معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد

معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد (http://afaqattaiseer.net/vb/index.php)
-   رسائل التفسير (http://afaqattaiseer.net/vb/forumdisplay.php?f=1086)
-   -   رسالة في تفسير قول الله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم . ثمّ رددناه أسفل سافلين} (http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=45258)

عبد العزيز الداخل 10 رمضان 1441هـ/2-05-2020م 12:51 AM

رسالة في تفسير قول الله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم . ثمّ رددناه أسفل سافلين}
 
رسالة في تفسير قول الله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم . ثمّ رددناه أسفل سافلين}

قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)}
التقويم هو التعديل، يقال: قوّمت الشيء إذا عدّلته، وهو وصف يصلح للأمور الحسية والمعنوية:
فالأول: تعديل خلقة الإنسان وجعله منتصب القامة سميعاً بصيراً عاقلاً، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)}
{فعدلك} قرئت بالتشديد والتخفيف، وهما قراءتان صحيحتان.

والثاني: تقويمه بخلقه على فطرة التوحيد والإيمان بالله، كما قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} فأمر أن يقيم وجهه مخلصاً لله كما أقام الله فطرته على الدين القويم.
وقول الله تعالى: {ثمّ رددناه أسفل سافلين}
يصدق هذا الردّ على معانٍ:
أحدها: ردّ الجسد بعد اعتدال خلقته إلى أرذل العمر، وهو قول ابن عباس، وإبراهيم النخعي، وعكرمة، وقتادة.
ووجهه: أنّ التقدّم في العمر بعد تناهي الخلقة واعتدالها ينتهي بالعبد إلى غاية الضعف والوهن، وأرذل العمر هو أسفل مراحل حياته الدنيوية وأدناها، ليس بعده إلا الفناء.
كما قال النمر بن تولب في وصف المشيب وما يقاسيه الكبير:
يودّ الفتى طول السلامة والغنى ... فكيف يرى طولُ السلامة يفعل
يُردّ الفتى بعد اعتدال وصحّة ... ينوءُ إذا رام القيام ويُحمل
والمعنى الثاني: النار، وهو قول أبي العالية الرياحي، ومجاهد، والحسن البصري، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
والنار هي أسفل موضع يردّ إليه الإنسان مطلقاً.
والمعنى الثالث: الضلال، وهذا القول ذكره أبو إسحاق الزجاج في تفسيره، وأبو منصور الأزهري في تهذيب اللغة، وقال بموجبه ابن عاشور في تفسيره وشرحه شرحاً حسناً.
وهذه الأقوال تتكامل ولا تتعارض، وتدلّ بمعانيها وبديع تركيبها على الإحكام البليغ لهذه السورة الجليلة التي جعلها الله من دلائل إحكامه لكتابه؛ إذ ختمها بقوله تعالى: {أليس الله بأحكم الحاكمين}

فالمعنى الأول في المراد بأسفل سافلين مقابلٌ لما في ذكر في الآية التي قبلها: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} باعتبار أن التقويم هو اعتدال خلقة الإنسان.
كما قال تعالى: { وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) } ، وقال تعالى: { ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً}.
فيكون استثناء المؤمنين على هذا القول في قوله تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} استثناءً حُكميّاً يقوم مقام الاستثناء الحقيقي.
وذلك أنّ المؤمن إذا بلغ به الكبر مبلغاً ضعفت فيه قواه وكلّ ذهنه فلم يعد يقوى على ما كان يعمل؛ فإنه يجرى له مثل ما كان يعمل وهو صحيح كرامةً من الله تعالى للمؤمن، فلا ينقص أجره ولا ينقطع، ومن كان هذا حاله فلا يصحّ وصف ما هو فيه من الكبر بالسفل، بل هو في علوّ بما يجري له من الأعمال الصالحة التي ترتفع بها درجاته.
فهو وإن كان جسده آخذا في الضعف لكبر سنّه وشيخوخته إلا أنّ حاله آخذٌ في الارتفاع والترقي.

- قال يزيد بن هارون: أخبرنا العوام بن حوشب عن عكرمة قال: (المؤمن إذا ردّ إلى أرذل العمر كُتب له أحسن ما كان يعمل في صحته وشبابه). رواه ابن أبي الدنيا في العمر والشيب.
- وقال المعتمر بن سليمان: سمعت الحكم يحدّث عن عكرمة {ثم رددناه أسفل سافلين} قال: (الشيخ الهَرِم لم يضرّه كبره إن ختم الله له بأحسن ما كان يعمل). رواه ابن جرير.

وهذا بخلاف الكافر الذي ليس له من الإيمان والعمل الصالح ما يرتفع به؛ فإذا خارت قواه من الكبر سفل حاله حتى يصير إلى أسفل سافلين في هذه الحياة.
فإن مات ردّ إلى أسفل سافلين في النار والعياذ بالله؛ فأصحاب النار هم أسافل الخلق.

وعلى ذلك فلا يصحّ اعتراض من يقول: نرى من الكفار من يموت وهو شابّ، ومن المؤمنين من يردّ إلى أرذل العمر.
لأن من أثار الإشكال ظنّ أن اللفظ المفسَّر به يقوم مقام اللفظ المفسَّر، فكان تقدير الكلام عنده: ثم رددناه إلى أرذل العمر
ولفظ "أرذل العمر" لفظ منقسم فمنه ما هو داخل في معنى الآية وهو ما يخصّ الكفار ، ومنه ما لا يدخل في معنى الآية وهو ما يخصّ المؤمنين.
لكن التفسير مبني على تقريب المعنى؛ فإذا ما عُرف المعنى استبان للناظر ما يدخل في معنى الآية مما لا يدخل.

فهذا وجه، ووجه آخر: أن الكافر مردود إلى أسفل سافلين لا مناص له من ذلك؛ فإن لم يردّ في الدنيا إلى أرذلِ العمر؛ فهو مردود في دينه إلى أسفل سافلين، ومردود في الآخرة إلى النار والعياذ بالله.
وأما المؤمن فلا يسفل بأيّ حال من الأحوال؛ بل هو في علوّ وعزّة قد كتبهما الله لأهل الإيمان، فإنْ ضعف جسده لهرمٍ أو مرض لم ينقص عملُه ولم تنحطّ درجته عند الله لذلك.


وأما المعنى الثالث وهو أن الرد إلى أسفل سافلين أي إلى الضلال بعد الهدى، فهو كما في قول الله تعالى: {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}.
وهذا القول له وجهه، وهو أنّ الإنسان قد خلقه الله في أحسن تقويم على الفطرة الصحيحة القويمة، ثم إنه من حين تكليفه فهو إمّا مؤمن آخذ في طريق العلوّ والعزة، وإما كافر آخذ في طريق السفل والباطل حتى يبلغ أسفل سافلين.
وكلّ دين غير دين الإسلام الذي رضيه الله لعباده فهو دين سافل من وضع البشر؛ فدين الله تعالى أعلى الأديان، قد أظهره الله تعالى على الدين كلّه، وكلّ دين سوى الإسلام فهو أسفل منه، بل الكفار أسفل حالاً من الحيوانات البهيمة ومن الجمادات؛ فهم شرّ البرية، وهم أسفل السافلين في دينهم وأحوالهم.
وهذا وصف لا مناص للكفار منه ما داموا مقيمين على كفرهم، {ذلك بأن الله هو الحقّ وأنّ ما يدعون من دونه هو الباطل وأنّ الله هو العلي الكبير}
فالله تعالى هو العليّ بذاته، ودينه أعلى الأديان، وعباده المؤمنون هم الأعلون، كما قال الله تعالى: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} وهذا يدلّ بمفهوم المخالفة على أنّ الكفار هم الأسفلون.



وبهذا يُعلم أنّ الاستثناء في قوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} استثناء متّصل، لأنّ المؤمنين لا يُردّون إلى أسفل سافلين، ومن المفسرين الذين فسروا "أسفل سافلين" بأرذل العمر من ذهب إلى أنّ الاستثناء منقطع، وإلا بمعنى "لكن"، وقد سبق بيان ما في هذا القول من العلة، وأنّ "أرذل العمر" لفظ منقسم فمنه ما هو سفل وهو ما يختصّ بالكافرين، ومنه ما ليس بسفل وهو ما يختصّ بالمؤمنين، والاستثناء وقع من لفظ "أسفل سافلين" وليس من "أرذل العمر".
ولفظ "أسفل سافلين" يشمل معاني غير أرذل العمر، وكلّها قد استثني منها الذين آمنوا وعملوا الصالحات استثناء حقيقياً.



فانظر كيف دلّت كلمة "أسفل سافلين" على معانٍ عظيمة ووصفت أحوالاً جسيمة، وعواقب وخيمة لأهل الكفر، وهي لم تدلّ بوضعها اللغوي على أرذل العمر، ولا على النار، ولا على الضلال؛ لكنها وصف يحتمل هذه المعاني.
والمعاني التي تحتملها المفردات يجتهد المفسّر في تعيين المراد منها، فقد يصحّ أن يُراد بها معنى واحد وقد يصحّ أن يُراد بها أكثر من معنى.
وإذا أمكن الجمع بين المعاني التي تحتملها المفردة، وكان لكل معنى وجهه الصحيح تعيّن الأخذ بها كلها.

وقد تضمنت السورة أمثلة أخرى على هذا النسق:
منها: قوله تعالى:{ممنون}
ولهذه المفردة معنيان في اللغة: الانقطاع والنقص، وقد قال بكل معنى منهما جماعة من المفسرين.
- فأما الانقطاع فمن شواهده قول لبيد بن ربيعة:

خنساء ضيّعت الفرير فلم يَرِمْ ... عرض الشقائق طوفُها وبُغامها

لمعفَّر قهدٍ تنازع شلوَه ... غُبسٌ كواسب ما يُمنّ طعامها

الخنساء هي بقرة الوحش، والمعفَّر هو فريرُها أي: وليدها، الذي تنازعت الذئاب الغُبس في لونها لحمَه، وعفّرته في التراب، ووصفها بأنها كواسب أي كثيرة الصيد لا يُمنّ طعامُها أي لا يُقطع عنها لقدرتها على الصيد، وشدّة بأسها فيه.

- وأما النقصان والضعف فمن شواهده قول امرئ القيس:

تقطّع أسبابُ اللُّبانةِ والهوى ... عشيّة جاوزنا حماةً وشيزرا

بسَير يضجّ العَودُ منه يمنّه ... أخو الجهد لا يلوي على من تعذّرا
العَود: البعير المسنّ، ويمنّه: أي: يُضعفه ويُنهكه، والمتعذّر: المتخلّف عن الرَّكْب، المنقطع عن السير.


والآية تحتمل المعنيين من غير تعارض؛ فهو أجرٌ غير مقطوع ولا منقوص، بل هو دائمٌ لا ينقضي، ووافرٌ لا ينقص كما قال تعالى: {أكلها دائم}، وقال تعالى: {وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة}.


ومنها: قول الله تعالى:{أليس الله بأحكم الحاكمين} يجمع معانٍ جليلة فهو أحكمُ حُكْماً، وأحكم حكمةً، وأحكم إحكاماً في خلقه وأمره.
فانظر كيف دلّت هذه السورة المحكمة على معانٍ كثيرة بديعة بألفاظ وجيزة في غاية الإحكام في المفردات والتركيب.



الساعة الآن 02:04 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir