معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد

معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد (http://afaqattaiseer.net/vb/index.php)
-   دفع إيهام الاضطراب للأمين الشنقيطي (http://afaqattaiseer.net/vb/forumdisplay.php?f=481)
-   -   سورة النساء (http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=12760)

ريم الحربي 21 ربيع الأول 1432هـ/24-02-2011م 04:13 PM

سورة النساء
 
(سورة النساء)

ـ قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} الآية.
هذه الآية الكريمة تدل على أن العدل بين الزوجات ممكن وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنه غير ممكن وهي قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} الآية.
والجواب عن هذا:
أن العدل بينهن الذي ذكر الله أنه ممكن هو العدل في توفية الحقوق الشرعية، والعدل الذي ذكر أنه غير ممكن هو المساواة في المحبة والميل الطبيعي لأن هذا انفعال لا فعل فليس تحت قدرة البشر، والمقصود من كان أميل بالطبع إلى إحدى الزوجات فليتق الله وليعدل في الحقوق الشرعية كما يدل عليه قوله: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} الآية.
وهذا الجمع روي معناه عن ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك ابن مزاحم نقله عنهم ابن كثير في تفسير قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} الآية.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة أن آية: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} نزلت في عائشة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يميل إليها بالطبع أكثر من غيرها.
وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تملني فيما تملك ولا أملك، يعني القلب، انتهى من ابن كثير.
ـ قوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} الآية، هذه الآية تدل على أن الزانية لا تجلد بل تحبس إلى الموت أو إلى جعل الله لها سبيل.
وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنها لا تحبس بل تجلد مائة جلدة إن كانت بكرا وجاء في آية منسوخة التلاوة باقية الحكم أنها إن كانت محصنة ترجم.
والجواب ظاهر وهو أن حبس الزواني في البيوت منسوخ بالجلد والرجم(1) أو أنه كانت له غاية ينتهي إليها هي جعل الله لهن السبيل فجعل الله السبيل بالحد كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا" الحديث.
قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} الآية، هذه الآية تدل بعمومها على منع الجمع بين كل أختين سواء كانتا بعقد أم بملك يمين، وقد جاءت آية تدل بعمومها على جواز جمع الأختين بملك اليمين وهي قوله تعالى في سورة قد أفلح وسورة سأل سائل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}، فقوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}، اسم مثنى محلى بأل والمحلى بها من صيغ العموم كما تقرر في علم الأصول، وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}، اسم موصول وهو أيضا من صيغ العموم كما تقرر في علم الأصول أيضا، فبين هاتين الآيتين عموم وخصوص من وجه يتعارضان بحسب ما يظهر في صورة هي جمع الأختين بملك اليمين فيدل عموم: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} على التحريم، وعموم: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}، على الإباحة كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: "أحلتهما آية وحرمتهما أخرى".
وحاصل تحرير الجواب عن هاتين الآيتين أنهما لابد أن يخصص عموم إحداهما بعموم الأخرى، فليزم الترجيح بين العمومين، والراجح منهما يقدم ويخصص به عموم الآخر، لوجوب العمل بالراجح إجماعا؛ وعليه فعموم: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} أرجح من عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} من خمسة أوجه:
ـ الأول: أن عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} نص في محل المدرك المقصود بالذات لأنّ السورة سورة النساء وهي التي بين الله فيها من تحل منهن ومن تحرم وآية: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}، لم تذكر من أجل تحريم النساء ولا تحليلهن بل ذكر الله صفات المتقين فذكر من جملتها حفظ الفرج فاستطرد أنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والسرية وقد تقرر في الأصول أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها لا من مظانها.
الثاني: أن آية: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}، ليست باقية على عمومها بإجماع المسلمين لأن الأخت من الرضاع لا تحل بملك اليمين إجماعا للإجماع على أن عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يخصصه عموم: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}، وموطوءة الأب لا تحل بملك اليمين إجماعا للإجماع على أن عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}، يخصصه عموم: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، الآية، والأصح عند الأصوليين في تعارض العام الذي دخله التخصيص والعام الذي لم يدخله تخصيص هو تقديم الذي لم يدخله التخصيص ووجهه ظاهر.
الثالث: أن عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} غير وارد في معرض مدح ولا ذم، وعموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وارد في معرض مدح المتقين والعام الوارد في معرض المدح أو الذم اختلف أكثر العلماء في اعتبار عمومه؛ فأكثر العلماء على أن عمومه معتبر كقوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيم، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}، فإنه يعم كل بر مع أنه للمدح، وكل فاجر مع أنه للذم وخالف في ذلك الإمام الشافعي رحمه الله قائلا إن العام الوارد في معرض المدح أو الذم لا عموم له لأن المقصود منه الحث في المدح والزجر في الذم.
ولذا لم يأخذ الشافعي بعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في الحلي المباح لأن الآية سيقت للذم فلا تعم عنده الحلي المباح؛ فإذا حققت ذلك فاعلم أن العام الذي لم يقترن بما يمنع اعتبار عمومه أولى من المقترن بما يمنع اعتبار عمومه عند بعض العلماء.
ـ الرابع: إنا لو سلمنا المعارضة بين الآيتين فالأصل في الفروج التحريم حتى يدل دليل لا معارض له على الإباحة.
ـ الخامس: إن العموم المقتضي للتحريم أولى من المقتضي للإباحة لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله في سورة المائدة والعلم عند الله.
فهذه الأوجه الخمسة التي بينا يرد بها استدلال داود الظاهري بهذه الآية الكريمة على جمع الأختين في الوطء بملك اليمين، ولكنه يحتج بآية أخرى وهي قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فإنه يقول الاستثناء راجع أيضا إلى قوله {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}، فيكون المعنى على قوله وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما ملكت أيمانكم فإنه لا يحرم فيه الجمع بين الأختين.
ورجوع الاستثناء لكل ما قبله من المتعاطفات جملا كانت أو مفردات هو الجاري على أصول مالك والشافعي وأحمد وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود:
وكل ما يكون فيه العطف
من قبل الاستثناء فكلا يقف
دون دليل العقل أو ذي السمع
خلافا لأبي حنيفة القائل برجوع الاستثناء للجملة الأخيرة فقط ولذلك لا يرى قبول شهادة القاذف ولو تاب وأصلح، لأن قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا}، يرجع عنده لقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فقط أي إلا الذين تابوا فقد زال عنهم فسقهم بالتوبة، ولا يقول برجوعه لقوله: ولا تقبلوا لهم شهادة إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم، بل يقول: لا تقبلوها لهم مطلقا لاختصاص الاستثناء بالأخيرة عنده.
ولم يخالف أبو حنيفة أصله في قوله برجوع الاستثناء في قوله: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً}، لجميع الجمل قبله أعني قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ}، لأن جميع هذه الجمل جمع معناه في الجملة الأخيرة وهي قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً}، لأن الإشارة في قوله ذلك شاملة لكل من الشرك والقتل والزنى فبرجوعه للأخيرة رجع للكل فظهر أن أبا حنيفة لم يخالف فيها أصله، ولأجل هذا الأصل المقرر في الأصول لو قال رجل: هذه الدار حبس على الفقراء والمساكين وبني زهرة وبني تميم إلا الفاسق منهم فإنه يخرج فاسق الكل عند المالكية والشافعية والحنابلة.
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق في هذه المسألة هو ما حققه بعض المتأخرين كابن الحاجب من المالكية والغزالي من الشافعية والآمدي من الحنابلة من أن الحكم في الاستثناء الآتي بعد متعاطفات هو الوقف وأن لا يحكم برجوعه إلى الجميع ولا إلى الأخيرة، وإنما قلنا أن هذا هو التحقيق لأن الله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية، وإذا رددنا هذا النزاع إلى الله وجدنا القرآن دالا على قول هؤلاء الذي ذكرنا أنه هو التحقيق في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا}، فالاستثناء راجع للدية فهي تسقط بتصدق مستحقها بها ولا يرجع لتحرير الرقبة قولا واحدا لأن تصدق مستحق الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ.
ومنها قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا}، فالاستثناء لا يرجع لقوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، لأن القاذف إذا تاب لا تسقط توبته حد القذف.
ومنها أيضا قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً، إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}، فالاستثناء في قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} لا يرجع قولا واحدا إلى الجملة الأخيرة التي أقرب الجمل إليه أعني قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}، إذ لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار ولو وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق بل الاستثناء راجع للأخذ والقتل في قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ}، والمعنى فخذوهم بالأسر واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق فليس لكم أخذهم بأسر ولا قتلهم، لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم وقتلهم كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن هذه الآية نزلت فيه وفي سراقة بن مالك المدلجي وفي بني جذيمة ابن عامر.
وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع لأقرب الجمل إليه في القرآن العظيم الذي هو في الطرف الأعلى من الإعجاز تبين أنه ليس نصا في الرجوع إلى غيرها.
ومنها أيضا قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}، فالاستثناء ليس راجعا للجملة الأخيرة التي يليها أعني: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ}، لأنه لولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان كلا ولم ينجح من ذلك قليل ولا كثير حتى يخرج بالاستثناء.
واختلف العلماء في مرجع هذا الاستثناء؛ فقيل: راجع لقوله: {أَذَاعُوا بِهِ}.
وقيل: راجع لقوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}، وإذا لم يرجع للجملة التي يليها فلا يكون نصا في رجوعه لغيرها.
وقيل: إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي تليها وعليه فالمعنى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - لاتبعتم الشيطان في ملة آبائكم من الكفر وعبادة الأوثان إلا قليلا كمن كان على ملة إبراهيم كورقة بن نوفل وقس بن ساعدة وأضرابهم وذكر ابن كثير أن عبد الرزاق روى عن معمر عن قتادة في قوله: {لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}، أن معناه: لاتبعتم الشيطان كلا، قال: والعرب تطلق القلة وتريد بها العدم، واستدل قائل هذا القول بقول الطرماح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلب:
أشم ندى كثير النوادي = قليل المثالب والقادحة
يعني لا مثلبة ولا قادحة.
قال مقيده عفا الله عنه: إطلاق القلة وإرادة العدم كثير في كلام العرب ومنه قول الشاعر:
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة = قليل بها الأصوات إلا بغامها
يعني أنه لا صوت في تلك الفلاة غير بغام راحلته.
وقول الآخر:
فما بأس لو ردت علينا تحية = قليلا لدى من يعرف الحق عابها
يعني لا عاب فيها عند من يعرف الحق.
وعلى هذين القولين الأخيرين فلا شاهد في الآية وبهذا التحقيق الذي حررنا يرد استدلال داود الظاهري بهذه الآية الأخيرة أيضا والعلم عند الله.
ـ قوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}، هذه الآية تدل على أن الإماء إذا زنين جلدن خمسين جلدة، وقد جاءت آية أخرى تدل بعمومها على أن،كل زانية تجلد مائة جلدة، وهي قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}.
والجواب ظاهر: وهو أن هذه الآية مخصصة لآية النور لأنه لا يتعارض عام وخاص.
ـ قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، هذه الآية تدل بظاهرها على أن شرع من قبلنا شرع لنا، ونظيرها قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك هي قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} الآية.
ووجه الجمع بين ذلك مختلف فيه اختلافا مبنيا على الاختلاف في حكم هذه المسألة:
فجمهور العلماء على أن شرع من قبلنا إن ثبت بشرعنا فهو شرع لنا ما لم يدل دليل من شرعنا على نسخه لأنه ما ذكره لنا في شرعنا إلا لأجل الاعتبار والعمل، وعلى هذا القول فوجه الجمع بين الآيتين أن معنى قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}، أن شرائع الرسل ربما ينسخ في بعضها حكم كان في غيرها أو يزاد في بعضها حكم لم يكن في غيرها، فالشرعة إذن إما بزيادة أحكام لم تكن مشروعة قبل وإما بنسخ شيء كان مشروعا قبل فتكون الآية لا دليل فيها على أن ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا ولم ينسخ أنه ليس من شرعنا لأن زيادة ما لم يكن قبل أو نسخ ما كان قبل كلاهما ليس من محل النزاع.
وأما على قول الشافعي ومن وافقه أن شرع من قبلنا شرع ليس شرعا لنا إلا بنص من شرعنا أنه مشروع لنا، فوجه الجمع أن المراد بسنن من قبلنا وبالهدى في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}، أصول الدين التي هي التوحيد لا الفروع العلمية بدليل قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} الآية.
ولكن هذا الجمع الذي ذهبت إليه الشافعية يرد عليه ما رواه البخاري في صحيحه في تفسير سورة (ص) عن مجاهد أنه سأل ابن عباس من أين أخذت السجدة في (ص) فقال ابن عباس: " {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، فسجدها داود فسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، ومعلوم أن سجود التلاوة من الفروع لا من الأصول، وقد بين ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدها اقتداء بداود وقد بينت هذه المسألة بيانا شافيا في رحلتي فلذلك اختصرتها هنا.
ـ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} الآية، هذه الآية تدل على أن إرث الحلفاء من حلفائهم، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}.
والجواب أن هذه الآية ناسخة لقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية ونسخها لها هو الحق خلافا لأبي حنيفة ومن وافقه في القول بإرث الحلفاء اليوم إن لم يكن له وارث.
وقد أجاب بعضهم بأن معنى: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أن من الموالاة والنصرة وعليه فلا تعارض بينهما والعلم عند الله.
ـ قوله تعالى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً}، هذه الآية تدل على أن الكفار لا يكتمون الله من خبرهم شيئا يوم القيامة، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، وقوله تعالى: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ}، وقوله: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً}.
ووجه الجمع في ذلك هو ما بينه ابن عباس رضي الله عنه لما سئل عن قوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، مع قوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً}، وهو أن ألسنتهم تقول والله ربنا ما كنا مشركين فيختم الله على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فكتم الحق باعتبار اللسان وعدمه باعتبار الأيدي والأرجل، وهذا الجمع يشير إليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، وأجاب بعض العلماء بتعدد الأماكن فيكتمون في وقت ولا يكتمون في وقت آخر والعلم عند الله.
قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، لا تعارض بينه وبين قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}.
والجواب ظاهر وهو أن معنى قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} أي مطر وخصب وأرزاق وعافية يقولوا هذا ما أكرمنا الله به: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}، أي جدب وقحط وفقر وأمراض يقولوا هذه من عندك أي من شؤمك يا محمد وشؤم ما جئت به، قل لهم كل ذلك من الله، ومعلوم أن الله هو الذي يأتي بالمطر والرزق والعافية كما أنه يأتي بالجدب والقحط والفقر والأمراض والبلايا، ونظير هذه الآية قول الله في فرعون وقومه مع موسى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ}، وقوله تعالى في قوم صالح مع صالح: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} الآية، وقول أصحاب القرية للرسل الذين أرسلوا إليهم: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} الآية.
وأما قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أي لأنه المتفضل بكل نعمة، {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أي من قبلك ومن عملك أنت إذ لا تصيب الإنسان سيئة إلا بما كسبت يداه كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وسيأتي إن شاء الله تحرير المقام في قضية أفعال العباد بما يرفع الإشكال في سورة الشمس في الكلام على قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}، والعلم عند الله تعالى.
ـ قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} قيد في هذه الآية الرقبة المعتقة في كفارة القتل خطأ بالإيمان، وأطلق الرقبة التي في كفارة الظهار واليمين عن قيد الإيمان حيث قال في كل منهما: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ولم يقل مؤمنة؛ وهذه المسألة من مسائل تعارض العارض المطلق والمقيد وحاصل تحرير المقام فيها: أن المطلق والمقيد لهما أربع حالات:
الأولى: أن يتفق حكمهما وسببهما كآية الدم التي تقدم الكلام عليها؛ فجمهور العلماء يحملون المطلق على المقيد في هذه الحالة التي هي اتحاد السبب والحكم معا، وهو أسلوب من أساليب اللغة العربية لأنهم يثبتون ثم يحذفون اتكالا على المثبت كقول الشاعر، وهو قيس بن الخطيم:
نحن بما عندنا وأنت بما عنـ = ـدك راض والرأي مختلف
فحذف راضون لدلالة راض عليها، ونظيره أيضا قول ضابئ بن الحارث البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله = فإني وقيارا بها لغريب
وقول عمرو بن أحمر الباهلي:
رماني بأمر كنت ووالدي = بريئا ومن أجل الطوى رماني
وقال بعض العلماء: إن حمل المطلق على المقيد بالقياس، وقيل: بالعقل وهو أضعفها، والله تعالى أعلم.
والحالة الثانية: أن يتحد الحكم ويختلف السبب كما في هذه الآية، فإن الحكم متحد وهو عتق رقبة، والسبب مختلف وهو قتل خطأ وظهار مثلا؛ ومثل هذا المطلق يحمل على المقيد عند الشافعية والحنابلة وكثير من المالكية، ولذا أوجبوا الإيمان في كفارة الظهار حملا للمطلق على المقيد خلافا لأبي حنيفة.
ويدل لحمل هذا المطلق على المقيد، قوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة معاوية بن الحكم السلمي: "اعتقها فإنها مؤمنة" ولم يستفصله عنها هل هي كفارة أو لا، وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال، قال في مراقي السعود:
ونزلن ترك الاستفصال = منزلة العموم في الأقوال
الحالة الثالثة: عكس هذه، وهي الاتحاد في السبب مع الاختلاف في الحكم؛ فقيل: يحمل فيها المطلق على المقيد، وقيل: لا، وهو قول أكثر العلماء ومثاله: صوم الظهار وإطعامه، فسببهما واحد وهو الظهار وحكمهما مختلف لأن هذا صوم وهذا إطعام، وأحدهما مقيد بالتتابع وهو الصوم والثاني مطلق عن قيد التتابع وهو الإطعام، فلا يحمل هذا المطلق على المقيد.
والقائلون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة مثلوا له بإطعام الظهار، فإنه مقيد بكونه قبل أن يتماسا، مع أن عتقه وصومه قيدا بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}، فيحمل هذا المطلق على المقيد فيجب كون الإطعام قبل المسيس.
ومثّل له اللخمي بالإطعام في كفارة اليمين حيث قيد بقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}، وأطلق الكسوة عن القيد بذلك حيث قال: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ}، فيحمل المطلق على المقيد فيشترط في الكسوة أن تكون من أوسط ما تكسون أهليكم.
الحالة الرابعة: أن يختلفا في الحكم والسبب معا ولا حمل فيها إجماعا، وهو واضح، وهذا فيما إذا كان المقيد واحدا؛ أما إذا ورد مقيدين بقيدين مختلفين فلا يمكن حمل المطلق على كليهما لتنافي قيديهما، ولكنه ينظر فيهما فإن كان أحدهما أقرب للمطلق من الآخر حمل المطلق على الأقرب له منهما عند جماعة من العلماء فيقيد بقيده وإن لم يكن أحدهما أقرب له فلا يقيد بقيد واحد منهما ويبقى على إطلاقه لاستحالة الترجيح بلا مرجح.
مثال كون أحدهما أقرب للمطلق من الآخر: صوم كفارة اليمين فإنه مطلق عن قيد التتابع والتفريق مع أن صوم الظهار مقيد بالتتابع، وصوم التمتع مقيد بالتفريق، واليمين أقرب إلى الظهار من التمتع لأن كلا من اليمين والظهار صوم كفارة بخلاف صوم التمتع فيقيد صوم كفارة اليمين بالتتابع عند من يقول بذلك، ولا يقيد بالتفريق الذي في صوم التمتع، وقراءة ابن مسعود: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} لم تثبت لإجماع الصحابة على عدم كتب (متتابعات) في المصحف.
ومثال كونهما ليس أحدهما أقرب للمطلق من الآخر صوم قضاء رمضان فإن الله قال فيه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، ولم يقيده بتتابع ولا تفريق مع أنه قيد صوم الظهار بالتتابع وصوم التمتع بالتفريق، وليس أحدهما أقرب إلى قضاء رمضان من الآخر فلا يقيد بقيد واحد منهما بل يبقى على الاختيار إن شاء تابعه وإن شاء فرقه، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}، الآية، هذه الآية تدل على أن القاتل عمدا لا توبة له وأنه مخلد في النار، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ} - إلى قوله -: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَات}، الآية. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}، وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ} الآية.
وللجمع بين ذلك أوجه:
ـ أن قوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا}، أي إذا كان مستحلا لقتل المؤمن عمدا، لأن مستحل ذلك كافر قاله عكرمة وغيره، ويدل له ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن جبير وابن جرير عن ابن جريج من أنها نزلت في مقيس بن صبابة فإنه أسلم هو وأخوه هشام وكانا بالمدينة فوجد مقيس أخاه قتيلا في بني النجار ولم يعرف قاتله فأمر له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدية فأعطتها له الأنصار مائة من الإبل وقد أرسل معه النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا من قريش من بني فهر فعمد مقيس إلى الفهري رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتله وارتد عن الإسلام وركب جملا من الدية وساق معه البقية ولحق بمكة مرتدا وهو يقول في شعر له:
قتلت به فهرا وحملت عقله = سراة بني النجار أرباب فارع
وأدركت ثأري وأضجعت موسدا = وكنت إلى الأوثان أول راجع
ومقيس هذا هو الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا أؤمنه في حل ولا في حرم"، وقتل متعلقا بأستار الكعبة يوم الفتح فالقاتل الذي هو كمقيس بن صبابة المستحل للقتل المرتد عن الإسلام لا إشكال في خلوده في النار، وعلى هذا فالآية مختصة بما يماثل سبب نزولها بدليل النصوص المصرحة بأن جميع المؤمنين لا يخلد أحد منهم في النار.
ـ الوجه الثاني: أن المعنى فجزاؤه أن جوزي مع إمكان ألا يجازى إذا تاب أو كان له عمل صالح يرجح بعمله السيئ... وهذا قول أبي هريرة وأبي مجلز وأبي صالح وجماعة من السلف.
ـ الوجه الثالث: أن الآية للتغليظ في الزجر، ذكر هذا الوجه الخطيب والآلوسي في تفسيريهما وعزاه الآلوسي لبعض المحققين واستدلا عليه بقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، على القول بأن معناه: ومن لم يحج، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الصحيحين للمقداد حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب: "لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن يقول الكلمة التي قال"، وهذا الوجه من قبيل كفر دون كفر، وخلود دون خلود، فالظاهر أن المراد به عند القائل به أن معنى الخلود المكث الطويل، والعرب ربما تطلق اسم الخلود على المكث الطويل ومنه وقول لبيد:
فوقفت أسألها وكيف سؤالنا = صما خوالد ما يبين كلامها
إلا أن الصحيح في معنى الآية الوجه الثاني والأول، وعلى التغليظ في الزجر حمل بعض العلماء كلام ابن عباس أن هذه الآية ناسخة لكل ما سواها، والعلم عند الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر أن القاتل عمدا مؤمن عاص له توبة كما عليه جمهور علماء الأمة وهو صريح قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ} الآية، وادعاء تخصيصها بالكفار لا دليل عليه، ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}، وقد توافرت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، وصرح تعالى بأن القاتل أخو المقتول في قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}، وقد قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}، فسماهم مؤمنين مع أن بعضهم يقتل بعضا، ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين في قصة الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس لان هذه الأمة بالتخفيف من بني إسرائيل لأن الله رفع عنها الآصار والأغلال التي كانت عليهم.


الساعة الآن 07:51 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir