باب ذكر محنة شيخٍ من أهل أذنة بحضرة الواثق، ورجوع الواثق عن مذهبه
قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): (باب ذكر محنة شيخٍ من أهل أذنة بحضرة الواثق، ورجوع الواثق عن مذهبه
[الإبانة الكبرى: 6/269] 452 - حدّثنا أبو الحسن أحمد بن مطرّفٍ القاضي البستيّ، وحدّثني أبو صالح بن ثابتٍ، وأخبرني أبو بكرٍ محمّد بن الحسن، قالوا: حدّثنا أبو عبد اللّه جعفر بن إدريس القزوينيّ، قال: حدّثنا أحمد بن الممتنع بن عبد اللّه القرشيّ [الإبانة الكبرى: 6/269] التّيميّ، قال: أخبرنا أبو الفضل صالح بن عليّ بن يعقوب بن المنصور الهاشميّ، وكان من وجوه بني هاشمٍ وأهل الجلالة والسّنّ منهم، قال: حضرت المهتدي باللّه أمير المؤمنين رحمة اللّه عليه وقد جلس ينظر في أمور المسلمين في دار العامّة، فنظرت إلى قصص النّاس تقرأ عليه من أوّلها إلى آخرها فيأمرنا بالتّوقيع فيها وإنشاء الكتب لأصحابها، وتختم وتدفع إلى صاحبه بين يديه، فيسرّني ذلك، وجعلت أنظر إليه ففطن ونظر إليّ، فغضضت عنه حتّى كان ذلك منّي ومنه مرارًا ثلاثًا، إذا نظر إليّ غضضت وإذا اشتغل نظرت، فقال لي: يا صالح قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين، وقمت قائمًا، فقال: في نفسك منّا شيءٌ تحبّ أن تقوله، أو قال: تحبّ أن تقوله؟ قلت: نعم يا سيّدي يا أمير المؤمنين، فقال: عد إلى موضعك، فعدت. وعاد في النّظر حتّى إذا قام قال للحاجب: لا يبرح صالحٌ فانصرف النّاس، ثمّ أذن لي وقد همّتني نفسي، فدخلت دعوت له، فقال لي: «اجلس» فجلست، فقال: «يا صالح تقول لي ما دار في نفسك أو أقول أنا ما دار في نفسك [الإبانة الكبرى: 6/270] أنّه دار في نفسك؟» قلت: يا أمير المؤمنين ما تعزم عليه وما تأمر به؟ فقال: «وأقول أنا، كأنّي بك وقد استحسنت ما رأيت منّا»، فقلت: أيّ خليفةٍ خليفتنا إن لم يكن يقول: القرآن مخلوقٌ، فورد على قلبي أمرٌ عظيمٌ، وهمّتني نفسي، ثمّ قلت: يا نفس هل تموتين إلّا مرّةً واحدةً، وهل تموتين قبل أجلك، وهل يجوز الكذب في جدٍّ أو هزلٍ، فقلت: واللّه يا أمير المؤمنين ما دار في نفسي إلّا ما قلت، أطرق مليًّا، ثمّ قال: " ويحك، اسمع منّي ما أقول لك، فواللّه لتسمعنّ الحقّ، فسرّي عنّي وقلت: يا سيّدي ومن أولى بالحقّ منك وأنت خليفة ربّ العالمين، وابن عمّ سيّد المرسلين من الأوّلين والآخرين؟ فقال لي: " ما زلت أقول إنّ القرآن مخلوقٌ صدرًا من خلافة الواثق حتّى أقدم علينا ابن أبي دؤادٍ شيخًا من أهل الشّام من أهل أذنة، فأدخل الشّيخ على الواثق وهو جميل الوجه، تامّ القامة، حسن الشّيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه ورقّ له، فما زال يدنيه ويقرّبه حتّى قرّب منه، فسلّم الشّيخ فأحسن السّلام، ودعا فأبلغ وأوجز، فقال له الواثق: اجلس، ثمّ قال له: «يا شيخ ناظر ابن أبي دؤادٍ على ما يناظرك عليه»، فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين ابن أبي دؤادٍ يقلّ ويضعف عن المناظرة، فغضب الواثق وعاد مكان الرّقة له غضبًا عليه، فقال أبو عبد اللّه: ابن أبي دؤادٍ يصبو، ويقلّ ويضعف عن مناظرتك أنت؟ فقال الشّيخ: هوّن عليك يا أمير المؤمنين ما بك، وأذن لي في مناظرته، فقال الواثق: ما دعوتك إلّا لمناظرته. فقال الشّيخ: يا أحمد إلى ما دعوت النّاس ودعوتني إليه؟ فقال: إلى أن تقول: القرآن مخلوقٌ. [الإبانة الكبرى: 6/271] فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تحفظ عليّ وعليه ما نقول. قال: أفعل. فقال الشّيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، واجبةٌ داخلةٌ في عقدة الدّين، فلا يكون الدّين كاملًا حتّى يقال فيه ما قلت؟ قال الشّيخ: يا أحمد أخبرني عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين بعثه اللّه عزّ وجلّ إلى عباده، هل ستر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ممّا أمره اللّه به في دينه؟ قال: لا. قال الشّيخ: فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الأمّة إلى مقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤادٍ. فقال الشّيخ: تكلّم. فسكت، فالتفت الشّيخ إلى الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين واحدةٌ. فقال الواثق: واحدةٌ. فقال الشّيخ: يا أحمد أخبرني عن اللّه سبحانه حين أنزل القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} [المائدة: 3]، كان اللّه عزّ وجلّ الصّادق في إكمال دينه أم أنت الصّادق في نقصانه، فلا يكون الدّين كاملًا حتّى يقال فيه بمقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤادٍ، فقال الشّيخ: أجب يا أحمد، فلم يجبه. فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين اثنتان. فقال الواثق: اثنتان. فقال الشّيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، علمها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أم جهلها؟ فقال ابن أبي دؤادٍ: علمها. قال الشّيخ: فدعا النّاس إليها؟ فسكت ابن أبي دؤادٍ، فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين ثلاثٌ. فقال الواثق: ثلاثٌ. فقال الشّيخ: يا أحمد فاتّسع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذ علمها كما زعمت، ولم [الإبانة الكبرى: 6/272] يطالب أمّته بها؟ قال: نعم. قال الشّيخ: واتّسع لأبي بكرٍ الصّدّيق، وعمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، وعليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنهم؟ فقال ابن أبي دؤادٍ: نعم. فأعرض الشّيخ عنه، وأقبل على الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين قدّمت القول أنّ أحمد يصبو ويقلّ ويضعف عن المناظرة، يا أمير المؤمنين إن لم يتّسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما اتّسع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولأبي بكرٍ وعمر وعثمان رضي اللّه عنهم، فلا وسّع اللّه على من لم يتّسع له ما اتّسع لهم من ذلك. فقال الواثق: نعم، إن لم يتّسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتّسع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولأبي بكرٍ وعمر وعثمان وعليٍّ، فلا وسّع اللّه علينا، اقطعوا قيد هذا الشّيخ. لمّا قطع ضرب الشّيخ بيده إلى القيد ليأخذه، فجاذبه الحدّاد عليه، فقال الواثق: دع الشّيخ ليأخذه، فأخذه الشّيخ فوضعه في كمّه، فقال الواثق: لم جاذبت عليه؟ قال الشّيخ: لأنّي نويت أن أتقدّم إلى من أوصي إليه إذا أنا متّ أن يجعله بيني وبين كفني حتّى أخاصم به هذا الظّالم عند اللّه يوم القيامة، وأقول: يا ربّ سل عبدك هذا لم قيّدني؟ وروّع أهلي وولدي وإخواني بلا حقٍّ أوجب ذلك عليّ؟ . وبكى الشّيخ، فبكى الواثق فبكينا، ثمّ سأله الواثق أن يجعله في حلٍّ [الإبانة الكبرى: 6/273] وسعةٍ ممّا ناله، فقال الشّيخ: واللّه يا أمير المؤمنين لقد جعلتك في حلٍّ وسعةٍ من أوّل يومٍ إكرامًا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، إذ كنت رجلًا من أهله. فقال الواثق: لي إليك حاجةٌ، فقال الشّيخ: إن كانت ممكنةً فعلت. فقال الواثق: تقيم قبلنا، فينتفع بك فتياننا. فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين إنّ ردّك إيّاي إلى الموضع الّذي أخرجني منه هذا الظّالم أنفع لك من مقامي عليك، وأخبرك بما في ذلك أصير إلى أهلي وولدي، فأكفّ دعاءهم، فقد خلّفتهم على ذلك. فقال الواثق: فتقبّل منّا صلةً تستعين بها على دهرك. فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين لا تحلّ لي أنا عنها غنّيٌّ، وذو مرّةٍ سويٌّ، قال: فاسأل حاجتك. قال: أوتقضيها يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: تخلّي سبيلي السّاعة وتأذن لي فيه. قال: قد أذنت لك. فسلّم عليه الشّيخ وخرج. قال صالحٌ: قال المهتدي باللّه: فرجعت عن هذه المقالة من ذلك اليوم، وأظنّ الواثق باللّه كان رجع عنها من ذلك الوقت [الإبانة الكبرى: 6/274] |
الساعة الآن 02:43 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir