْخُ مَحْمُود خَليل الحُصًرِي
وَهَلْ مِنْ مُسْلِمٍ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ لَا يَعْرِفُ الْحُصَرِيْ ؟؟
اشْتُهِرَ بَيْنَ الْأَطْفَالِ وَالْكِبَارِ بِالْمًصْحَفِ الُمعَلِّم، يُرًتِّلُ الْقُرْآنَ فَيُبَيِّنَُهُ حَرْفًا حَرْفًا كَأنَّمَا يُفَسِّرُهُ لَكَ بِتِلَاوَتِهِ، ويُرَدِّدُ مِن خَلْفِهِ الصِّغَار.

الْحُصَرِيْ
مِنْ مَوَالِيدِ سَنَةَ ألفٍ وتِسْعِمِائةٍ وسبعةِ عشر ميلاديًا، بِمُحَافَظَةِ الْغَرْبِيَةِ بِمِصْر.
وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ لَقَبَ " الْحُصَرِيِّ " لَيْسَ لَقَبَهُ هُوَ بِالْأَصْلِ، بَلْ لَقَبُ أَبِيهِ الّذِي اشْتُهِرَ بِصِنَاعَةِ الْحَصِير.
وَكَانَ لِأَبِيهِ عَمَلٌ صَالِحٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ، إِذَا وَجَدَ مَسْجِدًا يَحْتَاجُ إِلَى الْحَصِيرِ، سَارَعَ بِصُنْعِهِ مَجَانًا وَإِهْدَائِهِ لِأَهْلِ الْمَسْجِد.
وَبَشَّرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنَّهً سَيُكَافِئُهُ فِي ابْنِهِ، بِالرُّؤيَا الصَّالِحَة، حَيْثُ رَأَى فِي مَنَامِهِ رُؤيَا عَجِيبَة
رَأَى كَأَنَّ عُنْقُودًا مِنَ الْعِنَبِ يَتَدَلَّى مِنْ عَمُودِهِ الْفِقَرِيِّ وَالْنَّاسُ يَأْتُونَ مِنْ كُلّ فَجٍ يَقْطِفُونَ مِنْهُ وَلَا يَنْتَهِي.
فَتَحَيَّرَ خَلِيلٌ الْحُصَرِيُّ فِي رُؤْيَاهُ وَقَصَّهَا عَلَى أَحَدِ الشِّيُوخِ لِيُفَسِّرُهَا لَهُ، فَسَأَلَهُ الشَّيْخُ: هَلْ عِنْدَكَ وَلَد؟
قَالَ خَلِيلٌ الْحُصَرِيُّ: نَعَمْ، عِنْدِي مَحْمودْ، قَالَ الشَّيْخُ: عَلِّمْهُ الْقُرْآنَ وَأَلْحِقْهُ بِالْأَزْهَرِ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شَأْنٌ عَظِيم.
وَاسْتَمَعَ خَلِيلٌ الْحُصَرِيُّ لِلْقَوْلِ وَاتَّبَعَ أَحْسَنَه، وَأَوْصَى زَوْجَتَهُ بِه، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ وَلَمْ يُبْصِرْ بَعْدُ تَحَقُّقَ رُؤْيَاه.

وَهَكَذَا بَدَأَتْ رِحْلَةُ الشَّيْخِ مَحْمُود خَلِيلٍ الْحُصَرِيّ مَعَ الْقُرْآنِ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظَافِرِه، فَحَفِظَ اْلقُرْآنَ عَلَى يَدِ شَيْخِ الْقَرْيَةَ، وَخَتمَهُ وَعُمُرُهُ ثَمَانُ سَنَوَاتْ، وَتَدَرَجَ فِي دِرَاسَةِ العُلُومِ الشَّرْعِيَةِ فِي الْأَزْهَر، وَتَخَصَّصَ فِي عِلْمِ التَّجْوِيدِ وَالْقِرَاءَات، ثُمَّ تَدَرَجَ فِي اْلمَنَاصِبِ الْعِلْمِيةِ فِي الْأَزْهَرِ حَتّى صَارَ شَيْخَ عُمُومِ الْمَقَارِئِ الْمِصْرِيه سَنَةَ ألفٍ وتِسْعِمِائةٍ وواحِدٍ وستينَ ميلاديًا.
وفي سَنَةِ ألفٍ وتِسْعِمِائةٍ وستين ميلاديًا، حَصَلَ أَنْ انْتَشَرَتْ مَصَاحِفٌ مُحَرَّفَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمينَ فِي بِلادِ أَفْريقيا، وَرَأَتْ الْحُكُومَةُ اْلمِصْرِيَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنَّ أَفْضَلَ رَدٍ عَلَى هَذَا الاْعْتِدَاءِ هو إِنْشَاءُ إِذَاعةٍ لِلْقُرْآنِ الْكَريم، يُذَاعُ مِنْ خِلَالِهَا الْقُرْآنُ عَلَى مَدَارِ أربعٍ وعشرينَ ساعة ، فَيَصِلُ إِليْهِمُ الْقُرْآنُ صَحِيحًا كَمَا أُنزِلَ مِنْ رَبِّ العِزَّة.
وَوَقَعَ الاْخْتِيارُ على الشيخِ محمود خليل الحصري لِتَرْتِيلِ المُصحفِ المُرتل؛ وعَرَضُوا عَلَيهِ أجرًا فَأَبَى أن يَأخُذَ أًجْرًا على تَرْتِيلِهِ لِلْقُرْآن!
وكانَ أَولُ مَنْ سَجَّلَ المُصْحَفَ الْمُرَتَّلَ بِرِوَايةِ حَفْصٍ عَنْ عَاصِم، وَهِيَ الْرِوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي كَثيرٍ مِنْ بِلادِ المُسْلمِين
ثُمَّ قَدَّمَتِ الْحُكُومَةُ الْمَغْرِبِيَةُ طَلبًا لِلحكومةِ المصريةِ بِتسجيلِ المُصحفِ المُرتّلِ بِروايةِ وَرشٍ عَنْ نافعْ، فَكَانَ الحصريُّ كَذَلكَ أَولَ مَنْ فَعَلَها.
ثُمَّ سَجَلَ المُصْحَفَ بِرِوَايةِ قَالونٍ عَن نافع، وهِيِ الرِوَايةُ المَشْهُورةُ فِي بَاقِي دُوَلِ الْمَغْرِبِ الْعَرَبِيّ،ثُمَّ بِرِوَايةِ الدُّورِيِّ عَنْ أَبِي عَمروٍ الْبَصْرِيِّ وَهِيَ الْرِوَايةً المشهورةُ في السّودَان.
ثُمَّ سَجَلَ الْمُصْحَفَ الُمعَلِّمَ لِلْأَطْفَال، وَلَا زَالَ الْأَطْفَالُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا يَتَعَلمونَ القُرآنَ مِنَ الشَّيْخِ الحُصَرِيِّ بِالتّلْقينِ مِنْ خِلالِ هَذِهِ الّتسْجِيلاَت، خاصةً فِي رُبُوعِ أَفْريقيا.
وَذَاعَ صَوتُ الشّيْخِ وَسِيرَتُهُ العَالمَ أَجْمع، حَتّى كُلما سَافرَ إِلى بَلدٍ، وَجَدَ حَفَاوَةً فِي استقبَالِه، فَكَأنّمَا سَبَقَتهُ سِيرَتُه الطيبةُ إِليهم
وَتَحَقَقَتْ رُؤيا الأَبِ فِي ابْنِه وَبَارَكَ اللهُ لهُ فِي عَملِه، إِذْ صَدقَ اللهَ فَصدَقَه.
فَمِنْ صَانِعِ حصيرٍ يفرِشُ أرضَ المسجدِ دُون مُقابِلٍ مَاديّ ، إلى ابنٍ صَالِحٍ، يُرتِّلُ القُرْآنَ وَيَرْفُضُ أَن يَأْخُذَ أَجْرًا مَادِيًا عَلَى تَرْتِيلِِه، ويُخَلِّدُ ذِكْرَ أَبيهِ مِنْ بَعْدِه، فَإِذَا أَرَدْتَ سَمَاعَ الْقُرْآنَ بِأيِّ قِراءةٍ شِئتْ
لا شكَّ سَيَقَعُ اختيارُكَ عَلَى الشّيخِ محمود خليل الحصري
رحِمهُ اللهُ رحمةً واسعه.


.......
المصدر: تسجيل مرئي للشيخ الحصري، وتسجيل آخر لابنته تحكي رؤياه، والسيرة التعريفية بالشيخ على موقعه الرسمي.

منيرة محمد 27 محرم 1444هـ/24-08-2022م 11:49 PM

سيرة مفسر
 
بسم الله الرحمن الرحيم

حديثنا في هذه السيرة نخرق به حجب الزمان، ونتجاوز به حقب التاريخ ..
لنعيش في ذلك المكان الذي استنار بوحي السماء وتبددت عنه الوحشة والظلماء، منذ أن بعث الله الهادي البشير والسراج المنير ..
فكيف بشخص تعطرت روحه وأشرقت نفسه بهدي النبوة .. ثم لم تمتلئ عينيه برؤية إمامها وهاديها !!....
فيا لهفة الروح إلى طرف في ذلك المجلس يرمقه فيه ..
ويا لذة السمع إلى كلمة تتناهى إلى أذنيه ..
لكنّ ... لعل صلاة خلف هذا الرفيق والصاحب الشفيق الذي قال فيه صلوات ربي وسلامه عليه "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبِي " (1)
تخفف بعض تلك اللوعة التي علقت في حنايا روحه..

وكأني أنظر إلى صاحبنا وهو يصلي خلف أبي بكر رضي الله عنه، وحوله الصحب الكرام ،عمر، وعثمان، وعليا، وعبد الله بن مسعود، وغيرهم من الصحابة الإجلاء .
فيرمق الذي بجانبه فيجده مستغرقا في صلاته ...
وينظر للآخر فإذا هو منكب على مصحفه لايرفع طرفه .. والثالث عاقدٌ أنامله يذكر ربه ، ورابع وخامس .. فيصنع هذا أثراً في نفسه وقوة في عزمه ليرتقي في مصاف العالِمين العابدين ...
صاحب هذه السيرة العطرة من كبار التابعين وأجلائهم، ومن المخضرمين الذين أسلموا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لكن يالها من حسرة إذ أنه لم يره .....!!

قال أبو نعيم (2) يصف صاحبنا رضي الله عنه وأرضاه : "ومنهم العالم بربه، الهائم بحبه، الذاكر لذنبه، في العلم معروف، وبالضمان موثوق، ولعباد الله معشوق، أبو عائشة المسمى بمسروق"
هو أبو عائشة الكوفي مسروق بن الأجدع الهمْداني .
أَبُوه أفرس فارس باليمن، ، تنفس الشعر وولع به، فهو من شعراء الجاهلية المعروفين، وعمرو بن معدي خاله ..!!
سُميّ مسروق لأنه سُرق وهو صغير ثم وجد فسمي مسروقا .(3)
"يامسروق إنك من ولدي وإنك من أحبهم إلي"
قالتها عائشة بنت أبي بكر حُبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها وعن أبيها ..
فأيّ شرفٌ حازه، وأيّ فخرٌ ناله ...؟!!
فما كان منه إلا أن تكنّى بأبي عائشة من حُبه لها ..!! رضي الله عنها ،وعنه . (4)

وكأني به وقد فاتته صحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، يعوض فقده بحبّ من أحبّ وبملازمة كبار الصحب .
ودافعاً قوياً لنيل قصب السبق في كل شيء ...
في العلم ، والعبادة ، والفتيا، والفضل ...

"ما علمت أن أحداً كان أطلب للعلم في أفقٍ من الآفاق من مسروقٍ" (5)
قالها الشعبي يصف هذا العالم الفذ الذي كـان على غزارة علمه ،حريصا على الأخذ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجالس كبار الصحابة وأخذ منهم علماً غزيرا...
وهاهو يحدثنا عن نفسه فيقول: "لقد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فوجدتهم كالإخاذ، فالإخاذ يروي الرجل والإخاذ يروي الرجلين والإخاذ يروي العشرة
والإخاذ يروي المائة والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم ، فوجدت عبد الله بن مسعود من ذلك الإخاذ " (6)
فما كان منه إلا أن صاحب عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ،وروى عنه حتى عد من أصحابه المعدودين الذين يُقرئون الناس القرآن و يعلمونهم السنة .

وقال الشعبيُ أيضاً: لما قدم عبيد الله بن زياد الكوفة، قال: من أفضل الناس؟ قالوا له: مسروق .

وانظر إلى ما قال ابن المديني وهو يعرف ما يقول: "أنا ما أُقدّم على مسروق أحدًا صلى خلف أبي بكر"

و قال مرة الهمداني، وأبو السفر: ما ولدت همدانية مثل مسروق. (7)

ما كان هذا الثناء يُنال بعد توفيق ربّ العالمين، إلا بجهد ومجاهدة، وإصلاح للنفس وحسن معاهدة .
وما أجمل العلم إذا أُتبع بالعمل، وزرع الخشية ووقى من الزلل، فسلك بصاحبه سبيل الصالحين ورفع ذكره بين العالمين ..

قال العجلي": كان أحد أصحاب عبد الله الذين يقرئون ويفتون، وكان يصلَي حتى ترم قدماه" . (8)

وقال علي بن الأقمر: كان مسروق يؤمنا في رمضان فيقرأ العنكبوت في ركعة.

وقالت –قمير- زوجة مسروق "يصلي حتى تورم قدماه، فربما جلست أبكي خلفه مما أراه يصنع بنفسه"
لله دره ...علم فجاهد حتى تنعم ..!!
هي والله الراحة التي يذكرها العارفون ولم نذقها بعد ..

اللذة إذا لمست القلب ؛قويت الهمّة فيتحول التعب إلى راحة وأنس ..!!
نسأل الله الكريم من فضله .

وكأني به وقد قصت عليه عائشة رضي الله عنها، قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، "كَان يقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حتَّى تتَفطَرَ قَدمَاهُ، فَقُلْتُ لَهُ،
لِمْ تصنعُ هَذَا يَا رسولَ اللَّهِ، وقدْ غفَرَ اللَّه لَكَ مَا تقدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وَمَا تأخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أكُونَ عبْداً شكُوراً؟"
متفقٌ عَلَيهِ .
فهفت نفسه إلى اقتفاء أثره واشتاقت روحه إلى لقياه ، فصبر وصابر ،وأرخى ستره وأقبل على صلاته وأنسه، وتركهم ودنياهم .
وهو يتذكر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لثوبان،
"عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحطَّ عنك بها خطيئة".
(9)

ولعلنا ندخل معه في خلوته، وننظر ما وراء هذا الستر لنعلم ماهي أعظم اللذائذ عنده في هذه الخلوة الطويلة ،فنجده يقول لأعز صحبه سعيد بن جبير،
"ياسعيد ما بَقِي شيء يُرغَب فيه إلا أن نُعفِّر وجوهنا في التراب، وما آسَى على شيء إلا السُّجود لله تعالى " (10)
اعتبرها رضي الله عنه أعظم اللذائذ..
لله دره أيّ لذة نالها ...!! وأي نعيم ذاقه ..!!
، فهان عليه كلّ شيء سواه ..

سبحان الله .. رغم صغر موضع السجود، إلا إنه للروح أوسع من الدنيا وما فيها..!!
فيه لقاء من نوع خاص لا يَحضُره أحد ولا يُمنع منه أحد، ولا يدري به أحد ..
فهو بين العبد وربه، لقاءٌ تختلط فيه الدموع بالدعوات، والتملق بالزفرات، والخوف بالرجاء، والسرور بالبكاء..
عنوان العبودية، ورمز الخضوع، سبعة أعضاء تسجد لله وتحمل البدن، كلها مُنطرِحة غير متأفِّفة ولا مستكبِرة، بل راغبة مُحبَّة طالبة للعز والرفعة.

مسروق مع كتاب ربه تدبر وعمل
ولنسبر حاله مع كتاب ربه وأنسه في خلوته،لعله ينفتح لنا باب من العلم، أو لحظة أنس، فنبادر لإصلاح أنفسنا وننظر في كتاب ربنا، فنعرف مقاصده ومراميه،
ونقلب الطرف والروح في معانيه .
ولنتأمل وقوفه عند قوله تعالى: (وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) حيث قال: "والله لو أتاني آتٍ فأخبرني أنَّ الله لا يُعذِّبني، لاجتهدتُ في العبادة، قيل: وكيف ذلك؟! قال:
حتى تَعذِرني نفسي إنْ دخلتُ جهنمَ لا ألومها، أمَا بلَغَك في قوله - عزَّ وجلَّ –( وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) إنَّما لاموا أنفسَهم حين صاروا إلى جهنم، واعْتقبتْهم الزبانية،
وحِيل بيْنهم وبيْن ما يَشْتَهون، وانقطعتْ عنهم الأمانيُّ، ورُفِعتْ عنهم الرحمة، وأقبل كلُّ امرئ منهم يلوم نفسَه" . (11)

وقال رحمه الله لابنته عائشة عندما عرضت عليه الأكل و الشرب وهو صائم، قد غشي عليه في يوم شديد الحرّ: "ما أردت بي يا بنية؟ قالت: الرفق، قال: يا بنية إنما طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة".
متذكرًا قوله تعالى:(تَعۡرُجُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَیۡهِ فِی یَوۡمࣲ كَانَ مِقۡدَارُهُۥ خَمۡسِینَ أَلۡفَ سَنَةࣲ * فَٱصۡبِرۡ صَبۡرࣰا جَمِیلًا)

هذه والله هي التلاوة النافعة المؤثرة التي تنفع صاحبها وتزكي النفس وتقومها، تلاوة عرض ومحاسبة، وتفكر، يغمرها الخوف والرجاء، والإلحاح في الدعاء .
ونرى سلفنا الصالح مع ماهم عليه من الإجتهاد والخشية، إلا أنهم يحذرون ويجتهدون ويهضمون جانبهم ويعتبرون أنهم مقصرون، كما قال الله عز وجل: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون )
وذلك حذرًا من لوم النفس عند انقطاع الأعمال على التقصير،وكان من أقواله رحمه الله :" كفَى بالمرء علمًا أن يخشى الله تعالى ، وكَفَى بالمرء جهلاً أن يُعجَب بعمله.

وقال: المرء حقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها فيذكر ذنوبه فيستغفر الله. (12)
وهكذا كان مسروق ذكر اسمه في سير المفسرين ،وسجل في مصاف العابدين .

وقال رحمه الله تعالى: "من سره أن يعلم علم الأولين والأخرين وعلم الدنيا والآخرة فليقرأ سورة الواقعة"
كم مرة قرأنا هذه السورة ..!! وكم كررنا آياتها ..!!
فهل ظهر لنا شيء من هذه العلوم ..؟؟


قال الذهبي: "هذا قاله مسروق على المبالغة لعظم ما في السورة من جُمل أمور الدارين، ومعنى قوله: فليقرأ الواقعة أي يقرأها بتدبر وتفكر وحضور ولا يكن كمثل الحمار يحمل أسفارًا" .

نسأل الله الكريم أن يصلح فساد قلوبنا وأن يرزقنا علم كتابه ولذة تدبره .

ولمصاحبة كتاب الله أثر وأي أثر وبركة لا تندثر؛ فهم أهل الله وخاصته، عاشوا مع آياته وتلذذوا بمنجاته، فاستنارت بصائرهم وتوقدت أفكارهم ،لا تجدهم إلا ناصحين وعلى الأمة مشفقين،
يعلمونهم الإيمان واليقين ويبصرونهم بأمور الدين، ويحذرونهم من شهوات الدنيا وزخرفها.


ذات يوم أخذ مسروقٌ بيد ابن أخ له فارتقى به على كناسة بالكوفة فقال: ألا أريكم الدنيا؟ هذه الدنيا أكلوها فأفنوها، لبسوها فأبلوها، ركبوها فأنضوها، سفكوا فيها دماءهم،
واستحلوا فيها محارمهم، وقطعوا فيها أرحامهم.)

وقال: أوثق ما أكون بالرزق حين يجيء الخادم فيقول: ما في البيت طعام ولا دقيق ولا ماء.

وهو الذي قال: أطيب ما أكون نفساً يوم تقول المرأة: ما عندنا درهم ولا قفيز.(13)

ومع هذا الزهد والورع لم يكن ليتخلف عن مواطن الجهاد، شهد القادسية وكان فيها من الأشاوس الأبطال وأصابته جراح في رأسه، وشلت يده ..
وشهد مع عليّ ضي الله عنه وقعة الخوارج، واعتزل القتال في الفتنة؛ ولما حضر وقعة صفين قام بين الصفّين فذكّر ووعظ وحذّر ثم انصرف.

ولما احتضر بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: مالي لا أجزع وإنما هي ساعة ولا أدري أين يسلك بي؟ بين يدي طريقان لا أدري إلى الجنة أم إلى النار ..؟
نضر الله هذه الوجوه جمعوا مع الإجتهاد وحسن العمل خوف ووجل .

و لايضر من ورث علما ينتفع به، وذكراً طيبا يخلد به ألا يجد ثوباً يكفن به ،ليس عن قلة يد وإنما زهداً وورعا، فقد كان مسروق قاضياً ومفتيا إلا
أنه لم يدخر منها لدنياه ولم يأخذ أجرا على القضاء حتى غادرها .

فرحم الله أصحاب الهمم العالية والأرواح المتعلقة بربها الطالبة للدرجات العلى من الجنان
فيا أيها الموفق إن أصابك أمرا تكرهه أو حرمت من أمر تتوق له ،فارضى بالقضاء وأيقن بحسن تدبير ربّ السماء
وجاهد النفس إن أردت الفلاح،واسلك طريق أهل الصلاح .


المراجع :
-أخرجه مسلم
2- بو نُعيم الأصبهاني صاحب كتاب حلية الأولياء
3-تهذيب الكمال للمزي
4- سير أعلام النبلاء
5- التاريخ الكبير للبخاري .
6-الطبقات الكبرى
7- الإصابة في تمييز الصحابة
8- طبقات الحفاظ - لجلال الدين السيوطي.
9-أخرجه مسلم
10-سير أعلام النبلاء
11-صفة الصفوة
12- سير أعلام النبلاء
13-سير لأعلام النبلاء

منيرة محمد 28 محرم 1444هـ/25-08-2022م 12:24 AM

سيرة مفسر-عبدالله بن عمرو
 
"عبد الله بن عمرو _ عزيمة وثبات "

العزم فضلٌ من الله يؤتيه عبده الصادق إذا رأى منه نية صالحة وهمة عالية ..
فمن علم عزم ، ومن جاهد وصل ،ومن ثبت نبت .

وسيرة هذا الصحابي الجليل مثال للعزيمة الصادقة والهمة المتدفقة ،والسبق إلى المعالي والقوة في العبادة .
"نعم البيت عبدالله وأبو عبدالله وأم عبد الله "
قالها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم
فياله من فخر وشرف حظي به إلى يوم الدين
.
ترعرع في هذا البيت الشاب عبدالله بن عمرو العابد التقي العالم الرباني ،وقد نال قدم السبق حيث أسلم رضي الله عنه قبل أبيه الذي يكبره بثلاثة عشر سنة فقط .
وكم للشباب من توقٍ وهمة إن استغلت ووضعت موضعها الصحيح ..
وكذلك لفتة مهمة لنا، ولكل شاب وشابة .
ماذا ترى قدمنا لهذا الدين ...؟ !
وهل لنا بصمة نرضي بها ربّ العالمين..؟

فاللهمّ أترك لنا في الأخرين .
واجعلنا ممن يحمل همّ هذا الدين .

*الشاب عبدالله بن عمرو والعبادة:
منذ أسلم " عبد الله بن عمرو " حُبب إليه العلم والعبادة .
فجمع بين العلم والعمل واشتهر بكثرة الحديث والاجتهاد .

عن عبد الله: أنه رأى في المنام كأن في إحدى يديه عسلاً، وفي الأخرى سمناً، فإنه يلعقهما، فأصبح فذكر ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فقال: " تقرأ الكتابين التوراة والقرآن " فكان يقرؤهما .

وقد أعطى رضي الله عنه العبادة كلّ وقته ، وملئ كلّ جوانب حياته
فهو العابد الزاهد، القانت، الأواب...
ثمل رضي الله عنه بحلاوة الايمان، فلم يعد الليل والنهار يتسعان لتعبّده ونسكه ..

وما أجمل الشاب وهو ينشأ في طاعة الله وعبادته ،ليكون من السبعة الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبو هريرة رضي الله عنه المتفق على صحته
"سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله "...منهم شاب ٌّ نشأ في عبادة الله ".
ولنشأة الشاب في عبادة الله لها أثر كبيرٌ في التثبيث، والضمان بعد الله سبحانه وتعالى عن الإنحراف والإنسياق وراء الشهوات والمغيرات التي تعج بها هذه الحياة .

*عبدالله بن عمرو والقرآن .
عكف عبدالله على القرآن الذي كان يتنزل منجّما، فكان كلما نزلت منه آيات حفظها وفهمها، حتى اذا تمّ واكتمل، كان له صاحباً وحافظاً ،وبه عاملا ، متأنقا في رياضه اليانعات، باكي العين خاشع القلب ...
قد عمُر قلبه آياته ،وملأ جوانح نفسه عظاته ..

فكان عبده المطيع، يحلّ ما أحلّ، ويحرّم ما يحرّم ، يتقرب إليه بمحابه ومراضيه .
أورثته هذه العبادة قيام طويل ،وترنمٌ وترتيل ..
لذة مناجاة وعيش مع الآيات ..

ولا غرو في ذلك وهو الذي روى لنا حديث :" يقال لصاحب القرآن اقرأ، وارتق، ورتل كما كنت ترتِّل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها ".
فكأني به وهو ينقل لنا هذا الحديث يتمثله قولاً وعملا وخلاقا ، قال سليمان بن ربيعة الغنوي: " كنا نُحدَّث أنه أشد الناس تواضعاً" .

صحب القرآن وأحبه ،وربما قرأه رضي الله عنه وأرضاه ، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة ، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمره بالقصد والاعتدال .
فالشاب عبدالله رضي الله عنه وأرضاه متقد الحماس ..
والعبادة ليست لمرحلة معينة ثم ينفك منها ، أو يأخذ ببعضها ويترك الأخر ، إنما هي استمرار وديمومة .
وذلك لأن كل مبالغ لا بد أن تنكسر همته، وتفتر قوته عن الجد عادة .

" إني أصوم وأفطر .. وأصلي وأنام .. وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني "
قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ليكشف لنا حرص هذا الدين على القصد والاعتدال في نشدان كل تفوّق واكتمال..
وذلك حتى يبقى للنفس حماسها وأشواقها ..
وتبقى للجسد عافيته وسلامته !! ...

"فالمنبَتُّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " ...
"وهذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق "


ولننظر لهذا الحوار اللطيف بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .
روى أبو سلمة بن عبد الرحمن قال : حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: كنت أصوم الدهر وأقرأ القرآن كل ليلة، قال: فإما ذُكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، وإما أرسل إلي فأتيته،
فقال لي: " ألم أُخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة؟» فقلت: بلى، يا نبي الله، ولم أرد بذلك إلا الخير.
قال: " فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام"
قلت: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك.
قال "فإن لزوجك عليك حقا، ولزورك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا"
قال: " فصم صوم داود نبي الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أعبد الناس"
قال: قلت: يا نبي الله، وما صوم داود؟
قال: " كان يصوم يوما ويفطر يوما"
قال: " واقرأ القرآن في كل شهر"
قال: قلت: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك.
قال: " فاقرأه في كل عشرين".
قال: قلت: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك.
قال: " فاقرأه في كل عشر".
قال قلت: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك.
قال: " فاقرأه في كل سبع، ولا تزد على ذلك، فإن لزوجك عليك حقا، ولزَورك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا "
قال: فشدَّدت، فشُدِّد علي.
قال: وقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: " إنك لا تدري لعلك يطول بك عُمُر".


قال: " فصرت إلى الذي قال لي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كبرت وددتُ أني كنت قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم"
ومع هذه المشقة التي وجدها في أخر عمره إلا إنه لزم ذلك، ولم يتركه خشية أن يترك شيئاً فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

*"ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب"
قالها أبو هريرة رضي الله عنه مثنياً عليه مبيناً سبقه وفضله..

وقد ذكر أصحاب السير أنه بلغ ما أسند سبع مائة حديث ، اتفقا له على سبعة احاديث ،وانفرد البخاري بثمانية ،ومسلم بعشرين .
فقد كان الوحيد الذي أَذن له النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الحديث؛ فكان يكتب ما يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب حديثاً كثيراً، وكانت عنده صحيفة يسميها الصادقة.
فقيل له في ذلك ؛ إنك لكتب عن رسول صلى الله عليه وسلم في الغضب والرضا وهو بشر..؟

فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما روى عمرو بن شعيب، قال: قلت: يا رسول الله، أكتب ما أسمع منك؟، قال: نعم، قلت: في الرضا والسخط؟، قال: نعم، فإنه لا ينبغي لي أن أقول في ذلك إلا حقا .
وعن مجاهد قال: رأيت عند عبد الله بن عمرو بن العاص صحيفة فسألت عنها فقال: "هذه الصادقة! فيها ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بيني وبينه فيها أحد "


*عبدالله بن عمرو والجهاد
ومع هذا الشغف بالعلم والعبادة ،لم يكن رضي الله عنه متثاقلا حين يأتي أمر الله بالجهاد إذ يرى في مقدمة صفوف المجاهدين متمنياً الشهادة في الغزوات التي شارك فيها .

*مَا لِيَ وَلِصِفِّيْنَ، مَا لِيَ وَلِقِتَالِ المُسْلِمِيْنَ .
فكيف حملته ساقاه إذًا من المدينة الى صفين حيث أخذ مكانا في جيش معاوية في صراعه مع الامام علي رضي الله عنه.. ؟ !!
وإن مؤمنا من هذا الطراز ليصعب العثور عليه في معركة تدور رحاها بين جماعتين من المسلمين ...
والحق أن موقف عبد الله هذا، جدير بالتدبّر، بقدر ما سيكون بعد فهمنا له جديرٌ بالتوقير والإجلال ..

لما جاءت موقعة صفين ..
و همّ عمرو والد عبدالله بالخروج الى صفين دعاه إليه وقال له : يا عبد الله تهيأ للخروج، فإنك ستقاتل معنا ..
وأجابه عبد الله : " كيف وقد عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أضع سيفا في عنق مسلم أبدا .. ؟؟
وحاول عمرو بدهائه إقناعه ..
ثم ألقى مفاجأته الحاسمة قائلا لولده : " أتذكر يا عبد الله، آخر عهد عهده رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ بيدك فوضعها في يدي وقال لك : أطع أباك ؟ .. فاني أعزم عليك الآن أن تخرج معنا وتقاتل " وخرج عبد الله بن عمرو طاعة لأبيه، وفي عزمه الا يحمل سيفا ولا يقاتل مسلما ....

حدث نافعٌ عن ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ:
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: مَا لِيَ وَلِصِفِّيْنَ، مَا لِيَ وَلِقِتَالِ المُسْلِمِيْنَ، لَوَدِدْتُ أَنِّي مِتُّ قَبْلَهَا بِعِشْرِيْنَ سَنَةً -أَوْ قَالَ: بِعَشْرِ سِنِيْنَ - أَمَا وَاللهِ عَلَى ذَلِكَ مَا ضَرَبْتُ بِسَيْفٍ، وَلاَ رَمَيْتُ بِسَهْم. وَذُكِرَ أَنَّهُ كَانَتِ الرَّايَةُ بِيَدِهِ.

*مالعمل يارسول الله عند ورود الفتن .
قالها هذا الشاب التّقي مبادراً فزعا عندما ذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتن محذراً منها ، ،ما اغتر بما هو عليه من خير وصلاح وحاشاه ذلك ،
-خرج أبو داود عن عِكْرِمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ حَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْفِتْنَةَ أَوْ ذُكِرَتْ عِنْدَهُ فَقَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ، وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ، وَكَانُوا هَكَذَا» - وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ - قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: كَيْفَ نَعْمَلُ عِنْدَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «الْزَمْ بَيْتَكَ، وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَخُذْ مَا تَعْرِفُ وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ الْخَاصَّةِ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ"
ووالله ما أشد حاجتنا إلى تفهم هذا الحديث والعمل بما فيه ونحن نرى تنوع موارد الفتن ، واختلاف مشاربها ، وذلك لما للفتن من شأن عظيم وخطرٌ جسيم ومضرة على الناس شديدة ومهلكة إلا من تداركه الله برحمته وفضله، لذا تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من الفتن وبيان خطورتها، وورد في النصوص الدعاء بها بشكل يومي ومتكرر.

*قبس من كلام عبدالله بن عمرو:
(1) قال عبدالله بن عمرو: لو تعلمون حق العلم لسجدتم حتى تنقصف ظهوركم، ولصرختم حتى تنقطع أصواتكم، فابكوا فإن لم تجدوا البكاء فتباكوا؛
(2) وقال: لأن أدمع دمعة من خشية الله عز وجل أحبُّ إليَّ من أن أتصدَّقَ بألف دينار؛
(3) وقال: لأن أكون عاشر عشرة مساكين يوم القيامة أحبُّ إليَّ من أن أكون عاشر عشرة أغنياء، فإن الأكثرين هم الأقلُّون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا، يقول: يتصدَّق يمينًا وشمالًا؛

●وفاته
قال أحمد بن حنبل: مات عبد الله ليالي الحرَّة ، سنة ثلاث وستين.
وقال يحيى بن بكير: توفي عبد الله بن عمرو بمصر، ودفن بداره الصغيرة سنة خمس وستين.

المراجع:
(1) الذهبي سير أعلام النبلاء
(2) صفة الصفوة؛ لابن الجوزي .
(3) ابن منظور مختصر تاريخ دمشق ، وذكره أحمد في مسنده
(4) رواه أبو داوود
(5) البخاري
(6) رواه مسلم.
(7) رواه البخاري.
(8) سير أعلام النبلاء
(9) ابن سعد في الطبقات

صفية الشقيفي 8 رجب 1444هـ/29-01-2023م 10:28 PM

الآن يا عمر ... وقفات في سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه

((أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، ‌لأنت ‌أحب ‌إلي ‌من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك»
فقال له عمر: فإنه الآن، والله، ‌لأنت ‌أحب ‌إلي ‌من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر»)). رواه البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن هشام.
ربما تقرأ هذا الخبر فتتعحب كيف يصدر مثل هذا القول من عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، الرجل الثاني في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
يقولها ببساطة وصراحة: (يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي)
تعيد القراءة فيعود إليك التعجب، لكن حقيقة الأمر أنه كيف لا يقولها مثل عمر !
هذه الجملة العجيبة الصادقة إن دلت فإنها تدل على قدر ومكانة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
تدل على صدقه مع الله ورسوله … وما أسرع ما يجد الصادق علاجًا لأمره بمجرد وقوفه عليه، وتبينه لضرورة تداركه.
وهذا ما حصل هنا مع عمر رضي الله عنه
فيا للعجب، في ثوان معدودة … كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه، وشهد له رسوله وأقره بقوله: (الآن يا عمر)
وعمر رضي الله عنه يعلم جيدًا حقيقة هذه العبارة وحقيقة مقتضياتها فمن حقق هذه المرتبة لا يمكن أن يُقدم محاب نفسه على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(الآن يا عمر)
قالها النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه شاهدًا له على تحقيق كمال محبته، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم تابعة لمحبة الله عز وجل ومن لوازمها، فكمال اتباع النبي صلى الله عليه وسلم من كمال محبة الله عز وجل، كما قال الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني}
وهو والله ابتلاء شديد ومكانة عالية لا تلبث الأيام حتى تثبت صدق دعواك بها، وقد أثبتت صدق عمر رضي الله عنه على طيلة حياته فيما سنعرضه مع هذه الوقفات بإذن الله.
لكني أريد أن أعود مرة أخرى أمام مقولة عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي)


كيف يمكننا أن نبلغ هذه الدرجة من الصدق والوعي بأنفسنا حتى نحدد بالضبط، ونشير بأصابعنا إلى موضع العلة منا؟
أي شيء نقدم محبته على محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أم أنه غرتنا الشعارات البراقة والكلمات الرنانة وقولنا في المحافل: (فداك أبي وأمي ونفسي يا رسول الله)؟
ثم إذا دُعينا إلى ميدان العمل قدمنا كل شيء على تحقيق اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى ما عاد بإمكاننا التمييز بالضبط، أين تكمن المشكلة ؟!


الآن يا عمر …
فكيف بدأت قصة عمر رضي الله عنه مع الإسلام وكيف بلغ فيه ما بلغ من فضل وقدر، وكيف أعز الله به الإسلام ؟!
عُرف عمر رضي الله عنه قبل إسلامه بعداوته الشديدة للإسلام والمسلمين، وتأخر إسلامه لما بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة
((قالت ليلى أم عبد الله بن عامر بن ربيعة: " ‌كان ‌عمر ‌بن ‌الخطاب ‌من ‌أشد ‌الناس ‌علينا في إسلامنا، فلما تهيأنا للخروج إلى أرض الحبشة، جاءني عمر بن الخطاب، وأنا على بعيري أريد أن أتوجه فقال:
أين يا أم عبد الله؟
فقلت: آذيتمونا في ديننا، فنذهب في أرض الله، حيث لا نؤذى في عبادة الله،
قال: صحبكم الله،
ثم ذهب، فجاءني زوجي عامر بن ربيعة، فأخبرته بما رأيته من رقة عمر،
فقال: ترجين أن يسلم؟
فقلت: نعم،
فقال: والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب". رواه الطبراني في المعجم الكبير، وصحح الهيثمي في مجمع الزوائد إسناده.

هكذا قال عامر بن ربيعة وصارت كلمته مثلا: (لا يُسلِم عمر بن الخطاب حتى يُسلم حمار الخطاب)!
لكن الله عز وجل الذي أحاط علما بكل شيء، والذي يعلم السر وأخفى، ويصطفي من عباده من يشاء، ويعلم ما انطوت عليه قلوبهم من خير أو شر، اصطفى عبده عمر بن الخطاب!
ولم يكن الأسبق في إسلامه من بعض الصحابة … لكنه سبق فيما بعد وذلك فضل الله يعطيه من يشاء !
كان إسلامه استجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم:
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم أعزّ الدين بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل بن هشام، أو عمر بن الخطاب)).
فكان أحبهما إليه عمر بن الخطاب). رواه الترمذي وابن حبان.
فكان أحب الرجلين إلى الله عمر بن الخطاب، واستجاب الله دعوة رسوله وأعز به الإسلام منذ إعلانه إسلامه وحتى وفاته بل وما زلنا نشهد آثار هذه العزة حتى يومنا هذا …!
فلما أسلم عمر رضي الله عنه، سعى لنشر خبر إسلامه بين المشركين، لا يخشى أذاهم، ولا يخاف في الله لومة لائم
سأل عمر عن أكثر الناس إنشاء للحديث، ونشرا للأخبار فقيل له: جميل بن معمر الجمحي، فخرج إليه وأخبره بإسلامه، فلم يلبث جميل حتى عمد إلى المسجد؛ فنادى أندية قريش، فقال: يا معشر قريش! إنَّ ابن الخطاب قد صبأ.
فقال عمر: كذب، ولكني أسلمت وآمنت بالله، وصدقت رسوله.
فقاتل المشركون عمر وقاتلهم حتى فتر وجلس، فقاموا على رأسه يريدون مواصلة أذاه، فقال لهم عمر: " افعلوا ما بدا لكم؛ فوالله لو كنا ثلاث مائة رجل لقد تركتموها لنا أو تركناها لكم"
وبينما هم كذلك إذ جاء العاص بن وائل فقال: ما بالكم؟
فقالوا: "إن ابن الخطاب قد صبأ!!
قال: فمه! امرؤ اختار ديناً لنفسه؛ أفتظنون أن بني عدي تسلم إليكم صاحبهم؟!". رواه ابن حبان.

فرد العاص بن وائل القوم عن عمر، وتولوا عنه وتركوه حين ذكرهم العاص بنسب عمر ومكانته بين العرب، فهو من بني عدي من أشراف قريش؛ فهو ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عديّ بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر.
وبهذا يلتقي نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي.
وما زال عمر بن الخطاب يجهر بإسلامه عند البيت الحرام ويمنع المشركين من أذى المسلمين
حتى قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: «مازلنا أعزة منذ أسلم عمر». رواه البخاري.
وقال : «لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر؛ فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا نصلي». رواه ابن سعد في الطبقات.


فبأي شيء سبق عمر حتى صار الرجل الثاني في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما- ولم يكن الأسبق إسلاما ؟!
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «أما والله ما كان بأقدمِنا إسلاماً، ولكن قد عرفت بأي شيء فضلنا، كان أزهدنا في الدنيا يعني عمر بن الخطاب». رواه ابن أبي شيبة.
وقال الحسن: «والله ما كان بأوَّلهم إسلاماً ولا بأفضلهم نفقة في سبيل الله، ولكنه غلب الناس بالزهد في الدنيا، والصرامة في أمر الله، ولا يخاف في الله لومة لائم». رواه ابن أبي شيبة.


وهذه الصرامة في أمر الله وألا يخشى المرء في الحق لومة لائم، لا تكون إلا في زاهد في الدنيا؛ لأنه لا يخشى أن يفوته شيء من حظوظ الدنيا وهو قد زهد فيها فعلا في سبيل نصرة الحق وثباته.
في الحديث الذي رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أشدهم في أمر الله عمر). رواه أبو داوود الطيالسي، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي في السنن الكبرى.
وهكذا كان عمر منذ أبصر الحق واتبعه، حتى حملته شدته هذه في الحق على مراجعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخليفته أبي بكر -رضي الله عنه- في بعض الأمور، وُفق في أكثرها، وخالفه التوفيق في بعضها.


عمر المحدّث المُلهم
عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: « قد كان يكون في الأمم قبلكم محدَّثون؛ فإن يكن في أمتي منهم أحد؛ فإنَّ عمر بن الخطاب منهم». رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
التحديث والإلهام هو أن يُلهم العبد الحق من الله عز وجل فيما يعرض له من الأمور.
وعُرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن القرآن نزل موافقًا لرأيه في عدة مواضع.
وتصور هذا الأمر ...
تحصل حادثة ما، فيرى عمر رأيًا؛ فينزل القرآن كلام الله -عز وجل- موافقًا لرأي عمر !
ما أعظمها من منقبة ؟!
عن ابن عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عزّ وجلّ جعل الحق على قلب عمر ولسانه)).
وقال ابن عمر: (ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال عمر بن الخطاب إلا نزل القرآن على نحو مما قال عمر). رواه أحمد والترمذي وابن حبان.

فلنتوقف أمام هذه المواقف ونلتمس منها ما يقوينا على الثبات على الحق بإذن الله.
(1)
كان في المدينة عدد من المنافقين منهم من أعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بنفاقهم، ومنهم من علم الصحابة رضوان الله عليهم بنفاقهم، ومن هؤلاء (عبد الله بن أُبي بن سلول)، وكان ابنه، واسمه عبد الله أيضًا مسلمًا، فلما تُوفي عبد الله بن أبي، جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله أن يصلي عليه.
ويروي لنا عبد الله بن عمر هذا المشهد وكيف كان موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: لما توفي عبد الله بن أبي، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه؛ فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله تصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إنما خيرني الله فقال: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة}، وسأزيده على السبعين)).
قال: إنه منافق!
قال: فصلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا، ولا تقم على قبره}). رواه البخاري، ومسلم.
معاذ الله أن يكون عمر جريئًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، جرأة المتجاوز حدّه، ولكنها شدته في الحق، شدته النابعة من صدق محبته لله ورسوله وتقديم هذه المحبة حتى على نفسه كما سبق وبينت في بداية هذا المقال ...
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه معلّقا على هذا المشهد: (فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم). رواه البخاري.
اجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، لعل الله ينقذ به نفسًا من النار، لكن أمر الله سبق، أنه لا يغفر لمن أشرك.
ووفّق الله -عز وجل- عمر وبصّره بالحق، ولم يكتم -رضي الله عنه- النصيحة، ولم يخش في الله لومة لائم، فنزل القرآن موافقًا لرأيه، فسبحان الله العليم الحكيم.


(2)
قال حميد الطويل: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (وافقت ربي في ثلاث: فقلت يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت:{واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله، لو أمرت نساءك أن يحتجبن، فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن)، فنزلت هذه الآية). رواه أحمد والبخاري من طرق عن حميد.
هنا ثلاثة مواقف نزل القرآن موافقًا لرأي عمر رضي الله عنه، ولو أعدت تأمل الموقف الثاني والثالث تزداد عجبًا من غيرة عمر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم، ويزيدك هذا يقينًا بصدق محبته للنبي صلى الله عليه وسلم وعدم خشيته في الله لومة لائم.

ومع هذا قدّر الله عز وجل أن يكون الكمال له وحده، وأن يكون لعمر المحدّث الملهم مواقف يجانب فيها الصواب.
ومن الجيد أن نتوقف أمامها وننظر كيف يكون موقف عمر رضي الله عنه، لنتعلم منه كيف نتحرى الحق حتى نُوفق إليه بإذن الله.

(1)
الموقف الأول في صلح الحديبية
لما قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح مع المشركين في الحديبية، استجابة لأمر ربه، وقد وضع المشركون شروطًا مجحفة، يبدو من ظاهرها إلحاق الضر بالمسلمين، علاوة على أنهم سيعودون دون الوصول إلى البيت الحرام وأداء العمرة التي خرجوا لأجلها، وحزن المسلمون لذلك حزنا شديدًا، حتى أنزل الله في قلوبهم السكينة وعلموا أنه أمر الله ورسوله ولا يكون فيه إلا الخير
وكان عمر رضي الله عنه، كما هو شأن غالب الصحابة يرجو ألا يقبل بهذه الشروط المجحفة ولا يعود دون دخول البيت.
فماذا فعل؟
((أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ألست رسول الله حقا،
قال: «بلى» ،
قال: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟،
قال: «بلى» ،
قال: فلم نعطي الدنية في ديننا،
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني رسول الله، ولست أعصي ربي، وهو ناصري» ،
قال عمر رضي الله عنه: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت، فنطوف به؟،
قال: «بلى» ، فخبرتك أنك تأتيه العام،
قال: لا،
قال: فإنك تأتيه، فتطوف به،
قال عمر رضي الله عنه: فأتيت أبا بكر الصديق رضوان الله عليه،
فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا،
قال: بلى، قلت: أو لسنا على الحق، وعدونا على الباطل،
قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا،
إذا قال أبو بكر رضي الله عنه: أيها الرجل إنه رسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، حتى تموت، فوالله إنه على الحق،
قلت: أو ليس كان يحدثنا، أنا سنأتي البيت، ونطوف به؟، قال: بلى، قال: فأخبرك أنا نأتيه العام، قلت: لا، قال: فإنك آتيه، وتطوف به)). رواه ابن حبان في صحيحه وصححه شعيب الأرناؤوط.

وهنا تتوقف أمام مراجعة عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم لأبي بكر الصديق؛ يتحرى الحق حتى يقف عنده ويثبت عليه، وهكذا كان عمر !


(2)
الموقف الثاني عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

قالت عائشة رضي الله عنها: ((مات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ بالسُّنْحِ،
فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالَتْ عائشة رضي الله عنها: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ، وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ، فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ،
فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ " فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُذِيقُكَ اللَّهُ المَوْتَتَيْنِ أَبَدًا،
ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أَيُّهَا الحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ،
فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ،
فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ،
وَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[الزمر: 30]، وَقَالَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144])). رواه البخاري.

فلما تكلّم أبو بكر جلس عمر !
يعرف قدر أبي بكر، ويرجو أنه سيتكلم بما يثبت القلب، في هذا الموقف العصيب، وقد كان ... وهكذا كان عمر !

وروى البخاري في صحيحه -معلقا- عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "فما كانت من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها لقد خوف عمر الناس، وإن فيهم لنفاقا فردهم الله بذلك، ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى، وعرفهم الحق الذي عليهم وخرجوا به، يتلون {وما محمد إلا رسول، قد خلت من قبله الرسل}[آل عمران: 144] إلى {الشاكرين}[آل عمران: 144] "
تعني بـ "خطبتهما" خطبة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وفي هذه الرواية بيان لسبب موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنه خشي فتنة الناس، فحملته خشيته على الشدة ولم يبصر ما أبصره أبو بكر -رضي الله عنه-، والله أعلم.


(3)
الموقف الثالث في حروب الردة
يروي أبو هريرة رضي الله عنه قصة قرار أبي بكر رضي الله عنه بالحرب، فيقول: ((لما تُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستُخلِف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب،
قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس؟وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه، إلا بحقه وحسابه على الله "،
فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عِقَالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه،
فقال عمر: «فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق»)) رواه البخاري ومسلم.
يراجع عمر رضي الله عنه أبا بكر رضي الله عنهما؛ يريد الحق !
يذكره بحديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيرشده أبو بكر أن القوم خالفوا مقتضى شهادتهم بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فيرى عمر ثبات أبي بكر وانشراح صدره، فيقول: (فعرفت أنه الحق).
وماذا يريد عمر سوى الحق فيتبعه !
وهذا هو عمر !


(4)
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر؛ فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يُدنيهم عمر، وكان القراء أصحابَ مجلس عمر ومشاورته، كهولاً كانوا أو شباناً، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي! هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟
قال: سأستأذن لك عليه.
قال ابن عباس: فاستأذنَ لعيينة؛ فلما دخل، قال: "يا ابن الخطاب! والله ما تعطينا الجزل، وما تحكم بيننا بالعدل"؛ فغضب عمر حتى همَّ بأن يقع به، فقال الحر: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، وإنَّ هذا من الجاهلين؛«فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله». رواه البخاري في صحيحه.

وكان وقّافا عند كتاب الله!
وقافا أي كثير الوقوف … لا يتجاوز الآية حتى يتبع ما فيها.
ولماذا لا يتبعها وهو ما أراد منذ أسلم إلا اتباع الحق؟!
وهو الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بكمال محبته لله ورسوله !
وهكذا كان عمر !
فإذا كان هذا عمر رضي الله عنه المحب لله ورسوله المحدّث الملهم الذي يتحرى الحق ويقف عند كتاب الله
كيف تظن حاله مع القرآن وماذا قدّم للقرآن وأهل القرآن؟
(1)
أشار على أبي بكر رضي الله عنه بجمع القرآن في مصحف واحد بعد حروب الردة
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة؛ فإذا عمر بن الخطاب عنده».
قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن.
قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!.
قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر). رواه البخاري في صحيحه.

(2)
خشيته من القول في القرآن بغير علم
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (( أن عمر بن الخطاب، قرأ على المنبر {‌وفاكهة ‌وأبا} [عبس: 31] فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأب؟، ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر)). رواه أبو عبيد القاسم في فضائل القرآن.


(3)
تأديبه لمن يقول في القرآن بغير علم
أخرج الإمام أحمد في فضائل الصحابة من طريق يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد أنه قال: أُتى إلى عمر بن الخطاب، فقالوا: يا أمير المؤمنين! إنا لقينا رجلاً يسأل عن تأويل القرآن.
فقال: اللهم أمكني منه.
قال: فبينا عمر ذات يوم جالس يغدّي الناس إذ جاءه وعليه ثياب وعمامة، فغداه، ثم إذا فرغ قال: يا أمير المؤمنين، {والذاريات ذروا فالحاملات وقرا}؟
قال عمر: أنت هو؟ فمال إليه وحسر عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، ثم قال: احملوه حتى تقدموه بلاده، ثم ليقم خطيباً ثم ليقل: إنَّ صبيغاً ابتغى العلم فأخطأ، فلم يزل وضيعاً في قومه حتى هلك، وكان سيد قومه).
وأخرج الدارمي من طريق يزيد بن حازم، عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة؛ فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر رضي الله عنه وقد أعدَّ له عراجين النخل، فقال: من أنت؟
قال: أنا عبد الله صبيغ.
فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين، فضربه وقال: (أنا عبد الله عمر) فجعل له ضرباً حتى دمي رأسه.
فقال: (يا أمير المؤمنين! حسبك، قد ذهب الذي كنتُ أجد في رأسي).

(4)
تقديره وتوقيره لأهل القرآن
كان عمر بن الخطاب رضي الله شديد التوقير لأهل القرآن حتى قال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما: (وكان القراء أصحابَ مجلس عمر ومشاورته، كهولاً كانوا أو شباناً). رواه البخاري.
وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان عمره تقريبًا ثلاث عشر سنة حين تولى عمر رضي الله عنه الخلافة، وكان يقدمه في مجلسه على الشيوخ، حتى تكلموا في ذلك فجمعهم ذات مرة، ليعلمهم قدره.
قال عبد الله بن عباس: "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال لِمَ يدخل هذا معنا إن لنا أبناء مثله فقال عمر: إنه ممن علمتم، ودعاهم ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال:ما تقولون في قول الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح}؟، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال لي: أكذلك تقول يا بن عباس؟، فقلت: لا، فقال: ما تقول؟، فقلت: هو أجل رسول الله أعلمه به، قال: إذا جاء نصر الله والفتح فذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا،
فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول". رواه البخاري.

وقال إبراهيم النخعي عن علقمة قال: جاء رجل إلى عمر وهو بعرفات فقال: جئت يا أمير المؤمنين من الكوفة، وتركت بها رجلا يملي المصاحف عن ظهر قلبه؛ فغضب عمر وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شعبتي الرحل.
فقال: ومن هو ويحك؟ قال: عبد الله بن مسعود. فما زال يطفأ ويسرى عنه الغضب، حتى عاد إلى حاله التي كان عليها). رواه أحمد.
وذلك لأن عبد الله بن مسعود من كبار الصحابة ومن معلمي القرآن الذين وصى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسله عمر بن الخطاب إلى الكوفة معلمًا، وإنما كان غضب عمر رضي الله عنه في البداية لظنه أنه تصدر لهذا الأمر من ليس أهله، فلما علم أنه عبد الله بن مسعود هدأ واطمأن.


(5)
نشره للمعلمين في الأمصار التي تُفتح بفضل الله وأثر هذا في تثبيت دعائم الدولة الإسلامية على اتساعها في زمانه
أخبار عمر رضي الله عنه في خلافته كثيرة، ولا ينقضي منها العجب حين تقف أمام توفيق الله عز وجل وتسديده، وتقف أمام زهده في الدنيا وورعه من أن يصيب شيئا من أموال المسلمين أو يقصر فيما كلفه الله به، لكن مع كل هذا قلما يتوقف الكُتاب في سيرته أمام عمل عظيم جدًا لا يقل أهمية عن اتساع الفتوحات الإسلامية في عهده، ولا عن المدن التي بناها والحصون التي شيدها، فلا معنى لهذه الفتوحات إذا لم يؤيدها ببعث المعلمين يفتحون القلوب -بإذن الله- بالقرآن؛ فيتعلمون الإسلام كما أنزل الله، ويُعلمون أجيالا من بعدهم.
يرسل عمر رضي الله عنه المعلمين ويوصيهم بالناس، ويوصي الناس بمعلميهم، فانتشر الإسلام وثبت بفضل الله.
أرسل عمر بن الخطاب أبا الدرداء ومعاذ بن جبل وعبادة بن الصامت إلى الشام وقال لهم: (ابدأوا بحمص؛ فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، منهم من يلقن فإذا رأيتم ذلك فوجهوا إليه طائفة من الناس؛ فإذا رضيتم منهم فليقم بها واحد، وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين). رواه ابن سعد في الطبقات.
وقال حارثة بن مضرب العبدي: قرئ علينا كتاب عمر ههنا [يريد بالكوفة]: « إني بعثتُ إليكم عمارا أميراً، وبعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب محمد من أهل بدر فاسمعوا لهما وأطيعوا، وآثرتكم بابن أم عبد على نفسي، وجعلته على بيت مالكم». رواه أحمد في فضائل الصحابة وابن أبي شيبة في المصنف من طريق سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن حارثة.


ختامًا …

لعلك الآن علمت سر عمر المحدّث الملهم
عمر الذي اشتهر بعدله في خلافته وتوفيقه وسداده

حتى عجب السلف والخلف كيف يسوق الله قدميه إلى مواضع حاجة رعيته، حين كان يعس بالليل، ويتفقدهم بنفسه، أو كيف يسوق رعيته إليه فيشكون إليهم حالهم فيقتص لهم ممن ظلمهم.
عمر المُوفّق المُسدد
هذا التوفيق والسداد ليس إلا ثمرة قلب تخلى عن هواه يوم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (والله يا رسول الله لأنت الآن أحب إلي من نفسي)
قلب تخلى عن هواه فزهد في الدنيا ولم يخش في الله لومة لائم
أحب الله ورسوله فأحبه الله عز وجل
قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}
المحبة والاتباع هما ما جعل عمر رضي الله عنه الذي عُرف بشدته، رحيمًا برعيته ويواسيهم بنفسه
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما أنا أمشي مع عمر رضي الله عنه ذات يوم وهو يضرب وحشي قدمه بالدرة، تنفس تنفسة ظننت أنها قد قضّت أضلاعه، فقلت: سبحان الله! وما أخرج هذا منك يا أمير المؤمنين إلا أمر عظيم!
قال: (ويحك يا ابن عباس! والله ما أدري كيف أصنع بأمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟).
قلت: والله إنك بحمد الله لقادر على أن تصنع ذاك منها في البقية.
قال: (إنه والله يا ابن عباس ما يصلح لهذا الأمر إلا القوي في غير عنف، اللين في غير ضعف، الجواد في غير سرف، الممسك في غير بخل).
يقول ابن عباس: «والله ما أعرفه غير عمر». رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة من طريق إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس به.


فاللهم ارزقنا صدق محبتك ومحبة نبيك، واهدنا وسددنا لما تحب وترضى.


المراجع:
- صحيح البخاري.
- صحيح مسلم.
- مسند الإمام أحمد.
- فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام.
- صحيح ابن حبان.
- مجمع الزوائد للهيثمي.
- طبقات القراء والمفسرين للشيخ عبد العزيز بن داخل المطيري.
- سير أعلام المفسرين للشيخ عبد العزيز بن داخل المطيري.

صفية الشقيفي 6 صفر 1445هـ/22-08-2023م 11:16 PM

قال ابن القيم - رحمه الله-: "‌وكنا ‌إذا ‌اشتدَّ ‌بنا ‌الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة". (1)
يعني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.


فتساءلتُ: وماذا عن شيخ الإسلام ابن تيمية؟ لمن كان يذهب إذا اشتد به الخوف وساءت منه الظنون وضاقت به الأرض؟!".
يحكي عنه تلميذه ابن القيم: ( وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إذا اشتدت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة). (2)
وقال أيضًا: (وشهدت شيخ الإسلام قدس الله روحه إذا أعيته المسائل واستصعبت عليه فر منها إلى التوبة والاستغفار، والاستغاثة بالله واللجأ إليه، ‌واستنزال ‌الصواب ‌من ‌عنده، والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ، ولا ريب أن من وفق هذا الافتقار علما وحالا، وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد فقد أعطي حظه من التوفيق، ومن حرمه فقد منع الطريق والرفيق، فمتى أعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحق فقد سلك به الصراط المستقيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم). (3)
وقال ابن القيم أيضًا: (حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» وكان شيخنا كثير الدعاء بذلك، وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول: " يا معلم إبراهيم علمني ") (4)
وأما آيات السكينة فيقصد بها الآيات التي جاء فيها ذكر السكينة وهي:
قوال الله عز وجل: { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة البقرة: 248]
وقوله: { ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم} [التوبة: 26]
وقوله: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]
وقوله: { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4]
وقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]
وقوله: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح: 26]

قال ابن القيم يحكي عن شيخه ابن تيمية أيضًا: (وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه، تعجز العقول عن حملها - من محاربة أرواح شيطانية، ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة - قال: فلما اشتد علي الأمر، قلت لأقاربي ومن حولي: اقرءوا آيات السكينة، قال: ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قلبة). (5)

_________________________
(1) الوابل الصيب: (ص 48)
(2) مدارج السالكين: (ج2/ ص471)
(3) إعلام الموقعين: (ج4/ ص132)
(4) إعلام الموقعين: (ج4/ 198)
(5) مدارج السالكين: (ج2/ ص471)


الساعة الآن 09:05 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir