معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد

معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد (http://afaqattaiseer.net/vb/index.php)
-   ألفية ابن مالك (http://afaqattaiseer.net/vb/forumdisplay.php?f=64)
-   -   التوكيد (http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=2379)

عبد العزيز الداخل 20 ذو الحجة 1429هـ/18-12-2008م 02:15 AM

التوكيد
 
التوكيدُ

بالنفسِ أوْ بالعينِ الاسمُ أُكِّدَا = مَعَ ضميرٍ طابَقَ المؤَكَّدَا
واجْمَعْهُما بأَفَعُلٍ إنْ تَبِعَا = مَا لَيْسَ وَاحِدًا تَكُنْ مُتَّبِعَا
وكُلًّا اذْكُرْ في الشُّمولِ وكِلَا = كِلْتَا جميعًا بالضميرِ مُوصَلَا
واستَعْمَلُوا أَيضًا كَكُلٍّ فاعِلَهْ = مِنْ عَمَّ في التوكيدِ مِثلَ النَّافِلَةْ
وبعدَ كُلٍّ أَكَّدُوا بأَجْمَعَا = جَمعاءَ أَجْمَعينَ ثُمَّ جُمَعَا
ودُونَ كُلِّ قَدْ يَجيءُأَجْمَعُ = جَمعاءُ أَجمعونَ ثمَّ جُمَعُ
وإنْ يُفِدْ تَوكيدُ مَنكورٍ قُبِلْ = وعنْ نُحاةِ البَصْرَةِ الْمَنْعُ شَمِلْ
وَاغْنَ بكِلتا في مُثَنًّى وكِلَا = عنْ وَزْنِ فَعْلاءَ ووَزْنِ أَفْعَلَا
وإنْ تُؤَكِّد الضميرَ الْمُتَّصِلْ = بالنفسِ والعينِ فَبَعْدَ المنفَصِلْ
عَنَيْتُ ذا الرفعِ وأَكَّدُوا بِمَا = سِواهما والقَيْدُ لنْ يُلْتَزَمَا
وما مِن التوكيدِ لَفْظِيٌّ يَجِي = مُكَرَّرًا كقولِكَ ادْرُجِي ادْرُجِي
ولا تُعِدْ لفظَ ضَميرٍ مُتَّصِلْ = إلَّا معَ اللفظِ الذي بهِ وُصِلْ
كذا الحروفُ غيرَ ما تَحَصَّلَا = بهِ جوابٌ كنَعَمْ وكَبَلَى
ومُضمَرَ الرفْعِ الذي قَدِ انْفَصَلْ = أَكِّدْ بهِ كلَّ ضَميرٍ اتَّصَلَ

محمد أبو زيد 25 ذو الحجة 1429هـ/23-12-2008م 02:31 PM

شرح ابن عقيل (ومعه منحة الجليل للأستاذ: محمد محيي الدين عبد الحميد)
 

التَّوكيدُ

بالنفسِ أو بالعينِ الاسمُ أُكِّدَا = معَ ضميرٍ طابَقَ المؤَكَّدَا ([1])


واجْمَعْهُما بأَفْعُلٍ إنْ تَبِعَا = ما ليسَ واحداً تَكُنْ مُتَّبِعَا ([2])

التوكيدُ قِسمانِ: أحَدُهما التوكيدُ اللَّفْظِيُّ وسيأتي، والثاني التوكيدُ الْمَعنويُّ، وهو على ضَرْبَيْنِ:
أحدُهما: ما يَرْفَعُ تَوَهُّمَ مُضافٍ إلى المؤَكَّدِ، وهو المرادُ بهذينِ البَيتيْنِ، وله لَفظانِ: النفسُ والعينُ، وذلك نحوُ: جاءَ زيدٌ نفْسُه، فـ"نفْسُه" تَوكيدٌ لـ "زَيدٌ"، وهو يَرفَعُ تَوَهُّمَ أنْ يَكونَ([3]) التقديرُ : "جاءَ خَبَرُ زيدٍ أو رَسولُه"، وكذلك جاءَ زيدٌ عَيْنُه.
ولا بُدَّ مِن إضافَةِ النفْسِ أو العَيْنِ إلى ضَميرٍ يُطابِقُ المؤَكَّدَ، نحوُ: "جاءَ زيدٌ نفْسُه أو عَيْنُه، وهِندٌ نفْسُها أو عَينُها".
ثُمَّ إنْ كانَ المُؤَكَّدُ بِهِما مُثَنًّى أو مَجموعاً جَمَعْتَهما على مِثالِ أَفْعُل، فتقولُ: "جاءَ الزيدانِ أنْفُسُهما أو أَعْيُنُهما، والْهِندانِ أنْفُسُهُما أو أعْيُنُهما، والزيدونَ أنْفُسُهم أو أَعْيُنُهم، والْهِنداتُ أنْفُسُهُنَّ أو أعْيُنُهُنَّ".


وكُلاًّ اذْكُرْ في الشمولِ وكِلاَ = كِلْتَا جميعاً بالضميرِ مُوصَلاَ ([4])


هذا هو الضَّرْبُ الثاني مِن التوكيدِ الْمَعنَوِيِّ، وهو ما يَرْفَعُ تَوَهُّمَ عَدَمِ إرادةِ الشُّمولِ، والْمُسْتَعْمَلُ لذلك "كلٌّ وكِلاَ وكِلْتَا وجَميعٌ"، فيُؤَكَّدُ بكُلٍّ وجَميعٍ ما كان ذا أَجزاءٍ، يَصِحُّ وُقوعُ بعضِها([5]) مَوْقِعَه، نحوُ: "جاءَ الرَّكْبُ كُلُّه، أو جميعُه، والقَبيلةُ كلُّها أو جَميعُها، والرجالُ كلُّهم أو جميعُهم، والْهِنداتُ كلُّهُنَّ أو جَميعُهنَّ"، ولا تَقولُ: "جاءَ زيدٌ كلُّه"، ويُؤَكَّدُ بكِلاَ المثنَّى المذَكَّرُ، نحوُ: "جاءَ الزيدانِ كِلاَهُما"، وبكِلْتَا المثنَّى المؤنَّثُ، نحوُ: "جاءَتِ الْهِندانِ كِلتَاهُما"، ولا بُدَّ مِن إضافَتِها كلِّها إلى ضَميرٍ يُطابِقُ المؤكِّدَ كما مَثَّلَ.

واسْتَعْمَلُوا أَيضاً ككلٍّ فاعِلَهْ = مِنْ عَمَّ في التوكيدِ مِثلَ النافِلَهْ ([6])

أي: استعمَلَ العرَبُ للدَّلالةِ على الشمولِ ككُلٍّ "عامَّةً" مضافاً إلى ضَميرِ المؤَكَّدِ، نحوُ: "جاءَ القوْمُ عامَّتُهم"، وقَلَّ مَن عَدَّها مِن النَّحْوِيِّينَ في ألفاظِ التوكيدِ، وقد عَدَّها سِيبَوَيْهِ، وإنما قالَ: (مِثْل النافِلَةِ)؛ لأنَّ عَدَّها مِن ألفاظِ التوكيدِ يُشْبِهُ النافِلَةَ؛ أي: الزيادةَ؛ لأنَّ أكثَرَ النَّحْوِيِّينَ لم يَذْكُرْها.

وبعدَ كلٍّ أَكَّدُوا بأَجْمَعَا = جَمعاءَ أَجْمَعينَ ثُمَّ جُمَعَا ([7])


أيْ: يُجاءُ بعْدَ "كُلٍّ" بأَجْمَعَ، وما بعْدَها لتَقْوِيَةِ قَصْدِ الشمولِ، فيُؤتَى بـ "أَجمعَ" بعْدَ "كُلِّه"، نحوُ: "جاءَ الرَّكْبُ كُلُّه أَجمَعُ"، وبـ"جَمعاءَ" بعْدَ "كُلِّها"، نحوُ: جاءَتِ القَبيلةُ كلُّها جَمعاءُ، وبـ"أَجمعينَ" بعْدَ "كلِّهم"، نحوُ: "جاءَ الرجالُ كلُّهم أَجمعونَ"، وبـ"جُمَعَ" بعْدَ "كُلِّهِنَّ"، نحوُ: "جاءَتِ الْهِنْداتُ كلُّهُنَّ جُمَعُ".


ودُونَ كلٍّ قد يَجيءُ أَجْمَعُ = جَمعاءُ أَجْمَعُونَ ثُمَّ جُمَعُ ([8])

أيْ: قد وَرَدَ استعمالُ العرَبِ "أَجمعَ" في التوكيدِ غيرَ مَسبوقةٍ بـ"كُلِّه"، نحوُ: "جاءَ الجيشُ أَجمَعُ"، واستعمالُ "جَمعاءَ" غيرَ مَسبوقةٍ بـ"كُلِّها"، نحوُ: "جاءَتِ القَبيلةُ جَمْعَاءُ"، واستعمالُ "أَجمعينَ" غيرَ مَسبوقةٍ بـ "كُلِّهم"، نحوُ: "جاءَ القوْمُ أَجمعونَ"، واستعمالُ "جُمَعَ" غيرَ مَسبوقةٍ بـ"كُلِّهِنَّ"، نحوُ: "جاءَ النساءُ جُمَعُ"، وزَعَمَ المصَنِّفُ أنَّ ذلك قَليلٌ، ومنه قولُه:
289- يا لَيْتَنِي كُنْتُ صَبِيًّا مُرْضَعَا = تَحْمِلُنِي الذَّلْفَاءُ حَوْلاً أَكْتَعَا


إذَا بَكَيْتُ قَبَّلَتْنِي أَرْبَعَا = إذاً ظَلِلْتُ الدَّهْرَ أَبْكِي أَجْمَعَا ([9])



وإنْ يُفِدْ تَوكيدُ مَنكورٍ قُبِلْ = وعنْ نُحاةِ البصرةِ الْمَنْعُ شَمِلْ ([10])

مَذْهَبُ البَصريِّينَ أنَّه لا يَجوزُ تَوكيدُ النكِرَةِ، سَواءً كانَتْ مَحدودةً؛ كيَوْمٍ وليلةٍ وشَهْرٍ وحَوْلٍ، أو غيرَ محدودةٍ؛ كوقْتٍ وزمَنٍ وحِينٍ. ومَذهَبُ الكُوفِيِّينَ - واختارَه المصنِّفُ - جَوَازُ توكيدِ النكِرَةِ المحدودةِ؛ لِحُصولِ الفائدةِ بذلك، نحوُ: "صُمْتُ شَهْراً كُلَّه"، ومنه قولُه:
تَحْمِلُني الذَّلْفَاءُ حَوْلاً أَكْتَعَا

وقولُه:
290- قد صَرَّتِ البَكْرَةُ يَوْماً أَجْمَعَا ([11])


واغْنَ بكِلتا في مُثَنًّى وكِلاَ = عن وَزْنِ فَعْلاءَ ووَزْنِ أَفْعَلاَ ([12])

قد تَقَدَّمَ أنَّ الْمُثَنَّى يُؤَكَّدُ بالنفْسِ أو العَيْنِ، وبكِلاَ وكِلتا، ومَذهَبُ البَصْرِيِّينَ أنَّه لا يُؤَكَّدُ بغيرِ ذلك، فلا تَقولُ: "جاءَ الْجَيشانِ أَجمعانِ"، ولا: "جاءَ القَبيلتانِ جَمْعَاوانِ"؛ استغناءً بكِلاَ وكِلتَا عنهما، وأَجازَ ذلك الكُوفِيُّونَ.


وإنْ تُؤَكِّدِ الضميرَ الْمُتَّصِلْ = بالنفسِ والعينِ فبَعدَ المنفَصِلْ ([13])


عَنَيْتُ ذا الرفعِ وأَكَّدُوا بِمَا = سِواهُمَا والقَيْدُ لنْ يُلْتَزَمَا ([14])

لا يَجوزُ تَوكيدُ الضميرِ المرفوعِ الْمُتَّصِلِ بالنفْسِ أو العَيْنِ، إلاَّ بعْدَ تأكيدِه بضَميرٍ منْفَصِلٍ، فتقولُ: "قُومُوا أنتم أنفُسُكم، أو أَعْيُنُكُم"، ولا تَقُلْ: "قُومُوا أنفُسُكم".
فإذا أَكَّدْتَه بغيرِ النفْسِ والعَيْنِ لم يَلزَمْ ذلك؛ تَقولُ: "قُومُوا كلُّكم" أو "قُومُوا أنتم كلُّكم".
وكذا إذا كانَ الْمُؤَكَّدُ غيرَ ضَميرِ رَفْعٍ، بأنْ كانَ ضميرَ نصْبٍ أو جَرٍّ، فتَقولُ: "مَرَرْتُ بكَ نفْسِكَ أو عَيْنِكَ، ومَررتُ بكُم كُلِّكم، ورأَيْتُكَ نفْسَكَ أو عَيْنَكَ، ورأيْتُكُم كلَّكم".


وما مِن التوكيدِ لَفْظِيٌّ يَجِي = مُكَرَّراً كقولِكَ ادْرُجِي ادْرُجِي ([15])

هذا هو القِسْمُ الثاني مِن قِسْمَيِ التوكيدِ، وهو التوكيدُ اللفْظِيُّ، وهو تَكْرَارُ اللَّفْظِ الأوَّلِ بعَيْنِه؛ اعتناءً به، نحوُ: "ادْرُجِي ادْرُجِي"، وقولِه:

291- فأَيْنَ إلى أينَ النَّجَاةُ ببَغْلَتِي = أتاكِ أتاكِ اللاَّحِقُونَ احْبِسِ احبِسِ([16])

وقولِه تعالى: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا}([17]).


ولا تُعِدْ لفظَ ضَميرٍ مُتَّصِلْ = إلاَّ معَ اللفظِ الذي به وُصِلْ ([18])

أيْ: إذا أُريدَ تَكريرُ لفْظِ الضميرِ الْمُتَّصِلِ للتوكيدِ لم يَجُزْ ذلك، إلاَّ بشَرْطِ اتِّصالِ الْمُؤَكِّدِ بما اتَّصَلَ بالْمُؤَكَّدِ، نحوُ: مَرَرْتُ بكَ بكَ، ورَغِبْتُ فيه فيه، ولا تَقولُ: مَررتُ بِكَكَ.


كذا الحروفُ غيرَ ما تَحَصَّلاَ = به جوابٌ كنَعَمْ وكَبَلَى ([19])

أيْ: كذلك إذا أُريدَ تَوكيدُ الحرْفِ الذي ليسَ للجوابِ، يَجِبُ أنْ يُعادَ معَ الحرْفِ الْمُؤَكِّدِ ما يَتَّصِلُ بالمؤَكَّدِ، نحوُ: "إنَّ زَيداً إنَّ زيداً قائمٌ"، و"في الدارِ في الدارِ زَيدٌ"، ولا يَجوزُ "إنَّ إنَّ زَيداً قائمٌ"([20])، ولا "في في الدارِ زَيدٌ"، فإنْ كانَ الحرْفُ جَواباً - كنَعَمْ وبَلَى وجَيْرِ وأَجَلْ وإِي ولا - جازَ إعادتُه وَحْدَه، فيُقالُ لكَ: "أقامَ زيدٌ؟" فتقولُ: "نعَمْ نعَمْ"، أو: "لا لا"، و: "أَلَمْ يَقُمْ زَيدٌ؟" فتَقولُ: "بَلَى بَلَى"([21]).

ومُضْمَرَُ الرفْعِ الذي قدِ انْفَصَلْ = أَكِّدْ بهِ كلَّ ضَميرٍ اتَّصَلْ ([22])

أيْ: يَجُوزُ أنْ يُؤَكَّدَ بضَميرِ الرفْعِ المنْفَصِلِ كلُّ ضَميرٍ متَّصِلٍ؛ مَرفوعاً كانَ، نحوُ: "قُمتَ أنتَ"، أو مَنصوباً، نحوُ: "أَكْرَمْتَنِي أنا"، أو مَجروراً، نحوُ: "مَرَرْتُ به هو". واللهُ أعْلَمُ.


([1])، (بالنفْسِ) جارٌّ ومجرورٌ متَعَلِّقٌ بقولِه: (أُكِّدَ) الآتي، (أو) حرْفُ عطْفٍ، (بالعينِ) مَعطوفٌ على قولِه: بالنفْسِ، (الاسمُ) مبتَدأٌ، (أُكِّدَا) أُكِّدَ: فعْلٌ ماضٍ مَبنيٌّ للمجهولِ، والألِفُ للإطلاقِ، ونائبُ الفاعلِ ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقديرُه: هو، يعودُ إلى الاسمُ، والجملةُ في مَحَلِّ رفْعٍ خَبَرُ المبتدأِ، (معَ) ظرْفٌ متَعَلِّقٌ بمحذوفٍ حالٌ مِن قولِه: بالنفْسِ وما عُطِفَ عليه، ومعَ مضافٌ و(ضميرٍ) مضافٌ إليه، (طَابَق) فعْلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقديرُه: هو يَعودُ إلى ضميرٍ، (الْمُؤَكَّدَا) مفعولٌ به لِطَابَقَ، والجملةُ في مَحَلِّ جَرٍّ صفَةٌ لضَميرٍ.

([2]) (وَاجْمَعْهُما) الواوُ عاطِفَةٌ، اجْمَعْ: فعْلُ أمْرٍ، وفاعلُه ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجوباً تَقديرُه: أنتَ، والضميرُ البارِزُ مَفعولٌ به، (بأفْعُلٍ) جارٌّ ومجرورٌ متَعَلِّقٌ باجْمَعْ، (إنْ) شَرطيَّةٌ، (تَبِعَا) تَبِعَ: فعْلٌ ماضٍ فعْلُ الشرْطِ، وألِفُ الاثنينِ فاعلٌ، (ما) اسمٌ موصولٌ: مَفعولٌ به لتَبِعَ، (ليسَ) فعْلٌ ماضٍ ناقصٌ، واسمُه ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقديرُه: هو، يَعودُ على ما، (واحداً) خبَرُ ليسَ، والجملةُ مِن ليسَ واسْمِها وخَبَرِها لا مَحَلَّ لها صِلَةُ الْمَوصولِ، وجوابُ الشرْطِ محذوفٌ، يَدُلُّ عليه سابِقُ الكلامِ، والتقديرُ: إنْ تَبِعَا ما ليسَ واحداً فاجْمَعْهُمَا بأفْعُلٍ، (تَكُنْ) فعْلٌ مضارِعٌ ناقصٌ مجزومٌ في جوابِ الأمْرِ الذي هو اجْمَعْ، واسمُه ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجوباً تَقديرُه: أنتَ، (مُتَّبِعَا) خبَرُه.

([3]) إذا قُلتَ: (جاءَ زيدٌ) فقَدْ تُريدُ الحقيقةَ، وأنَّ زَيداً هو الآتِي، وقد تكونُ جَعَلْتَ الكلامَ على حذْفِ مُضافٍ، وأنَّ الأصْلَ جاءَ خبَرُ زيدٍ، أو جاءَ رَسولُ زيدٍ، وقد تكونُ قد أَطْلَقْتَ زَيداً وأنتَ تُريدُ به رسولَه مِن بابِ المجازِ العَقْلِيِّ، فإذا قلتَ: (جاءَ زيدٌ نفْسُه) فقَدْ تَعَيَّنَ المعنى الأوَّلُ، وارتفَعَ احتمالانِ:
أحدُهما: احتمالُ المجازِ بالمحذوفِ.
وثانيهما: احتمالُ الْمَجَازِ العَقْلِيِّ.

([4]) (وكُلاًّ) مَفعولٌ تَقَدَّمَ على عاملِه، وهو قَولُه: اذْكُرِ الآتي، (اذْكُرْ) فعْلُ أمْرٍ، وفاعلُه ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجوباً تَقديرُه: أنتَ، (في الشُّمولِ) جارٌّ ومجرورٌ متَعَلِّقٌ باذْكُرْ، (وكِلاَ وكِلْتَا جَميعاً) مَعطوفاتٌ على كُلٍّ بعاطِفٍ مقَدَّرٍ فيما عدَا الأوَّلَ، (بالضميرِ) جارٌّ ومجرورٌ متَعَلِّقٌ بقولِه: (مُوصَلاَ) الآتي، (مُوصَلاَ) حالٌ مِن كلٍّ وما عُطِفَ عليه.

([5]) الْمَدارُ في كونِه ذا أَجزاءٍ يَصِحُّ وُقوعُ بعضِها مَوْقِعَه على العامِلِ، فالمثالُ الذي ذَكَرَه الشارِحُ – وهو (جاءَ زيدٌ كلُّه) – لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الْمَجيءَ لا يَتَعَلَّقُ ببعضِ الإنسانِ، لكنْ لو قلتَ: (اشتَرَيْتُ العبْدَ كلَّه)، أو قُلتَ: (اشتَرَيْتُ الجاريةَ كلَّها) كانَ صحيحاً؛ لأنَّ الشِّراءَ قد يتَعَلَّقُ بالبعْضِ.

([6]) (واستَعْمَلُوا) فعْلٌ وفاعلٌ، (أَيضاً) مَفعولٌ مطلَقٌ لفعْلٍ محذوفٍ، (ككُلٍّ) جارٌّ ومجرورٌ متَعَلِّقٌ بمحذوفٍ حالٌ مِن قولِه: (فاعِلَه) الآتي، (فاعِلَه) مَفعولٌ به لاسْتَعْمَلُوا، (مِن عَمَّ) جارٌّ ومجرورٌ متَعَلِّقٌ بمحذوفٍ حالٌ مِن فاعِلَه أَيضاً، (في التوكيدِ) جارٌّ ومجرورٌ متَعَلِّقٌ باستَعْمَلُوا، (مِثْلَ) حالٌ ثالثٌ مِن فاعِلَه أيضاً، ومِثْلَ مضافٌ و(النافِلَهْ) مضافٌ إليه.

([7]) و(بعدَ) ظرْفٌ متَعَلِّقٌ بقولِه: (أكَّدُوا) الآتي، وبعْدَ مُضافٌ و(كُلٍّ) مضافٌ إليه، (أَكَّدُوا) فعْلٌ وفاعلٌ، (بأَجْمَعَا) جارٌّ ومجرورٌ متَعَلِّقٌ بأَكَّدُوا، (جَمْعَاءَ أَجمعينَ ثم جُمَعَا) مَعطوفاتٌ على (أَجْمَعَا) بعاطِفٍ مقَدَّرٍ فيما عَدَا الأخيرَ.

([8]) (ودُونَ) ظرْفٌ متَعَلِّقٌ بقولِه: يَجيءُ الآتي، ودُونَ مضافٌ و(كلٍّ) مضافٌ إليه، (قد) حرْفُ تَقليلٍ، (يَجيءُ) فعْلٌ مضارِعٌ، (أَجْمَعُ) فاعلُ يَجيءُ، (جَمْعَاءُ أَجمعونَ ثم جُمَعُ) مَعطوفاتٌ على (أَجمعُ) بعاطِفٍ مقَدَّرٍ فيما عَدَا الأخيرَ.

([9]) 289 - هذه الأبياتُ لراجِزٍ لا يُعلَمُ اسْمُه.
اللغةُ: (الذَّلْفَاءُ) أصْلُه وَصْفٌ لِمُؤَنَّثِ الأَذْلَفِ، وهو مَأخوذٌ مِن الذَّلَفِ – بالتحريكِ – وهو صِغَرُ الأنْفِ واستواءُ الأَرْنَبَةِ، ثُمَّ نُقِلَ إلى العَلَمِيَّةِ، فسُمِّيَتْ به امْرَأَةٌ، ويَجوزُ هنا أنْ يَكونَ عَلَماً وأنْ يكونَ باقِياً على وَصفِيَّتِه، (حَوْلاً) عاماً، (أَكْتَعَا) تامًّا كامِلاً، وقد قالوا: (أَتَى عليه حَوْلٌ أكتَعُ)؛ أيْ: تامٌّ؛ كذا قالَ الْجَوْهَرِيُّ.
الإعرابُ: (يا) حرْفُ تَنبيهٍ، أو حرْفُ نِداءٍ حُذِفَ المنادَى به، (لَيْتَنِي) ليتَ: حرْفُ تَمَنٍّ، والنونُ للوِقايَةِ، والياءُ اسمُ لَيْتَ، (كُنتُ) كانَ: فعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ، والتاءُ اسْمُه، (صَبِيًّا) خبَرُ كانَ، (مُرْضَعَا) نعْتٌ لصَبِيٍّ، وجُملةُ (كانَ) واسمِه وخَبَرِه في مَحَلِّ رفْعٍ خبَرُ (ليتَ)، (تَحْمِلُنِي) تَحْمِلُ: فعْلٌ مضارِعٌ، والنونُ للوِقايَةِ، وياءُ المتكلِّمِ مَفعولٌ به، (الذَّلْفَاءُ) فاعِلُ تَحْمِلُ، (حَوْلاً) ظرْفُ زمانٍ متَعَلِّقٌ بتَحْمِلُ، (أَكْتَعَا) تَوكيدٌ لقولِه: حَوْلاً، وإذا لاَحَظْتَ ما فيه مِن معنى المشتَقِّ صَحَّ أنْ تَجعلَه نَعْتاً له، (إذا) ظرْفٌ ضُمِّنَ معنَى الشرْطِ، وجُملةُ (بَكَيْتُ) في مَحَلِّ جرٍّ بإضافةِ إذا إليها، (قَبَّلَتْنِي) قَبَّلَ: فعْلٌ ماضٍ، والتاءُ تاءُ التأنيثِ، والفاعلُ ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقديرُه: هي، يعودُ إلى الذَّلْفَاءُ، والنونُ للوِقايَةِ، وياءُ المتكَلِّمِ مَفعولٌ أوَّلُ، (أرْبَعَا) مَفعولٌ ثانٍ، وأصلُه نعْتٌ لمحذوفٍ، والجملةُ لا مَحَلَّ لها جوابُ (إذا) الشرطيَّةِ غيرِ الجازِمَةِ، (إذا) حرْفُ جَوابٍ، (ظَلَلْتُ): ظَلَّ: فعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ، والتاءُ اسْمُه، (الدهْرَ) ظرْفُ زمانٍ مُتَعَلِّقٌ بأَبْكِي، (أَبْكِي) فعْلٌ مضارِعٌ، وفاعلُه ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجوباً تَقديرُه: أنا، والجملةُ في مَحَلِّ نصبٍ خبَرُ ظَلَّ، (أَجْمَعَ) تَوكيدٌ للدهْرِ.
الشاهِدُ فيه: في هذا البيتِ ثلاثةُ شَوَاهِدَ يَسْتَدِلُّ بها النُّحاةُ على مَسائلَ مِن بابِ التوكيدِ:
الشاهِدُ الأوَّلُ – وهو المرادُ هنا – في قولِه: (الدهْرَ.... أَجْمَعَا)؛ حيثُ أكَّدَ الدهْرَ بأَجْمَعَ، مِن غيرِ أنْ يُؤَكِّدَه أوَّلاً بكُلٍّ.
والثاني في قولِه: (حَوْلاً أَكْتَعَا)؛ فإنه يَدُلُّ لِمَا ذَهَبَ إليه الكُوفِيُّونَ مِن جَوازِ تَوكيدِ النَّكِرَةِ إذا كانتْ مَحدودةً بأنْ يَكونَ لها أوَّلُ وآخِرُ مَعروفانِ؛ كيَوْمٍ وشَهْرٍ وعامٍ وحَوْلٍ ونحوِ ذلك. وذهَبَ المصنِّفُ إلى جوازِ ذلك، والبَصرِيُّونَ يَأْبَوْنَ تَأكيدَ النَّكِرَةِ؛ مَحدودةً أو غيرَ مَحدودةٍ، وسيأتي هذا الموضوعُ بعَقِيبِ ما نَتَكَلَّمَ فيه الآنَ.
والثالثُ في قولِه: (الدهْرَ أَبْكِي أَجْمَعَا)؛ حيثُ يَدُلُّ على أنَّه قد يُفْصَلُ بينَ التوكيدِ والمؤكَّدِ بأَجْنَبِيٍّ.

([10]) (وإنْ) شَرطيَّةٌ، (يُفِدْ) فعْلٌ مضارِعٌ فعْلُ الشرْطِ، (توكيدُ) فاعلُ يُفِدْ، وتوكيدُ مضافٌ و(مَنكورٍ) مضافٌ إليه، (قُبِلْ) فعْلٌ ماضٍ مَبنيٌّ للمَجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقديرُه: هو، يَعودُ إلى تَوكيدُ مَنكورٍ، والفعْلُ – الذي هو قُبِلْ – مَبنيٌّ على الفتْحِ في مَحَلِّ جزْمٍ جوابُ الشرْطِ، وسُكِّنَ لأجْلِ الوقْفِ، (وعن نُحاةِ) جارٌّ ومجرورٌ متَعَلِّقٌ بقولِه: (المنْعُ) الآتي، ونُحاةُ مضافٌ و(البصرةِ) مضافٌ إليه، (المنْعُ) مبتَدأٌ، (شَمِلْ) فعْلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقديرُه: هو، يَعودُ إلى المنْعُ، والجملةُ في مَحَلِّ رفْعٍ خَبَرُ المبتدأِ.

([11]) 290 - هذا الشاهِدُ مَجهولُ النِّسبَةِ إلى قائلِه، ويَذْكُرُ بعضُ النُّحاةِ مِن البَصْرِيِّينَ أنَّه مَصنوعٌ، ويَرْوِي بعْضُ مَن يَسْتَشْهِدُ به قَبْلَه:
إنَّا إذَا خُطَّافُنَا تَقَعْقَعَا

اللغةُ: (خُطَّافُنا) الْخُطَّافُ – بضَمِّ الخاءِ المعْجَمَةِ وتَشديدِ الطاءِ – هو الحديدةُ الْمُعْوَجَّةُ تَكونُ في جانِبِ البَكْرَةِ، (تَقَعْقَعَا) تَحَرَّكَ وسُمِعَ له صَوْتٌ، والقَعْقَعَةُ: تَحريكُ الشيءِ اليابِسِ الصُّلْبِ حتَّى يُسْمَعَ له صَوْتٌ، (صَرَّت) صَوَّتَتْ، (البَكْرَةُ) بفتْحٍ فسُكونٍ هنا: ما يُستَقَى عليها الماءُ مِن البِئْرِ.
الإعرابُ: (قد) حرْفُ تَحقيقٍ، (صَرَّتِ) صَرَّ: فعْلٌ ماضٍ، والتاءُ للتأنيثِ، (البَكْرَةُ) فاعلُ صَرَّتْ، (يَوْماً) ظرْفُ زمانٍ متَعَلِّقٌ بصَرَّتْ، (أَجْمَعَا) تأكيدٌ لقولِه: يَوْماً.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (يَوماً أَجْمَعَا)؛ حيثُ أَكَّدَ قولَه: (يَوْماً) وهو نكِرَةٌ مَحدودةٌ بقولِه: (أَجْمَعَا)، وتَجويزُ ذلك هو مَذهَبُ الكُوفِيِّينَ الذي اختارَه المصنِّفُ في هذه المسألةِ، وجوابُ البَصريِّينَ عن هذا الشاهِدِ إنكارُه، وادِّعاءُ أنَّه مِمَّا صَنَعَه النُّحاةُ الكوفِيُّونَ ليُصَحِّحُوا مَذهبَهم، ولا أصْلَ له عندَهم حتى يَلْتَمِسُوا له مَخْلَصاً.

([12]) (اغْنَ) فعْلُ أمْرٍ، وفاعلُه ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجوباً تَقديرُه: أنتَ، (بكِلْتَا) جارٌّ ومجرورٌ متَعَلِّقٌ باغْنَ، (في مُثَنًّى) جارٌّ ومجرورٌ متَعَلِّقٌ باغْنَ أيضاً، (وكِلاَ) معطوفٌ على كِلْتَا، (عن وَزْنِ) جارٌّ ومجرورٌ متَعَلِّقٌ باغْنَ أيضاً، وَوَزْنِ مضافٌ و(فَعْلاَءَ) مضافٌ إليه، (ووَزْنِ أَفْعَلاَ) معطوفٌ على قولِه: (وزْنِ فَعْلاءَ).

([13]) (وإنْ) شَرطيَّةٌ، (تُؤَكِّدِ) فعْلٌ مضارِعٌ، فعْلُ الشرْطِ، وفاعلُه ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجوباً تَقديرُه: أنتَ، (الضميرَ) مَفعولٌ به لتُؤَكِّدْ، (الْمُتَّصِلْ) نعْتٌ للضميرِ، (بالنفْسِ) جارٌّ ومجرورٌ متَعَلِّقٌ بتُؤَكِّدْ، (والعينِ) معطوفٌ على النفْسِ، (فبعْدَ) الفاءُ واقعةٌ في جوابِ الشرْطِ، بعدَ: ظرْفٌ متَعَلِّقٌ بمحذوفٍ تَقديرُه: فأَكِّدْ بهما بعْدَ المنفَصِلِ، والجملةُ في مَحَلِّ جزْمٍ جوابُ الشرْطِ، وبعْدَ مضافٌ و(المنفَصِلْ) مضافٌ إليه.

([14]) (عَنَيْتُ) فعْلٌ وفاعلٌ، (ذا) مَفعولٌ به لعَنَيْتُ، وذا مضافٌ و(الرفْعِ) مضافٌ إليه، (وأَكَّدُوا) فعْلٌ وفاعلٌ، (بما) جارٌّ ومجرورٌ متَعَلِّقٌ بأَكَّدُوا، (سِوَاهُما) سِوَى: ظرْفٌ متَعَلِّقٌ بمحذوفٍ صِلَةُ ما المجرورةِ مَحَلاًّ بالباءِ، وسِوَى مضافٌ والضميرُ مضافٌ إليه، (والقَيْدُ) مبتَدأٌ، (لن) نافِيَةٌ ناصِبَةٌ، (يُلْتَزَمَا) يُلتزَمَ: فعْلٌ مضارِعٌ مَبنيٌّ للمَجهولِ منصوبٌ بلن، والألِفُ للإطلاقِ، ونائبُ الفاعلِ ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقديرُه: هو، يعودُ إلى القَيْدُ، والجملةُ في مَحَلِّ رفْعٍ خَبَرُ المبتدأِ الذي هو القَيْدُ.

([15]) (وما) اسمٌ موصولٌ: مبتَدأٌ، (مِن التوكيدِ) جارٌّ ومجرورٌ متَعَلِّقٌ بمحذوفٍ حالٌ مِن الضميرِ الْمُسْتَكِنِّ في قولِه: (لَفْظِيٌّ) الآتي؛ لأنه في قُوَّةِ الْمُشْتَقِّ؛ إذ هو مَنسوبٌ، (لَفْظِيٌّ) خبَرٌ لمبتدأٍ مَحذوفٍ؛ أيْ: هو لَفْظِيٌّ، والجملةُ لا مَحَلَّ لها صِلَةُ الْمَوصولِ، (يَجِي) فعْلٌ مضارِعٌ، وفاعلُه ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقديرُه: هو، والجملةُ في مَحَلِّ رفْعٍ خَبَرُ المبتدأِ، (مُكَرَّراً) حالٌ مِن الضميرِ المستَتِرِ في يَجيءُ، (كقولِكَ) الجارُّ والمجرورُ متَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خَبَرُ مُبتَدَأٍ مَحذوفٍ؛ أيْ: وذلك كائِنٌ كقولِكَ، وقولِ مضافٌ وضميرُ المخاطَبِ مضافٌ إليه، (ادْرُجِي) فعْلُ أمْرٍ، وياءُ الْمُؤَنَّثَةِ المخاطَبَةِ فاعلٌ، (ادْرُجِي) توكيدٌ لسابِقِه.

([16]) 291 - هذا البيتُ يَكْثُرُ استشهادُ النُّحاةِ به، ولم يَنْسُبْهُ واحدٌ منهم لقائِلٍ مُعَيَّنٍ.
الإعرابُ: (فأينَ) اسمُ استفهامٍ، مَبنيٌّ على الفتْحِ في مَحَلِّ جَرٍّ بإلى محذوفٍ يَدُلُّ عليها ما بعْدَها، والأصْلُ: فإلى أينَ... إلخ، والجارُّ والمجرورُ متَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبَرٌ مقَدَّمٌ، (إلى أينَ) توكيدٌ لفْظِيٌّ، (النَّجَاةُ) مُبتدأٌ مؤَخَّرٌ، (ببَغْلَتِي) الجارُّ والمجرورُ متَعَلِّقٌ بالنَّجاةُ، وبَغْلَةِ مضافٌ وياءُ المتكلِّمِ مضافٌ إليه، (أَتاكِ) أتَى: فعْلٌ ماضٍ، والكافُ ضميرُ المخاطَبِ أو المخاطَبَةِ مَفعولٌ به، (أتاكِ) تَوكيدٌ لَفْظِيٌّ، (اللاحقونَ) فاعِلُ أَتَى الأوَّلِ، (احبِسِ) فعْلُ أمْرٍ، وفاعلُه ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجوباً تَقديرُه: أنتِ، (احبِسِ) تَوكيدٌ لَفْظِيٌّ.
الشاهِدُ فيه: قولُه: (إلى أينَ إلى أينَ)، وقولُه: (أَتاكَ أَتاكَ)، وقولُه: (احْبِسِ احْبِسِ)؛ ففِي كلِّ واحدٍ مِن الْمَوَاضِعِ الثلاثَةِ تَكَرَّرَ اللفْظُ الأوَّلُ بعَيْنِه، وهو مِن التوكيدِ اللفْظِيِّ.

([17]) مِن العُلماءِ مَن مَنَعَ أنْ يَكونَ قولُه تعالَى: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} مِن بابِ التوكيدِ اللفْظِيِّ، وعَلَّلَ ذلك بأنَّ التوكيدَ اللفْظِيَّ يُشتَرَطُ أنْ يكونَ اللفْظُ الثاني دَالاًّ على نفْسِ ما يَدُلُّ عيله اللفْظُ الأوَّلُ، والأمْرُ في الآيةِ الكريمةِ ليسَ كذلك؛ فإنَّ الدَّكَّ الثانِيَ غيرُ الدَّكِّ الأوَّلِ، والمعنى دَكًّا حاصلاً بعدَ دَكٍّ، وذهَبَ هؤلاءِ إلى أنَّ اللفظينِ معاً حالٌ، وهو مُؤَوَّلٌ بنَحْوِ: مُكَرَّراً دَكُّها، ومِثْلُه قولُه تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}. وجَعَلوا هاتينِ الآيتينِ نَظيرَ قولِهم: جاءَ القومُ رَجُلاً رَجُلاً، وعَلَّمْتُه الحسابَ باباً باباً.

([18]) (ولا) ناهِيَةٌ، (تُعِدْ) فعْلٌ مضارِعٌ مجزومٌ بلا الناهِيَةِ، والفاعِلُ ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجوباً تَقديرُه: أنتَ، (لفْظَ) مَفعولٌ به لتُعِدْ، ولفْظَ مضافٌ و(ضميرٍ) مضافٌ إليه، (متَّصِلْ) نعْتٌ لضميرٍ، (إلاَّ) أداةُ استثناءٍ، (معَ) ظرْفٌ متَعَلِّقٌ بمحذوفٍ حالٌ مِن (لفْظَ) الواقِعِ مَفعولاً به، ومعَ مضافٌ وقولُه: (اللفْظِ) مضافٌ إليه، (الذي) نعْتٌ للَّفْظِ، (به) جارٌّ ومجرورٌ متَعَلِّقٌ بقولِه: (وُصِل) الآتي، (وُصِلْ) فعْلٌ ماضٍ مَبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقديرُه: هو، يعودُ إلى الذي، والجملةُ لا مَحَلَّ لها صِلَةُ الْمَوصولِ.

([19]) (كذا) جارٌّ ومجرورٌ متَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، (الحروفُ) مُبتدأٌ مَؤَخَّرٌ، (غيرَ) منصوبٌ على الاستثناءِ، أو – بالرفْعِ – نعْتٌ للحروفُ، وغيرَ مضافٌ (وما) اسمٌ موصولٌ: مضافٌ إليه، (تَحَصَّلاَ) تَحَصَّلَ: فعْلٌ ماضٍ، والألِفُ للإطلاقِ، (به) جارٌّ ومجرورٌ متَعَلِّقٌ بتَحَصَّلَ، (جوابٌ) فاعِلُ تَحَصَّلَ، والجملةُ لا مَحَلَّ لها صِلَةُ الْمَوصولِ، (كنَعَمْ) جارٌّ ومجرورٌ متَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبَرُ مُبتدأٍ محذوفٍ، والتقديرُ: وذلك كائنٌ كنَعَمْ، (وكبَلَى) جارٌّ ومجرورٌ معطوفٌ على (كنَعَمْ).

([20]) قد وَرَدَ شاذًّا قولُ الشاعِرِ:
إنَّ إنَّ الكريمَ يَحْلُمُ ما لم = يَرَيَنْ مَن أَجارَه قد ضِيمَا

([21]) مِن ذلك قولُ جَميلِ بنِ مَعْمَرٍ العُذْرِيِّ:

لاَ لاَ أَبوحُ بِحُبِّ بُثْنَةَ إنَّهَا = أخَذَتْ عَلَيَّ مَوَاثِقاً وعُهُودَا

واعلَمْ أنَّ حُروفَ الجوابِ على ثَلاثةِ أَقسامٍ:
الأوَّلُ: ما يَقعُ بعْدَ الإيجابِ والنفيِ جَميعاً، وذلك أربعةُ أحرُفٍ، وهي: نَعَمْ وجَيْرِ، وأَجَلْ وإِي، فكلُّ واحدٍ مِن هذه الأحرُفِ الأربعةِ يَصِحُّ أنْ يُجابَ به بعْدَ الإثباتِ، ويَصِحُّ أنْ يُجابَ به بعْدَ النفْيِ، والمقصودُ بكلِّ واحدٍ منها أحَدُ أمورٍ ثلاثةٍ: تَصديقُ الْمُخْبِرِ، أو إعلامُ المستَخْبِرِ، أو إبعادُ الطالِبِ.
والقِسْمُ الثاني: ما لا يَقعُ إلا بعْدَ الإيجابِ، وهو (لا)، والمقصودُ به إبطالُ ما أَوْجَبَه المتكلِّمُ أوَّلاً.
والقِسْمُ الثالثُ: ما لا يَقَعُ إلاَّ بعْدَ النفيِ، وهو (بلى) خاصَّةً.

([22]) (ومُضْمَرَ) بالنصْبِ: مَفعولٌ به لفعْلٍ محذوفٍ يُفَسِّرُه ما بعْدَه، وبالرفْعِ مُبتدأٌ، وعلى كلِّ حالٍ هو مضافٌ و(الرفْعِ) مضافٌ إليه، (الذي) اسمٌ موصولٌ: نعْتٌ لِمُضْمَرَ الرفْعِ، (قد) حرْفُ تَحقيقٍ، (انْفَصَلْ) فعْلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقديرُه: هو، يعودُ إلى الاسمِ الموصولِ الواقعِ نَعْتاً، والجملةُ لا مَحَلَّ لها صِلَةُ الْمَوصولِ، (أَكِّدْ) فعْلُ أمْرٍ، وفاعلُه ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجوباً تَقديرُه: أنتَ، (به) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بأَكِّدْ، (كلَّ) مَفعولٌ به لأَكِّدْ، وكلَّ مضافٌ و(ضَميرٍ) مضافٌ إليه، وجُملةُ (اتَّصَلْ) وفاعلِه المستَتِرِ فيه جَوَازاً تَقديرُه: هو في مَحَلِّ جَرٍّ صِفةٌ لضَميرِ المضافِ إليه.

محمد أبو زيد 25 ذو الحجة 1429هـ/23-12-2008م 02:32 PM

أوضح المسالك لجمال الدين ابن هشام الأنصاري (ومعه هدي السالك للأستاذ: محمد محيي الدين عبد الحميد)
 

هذَا بَابُ التَّوكِيدِ
وهو ضَرْبَانِ: لَفْظِيٌّ وسيَأْتِي, ومعنَوِيٌّ ولَهُ سَبعَةُ أَلفَاظٍ([1]):
الأوَّلُ والثَّانِي: النَّفْسُ والعَيْنُ, ويُؤَكَّدُ بهِمَا لرَفْعِ المَجَازِ عن الذَّاتِ([2])، تقولُ: (جاءَ الخَلِيفَةُ) فيُحتَمَلُ أنَّ الجَائِيَ خَبَرُهُ أو ثَقَلُهُ, فإذا أَكَدَّت بالنَّفْسِ أو بالعَينِ أو بِهِما ارتَفَعَ ذلك الاحتِمَالُ.
ويَجِبُ اتِّصَالُهُمَا بضَمِيرٍ مُطَابِقٍ للمُؤَكَّدِ, وأن يَكُونَ لَفظُهُمَا طِبْقَهُ في الإفرَادِ والجَمْعِ, وأمَّا في التَّثْنِيَةِ فالأصَحُّ جَمعُهُمَا على أَفعُلٍ, ويَتَرَجَّحُ إفرَادُهُمَا على تَثنِيَتِهِمَا عندَ النَّاظِمِ, وغَيرُهُ بعَكسِ ذلكَ.
والألفَاظُ البَاقِيَةُ: كِلا وكِلتَا للمُثَنَّى, وكُلُّ وجَمِيعٌ وعَامَّةٌ لغَيرِهِ.
ويَجِبُ اتِّصَالُهُنَّ بضَمِيرِ المُؤَكَّدِ؛ فلَيسَ منهُ {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}([3])، خِلافاً لمَن وَهِمَ, ولا قِرَاءَةُ بَعضِهِم: (إِنَّا كُلاًّ فِيهَا)([4])، خِلافاً للفَرَّاءِ والزَّمَخْشَرِيِّ, بل (جَمِيعاً) حَالٌ, و(كُلاًّ) بَدَلٌ, ويَجُوزُ كَونُهُ حَالاً مِن ضَمِيرِ الظَّرْفِ.
ويُؤَكَّدُ بهِنَّ لرَفْعِ احتِمَالِ تَقدِيرِ بَعْضٍ مُضَافٍ إلى مَتبُوعِهِنَّ؛ فمِن ثَمَّ جَازَ (جَاءَنِي الزَّيْدَانِ كِلاهُمَا) و(المَرْأَتَانِ كِلتَاهُمَا) لجَوازِ أن يَكُونَ الأصلُ, جَاءَ أحدُ الزَّيْدَينِ أو إِحدَى المَرْأَتَينِ, كما قَالَ تعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ}([5]) بتَقدِيرِ يَخرُجُ مِن أَحَدِهِمَا, وامتَنَعَ علَى الأصَحِّ (اختَصَمَ الزَّيْدَانِ كِلاهُمَا) و(الهِندَانِ كِلتَاهُمَا) لامتِنَاعِ التَّقْدِيرِ المَذكُورِ, وجازَ (جَاءَ القَومُ كُلُّهُم) و(اشتَرَيْتُ العَبدَ كُلَّهُ) وامتنَعَ (جَاءَ زَيدٌ كُلُّهُ)([6]).
والتَّوكِيدُ بجَمِيعٍ غَرِيبٌ, ومنهُ قَولُ امرَأَةٍ:
401- فَِدَاكَ حَيُّ خَوْلانْ = جَمِيعُهُمْ وَهَمْدَانْ([7])
وكذلك التَّوكِيدُ بعَامَّةٍ, والتَّاءُ فيهَا بمَنزِلَتِهَا في النَّافِلَةِ؛ فتَصْلُحُ معَ المُؤَنَّثِ والمُذَكَّرِ([8])؛ فتَقُولُ: (اشتَرَيتُ العَبْدَ عَامَّتَهُ) كما قالَ اللَّهُ تعَالَى:
{وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً}([9]).
فَصلٌ: ويَجُوزُ -إذَا أُرِيدَ تَقوِيَةُ التَّوكِيدِ- أَن تُتبِعَ كُلَّهُ بأَجمَعَ, وكُلَّهَا بجَمْعَاءَ, وكُلَّهُم بأَجمَعِينَ, وكُلَّهُنَّ بجُمَعٍ, قالَ اللَّهُ تعَالَى: {فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}([10]).
وقد يُؤَكَّدُ بهِنَّ وإِن لم يَتَقَدَّمْ كُلُّ, نَحوُ: {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}([11]) {لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ}([12])، ولا يَجُوزُ تَثنِيَةُ أَجمَعَ ولا جَمعَاءَ استِغنَاءً بكلا وكِلتَا, كما استَغْنَوْا بتَثنِيَةِ سِيٍّ عَن تَثنِيَةِ سَوَاءٍ, وأَجَازَ الكُوفِيُّونَ والأخْفَشُ ذلك؛ فتَقُولُ: (جَاءَنِي الزَّيْدَانِ أَجمَعَانِ) و(الهِنْدَانِ جَمْعَاوَانِ).
وإذا لَمْ يُفِدْ تَوكِيدُ النَّكِرَةِ لَم يَجُزْ باتِّفَاقٍ, وإن أَفَادَ جَازَ عندَ الكُوفِيِّينَ, وهو الصَّحِيحُ, وتَحصُلُ الفَائِدَةُ بأَن يَكُونَ المُؤَكَّدُ مَحدُوداً والتَّوكِيدُ مِن أَلفَاظِ الإحَاطَةِ, كـ (اعتَكَفْتُ أسْبُوعاً كُلَّهُ) وقَولِهِ:
402- يَا لَيْتَ عِدَّةَ حَوْلٍ كُلِّهِ رَجَبُ([13])
ومَن أَنشَدَ (شَهْرٍ) مَكَانَ حَوْلٍ فقد حَرَّفَهُ, ولا يَجُوزُ (صُمْتُ زَمَناً كُلَّهُ) ولا (شَهْراً نَفسَهُ).
فَصلٌ: وإذَا أُكِّدَ ضَمِيرٌ مَرفُوعٌ مُتَّصِلٌ بالنَّفْسِ أو بالعَيْنِ, وَجَبَ تَوكِيدُهُ أَوَّلاً بالضَّمِيرِ المُنفَصِلِ, نَحوُ: (قُومُوا أَنتُمْ أَنفُسُكُمْ) بخِلافِ (قَامَ الزَّيْدُونَ أَنفُسُهُمْ)([14]) فيَمتَنِعُ الضَّمِيرُ, وبخِلافِ (ضَرَبْتُهُم أَنفُسَهُمْ), و(مَرَرْتُ بِهِم أَنفُسِهِمْ)([15])، و(قَامُوا كُلُّهُم)([16])، فالضَّمِيرُ جَائِزٌ لا وَاجِبٌ.
وأمَّا التَّوكِيدُ اللَّفْظِيُّ فهو: اللَّفْظُ المُكَرَّرُ بهِ ما قَبلُهُ.
فإِن كَانَ جُملَةً فالأكثَرُ اقتِرَانُهَا بالعَاطِفِ([17])، نَحوُ: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ}([18])، ونَحوُ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}([19]) وتَأتِي بدُونِهِ, نَحوُ قَولِهِ صَلَّى اللَّهُ علَيهِ وسَلَّمَ: ((وَاللَّهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً)) ثَلاثَ مَرَّاتٍ, ويَجِبُ التَّرْكُ عندَ إِيهَامِ التَّعَدُّدِ, نحوُ: (ضَرَبْتُ زَيداً ضَرَبْتُ زَيداً).
وإِن كَانَ اسماً ظَاهِراً أو ضَمِيراً مُنفَصِلاً مَنصُوباً فوَاضِحٌ, نَحوُ: ((فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ)) وقَولُهُ:
403- فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ المِرَاءَ فَإِنَّهُ([20])
وإِن كَانَ ضَمِيراً مُنفَصِلاً مَرفُوعاً, جازَ أن يُؤَكَّدَ بهِ كُلُّ ضَمِيرٍ مُتَّصِلٍ([21])، نَحوُ: (قُمْتَ أَنْتَ) و(أَكرَمْتُكَ أَنتَ) و(مَرَرتُ بكَ أَنْتَ).
وإِن كانَ ضَمِيراً مُتَّصِلاً وُصِلَ بمَا وُصِلَ به المُؤَكَّدُ, نحوُ: (عَجِبْتُ مِنْكَ مِنْكَ)([22]).
وإِن كانَ فِعلاً أو حَرفاً جَوَابِيًَّا فوَاضِحٌ, كقَولِكَ: (قَامَ قامَ زَيدٌ) وقَولِهِ:
404- لاَ لاَ أَبُوحُ بِحُبِّ بُثْنَةَ إِنَّهَا([23])
وإِن كَانَ غَيرَ جَوَابِيٍّ, وَجَبَ أَمرَانِ: أن يُفصَلَ بَينَهُمَا, وأَن يُعَادَ معَ التَّوكِيدِ مَا اتَّصَلَ بالمُؤَكَّدِ إن كانَ مُضمَراً, نَحوُ: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ}([24]) وأن يُعَادَ هو أو ضَمِيرُهُ إن كانَ ظَاهِراً, نحوُ: (إِنَّ زَيداً إنَّ زَيداً فَاضِلٌ) أو (إنَّ زَيداً إنَّهُ فَاضِلٌ) وهو الأولَى([25])، وشَذَّ اتِّصَالُ الحَرْفَينِ, كقَولِهِ:
405- إِنَّ إِنَّ الكَرِيمَ يَحلُمُ مَا لَمْ([26])
وأَسهَلُ منهُ قَولُهُ:
406- حَتَّى تَرَاهَا وَكَأَنَّ وكَأَنّْ([27])
لأنَّ المُؤَكَّدَ حَرْفَانِ؛ فلَم يَتَّصِلْ لَفظٌ بمِثْلِهِ, وأَشَذُّ منهُ قَولُهُ:
407- وَلاَ لِلِمَا بِهِمْ أَبَداً دَوَاءُ([28])
لِكَونِ الحَرفِ علَى حَرفٍ وَاحِدٍ.
وأَسهَلُ مِنهُ قَولُهُ:
408- فَأَصْبَحَ لاَ يَسْأَلْنَهُ عَنْ بِمَا بِهِ([29])
لأنَّ المُؤَكَّدَ علَى حَرفَينِ ولاختِلافِ اللَّفْظَينِ.


([1]) لَمَّا كَانَت أَلْفَاظُ التَّوْكِيدِ المَعْنَوِيِّ مَحْصُورَةً لَمْ يَحْتَجِ النُّحَاةُ إلى تَعْرِيفِهِ، لَكِنْ يَرُدُّ علَى هذا الحَصْرِ أنَّهُ قَدْ يُقَالُ: (زَارَنِي القَوْمُ ثُلاثَتُهُم) أو يُقَالُ (أَمَّا القَوْمُ فقَدْ زَارُونِي ثُلاثَتُهُم) برَفْعِ ثُلاثَتُهُم في المِثَالَينِ على أنَّهُ تَوْكِيدٌ، ولَمْ يَذْكُرِ المُؤَلِّفُ ولا غَيْرُهُ مِنَ النُّحَاةِ – حينَ يَعِدُّونَ أَلْفَاظَ التَّوْكِيدِ المَعْنَوِيِّ – لَفْظَ (ثَلاثَةٌ) وأَخَوَاتِهِ، وعلَى هذَا يَكُونُ قَوْلُ المُؤَلِّفِ: (ولَهُ سَبْعَةُ أَلْفَاظٍ) غَيْرُ سَدِيدٍ.
والجَوَابُ عَن هذَا أنَّهُم – حِينَ يَعِدُّونَ أَلْفَاظَ التَّوْكِيدِ المَعْنَوِيِّ – إنَّمَا يَذْكُرُونَ الأَلْفَاظَ التي اشتَهَرَ استِعْمَالُهَا في هذا المَعْنَى، فلا يُنَافِي أنَّ هُنَاكَ أَلْفَاظاً غَيْرَهَا تُسْتَعْمَلُ أَحْياناً في التَّوْكِيدِ المَعْنَوِيِّ، ولكنَّهَا لم تَشْتَهِرْ، ثُمَّ إِنَّ هذَينِ المِثَالَينِ اللذين ذَكَرْتُهُمَا لكَ يَجُوزُ في كُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمَا نَصْبُ (ثُلاثَتُهُم) علَى أنَّهُ حَالٌ.

([2]) الذي يَدُلُّ عليهِ صَنِيعُ المُؤَلِّفِ أنَّهُ قدْ أرَادَ مِن قَوْلِهِ: (المَجَازِ عَنِ الذَّاتِ) استِعْمَالَ اللَّفْظِ المَوْضُوعِ للدِّلالَةِ على ذَاتٍ مُعَيَّنَةٍ في غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وذلك مِن جِهَتَينِ؛ الأولَى أنَّهُ جَعَلَ هذا غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ فِي التَّوْكِيدِ بالألفَاظِ البَاقِيَةِ مِن أنَّهُ لرَفْعِ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، والثَّانِي أنَّ تَقْدِيرَ المُضَافِ يَلْزَمُ مِنْهُ بَقَاءُ اللَّفْظِ الأوَّلِ على مَعْنَاهُ الأَصْلِيِّ، فلا يَكُونُ ثَمَّةَ تَجَوُّزٍ فيهِ، ولتَوْضِيحِ ذلك نُحِبُّ أن نُبَيِّنَ لكَ أنَّكَ لو قُلْتَ: (زَارَنِي الخَلِيفَةُ) وأنت تُرِيدُ أنَّ الخَلِيفَةَ نَفْسَهُ زَارَكَ؛ فالكَلامُ حَقِيقَةٌ واللَّفْظُ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وإِن كُنْتَ إنَّمَا أَرَدْتَ بِلَفْظِ الخَلِيفَةِ رَسُولَهُ للمُلابَسَةِ بَيْنَهُمَا فقَد استَعْمَلْتَ لَفْظَ الخَلِيفَةِ في غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وإِن كُنْتَ قَصَدْتَ أنَّ الكَلامَ علَى حَذْفِ مُضَافٍ فلَفْظُ الخَلِيفَةِ بَاقٍ علَى مَعْنَاهُ الأَصْلِيِّ ولكنَّهُ ليسَ هُو الزَّائِرَ، بَل الزَّائِرُ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، وكأنَّكَ قُلْتَ: (زَارَنِي رَسُولُ الخَلِيفَةِ).

([3]) سورة البقرة، الآية: 29.

([4]) سورة غافر، الآية: 48.

([5]) سورة الرحمن، الآية: 22.

([6]) إذَا عَطَفْتَ اسْماً علَى اسْمٍ، نَحْوُ قَوْلِكَ: (جَاءَ زَيْدٌ وخَالِدٌ) فهَلْ يَجُوزُ تَوْكِيدُ المَعْطُوفِ أو المَعْطُوفِ علَيْهِ؟ اختلَفَ النُّحَاةُ في ذلكَ، فذَهَبَ هِشَامٌ إلى أنَّهُ لا يَجُوزُ لكَ أن تُؤَكِّدَ أَحَدَ الاسمَيْنِ، ولا كِلَيْهِمَا، فلا تَقُولُ: (جاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ وخَالِدٌ)، ولا تَقُولُ: (جاءَ زَيْدٌ وخَالِدٌ نَفْسُهُ)، ولا تَقُولُ: (جَاءَ زَيْدٌ وخَالِدٌ أَنْفُسُهُمَا – أو نَفْسَاهُمَا) وَوَجْهُ ما ذَهَبَ إليهِ هِشَامٌ ما زَعَمَهُ مِن أنَّكَ عَطَفْتَ الاسمَ الثَّانِيَ علَى الاسْمِ الأوَّلِ أَنْبَأْتَ مُخَاطِبَكَ بأنَّكَ رَوَّيْتَ في الأَمْرِ ولم تَغْلَطْ في ذِكْرِ أَحَدِهِمَا، وأنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنَاهُ الذي وُضِعَ لَهُ، فلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ [مَجَالٌ] لذِكْرِ التَّوْكِيدِ؛ لأنَّهُ إنَّمَا يُؤْتَى بهِ لدَفْعِ التَّجَوُّزِ أو ما عسَى أن يَكُونَ قد حدَثَ مِن الغَلَطِ أو السَّهْوِ، واختَارَ المُحَقِّقُ رَضِيُّ الدِّينِ أنَّ التَّوْكِيدَ جَائِزٌ معَ عَطْفِ أحَدِ الاسمَيْنِ على الآخَرِ، ووَجْهُ ما ذَهَبَ إليهِ الرَّضِيُّ أنَّهُ لا تَلازُمَ بينَ العَطْفِ والتَّرَوِّي في الكَلامِ، وأنَّ احتِمَالَ السَّهْوِ أو الغَلَطِ أو التَّجَوُّزِ بَاقٍ معَ العَطْفِ كما كانَ قَبْلَهُ، قالَ الرَّضِيُّ: (وقالَ هِشَامٌ: إذَا عَطَفْتَ علَى شَيْءٍ لمْ يَحْتَجْ إلَى تَأْكِيدٍ، ولعَلَّهُ نَظَر إلى أنَّ العَطْفَ علَيهِ دَالٌّ علَى أنَّكَ لَمْ تَغْلَطْ فيهِ، والأَوْلَى الجَوَازُ، نَحْوُ: ضُرِبَ زَيْدٌ زَيْدٌ وعَمْرٌو؛ لأنَّكَ رُبَّمَا تَجَوَّزْتَ في نِسْبَةِ الضَّرْبِ إلى زَيْدٍ، أو رُبَّمَا غَلَطْتَ في ذِكْرِ زَيْدٍ، وأَرَدْتَ ضَرْبَ بَكْرٍ، وعطَفْتَ بِنَاءً على أنَّ المَذْكُورَ بَكْرٌ) اهـ كَلامُهُ، ومعَ تَمْثِيلِهِ لهذه المَسْأَلَةِ بمِثَالٍ مِن التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ يَجِبُ ألا تَظُنَّ الحُكْمَ الذي يُقَرِّرُه فِيهَا خَاصًّا بالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ، وآيَةُ ذلكَ أنَّهُ لمَّا أرَادَ ذِكْرَ الخِلافِ في صَدْرِ كَلامِهِ قالَ: (إِذَا عَطَفْتَ علَى شَيْءٍ لَمْ يَحْتَجْ إلى تَأْكِيدٍ) ولم يُقَيِّدْهُ بلَفْظِيٍّ ولا مَعْنَوِيٍّ، ثُمَّ قالَ بعدَ ذلك: (والأَوْلَى الجَوَازُ)؛ أي: جَوَازُ مَا مَنَعَهُ القَائِلُ الأوَّلُ، وهو جَوَازُ التَّأْكِيدِ على عُمُومِهِ، فتَفَطَّنْ لذلك، واللَّهُ يُرْشِدُكَ.

([7]) 401-هذا بَيْتٌ مِن مَجْزُوءِ الرَّجَزِ، وهذا البَيْتُ لامْرَأَةٍ كَانَتْ تُرَقِّصُ بهِ وَلَدَهَا، وبَعْدَهُ قَوْلُهَا:
وَكُلُّ آلِ قَحْطَانْ = وَالأَكْرَمُونَ عَدْنَانْ
اللُّغَةُ: (فِدَاكَ) يَجُوزُ في هَذِهِ الكَلِمَةِ أن تُقْرَأَ بفَتْحِ الفَاءِ فتَكُونُ فِعْلاً مَاضِياً، كما تَقُولُ: فَدَى فُلانٌ فُلاناً يَفْدِيهِ – مِثْلَ رَمَى الشَّيْءَ يَرْمِيهِ – ويَجُوزُ أن تُقْرَأَ بكَسْرِ الفَاءِ كما تَقُولُ: فِدَى لَكَ نَفْسِي، وفِدَاكَ أَبِي وأُمِّي، وقد يُقَالُ: فِدَاءٌ لكَ نَفْسِي، بالمَدِّ، كما قالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ:
مَهْلاً فِدَاءٌ لَكَ الأَقْوَامُ كُلُّهُمُ = وَمَا أُثَمِّرُ مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدٍ
(خَوْلانْ) بفَتْحِ الخَاءِ المُعْجَمَةِ وسُكُونِ الوَاوِ – قَبِيلَةٌ مِن قَبَائِلِ اليَمَنِ. (هَمْدَانْ) بفَتْحٍ فسُكُونٍ أَيْضاً – قَبِيلَةٌ أُخْرَى مِن قَبَائِلِ اليَمَنِ، ومِنْهَا وَرَدَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَلَوْ كُنْتُ بَوَّاباً عَلَى بَابِ جَنَّةٍ = لَقُلْتُ لِهَمْدَانَ ادْخُلُوا بِسَلامِ
(قَحْطَانْ) بفَتْحٍ فسُكُونٍ – هو أَبُو العَرَبِ اليَمَانِيَّةِ. (عَدْنَانْ) بفَتْحٍ فسُكُونٍ – أَبُو عَرَبِ الحِجَازِ.
الإعرَابُ: (فِدَاكَ) إِنْ قَرَأْتَهُ بكَسْرِ الفَاءِ فهو مُبْتَدَأٌ مَرْفُوعٌ بضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ على الألِفِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا التَّعَذُّرُ، وهو مُضَافٌ وكَافُ المُخَاطَبِ مُضَافٌ إليهِ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ في مَحَلِّ جَرٍّ، و(حَيُّ) خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وإِنْ قَرَأْتَ (فَدَاكَ) بفَتْحِ الفَاءِ فهو فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على فَتْحٍ مُقَدَّرٍ علَى الألِفِ، وكافُ المُخَاطَبِ مَفْعُولٌ بهِ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ في مَحَلِّ نَصْبٍ، و(حَيُّ) فَاعِلٌ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وعلى كُلِّ حَالٍ "حَيُّ" مُضَافٌ و(خَوْلانْ) مُضَافٌ إلَيهِ مَجْرُورٌ بالفَتْحَةِ نِيَابَةً عن الكَسْرَةِ؛ لأنَّهُ لا يَنْصَرِفُ للعَلَمِيَّةِ وزِيَادَةِ الألِفِ والنُّونِ، وسَكَّنَهُ لأَجْلِ الوَقْفِ. (جَمِيعُهُمْ) جَمِيعُ: تَوْكِيدٌ لحَيُّ خَوْلانْ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وجَمِيعُ مُضَافٌ وضَمِيرُ الغَائِبِينَ مُضَافٌ إليهِ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ. (وَهَمْدَانْ) الوَاوُ حَرْفُ عَطْفٍ، وهَمْدَانْ: مَعْطُوفٌ علَى خَوْلانْ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهَا: (جَمِيعُهُم) حيثُ جَاءَ هذا اللَّفْظُ تَوْكِيداً للفَاعِلِ أو الخَبَرِ، والمَقْصُودُ بهِ رَفْعُ احتِمَالِ التَّجَوُّزِ بإِرَادَةِ البَعْضِ وإِطلاقِ اسْمِ الكُلِّ علَيهِ.

([8]) هَهُنَا شَيْئَانِ أُحِبُّ أن أُنَبِّهَكَ إلَيْهِمَا:
الأوَّلُ: أنَّ ابنَ مَالِكٍ يَقُولُ في الأَلْفِيَّةِ:
وَاسْتَعْمَلُوا أَيْضاً كَكُلٍّ فَاعِلَهْ = مِنْ عَمَّ فِي التَّوْكِيدِ، مِثْلِ النَّافِلَهْ
وقد ذَكَرَ ابْنُهُ في شَرْحِهِ علَى الأَلْفِيَّةِ أنَّ قَوْلَهُ: (مِثْلِ النَّافِلَهْ) مَعْنَاهُ أنَّ ذِكْرَ هذا اللَّفْظِ في هذَا البَابِ زَائِدٌ على ما ذَكَرَهُ النُّحَاةُ، فإنَّ أَكْثَرَهُم أَغْفَلَ ذِكْرَهُ، فكمَا أنَّ النَّافِلَةَ زِيَادَةٌ على ما فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى علَى عِبَادِهِ يَكُونُ ذِكْرُ لَفْظِ (عَامَّة) فِي أَلْفَاظِ التَّوْكِيدِ زِيَادَةٌ علَى مَا ذَكَرَ النُّحَاةُ مِن أَلْفَاظِهِ، وقَدْ ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ هنا أنَّ المُرَادَ بهذا التَّشْبِيهِ أنَّ التَّاءَ فِي (عَامَّةٍ) مِثْلَ التَّاءِ في لَفْظِ (نَافِلَةٍ) يُؤْتَى بِهَا معَ المُذَكَّرِ ومعَ المُؤَنَّثِ، وليسَ ذِكْرُهُ استِدْرَاكاً علَى النُّحَاةِ.
الأمْرُ الثَّانِي: أنَّ اعتِبَارَ لَفْظِ (عَامَّة) بمَعْنَى جَمِيعٍ ومَجِيئَهُ تَوْكِيداً هو مَذْهَبُ سِيْبَوَيْهِ إِمَامِ النُّحَاةِ، وذَهَبَ أَبُو العَبَّاسِ المُبَرِّدُ إلى أنَّ مَعْنَى (عَامَّتُهُم) في قَوْلِكَ (جَاءَ القَوْمُ عَامَّتُهُم) هو أَكْثَرُهُم، وليسَ مَعْنَاهُ جَمِيعُهُم، وعلى هذا يَكُونُ هذا اللَّفْظُ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، ويَكُونُ ذِكْرُهُ في الكَلامِ لتَخْصِيصِ الجَائِينَ بكَوْنِهِم أَكْثَرَ القَوْمِ، بخِلافِهِ على مَذْهَبِ سِيْبَوَيْهِ فإنَّ ذِكْرَهُ عِنْدَهُ للتَّعْمِيمِ.

([9]) سورة الأنبياء، الآية: 72.

([10]) سورة الحجر، الآية: 30.

([11]) سورة ص، الآية: 83.

([12]) سورة الحجر، الآية: 43.

([13]) 402-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مُسْلِمِ بنِ جُنْدُبٍ الهُذَلِيِّ، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ ههنا عَجُزُ بَيْتٍ مِن البَسِيطِ، وصَدْرُهُ قَوْلُهُ:
*لَكِنَّهُ شَاقَهُ أَنْ قِيلَ ذَا رَجَبٌ*
وهكَذا يَرْوِي النُّحَاةُ عَجُزَ البَيْتِ، والصَّوَابُ أنَّهُ بنَصْبِ (رَجَبَ)؛ لأنَّهُ مِن قَصِيدَةٍ مَنْصُوبَةِ الرَّوِيِّ، ومَطْلَعُهَا:
يَا لَلرِّجَالِ لِيَوْمِ الأَرْبِعَاءِ، أَمَا = يَنْفَكُّ يُحْدِثُ لِي بَعْدَ النُّهَى طَرَبَا
اللُّغَةُ: (شَاقَهُ) أَعْجَبَهُ، أو بَعَثَ الشَّوْقَ إلى نَفْسِهِ، ويَدُلُّ للمَعْنَى الأوَّلِ قَوْلُ الشَّاعِرِ (وهو الشَّاهِدُ رَقْمُ 342 المَاضِي).
صَرِيعُ غَوَانٍ شَاقَهُنَّ وَشُقْنَهُ = لَدُنْ شَبَّ حَتَّى شَابَ سُودُ الذَّوَائِبِ
(حَوْلٍ) بفَتْحِ الحَاءِ وسُكُونِ الوَاوِ – هو العَامُ، وأَنشَدَهُ ابنُ النَّاظِمِ تَبَعاً لوَالِدِه (يَا لَيْتَ عِدَّةَ شَهْرٍ) وقالَ الشَّيْخُ خَالِدٌ تَبَعاً للمُؤَلِّفِ هنا: هو تَحْرِيفٌ يُفْسِدُ المَعْنَى؛ لأنَّهُ لا يُتَصَوَّرُ أن يَتَمَنَّى أن يَكُونَ الشَّهْرَ كُلَّهُ رَجَباً، فإنَّ الشَّهْرَ الوَاحِدَ لا يَكُونُ بَعْضُهُ رَجَباً وبَعْضُهُ غَيْرَ رَجَبٍ حتَّى يَتَمَنَّى أن يَكُونَ كُلُّهُ رَجَباً، ولكنَّ الشَّاعِرَ يَتَمَنَّى أن تَكُونَ شُهُورُه كُلُّهَا رَجَباً.
ومِمَّا يُسْأَلُ هَهُنَا: هَلْ (رَجَبٌ) مُنْصَرِفٌ أو مَمْنُوعٌ مِن الصَّرْفِ؟ وقد ذَكَرَ سَعْدُ الدِّينِ التَّفْتَازَانِيُّ في حَاشِيَتِهِ على (تَفْسِيرِ الكَشَّافِ) أنَّهُ إذا أُرِيدَ برَجَبٍ – ومِثْلُهُ صَفَرٍ – مُعَيَّنٌ فإنَّهُمَا مَمْنُوعَانِ مِنَ الصَّرْفِ، وإذا أُرِيدَ بهِمَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ فهُمَا مَصْرُوفَانِ.
ويُسْأَلُ – بعدَ ذَلِكَ – عَن عِلَّةِ مَنْعِهِمَا مِن الصَّرْفِ، والجَوَابُ عن ذلك أنَّ العُلَمَاءَ سَلَكُوا في بَيَانِ العِلَّةِ مَسْلَكَيْنِ، أَوَّلَهُمَا أنَّ عِلَّةَ مَنْعِهِمَا مِن الصَّرْفِ العَلَمِيَّةُ والعَدْلُ عَن الرَّجَبِ والصَّفَرِ المُقْتَرِنَيْنِ بأَل، كما أنَّ (سَحَرَ) المُرَادَ بهِ مُعَيَّنٌ مَمْنُوعٌ مِن الصَّرْفِ للعَدْلِ عَن السَّحَرِ، والمَسْلَكَ الثَّانِي أنَّ المَانِعَ مِن الصَّرْفِ لرَجَبٍ ولِصَفَرٍ هو العَلَمِيَّةُ والتَّأْنِيثُ المَعْنَوِيُّ لكَوْنِهِمَا عِبَارَةً عَن مُدَّةٍ مِن الزَّمَانِ مُعَيَّنَةً.
الإعرَابُ: (لَكِنَّهُ) لَكِنَّ: حَرْفُ اسْتِدْرَاكٍ ونَصْبٍ مَبْنِيٌّ علَى الفَتْحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرَابِ، والضَّمِيرُ اسمُهُ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ نَصْبٍ. (شَاقَهُ) شَاقَ: فِعْلٌ مَاضٍ، وضَمِيرُ الغَائِبِ مَفْعُولٌ بهِ. (أَنْ) حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ. (قِيلَ) فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ. (ذَا) اسمُ إِشَارَةٍ مُبْتَدَأٌ. (رَجَبٌ) خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وجُمْلَةُ المُبْتَدَأِ وخَبَرِهِ في مَحَلِّ رَفْعٍ نَائِبُ فَاعِلٍ "قِيلَ"، و"أَن" المَصْدَرِيَّةِ معَ ما دَخَلَت علَيْهِ في تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَرْفُوعٍ فَاعِلُ شَاقَ، وجُمْلَةُ شَاقَ وفَاعِلِه في مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرُ لَكِنَّ. (يا) حَرْفُ نِدَاءٍ والمُنَادَى مَحْذُوفٌ، أو حَرْفُ تَنْبِيهٍ. (لَيْتَ) حَرْفُ تَمَنٍّ ونَصْبٍ. (عِدَّةَ) اسْمُ لَيْتَ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، وعِدَّةَ مُضَافٌ و(حَوْلٍ) مُضَافٌ إليهِ مَجْرُورٌ بالكَسْرَةِ الظَّاهِرَةِ. (كُلِّهِ) كُلِّ: تَوْكِيدٌ لحَوْلٍ مَجْرُورٌ بالكَسْرَةِ الظَّاهِرَةِ، وكُلِّ مُضَافٌ وضَمِيرُ الغَائِبِ العَائِدُ إلى الحَوْلِ مُضَافٌ إليهِ مَبْنِيٌّ على الكَسْرِ في مَحَلِّ جَرٍّ. (رَجَبُ) خَبَرُ لَيْتَ، مَرْفُوعٌ وعَلامَةُ رَفْعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ في آخِرِه، هكذا يَقُولُ النُّحَاةُ، والصَّوَابُ – كما قُلْنَا في مَطْلَعِ الكَلامِ على هذا الشَّاهِدِ – أنَّهُ بنَصْبِ (رَجَبَا) فإمَّا أن يَكُونَ الشَّاعِرُ قد جَرَى على اللُّغَةِ الضَّعِيفَةِ التي تَنْصِبُ بلَيْتَ وأَخَوَاتِهَا الجُزْأَيْنِ وإمَّا أن يَكُونَ (رَجَبَا) مَفْعُولاً بهِ لفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقَعُ جُمْلَتُهُ خَبَرَ لَيْتَ، والتَّقْدِيرُ: يَا لَيْتَ عِدَّةَ حَوْلٍ كُلِّهِ تُشْبِهُ رَجَباً.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (حَوْلٍ كُلِّهِ) حيثُ أَكَّدَ النَّكِرَةَ التي هي قَوْلُه: (حَوْلٍ) لِمَا كَانَتِ النَّكِرَةُ مَحْدُودَةً؛ لأنَّ العَامَ مَعْلُومُ الأَوَّلِ والآخِرِ وكانَ لَفْظُ التَّوْكِيدِ مِن الألفَاظِ الدَّالَّةِ على الإحَاطَةِ وهو قَوْلُه: (كُلِّهِ)، وتَجْوِيزُ ذلك هو مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ، وهو المَرْضِيُّ عندَ ابنِ مَالِكٍ.
وَبَيَانُ ذلك أنَّ النَّكِرَةَ تَنْقَسِمُ إلى قِسْمَيْنِ:
الأوَّلُ: النَّكِرَةُ المَحْدُودَةُ – وهي التي تَدُلُّ على مُدَّةٍ مَعْلُومَةِ المِقْدَارِ – نَحْوُ أُسْبُوعٍ، ويَوْمٍ، ولَيْلَةٍ وشَهْرٍ، وحَوْلٍ. والثَّانِي: النَّكِرَةُ غَيْرُ المَحْدُودَةِ – وهي التي تَصْلُحُ للقَلِيلِ وللكَثِيرِ، نَحْوُ زَمَنٍ، ووَقْتٍ، وحِيْنٍ، ومُدَّةٍ، ومُهْلَةٍ، وسَاعَةٍ.
فأمَّا النَّكِرَةُ غَيْرُ المَحْدُودَةِ فلا خِلافَ في أنَّهُ لا يَجُوزُ تَوْكِيدُهَا؛ لأنَّ لا فَائِدَةَ فِي تَوْكِيدِهَا، ألا تَرَى أنَّكَ لو قُلْتَ: (قد انتَظَرْتُكَ وَقْتاً كُلَّهُ) لم يَكُنْ لذِكْرِ "كُلَّهُ" فَائِدَةٌ؛ لأنَّ الوَقْتَ يَجُوزُ أن يَكُونَ لَحْظَةً، ويَجُوزُ أن يَكُونَ زَمَناً مُتَطَاوِلاً.
وأمَّا النَّكِرَةُ المَحْدُودَةُ فقَد ذَهَبَ الكُوفِيُّونَ إلى أنَّهُ يَجُوزُ تَوْكِيْدُهَا بلَفْظٍ مِن أَلْفَاظِ التَّوْكِيدِ الدَّالَّةِ على الإحَاطَةِ والشُّمُولِ ككُلٍّ وجَمِيعٍ أو جُمَعَ، وقد استَدَلُّوا على ذلك بدَلِيلَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: وُرُودُهُ عَن العَرَبِ المُحْتَجِّ بكَلامِهِم كالبَيْتِ المُسْتَشْهَدِ بهِ، وكقَوْلِ الرَّاجِزِ:
*قَدْ صِرْتُ البكْرَةَ يَوْماً أَجْمَعَا*
وكقَوْلِ الرَّاجِزِ الآخَرِ:
*تَحْمِلُنِي الذَّلْفَاءُ حَوْلاً أَكْتَعَا*
وثَانِيهُمَا: حُصُولُ الفَائِدَةِ، أفَلَسْتَ تَرَى أنَّ مَنْ قَالَ لكَ: (قَد انتَظَرْتُكَ يَوْماً) قَد يَعْنِي أنَّهُ انتَظَرَك زَمَناً مُعَيَّنَ الأوَّلِ والآخَرِ مِقْدَارُهُ يَوْمٌ، وقَد يَعْنِي أنَّ زَمَنَ انتِظَارِهِ يُقَارِبُ اليَوْمَ إمَّا نِصْفَهُ وإمَّا ثُلُثَيْهِ، وأنَّهُ تَجَوَّزَ في استِعْمَالِ لَفْظِ اليَوْمِ فاستَعْمَلَهُ في أَكْثَرِ مَا يَدُلُّ علَيْهِ مِن الزَّمَنِ أو في أَقَلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ، فإذَا قالَ لكَ: (انتَظَرْتُكَ يَوْماً كُلَّهُ) فقَد أزَالَ بلَفْظِ (كُلَّهُ) الاحتِمَالَ، وألَسْتَ تَرَى أنَّ مَنْ قَالَ: (صُمْتُ شَهْراً) قد يُرِيدُ جَمِيعَ الشَّهْرِ، وقَد يُرِيدُ أَكْثَرَهُ وأنَّهُ جَعَلَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ شَهْراً؛ لأنَّ الأَكْثَرَ يُعْطَى حُكْمَ الجَمِيعِ؟ ففِي قَوْلِهِ هذا احتِمَالٌ لكُلِّ وَاحِدٍ مِن هذَينِ الوَجْهَينِ، فإذَا قالَ لكَ: (صُمْتُ شَهْراً كُلَّهَ) فقَدْ رَفَعَ بلَفْظِ (كُلَّهُ) احتِمَالَ أنَّهُ أَطْلَقَ اللَّفْظَ الدَّالَّ على الكُلِّ وأَرَادَ بهِ أَكْثَرَ هذَا الكُلِّ، وصارَ كَلامُهُ نَصًّا في مَقْصُودِهِ غَيْرَ مُحْتَمِلٍ إلاَّ وَجْهاً وَاحِداً، قالَ ابنُ مَالِكٍ في تَأْيِيدِ مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ في هذه المَسْأَلَةِ: (فلو لمْ يُنْقَلِ استِعْمَالُهُ عَن العَرَبِ لكانَ جَدِيراً بأَن يُسْتَعْمَلَ قِيَاساً، فكيفَ بهِ واستِعْمَالُهُ ثَابِتٌ – ثُمَّ ذَكَرَ ما أَثَرْنَاهُ لكَ آنِفاً مِن الشَّوَاهِدِ) اهـ كلامُهُ.

([14]) المُؤَكَّدُ في هذَا المِثَالِ اسْمٌ ظَاهِرٌ، وهو الزَّيْدُونَ، فلا يُؤَكَّدُ بالضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ قَبْلَ التَّأْكِيدِ بالنَّفْسِ أو بالعَيْنِ؛ لأنَّ الضَّمِيرَ لا يُؤَكِّدُ الاسمَ الظَّاهِرَ، لكَوْنِ الضَّمِيرِ أَعْرَفَ مِن الاسمِ الظَّاهِرِ.

([15]) المُؤَكَّدُ في هذينِ المِثَالَيْنِ ضَمِيرٌ غَيْرُ ضَمِيرِ الرَّفْعِ، فإنَّهُ في أوَّلِ المِثَالَيْنِ مَنْصُوبُ المَحَلِّ على المَفْعُولِيَّةِ، وفي المِثَالِ الثَّانِي مَجْرُورُ المَحَلِّ بالبَاءِ، ومِن أَجْلِ ذلك لا يَلْزَمُ تَوْكِيدُه بالضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ قَبْلَ تَوْكِيدِهِ بالنَّفْسِ أو بالعَيْنِ، لكنَّهُ معَ ذلك لا يَمْتَنِعُ تَوْكِيدُهُ، فيَجُوزُ أن نَقُولَ: (ضَرَبْتُهُم هُم أَنْفُسَهُم) وأن تَقُولَ: (مَرَرْتُ بهِم هم أَنْفُسِهِم) كما قُلْتَ: (ضَرَبْتُهُم أَنْفُسَهُم، ومَرَرْتُ بهِم أَنْفُسِهِم).

([16]) التَّوْكِيدُ في هذا المِثَالِ بلَفْظِ (كُلُّ) لا بِالنَّفْسِ أو العَيْنِ. فلا يَلْزَمُ تَوْكِيدُ الضَّمِيرِ المُتَّصِلِ المُؤَكَّدِ بكُلِّ هذِه بالضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ، لكنَّهُ ليسَ يَمْتَنِعُ أَيْضاً، فيَجُوزُ أن تَقُول: (قَامُوا هُم كُلُّهُم) كما قُلْتَ: (قَامُوا كُلُّهُم).

([17]) نَصَّ أبُو حَيَّانَ في (الارْتِشَافِ) علَى أنَّ حَرْفَ العْطَفِ الذي يَعْطِفُ الجُمْلَةَ المُؤَكَّدَةَ على الجُمْلَةِ قَبْلَهَا هو (ثُمَّ) ولكنَّهُ لم يُصَرِّحْ بأنَّهُ لا يَجُوزُ العَطْفُ بغَيْرِ هذا الحَرْفِ، ولم يُمَثِّلِ ابنُ مَالِكٍ في (شَرْحِ التَّسْهِيلِ) إلا بمَا كانَ العَاطِفُ في (ثُمَّ) لكنَّ المُحَقِّقَ الرَّضِيَّ صَرَّحَ بأنَّ الفَاءَ مِثْلُ ثُمَّ في هذا المَوْضِعِ.

([18]) سورة النبأ، الآيتان: 4و5.

([19]) سورة القيامة، الآيتان: 34و35، ومِن أَمْثِلَةِ ذلك أَيْضاً قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ*ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}.

([20]) 403-نُسِبَ هذا الشَّاهِدُ إلى الفَضْلِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ القُرَشِيِّ، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ ههنا صَدْرُ بَيْتٍ مِن الطَّوِيلِ، وعَجُزُه قَوْلُهُ:
*إِلَى الشَّرِّ دَعَّاءٌ وَلِلشَّرِّ جَالِبُ*
اللُّغَةُ: (المِرَاءَ) بكَسْرِ المِيمِ، بزِنَةِ الكِتَابِ – هو أن تَدْفَعَ الحَقَّ ولا تُذْعِنَ لهُ معَ أنَّهُ وَاضِحٌ جَلِيٌّ، وهو أَيْضاً الجِدَالُ، ومِن أَهْلِ اللُّغَةِ مَن يَزْعُمُ أنَّ المِرَاءَ لا يَكُونُ إلا اعتِرَاضاً، أمَّا الجِدَالُ فهو أَعَمُّ فقَدْ يَكُونُ ابتِدَاءً وقَدْ يَكُونُ اعتِرَاضاً (دَعَّاءٌ) صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِن قَوْلِهِم: (دَعَا فُلانٌ فُلاناً) إذَا طَلَبَ حُضُورَهُ. (جَالِبُ) مُسَبِّبٌ لَهُ.
المَعْنَى: يُحَذِّرُ الشَّاعِرُ مِن المُمَارَاةِ، ويُبَيِّنُ أنَّ المُمَارَاةَ تَكُونَ سَبباً لحُدُوثِ الشَّرِّ ووُقُوعِ النَّاسِ تَحْتَ غَوَائِلِه، وقَدْ أَظْهَرَ في مَقَامِ الإضْمَارِ في قَوْلِهِ: و(للشَّرِّ جَالِبُ) مُبَالَغَةً في التَّنْفِيرِ مِنْهُ بذِكْرِ اللَّفْظِ المَمْقُوتِ المُسْتَبْشَعِ.
الإعرَابُ: (إِيَّاكَ) إِيَّا: مَفْعُولٌ بهِ لفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ والكَافُ حَرْفُ خِطَابٍ. (إِيَّاكَ) تَوْكِيدٌ للأوَّلِ. (المِرَاءَ) مَنْصُوبٌ على نَزْعِ الخَافِضِ عِنْدَ الجُمْهُورِ، وتَقْدِيرُ الكَلامِ على هذا: بَاعِدْ نَفْسَكَ بَاعِدْ نَفْسَكَ مِنَ المِرَاءِ، وهو مَنْصُوبٌ على أنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ للفِعْلِ العَامِلِ في (إِيَّاكَ) عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْهُمُ ابنُ مَالِكٍ، وتَقْدِيرُ الكَلامِ على هذَا: جَنِّبْ نَفْسَكَ المِرَاءَ، مَثَلاً. (فإنَّهُ) الفَاءُ حَرْفٌ دَالٌّ علَى التَّعْلِيلِ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرَابِ، إنَّ: حَرْفُ تَوْكِيدٍ ونَصْبٍ، وضَمِيرُ الغَائِبِ العَائِدُ إلى المِرَاءِ اسمُهُ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ نَصْبٍ. (إلَى الشَّرِّ) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بقَوْلِهِ: دَعَّاءٌ الآتِي. (دَعَّاءٌ) خَبَرُ إِنَّ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ. (وَلِلشَّرِّ) الوَاوُ حَرْفُ عَطْفٍ، وللشَّرِّ: جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بجَالِبٍ الآتِي. (جَالِبُ) مَعْطُوفٌ بالوَاوِ على "دَعَّاءٌ"، والمَعْطُوفُ على المَرْفُوعِ مَرْفُوعٌ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (إِيَّاكَ إِيَّاكَ) فإِنَّ المُؤَلِّفَ تَبِعَ بَعْضَ النُّحَاةِ فذَكَرَ أنَّ هذه العِبَارَةَ مِن التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ الوَاقِعِ في الضَّمَائِرِ المُنْفَصِلَةِ حيثُ كَرَّرَ الشَّاعِرُ كَلِمَةَ:(إِيَّاكَ) وهي ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ مُخْتَصٌّ بمَوْقِعِ النَّصْبِ، ولَكِنَّ العُلَيْمِيَّ تُورِكَ على هذَا الكَلامِ، وذَكَرَ أنَّ الضَّمِيرَ المَنْصُوبَ يَحْتَاجُ البَتَّةَ إلى عَامِلٍ يَنْصِبُهُ، وهذا لا بُدَّ لهُ مِن فَاعِلٍ، وكأنَّهُ يُرِيدُ أن يَجْعَلَهُ مِن تَوْكِيدِ الجُمْلَةِ بِجُمْلَةٍ، ولكنَّهُ غَيْرُ لازِمٍ؛ فإنَّكَ قَدْ تُؤَكِّدُ الجُمْلَةَ بأَكْمَلِهَا؛ فتَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ جَاءَ زَيْدٌ، وقَد تُؤَكِّدُ الفِعْلَ وَحْدَهُ فتَقُولُ: جاءَ جَاءَ زَيْدٌ، وقد تُؤَكِّدُ الفَاعِلَ وَحْدَهُ فتَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ زَيْدٌ، وإن كانَ معَ الجُمْلَةِ مَفْعُولٌ فقَدْ تُؤَكِّدُه وَحْدَهُ فتَقُولُ: ضَرَبَ عَلِيٌّ خَالِداً خَالِداً.

([21]) أمَّا فِي حَالَةِ الرَّفْعِ، نَحْوُ (قُمْتَ أنتَ) فقَد أَكَّدَ الضَّمِيرُ المَرْفُوعُ ضَمِيراً آخَرَ مَرْفُوعاً، وغَايَةُ ما في البَابِ أنَّ الضَّمِيرَ الوَاقِعَ تَأْكِيداً مُنْفَصِلٌ؛ [إِذْ] لَيْسَ لهُ عَامِلٌ مَلْفُوظٌ بهِ حتَّى يُمْكِنَ أن يَجِيءَ مُتَّصِلاً، وأَمَّا فِي حَالَةِ النَّصْبِ، نَحْوُ (أَكْرَمْتُكَ أَنْتَ) فقَدْ وَقَعَ الضَّمِيرُ المُنْفَصِلُ الذي أَصْلُهُ أن يَكُونَ في مَحَلِّ رَفْعٍ تَوْكِيداً للضَّمِيرِ المُتَّصِلِ المَنْصُوبِ، ونَخْتَارُ أنَّهُ يَجُوزُ في هذهِ الحَالَةِ أن يُؤْتَى بالضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ المَنْصُوبِ فيُقَالُ: (أَكْرَمْتُكَ إيَّاكَ، ورَأَيْتُهُ إيَّاهُ) وهذا مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ، واختَارَهُ ابنُ مَالِكٍ، فأمَّا البَصْرِيُّونَ فإنَّهُم أَوْجَبُوا حِينَ تُرِيدُ التَّوْكِيدَ أن تَجِيءَ بالضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ المَرْفُوعِ، وصَحَّحُوا نَحْوَ قَوْلِكَ (أَكْرَمْتُكَ إيَّاكَ وأَكْرَمْتُهُ إيَّاهُ) على أن يَكُونَ الضَّمِيرُ المُنْفَصِلُ بَدَلاً، لا تَوْكِيداً، فاعرِفْ ذلك.

([22]) لمْ يُمَثِّلِ المُؤَلِّفُ في هذا المَوْضِعُ إلا للضَّمِيرِ المَجْرُورِ نَحْوِ (عَجِبْتُ مِنْكَ مِنْكَ)؛ لأنَّ هذا النَّوْعَ هو الذي يَتَعَيَّنُ فيهِ أن يَكُونَ الضَّمِيرُ الثَّانِي تَوْكِيداً للضَّمِيرِ الأوَّلِ، فأمَّا المَرْفُوعُ نَحْوُ (أَحْسَنْتَ أَحْسَنْتَ) والمَنْصُوبُ نَحْوُ (أُكْرِمُكَ أُكْرِمُكَ) فإنَّ كُلاًّ مِنْهُمَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أن يَكُونَ مُرَادُ المُتَكَلِّمِ تَأْكِيدَ الضَّمِيرِ بالضَّمِيرِ.
وثَانِيهُمَا: أن يَكُونَ مَقْصِدُهُ تَأْكِيدَ الجُمْلَةِ بالجُمْلَةِ، فمِن أَجْلِ هذا الاحتِمَالِ تَرَكَ المُؤَلِّفُ التَّمْثِيلَ لهُمَا، حتَّى يَبْتَعِدَ عَن الإِجْمَالِ.

([23]) 404-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ جَمِيلِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَعْمَرٍ العُذْرِيِّ، وما ذَكَرَهُ ههنا صَدْرُ بَيْتٍ مِن الكَامِلِ، وعَجُزُه قَوْلُهُ:
*أَخَذَتْ عَلَيَّ مَوَاثِقاً وَعُهُودَا*
وقد وَرَدَ هذَا العَجُزُ في كَلامٍ لكُثَيِّرِ عَزَّةَ، وهاك البَيْتَ الذي وَرَدَ فيهِ:
لاَ تَغْدِرَنَّ بِوَصْلِ عَزَّةَ بَعْدَمَا = أَخَذَتْ عَلَيْكَ مَوَاثِقاً وَعُهُودَا
اللُّغَةُ: (أَبُوحُ) مُضَارِعُ (بَاحَ فُلانٌ بِسِرٍّ) إذا أَفْشَاهُ وتَكَلَّمَ بهِ وأَخْبَرَ عَنْهُ، أو صَنَعَ ما يَدُلُّ عليهِ. (بُثْنَةَ) بفَتْحِ البَاءِ وسُكُونِ الثَّاءِ المُثَلَّثَةِ – هي بُثَيْنَةُ مَحْبُوبَةُ جَمِيلِ بنِ مَعْمَرٍ العُذْرِيِّ، وقد تَصَرَّفَ في اسمِهَا تَمْلِيحاً. (مَوَاثِقاً) جَمْعُ مَوْثِقٍ – بفَتْحِ المِيمِ وسُكُونِ الوَاوِ وكَسْرِ الثَّاءِ المُثَلَّثَةِ – وهو العَهْدُ، وأرَادَ أنَّهُمَا تَوَاصَيَا علَى المُحَافَظَةِ على المَحَبَّةِ وكِتْمَانِ مَا بَيْنَهُمَا مِن عَلاقَةٍ. (عُهُودَا) جَمْعُ عَهْدٍ – بفَتْحِ العَيْنِ وسُكُونِ الهَاءِ – وهو بمَعْنَى المَوْثِقِ والمِيثَاقِ.
المَعْنَى: يَقُولُ: إنِّي لا أَسْتَبِيحُ لِنَفْسِي أَن أُذِيعَ حُبِّي بُثَيْنَةَ وأُعْلِنَ ما استَتَرَ عَن النَّاسِ مِن عَلاقَتِي بِهَا؛ لأنَّنِي مُرْتَبِطٌ معَهَا بمَوَاثِيقَ وعُهُودٍ علَى ألاَّ نُطْلِعَ أَحَداً علَى شَيْءٍ مِن سِرِّ أُلْفَتِنَا، وقد يُقَالُ: إنَّ هذا الكَلامَ نَفْسَهُ إِذَاعَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مِن حُبٍّ وعُهُودِ مَوَدَّةٍ.
الإعرَابُ: (لا) حَرْفُ نَفْيٍ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرَابِ. (لا) تَوْكِيدٌ للا الأوَّلِ. (أَبُوحُ) فِعْلٌ مُضَارع مَرْفُوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِن النَّاصِبِ والجَازِمِ وعَلامَةُ رَفْعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أنا. (بِحُبِّ) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بقَوْلِهِ: أَبُوحُ، وحُبِّ مُضَافٌ و(بُثْنَةَ) مُضَافٌ إليهِ مَجْرُورٌ بالفَتْحَةِ نِيَابَةً عَن الكَسْرَةِ؛ لأنَّهُ لا يَنْصَرِفُ للعَلَمِيَّةِ والتَّأْنِيثِ. (إنَّهَا) إِنَّ: حَرْفُ تَوْكِيدٍ ونَصْبٍ، وضَمِيرُ الغَائِبَةِ العَائِدُ إلى بُثْنَةَ اسمُهُ. (أَخَذَت) أَخَذَ: فِعْلٌ مَاضٍ، والتَّاءُ للتَّأْنِيثِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هي يَعُودُ إلى بُثْنَةَ. (علَيَّ) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بأَخَذَ. (مَوَاثِقاً) مَفْعُولٌ بهِ لأخَذَ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، وكانَ مِن حَقِّهِ أن يَمْنَعَهُ التَّنْوِينَ، لكنَّهُ لمَّا اضطُرَّ نَوَّنَهُ. (وَعُهُودَا) الواوُ عَاطِفَةٌ، عُهُودَا: مَعْطُوفٌ علَى قَوْلِهِ: (مَوَاثِقاً).
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (لاَ لاَ) فإنَّهُ تَوْكِيدٌ لَفْظِيٌّ للحَرْفِ، ولمَّا كَانَت (لا) مِن حُرُوفِ الجَوَابِ لم يَحْتَجْ لأن يَفْصِلَ بينَ المُؤَكَّدِ بشَيْءٍ مِمَّا يَجِبُ الفَصْلُ بهِ في تَوْكِيدِ الحُرُوفِ غَيْرِ الجَوَابِيَّةِ، وتَقُولُ: لا لا، ونَعَمْ نَعَمْ، ونَعَمْ جَيْرِ، فتُعِيدُ حَرْفَ الجَوَابِ بنَفْسِهِ أو بمُرَادِفِه، وقالَ المُضَرِّسُ بنِ رِبْعِيٍّ:
وَقُلْنَ عَلَى الفِرْدَوْسِ أَوَّلِ مَشْرَبٍ = أَجَلْ جَيْرِ إِنْ كَانَتْ أُبِيحَتْ دَعَاثِرُهْ

([24]) سورة المؤمنون، الآية: 35، فأنَّ المَفْتُوحَةُ الهَمْزَةُ في (أَنَّكُم) مُؤَكِّدَةٌ لأنَّ المَفْتُوحَةِ الهَمْزَةِ الأُولَى في {أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ} وقَدْ فَصَلَ بينَ التَّأْكِيدِ والمُؤَكَّدِ بالظَّرْفِ وما يَلِيهِ، وقَدْ أُعِيدَ معَ (أنَّ) الثَّانِيَةِ الضَّمِيرُ المُتَّصِلُ – وهو الكافُ والمِيمُ – فتَحَقَّقَ الشَّرْطَانِ.

([25]) إِنَّمَا كانَ إِعَادَةُ ضَمِيرِ المُؤَكَّدِ أَوْلَى مِن إِعَادَةِ لَفْظِهِ لسَبَبَيْنِ: الأوَّلِ أنَّهُ يَلْزَمُ على إِعَادَةِ لَفْظِهِ نَحْوِ (إنَّ زَيْداً إنَّ زَيْداً قَائِمٌ) التَّكْرَارُ لَفْظاً، وليسَ مِمَّا يُسْتَحْسَنُ لغَيْرِ مُوجِبٍ، والثَّانِي أنَّ إِعَادَتَهُ بلَفْظِهِ رُبَّمَا أَوْهَمَت أنَّ الثَّانِيَ غَيْرُ الأوَّلِ وإنَّمَا وَقَعَ بَيْنَهُمَا اشتِرَاكٌ، والذي استَعْمَلَهُ القُرْآنُ الكَرِيمُ هو إِعَادَةُ ضَمِيرِهِ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فإِنَّ (فِي) الثَّانِيَةَ في قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فِيهَا} تَوْكِيدٌ لفِي الأُولَى في قَوْلِهِ: {فِي رَحْمَةِ اللَّهِ} ولا يَجُوزُ لكَ أن تَظُنَّ مَجْمُوعَ الجَارِّ والمَجْرُورِ مُؤَكِّداً لمَجْمُوعِ الجَارِّ والمَجْرُورِ المُتَقَدِّمِ؛ لأنَّهُ يَلْزَمُ على ذلكَ أن يَكُونَ الجَارُّ تَأْكِيداً للجَارِّ، والمَجْرُورُ الذي هو الضَّمِيرُ تَأْكِيداً للمَجْرُورِ الذي هو الاسمُ الظَّاهِرُ، وذلك لا يَجُوزُ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أَقْوَى مِن الضَّمِيرِ، ولا يَكُونُ الأَضْعَفُ تَوْكِيداً للأقْوَى.

([26]) 405-لم أَقِفْ لهذا الشَّاهِدِ على نِسْبَةٍ إلى قَائِلٍ مُعَيَّنٍ، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ ههنا صَدْرُ بَيْتٍ مِن الخَفِيفِ، وعَجُزُه قَوْلُهُ:
*يَرَيَنْ مَنْ أَجَارَهُ قَدْ ضِيمَا*
اللُّغَةُ: (الكَرِيمَ) المُرَادُ بهِ ههنا الذي يَأْبَى الضَّيْمَ ولا يَرْضَى بمَا يَمَسُّ شَرَفَهُ أو يَنَالُ مِن كَرَامَتِه. (يَحْلُمُ) مُضَارِعٌ مِن الحِلْمِ، وهو هنا الأنَاةُ والتَّعَقُّلُ. (أَجَارَهُ) الذي جَعَلَهُ في جِوَارِهِ ونَصَبَ علَيهِ حِمَايَتَهُ. (ضِيمَا) مَاضٍ مَبْنِيٌّ لما لمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مِن الضَّيْمِ، وهو بَخْسُ الحَقِّ والتَّعَدِّي على صَاحِبِه، تقُولُ: ضَامَهُ يَضِيمُهُ ضَيْماً، إذا نَقَصَهُ حَقَّهُ.
المَعْنَى: يَقُولُ: إنَّ الرَّجُلَ الأبِيَّ الكَرِيمَ النَّفْسِ الطَّيِّبَ الخُلُقِ لا يَزَالُ يَسْتَعْمِلُ الأنَاةَ والتُّؤَدَةَ في أُمُورِهِ كُلِّهَا، حتَّى إذَا رأَى أنَّ الرَّجُلَ الذي دَخَلَ في جِوَارِهِ واستَظَلَّ بحِمَايَتِه قد بُخِسَ حَقًّا مِن حُقُوقِهِ خَلَعَ رِدَاءَ الرَّزَانَةِ ولَبِسَ ثَوْبَ البَطْشِ.
الإعرَابُ: (إنَّ) حَرْفُ تَوْكِيدٍ ونَصْبٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرَابِ. (إنَّ) تَوْكِيدٌ لإنَّ الأُولَى. (الكَرِيمَ) اسْمُ إنَّ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، وأَصْلُهُ صِفَةٌ لمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، فلمَّا حُذِفَ المَوْصُوفُ أُقِيمَت الصِّفَةُ مَقَامَهُ؛ لأنَّهَا صَالِحَةٌ لأن تَلِيَ العَامِلَ. (يَحْلُمُ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يَعُودُ إلى الكَرِيمِ، والجُمْلَةُ مِن الفِعْلِ المُضَارِعِ وفَاعِلِه في مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرُ إِنَّ. (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ حَرْفٌ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ. (لَمْ) حَرْفُ نَفْيٍ وجَزْمٍ وقَلْبٍ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ. (يَرَيَنْ) يَرَى: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لاتِّصَالِهِ بنُونِ التَّوْكِيدِ الخَفِيفَةِ في مَحَلِّ جَزْمٍ بلَمْ، ونُونُ التَّوْكِيدُ حَرْفٌ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرَابِ، ومَا المَصْدَرِيَّةُ معَ مَا دَخَلَت علَيهِ في تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بإِضَافَةِ اسْمِ زَمَانٍ مَنْصُوبٍ بقَوْلِهِ: يَحْلُمُ، وتَقْدِيرُ الكَلامِ: يَحْلُمُ مُدَّةَ عَدَمِ رُؤْيَتِهِ –إلخ. (مَنْ) اسمٌ مَوْصُولٌ مَفْعُولٌ بهِ ليَرَى مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ. (أَجَارَهُ) أَجَارَ: فِعْلٌ مَاضٍ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يَعُودُ إلى الكَرِيمِ، والضَّمِيرُ البَارِزُ العَائِدُ إلى الاسمِ المَوْصُولِ مَفْعُولٌ بهِ لأجَارَ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ نَصْبٍ، والجُمْلَةُ مِن الفِعْلِ المَاضِي وفَاعِلِه ومَفْعُولِهِ لا مَحَلَّ لَهَا مِن الإعرَابِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ. (قَدْ) حَرْفُ تَحْقِيقٍ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرَابِ. (ضِيمَا) فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ، ونَائِبُ فَاعِلِه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يَعُودُ إلى الاسمِ المَوْصُولِ، والألفُ للإطْلاقِ، والجُمْلَةُ مِن الفِعْلِ المَاضِي المَبْنِيِّ للمَجْهُولِ ونَائِبِ فَاعِلِه في مَحَلِّ نَصْبٍ حَالٌ مِن الاسمِ المَوْصُولِ، هذا إِن اعتَبَرْتَ يَرَى بَصَرِيَّةً، فإِن اعْتَبَرْتَهَا عِلْمِيَّةً كانَ الاسْمُ المَوْصُولُ مَفْعُولاً أوَّلَ ليَرَى، وجُمْلَةُ (قَدْ ضِيمَ) في مَحَلِّ نَصْبٍ مَفْعُولاً ثَانِياً.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (إِنَّ إِنَّ) حيثُ أَكَّدَ الشَّاعِرُ (إنَّ) الأُولَى تَوْكِيداً لَفْظِيًّا بإِعَادَةِ لَفْظِهَا، مِن غَيْرِ أَن يَفْصِلَ بينَ المُؤَكَّدِ والمُؤَكِّدِ، معَ أنَّ (إِنَّ) لَيْسَت مِن حُرُوفِ الجَوَابِ، والتَّوْكِيدُ على هذَا الوَجْهِ شَاذٌّ.
وفي قَوْلِهِ (يَرَيَنْ) تَوْكِيدُ المُضَارِعِ المَنْفِيِّ بلَمْ كما في قَوْلِ الرَّاجِزِ يَصِفُ وَطْبَ لَبَنٍ، وهو الشَّاهِدُ رَقْمُ 474 الآتِي:
يَحْسَبُهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَمَا = شَيْخاً عَلَى كُرْسِيِّهِ مُعَمَّمَا

([27]) 406-هذا بَيْتٌ مِن الرَّجَزِ المَشْطُورِ، وقَد نَسَبُوا هَذَا الشَّاهِدَ إلى الأَغْلَبِ العِجْلِيِّ، ومِنْهُم مَن يَنْسُبُه إلى خِطَامٍ المُجَاشِعِيِّ يَصِفُ إِبِلاً، وبَعْدَ هذَا البَيْتِ قَوْلُهُ:
*أَعْنَاقَهَا مُشَدَّدَاتٌ بِقَرَنْ*
اللُّغَةُ: (تَرَاهَا) الضَّمِيرُ البَارِزُ المُتَّصِلُ يَعُودُ إلى إِبِلٍ يَصِفُهَا الرَّاجِزُ. (أَعْنَاقَهَا) الأَعْنَاقُ: جَمْعُ عُنُقٍ – بضَمِّ أَوَّلِه وثَانِيهِ، وقَدْ يُسَكَّنُ ثَانِيهِ تَخْفِيفاً – الرَّقَبَةُ. (قَرَنْ) بفَتْحِ أَوَّلِهِ وثَانِيهِ بزِنَةِ جَبَلٍ – حَبْلٌ تُرْبَطُ بهِ الإِبِلُ ويُقْرَنُ بِوَاسِطَتِهِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ.
المَعْنَى: وَصَفَ الرَّاجِزُ إِبِلاً ارْتَحَلُوهَا واستَحَثُّوهَا للسَّيْرِ فأَسْرَعَت وجَدَّت في السَّيْرِ، وكانَ مِن أَثَرِ هذا الإسرَاعِ أن رَفَعَت أَعْنَاقَهَا، وَكَانَت كُلُّها في قُوَّةٍ وَاحِدَةٍ فتَسَاوَت، وتَجَاوَزَت حتَّى لَيَخَالُهَا مَن يَنْظُرُ إلَيْهَا في هذهِ الحَالِ كأَنَّهَا رُبِطَت أَعْنَاقُهَا وشُدُّت بحَبْلٍ.
الإعرَابُ: (حتَّى) حَرْفُ غَايَةٍ وجَرٍّ. (تَرَاهَا) تَرَى: فِعْلٌ مُضَارِعٌ يُقْصَدُ بهِ هُنَا حِكَايَةُ الحَالِ مَرْفُوعٌ بضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ علَى الألِفِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أنت, وضَمِيرُ الإبِلِ مَفْعُولٌ بهِ. (وَكَأَنَّ) الواوُ واوُ الحَالِ، كَأَنَّ: حَرْفُ تَشْبِيهٍ ونَصْبٍ. (وَكَأَنّْ) تَوْكِيدٌ للأوَّلِ. (أَعْنَاقَهَا) أَعْنَاقَ: اسمُ كَأَنَّ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، وأَعْنَاقَ مُضَافٌ وضَمِيرُ الغَائِبَةِ العَائِدُ إلى الإِبِلِ مُضَافٌ إليهِ. (مُشَدَّدَاتٌ) خَبَرُ كَأَنَّ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ. (بِقَرَنْ) الباءُ حَرْفُ جَرٍّ مَبْنِيٌّ علَى الكَسْرِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرَابِ، قَرَنْ: مَجْرُورٌ بالبَاءِ وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسْرَةُ الظَّاهِرَةُ، وسُكِّنَ لأجْلِ الوَقْفِ، والجَارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بقَوْلِهِ: مُشَدَّدَاتٌ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (وَكَأَنَّ وَكَأَنّْ) حيثُ أَكَّدَ كأنَّ التي هيَ حَرْفُ تَشْبِيهٍ ونَصْبٍ تَوْكِيداً لَفْظِيًّا بإِعَادَةِ لَفْظِهَا، معَ عَدَمِ الفَصْلِ بينَ المُؤَكِّدِ والمُؤَكَّدِ بمَعْمُولِ أَوَّلِهِمَا، معَ أنَّ (كَأَنَّ) ليسَ مِن أَحْرُفِ الجَوَابِ، والتَّوْكِيدُ على هذا الوَجْهِ شَاذٌّ، ولو أنَّهُ جاءَ بهِ على مَا تَقْتَضِيهِ العَرَبِيَّةُ لقَالَ: (كَأَنَّ أَعْنَاقَهَا وَكَأَنَّهَا) مَثَلاً، ومعَ أنَّ ما جَاءَ بهِ الرَّاجِزُ شَاذٌّ فإنَّهُ أَخَفُّ فِي الشُّذُوذِ مِن قَوْلِ الشَّاعِرِ في الشَّاهِدِ السَّابِقِ (إِنَّ إِنَّ الكَرِيمَ)؛ لأنَّ الرَّاجِزَ في هذا الشَّاهِدِ قَد فَصَلَ بَيْنَ الحَرْفَيْنِ بالوَاوِ، ولَمْ يَفْصِلْ هُنَاكَ بشَيْءٍ أَصْلاً.

([28]) 407-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامٍ لمُسْلِمِ بنِ مَعْبَدٍ الوَالِبِيِّ، وقالَ الشَّيْخُ خَالِدٌ: (لرَجُلٍ مِن بَنِي أَسَدٍ) ولم يُعَيِّنْهُ، ومُسْلِمٌ أَسَدِيُّ، والبَيْتُ مِن قَصِيدَةٍ طَوِيلَةٍ ذكَرَها البَغْدَادِيُّ في شَرْحِ الشَّاهِدِ (134) مِن (الخِزَانَةِ)، وما أَنْشَدَهُ المُؤَلِّفُ ههنا هو عَجُزُ بَيْتٍ مِن الوَافِرِ، وصَدْرُه قَوْلُهُ:
*فَلاَ وَاللَّهِ لاَ يُلْفَى لِمَا بِي*
قالَ البَغْدَادِيُّ: قالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الأَسْوَدُ الأَعْرَابِيُّ فِي (ضَالَّةِ الأَدِيبِ): كَانَ السَّبَبُ في هذهِ القَصِيدَةِ أنَّ مُسْلِماً كانَ غَائِباً فكُتِبَت إِبِلُهُ لِلمُصَّدِّقِ – أي: لعَامِلِ الزَّكَاةِ – وكانَ رُقَيْعٌ، وهو عِمَارَةُ بنُ عُبَيْدٍ الوَالِبِيُّ، عَرِّيفاً؛ فظَنَّ مُسْلِمٌ أنَّ رُقَيْعاً أَغْرَاهُ، وكَانَ مُسْلِمٌ ابْنَ أُخْتِ رُقَيْعٍ وابنَ عَمِّهِ فقَالَ:
بَكَتْ إِبِلِي، وَحُقَّ لَهَا البُكَاءُ = وَفَرَّقَهَا المَظَالِمُ وَالعَدَاءُ
اللُّغَةُ: (يُلْفَى) مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ مَاضِيهِ المَبْنِيُّ للمَعْلُومِ (أَلْفَى) وَمَعْنَاهُ وَجَدَ. (لِمَا بِي) أَرَادَ للذِي بِي مِن المَوْجِدَةِ والحَنَقِ علَيْهِم. (لِلِمَا بِهِم) أرَادَ للَّذِي بِهِم مِن الحِقْدِ والضَّغِينَةِ وحَسِيكَةِ الصُّدُورِ. (دَوَاءُ) أَصْلُ الدَّوَاءِ مَا يُعَالَجُ بهِ، وأرَادَ بهِ هَهُنَا ما يُتَدَارَكُ بهِ تَفَاقُمُ الخَطْبِ ويُتَلافَى بهِ مَا بَيْنَهُم حتَّى تُمْكِنُ إِزَالَةُ الأَحْقَادِ والضَّغَائِنِ والتِّرَاتِ.
المَعْنَى: يُرِيدُ أنَّهُ لا يُمْكِنُ أن يَحْدُثَ بَيْنَهُ وبينَ هؤلاءِ القَوْمِ تَصَافٍ ومَوَدَّةٌ؛ لأنَّهُ لا عِلاجَ لِمَا امتَلأَت بهِ قُلُوبُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُم مِن الأحْقَادِ والضَّغَائِنِ.
الإعرَابُ: (فَلا) الفَاءُ حَرْفُ عَطْفٍ، ولا: حَرْفُ نَفْيٍ. (وَاللَّهِ) الوَاوُ حَرْفُ قَسَمٍ وجَرٍّ، واسْمُ الجَلالَةِ مَجْرُورٌ بهِ، والجَارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بفِعْلِ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. (لا) نَافِيَةٌ (يُلْفَى) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ. (لِمَا بِي) اللاَّمُ حَرْفُ جَرٍّ، ومَا: اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ باللاَّمِ، والجَارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بقَوْلِهِ: يُلْفَى، وَبِي: جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ صِلَةُ المَوْصُولِ. (وَلا) الوَاوُ حَرْفُ عَطْفٍ، لا: حَرْفٌ زَائِدٌ لتَأْكِيدِ النَّفْيِ. (لِلِمَا بِهِمْ) اللاَّمُ الأُولَى حَرْفُ جَرٍّ مَبْنِيٌّ على الكَسْرِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، واللاَّمُ الثَّانِيَةُ تَوْكِيدٌ للاَّمِ الأُولَى، ومَا: اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ باللاَّمِ الأُولَى، وبِهِم: جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ صِلَةٌ، والجَارُّ والمَجْرُورُ الذي هو (لِلِمَا) مَعْطُوفٌ بالوَاوِ على الجَارِّ والمَجْرُورِ الأوَّلِ الذي هو (لِمَا بِي) وقَوْلُهُ: (أَبَداً) ظَرْفُ زَمَانٍ مَنْصُوبٌ بيُلْفَى. (دَوَاءُ) نَائِبُ فَاعِلِ يُلْفَى مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (لِلِمَا) فإِنَّ الشَّاعِرَ أكَّدَ في هذه الكَلِمَةِ اللاَّمَ الجَارَّةَ تَوْكِيداً لَفْظِيًّا بِإِعَادَتِهَا بلَفْظِهَا مِن غَيْرِ أن يَفْصِلَ بينَ المُؤَكِّدِ والمُؤَكَّدِ بفَاصِلٍ، معَ أنَّ اللاَّمَ لَيْسَت مِن أَحْرُفِ الجَوَابِ، والتَّوْكِيدُ على هذا النَّحْوِ شَاذٌّ، ولو أنَّهُ جاءَ بهِ علَى مَا تَقْتَضِيهِ العَرَبِيَّةُ لقَالَ: (لِمَا لِمَا بِهِمْ) وقَدْ ذَكَرَ المُؤَلِّفُ هذَا الشَّاهِدَ ليُقَرِّرَ أنَّ الشُّذُوذَ الذي فيهِ أَقْوَى وأَشَدُّ مِن الشُّذُوذِ الذي في قَوْلِ الشَّاعِرِ فِي الشَّاهِدِ رَقْمِ 405 (إِنَّ إِنَّ الكَرِيمَ) وقَدْ قَرَّرَ في الشَّاهِدِ السَّابِقِ رَقْمِ 406 أنَّ قَوْلَ الرَّاجِزِ: (وَكَأَنَّ وَكَأَنّْ) أَخَفُّ فِي الشُّذُوذِ مِمَّا فِي (إِنَّ إِنَّ) فيَكُونُ الشُّذُوذُ علَى ثَلاثِ مَرَاتِبٍ:
شُذُوذٌ خَفِيفٌ، وذلك في: (وكَأَنَّ وَكَأَنّْ) لوُجُودِ فَاصِلٍ مَا بَيْنَ الحَرْفَينِ – وهو الوَاوُ العَاطِفَةُ – وإِن لَمْ يَكُنِ الفَاصِلُ هو خُصُوصَ مَعْمُولِ الحَرْفِ الأوَّلِ.
وشُذُوذٌ شَدِيدٌ، وذلك في: (إِنَّ إِنَّ الكَرِيمَ) لعَدَمِ الفَاصِلِ بَتَّةً، ولِكَوْنِ الحَرْفِ علَى ثَلاثَةِ أَحْرُفٍ هِجَائِيَّةٍ فهو كالقائِمِ بنَفْسِهِ.
وشُذُوذٌ أَشَدُّ، كمَا في قَوْلِهِ: (لِلِمَا بِهِم) فإنَّهُ لا فَاصِلَ فيهِ بينَ الحَرْفَينِ، والحَرْفُ المُؤَكَّدُ مَوْضُوعٌ علَى حَرْفٍ هِجَائِيٍّ وَاحِدٍ، فهو كمَن لا يَقُومُ بنَفْسِهِ، وسَيَأْتِي في البَيْتِ الآتِي نَوْعٌ آخَرُ مِن الشُّذُوذِ، وهو مَا نُسَمِّيهِ أَخْذاً مِن عِبَارَةِ المُؤَلِّفِ (الشُّذُوذَ الأَخَفَّ) فتَصِيرُ الأَنْوَاعُ أَرْبَعَةً: شُذُوذٌ خَفِيفٌ، وشُذُوذٌ أَخَفُّ، وشُذُوذٌ شَدِيدٌ، وشُذُوذٌ أَشَدُّ؛ وابنُ مَالِكٍ يُقَرِّرُ في (التَّسْهِيلِ) – تَبَعاً لابنِ عُصْفُورٍ – أنَّ التَّوْكِيدَ على هذا الوَجْهِ ضَرُورَةٌ لا تَسُوغُ إلا للشَّاعِرِ حينَ يُلْجَأُ إليهِ إِلْجَاءً، والزَّمَخْشَرِيُّ يُقَرِّرُ في (المُفَصَّلِ) أنَّهُ جَائِزٌ لا ضَرُورَةَ فيهِ، حيثُ جَعَلَهُ مِثْلَ تَوْكِيدِ الفِعْلِ والاسْمِ والجُمْلَةِ مِن غَيْرِ تَفْرِقَةٍ في الحُكْمِ، فاعرِفْ ذَلك.

([29]) 408-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ الأَسْوَدِ بنِ يَعْفُرَ، ومَا أَنْشَدَهُ المُؤَلِّفُ ههُنَا هو صَدْرُ بَيْتٍ مِن الطَّوِيلِ، وعَجُزُه قَوْلُهُ:
*أَصَعَّدَ فِي عُلْوِ الهَوَى أَمْ تَصَوَّبَا*
اللُّغَةُ: (لاَ يَسْأَلْنَهُ عَنْ بِمَا بِهِ) أَرَادَ أنَّ الغَوَانِيَ لَمَّا رَأَيْنَ رَأْسَهُ قَدْ وَخَطَهُ الشَّيْبُ وأَنَّ مَتْنَهُ قَدْ ضَعُفَت لم يَعُدْنَ يَكْتَرِثْنَ بهِ فيَسْأَلْنَهُ عمَّا هو فيهِ مِن وَجَعٍ أو نَحْوِهِ. (أَصَعَّدَ) أرَادَ ارْتَفَعَ. (تَصَوَّبَا) أرَادَ استَفَلَ ونَزَلَ.
المَعْنَى: وَصَفَ الشَّاعِرُ نَفْسَهُ بَعْدَ أن هَدَّهُ الكِبَرُ، ونَالَتِ الشَّيْخُوخَةُ مِنْهُ مَنَالَهَا، ولم يَعُدْ حَالِياً بقُوَّةِ الشَّبَابِ ومَيْعَتِهِ، فذَكَرَ أنَّ الغَوَانِيَ لم يَبْقَ فِيهِنَّ مَيْلٌ لهُ، ولا صِرْنَ يَعْبَأْنَ بهِ أو يُبَالِينَهُ.
الإعرَابُ: (فَأَصْبَحَ) الفَاءُ عَاطِفَةٌ، أَصْبَحَ: فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ، واسمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يَعُودُ إلى المُحَدِّثِ عنهُ وهو إنَّمَا يَتَحَدَّثُ عَن نَفْسِهِ عَن طَرِيقِ الغَيْبَةِ. (لاَ) حَرْفُ نَفْيٍ مَبْنِيٌّ علَى السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرَابِ. (يَسْأَلْنَهُ) يَسْأَلْ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ لاتِّصَالِهِ بنُونِ النِّسْوَةِ، ونُونُ النِّسْوَةِ فَاعِلُهُ، وضَمِيرُ الغَيْبَةِ مَفْعُولُهُ، وجُمْلَةُ المُضَارِعِ وفَاعِلِه ومَفْعُولِهِ في مَحَلِّ نَصْبٍ خَبَرُ أَصْبَحَ. (عَنْ) حَرْفُ جَرٍّ. (بِمَا) البَاءُ حَرْفُ جَرٍّ بمَعْنَى عَن، فهو تَوْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لعن، ومَا: اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ بعَن، والجَارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بقَوْلِهِ: يَسْأَلْ. (بِهِ) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (عَنْ بِمَا) حيثُ أَكَّدَ (عَن) الجَارَّةَ تَوْكِيداً لَفْظِيًّا بإِعَادَتِهِ بلَفْظٍ مُرَادِفٍ له، وهو البَاءُ التي بمَعْنَى عن والمُتَّصِلَةِ في اللَّفْظِ بـ (ما) المَوْصُولَةِ، والتَّوْكِيدُ على هذا النَّحْوِ شَاذٌّ عِنْدَ المُؤَلِّفِ تَبَعاً للنَّاظِمِ وابْنِ عُصْفُورٍ على ما بَيَّنَّا في شَرْحِ الشَّاهِدِ السَّابِقِ؛ لأنَّهُ لم يَفْصِلْ بَيْنَ المُؤَكَّدِ والمُؤَكِّدِ، معَ أنَّ الحَرْفَ المُؤَكَّدِ ليسَ مِن أَحْرُفِ الجَوَابِ، ولو أنَّهُ أتَى بهِ علَى ما تَقْتَضِيهِ العَرَبِيَّةُ عِندَ مَن ذَكَرْنَا لقَالَ: (عَمَّا بِمَا) ومعَ أنَّ التَّوْكِيدَ علَى هذَا النَّحْوِ شَاذٌّ فهُوَ في هذا البَيْتِ الذي نَحْنُ بصَدَدِ شَرْحِهِ أَهْوَنُ مِن الشُّذُوذِ الذي في قَوْلِ الشَّاعِرِ في البَيْتِ السَّابِقِ. (لِلِمَا بِهِم) وَوَجْهُ كَوْنِ هذَا أَهْوَنَ في الشُّذُوذِ مِن ذاكَ مِن نَاحِيَتَيْنِ:
الأُوْلَى: أنَّ الحَرْفَ المُؤَكَّدَ فِي البَيْتِ السَّابِقِ مَوْضُوعٌ علَى حَرْفٍ هِجَائِيٍّ وَاحِدٍ وهو اللاَّمُ، وهو في هذا البَيْتِ مَوْضُوعٌ علَى حَرْفَيْنِ هِجَائِيَّيْنِ وهو (عَن).
النَّاحِيَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ المُؤَكَّدَ والمُؤَكِّدِ في البَيْتِ السَّابِقِ بلَفْظٍ وَاحِدٍ، وهُمَا في هذا البَيْتِ بلَفْظَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وإِن اتَّفَقَا فِي المَعْنَى.



محمد أبو زيد 25 ذو الحجة 1429هـ/23-12-2008م 02:34 PM

شرح ألفية ابن مالك للشيخ: علي بن محمد الأشموني
 

التوكيدُ

هو في الأصلِ مصدرٌ ويُسَمَّى به التابعُ المخصوصُ ويقالُ: أَكَّدَ تَأْكِيدًا ووَكَّدَ تَوْكِيدًا وهو بالواوِ أكثر.

وهو على نوعينِ: لفظيٍّ وسيأتي، ومعنويٍّ وهو: التابعُ الرافعُ احتمالَ إرادةَ غيرِ الظاهرِ، وله ألفاظٌ أشارَ إليها بقولِه:

520 - بِالنَّفْسِ أَوْ بِالعَيْنِ الاسْمُ أَكَّدَا = معَ ضميرٍ طَابَقَ المُؤَكَّدَا
521 - واجْمَعْهُمَا بِأَفْعُلَ إِنْ تَبِعَا = مَا لَيْسَ وَاحِدٌ تَكُنْ مُتَّبِعَا
(بِالنَّفْسِ أَوْ بِالعَيْنِ الاسْمُ أَكَّدَا = معَ ضميرٍ طَابَقَ المُؤَكَّدَا)
أي: في الإفرادِ والتذكيرِ وفروعِهما: فتقولُ "جاءَ زيدٌ نفسُه أو عينُه أو نفسُه عينُه" فتجمَعُ بينَهما والمرادُ حقيقتُه وتقولُ: "جاءَتْ هندُ نفسُها أو عينُها". وهكذا, ويجوزُ: جرُّهُمَا بباءٍ زائدةٍ فتقولُ: "جاءَ زيدٌ بنفسِهِ وهندُ بعينِها".
(وَاجْمَعْهُمَا): أي النفسَّ والعينَ (بِأَفْعُلٍ إِنْ تَبِعَا * مَا ليسَ وَاحِدًا تَكُنْ مُتَّبَّعَا). فتقولُ: "قَامَ الزيدانِ أوِ الهندانِ أنفسُهما أو أعينُهما، وقامَ الزيدونُ أنفسُهُم أو أعينُهُم والهنداتُ أنفسُهُنَّ أو أعينُهُنَّ" ولا يجوزُ أنْ يُؤَكَّدَ بهما مجموعينِ على "نفوسٍ" و"عيونٍ" ولا على "أَعْيَانٍ" فعبارتُه هنا أحسنُ مِنْ قولِه في (التسهيلِ): "جمعُ قلَّةٍ" فإن "عَيْنًا" تُجْمَعُ جَمْعَ قِلَّةٍ على "أَعْيَانٍ" ولا يُؤَكَّدُ بِهِ.
تنبيهٌ: مَا أَفْهَمَهُ كلامُه مِنْ منعِ مجيءِ "النفسِ" و"العينِ" مؤكَّدًا بهما غيرُ الواحدِ – وهو المُثَنَّى والمجموعُ – غيرَ مجموعينِ على "أَفْعُل" هو كذلك في المجموعِ.
وأما المُثَنَّى فقالَ الشارحُ – بعدَ ذِكْرِه أنَّ الجمعَ فيه هو المختارُ – ويجوزُ فيه أيضًا الإفرادُ والتثنيةُ.
قالَ أبو حيَّانَ: ووَهِمَ في ذلكَ ؛ إِذْ لَمْ يَقُلْ أحدٌ مِنَ النحويِّينَ بِهِ.
وفيما قالَه أبو حيَّانَ نَظَرٌ، فقَدْ قالَ ابنُ +إياز في (شرحِ الفصولِ) ولو قلْتَ: "نَفْسَاهُمَا" لجازَ فصرَّحَ بجوازِ التثنيةِ.
وقد صرَّحَ النحاةُ بأنَّ كلَّ مثنًى في المعنى مضافٌ إلى متضمِّنِه يجوزُ فيه الجمعُ والإفرادُ والتثنيةُ والمختارُ الجمعُ نحو: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ويترجَّحُ الإفرادُ على التثنيةِ عندَ الناظمِ وعندَ غيرِه بالعكسِ، وكلاهما مسموعٌ كقولِه [من الطويل]:
796 - حمامةَ بطنِ الوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي = سَقَاكَ مِنَ الغُرِّ الغَوَادِي مَطِيرُهَا
وكقولِه [من الرجز]:
797 - وَمَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْن ِمَرْتَيْنِ = ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنْ

522 - وَكُلاًّ اذْكُرْ فِي الشمُولِ وَكِلاَ = كِلْتَا جَمِيعًا – بِالضَّمِيرِ مُوصَلاَ
(وَكُلاًّ اذْكُرْ) التوكيدَ المَسُوقَ لقصدِ (الشمُولِ) والإحاطةِ بأبعاضِ المتبوعِ (وكِلاَ) و(كِلْتَا) و(جَمِيعًا) فلا يُؤَكَّدُ بِهِنَّ إلا مَا له أَجْزَاءٌ يِصِحُّ وقوعُ بعضِها موقعَه لرفعِ احتمالِ تقديرِ بعضِ مضافٍ إلى متبوعِهِنَّ، نحوُ: "جاءَ الجيشُ كلُّه أو جميعُه والقبيلةُ كلُّها أو جميعُها والرجالُ كلُّهم أو جميعُهم والهنداتُ كلُّهنَّ أو جميعُهنَّ والزيدانِ كلاهما والهندانِ كلتاهما" لجوازِ أنْ يكونَ الأصلُ: "جاءَ بعضُ الجيشِ، أو القبيلةِ، أو الرجالِ، أو الهنداتِ أو أحدِ الزيدينِ أو إحدى الهندينِ".
ولا يجوزُ "جاءني زيدٌ كلُّه" ولا "جميعُه" وكذا لا يجوزُ "اختصَم الزيدانِ كلاهما" ولا "الهندانِ كلتاهما" لامتناعِ التقديرِ المذكورِ.
وأشارَ بقولِه (بالضميرِ مُوصَلا) إلى أنَّهُ لابدَّ مِنَ اتصالِ ضميرِ المتبوعِ بهذه الألفاظِ ؛ ليحصلَ الربطُ بينَ التابعِ ومتبوعِه كما رأيتَ ولا يجوزُ حذفُ الضميرِ استغناءً بنيَّةِ الإضافةِ خلافًا للفرَّاءِ والزمخشريِّ ولا حُجَّةَ في {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ولا قراءةِ بعضِهم (إِنَّا كُلاًّ فيها) على أن المعنى: جميعَه وكلَّنَا بل "جميعًا" حالٌ وكُلاً بدلٌ مِنَ اسمِ "إنَّ" أو حالٌ مِنَ الضميرِ المرفوعِ في "فيها".
وذكَرَ في (التسهيل) أنَّهُ قد يُستغنى عن الإضافةِ إلى الضميرِ بالإضافةِ إلى مثلِ الظاهرِ المؤكَّدِ بـ "كلِّ" وجعَل منه قولَ كُثَيِّرِ [من البسيط]:
798 - كَمْ قَدْ ذَكَرْتُكِ لَوْ أُجْزَى بِذِكْرِكُمْ = يَا أَشْبَهَ الناسِ كُلِّ الناسِ بالقمرِ

523 - وَاسْتَعْمَلُوا أيضًا كَكُلِّ فَاعِلَهْ = مِنْ عَمَّ فِي التوكيدِ مثلَ النَّافِلَهْ
(وَاسْتَعْمَلُوا أَيْضًا كَكُلِّ) في الدَّلالةِ على الشمولِ اسمًا مُوَازِنًا (فَاعِلَهْ * مِنْ عَمَّ فِي التوكيدِ) فقالُوا: "جاءَ الجيشُ عامَّتُهُ، والقبيلةُ عامَّتُهَا، والزيدونَ عامَّتُهُمْ، والهندانِ عامَّتُهُنَّ". وعُدَّ هذا اللفظُ (مثلُ النَّافِلَهْ) أي: الزائدِ على ما ذكَرَه النحويونَ في هذا البابِ فإنَّ أكثرَهُم أغفلَه لكن ذكَرَه سيبويهِ، وهو مِنْ أجلِّهم فلا يكونُ حينئذٍ نافلةً على ما ذكرُوه فلعلَّه إنما أرادَ أنَّ التاءَ فيه مثلُها في "النافلةِ" أي: تصلُح مع المؤنثِ والمذكِّر فتقولُ: "اشتريتُ العبدَ عامَّتَهُ" كما قالَ تعالى: {وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً}.
تنبيهٌ: خَالَفَ في "عامَّةٍ" المبرِّدُ، وقال: إنَّما هي بمعنى "أكثرِهِمْ".

524 - وَبَعْدَ كُلِّ أَكَّدُوا بِأَجْمَعَا = جَمْعَاءَ أَجْمَعِينَ ثُمَّ جُمَعَا
فقالُوا: "جاءَ الجيشُ كلُّه أجمعَ، والقبيلةُ كلُّها جمعاءُ، والزيدونَ كلُّهم أجمعُون، والهنداتُ كلُّهُنَّ جُمَعُ".
525 - (ودُونَ كُلٍّ قَدْ يَجِيءُ أَجْمَعَ = جَمْعَاءَ أَجْمَعُونَ ثُمَّ جُمَعَ)
المذكوراتُ: نحوُ: {لَأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}، {لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} وهو قليلٌ بالنسبةِ لما سبَقَ.

وقدْ يتبعُ أجمعُ، وأخواتُه، بأَكْتَعَ وكَتْعاءَ وأكتعينِ وكُتَعٍ، وقد يُتْبَعُ أكتعُ وأخواتُه وبِأَبْصَعَ وبَصْعاءَ وأَبْصَعِينَ وبُصَعَ، فيقال: "جاءَ الجيشُ كلُّه أَجْمَعَ أَكْتَعَ أَبْصَعَ، والقبيلةُ كلُّها جَمْعَاءَ كَتْعَاءَ بَصْعَاءَ والقومُ كلُّهُمْ أجمعونَ أَكْتَعُونَ أَبْصَعُون، والهنداتُ كُلُّهُنَّ جُمَعُ كُتَعُ بُصَعُ".
وزادَ الكوفيونَ بعد أَبْصَعَ وأخواتِه أَبْتَعَ وبَتْعَاءَ وأَبْتَعَيْنِ وبُتَعَ
قالَ الشارحُ: ولا يجوزُ أنْ يُتَعَدَّى هذا الترتيبُ، وشذَّ قولُ بعضِهِمْ "أَجْمَع أَبْصَع" وأشذُّ منُه قولُ الآخَرِ "جُمَع بُتَع" وربَّمَا أكَّدَ بأَكْتَعَ وأَكْتَعَيْنِ غيرَ مسبوقينِ بأجْمَع وأَجْمَعِينَ، ومنه قولُ الراجزِ:
799 - يَا لَيْتَنِي كُنْتُ صَبِيًّا مُرْضِعَا = يَحْمِلُنِي الذلْفَاءُ حَوْلاً أَكْتَعَا
إِذَا بَكَيْتُ قَبَّلَتْنِي أَرْبَعَا = إِذَا ظَلَلْتُ الدَّهْرَ أَبْكِي أَجْمَعَا
وفي هذا الرجزِ أمورٌ: إفرادُ "أَكْتَعَ" عن "أَجْمَعَ" وتوكيدُ النكرةِ المحدودةِ، والتوكيدُ بـ "أجمعَ" غيرُ مسبوقٍ بـ "كلٍّ"، والفصلُ بينَ المؤكِّدِ والمؤكَّدَ ومثلُه في التنزيلِ {وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ}.
تنبيهاتٌ: الأَوَّلُ: زعمَ الفرَّاءُ أنَّ "أجمعينَ" تفِيدُ اتِّحادَ الوقتِ، والصحيحُ أنَّها كـ"كلٍّ" في إفادةِ العمومِ مطلقًا، بدليلِ قولِه تعالى {لَأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.
الثاني: إذا تكرَّرَتْ ألفاظُ التوكيدِ فهي للمتبوعِ وليسَ الثاني تأكيدًا للتأكيدِ.
الثالثُ: لا يجوزُ في ألفاظِ التوكيدِ القطعُ إلى الرفعِ ولا إلى النصبِ.
الرابعُ: لا يجوزُ عطْفُ بعضِها على بعضٍ فلا يقالُ: "قام َزيدٌ نفسُه وعينُه" ولا "جاءَ القومُ كلُّهُمْ وأجمعونَ" وأجازَه بعضُهم، وهو قولُ ابنِ الطَّرَاوَّةِ.
الخامسُ: قالَ في (التسهيلِ): وأُجْرِيَ في التوكيدِ مُجْرَى "كلِّ" مَا أَفَادَ معناه مِنَ الضَّرْعِ، والزَّرْعِ والسَّهْلِ، والجَبَلِ، واليدِ، والرجُلِ، والبطنِ والظَّهْرِ، يشيرُ إلى قولِهم: "مُطِرْنَا الضَّرْعَ وَالزَّرْعَ" و"مُطِرْنَا السَّهْلَ وَالجَبَلَ" و"ضرَبْتُ زيدًا اليدَ والرِّجْلَ"، و"ضربتُه البطنَ والظَّهْرَ".
السادسُ: ألفاظُ التوكيدِ معارفُ أمَّا ما أُضِيفَ إلى الضميرِ فظاهرٌ وأما "أجمعُ" وتوابعُه ففي تعريفِه قولانِ:
أحدُهما: أنَّهُ بِنِيَّةِ الإضافةِ، ونُسِبَ لسيبويهِ، والآخَرُ بالعَلَمِيَّةِ عُلِّقَ عَلى معنَى الإحاطةِ.
526 - وَإِنْ يُفِدْ تَوْكِيدُ مَنْكُورٍ قُبِلْ = وَعَنْ نُحَاةِ البَصْرَةِ المَنْعِ شَمِلْ
(وَإِنْ يُفِدْ تَوْكِيدُ مَنْكُورٍ) بواسطةِ كونِه محدودًا وكونِ التوكيدِ مِنْ ألفاظِ الإحاطةِ (قُبِلَ) وِفَاقًا للكوفيِّينَ والأخفشِ، تقول: "اعْتَكَفْتُ شَهْرًا كُلَّهُ" ومنه قولُه [من البسيط]:
800 - لَكِنَّهُ شَاقَهْ أَنْ قِيَل ذَا رَجَبٍ = يَا لَيْتَ عِدَّةَ حَوْلٍ كُلِّهِ رَجَبُ
وقولُه [من الرجز]:
تَحْمِلُنِي الذَّلْفَاءُ حَوْلاً أَكْتَعًا

وقولُهُ [من الرجز]:
801 - قَدْ صَرَّتِ البَكْرَةُ يَوْمًا أَجْمَعًا
(وَعَنْ نُحَاةِ البَصْرَةِ المَنْعُ شَمِلْ) أي: عَمَّ المفيدُ وغيرُ المفيدِ ولا يجوزُ: "صُمْتُ زَمَنًا كُلَّهُ" ولا "شَهَرَ نَفْسَهُ".

527 - وَأَغْنِ بِكِلْتَا فِي مُثَنًّى وَكِلاَ = عَنْ وَزْنِ فَعْلاَءَ وَوَزْنِ أَفْعَلاَ
(وَأَغْنِ بِكِلْتَا فِي مُثَنًّى وَكِلاَ * عَنْ) تثنيةِ (وَزْنِ فَعْلاَءَ وَوَزْنِ أَفْعَلاَ) كما اسْتَغْنَى بِتَثْنِيَةِ "سِيٍّ" عن تثنية "سَوَاءٍ" فلا يجوزُ "جاءَ الزيدانِ أجمعَانِ" ولا "الهندانِ جمعاوانِ" وأجازَ ذلكَ الكوفيون والأخفشُ قياسًا معترفينَ بعدمِ السماعِ.
تنبيهانِ:
الأَوَّلُ: المشهورُ أنَّ "كِلاَ" للمذكَّرِ "وكلتَا" للمؤنَّثِ قالَ في (التسهيلِ): وقد يُسْتَغْنَى بـ "كليهما" عن "كلتيهما" أشارَ بذلك إلى قولِه [من الطويل]:
802 - يَمُتُّ بِقُرْبِى الزَّيْنَبَيْنِ كِلَيْهِمَا = إِلَيْكَ وَقُرْبَى خالدٍ وحبيبِ
وقالَ ابنُ عصفورٍ: هو مِنَ تذكيرٍ المؤنثِ حملا على المعنى للضرورةِ كأنَّهُ قال: بِقُرْبَى الشخصينِ.
الثاني: ذَكَرَ في (التسهيلِ) أيضًا أنَّهُ قد يُسْتَغْنَى عن "كليهما" و"كلتيهما" بـ "كلِّهما" فيقالَ على هذا: "جاءَ الزيدانِ كُلُّهما" و"الهندانِ كُلُّهما".
528 - وَإِنْ تُؤَكِّدَ الضميرَ المُتَّصِلْ = بِالنَّفْسِ وَالعَيْنِ فَبَعْدَ المُنْفَصِلْ
529 - عَنَيْتُ ذَا الرَّفْعِ وَأَكَّدُوا بِمَا = سِوَاهُمَا وَالقَيْدُ لَنْ يَلْتَزِمَا
(وَإِنْ تُؤَكِّدِ الضميرَ المُتَّصِلْ) مُستَتِرًا كانَ أو بارزًا (بِالنَّفْْسِ والعْيِنِ فَبَعْدَ) الضميرِ (المُنْفَصِلِ) حتمًا (عَنَيْتُ) المتصلَ (ذا الرفعِ)، نحوُ: "قُمْ أَنْتَ نفسُكَ، أو عينُكَ، وقومُوا أنتُم أنفسُكُم، أو أعينُكُم"، فلا يجُوزُ: قم نفسُكَ، ولا قومُوا أعينُكُم، بخلافِ "قامَ الزيدونَ أنفسُهم". فيمتنعُ الضميرُ، وبخلافِ "ضربتُهم أنفسَهم ومررْتُ بِهم أعينِهم" فالضميرُ جائزٌ لا واجبٌ.
تنبيه ٌ: ما اقتضَاه كلامُه هنا مِنْ وجوبِ الفصلِ بالضميرِ المنفصلِ هو ما صرَّحَ به في (شرح الكافيةِ) ونصَّ عليه غيرُه، وعبارةُ (التسهيلِ) تقتضي عدمَ الوجوبِ. اهـ.

(وَأَكَّدُوا بِمَا سِوَاهُمَا) أي بِمَا سِوَى "النَّفْسِ" و"العينِ" (والقيدُ) المذكورُ (لَنْ يُلْتزَمَا) فقالُوا: "قومُوا كلَّكُم وجاؤُوا كلُّهُم" مِنْ غيرِ فَصْلٍ بالضميرِ المنفصلِ ولو قلْتَ: "قُومُوا أنتُمْ كلَّكُم وجاؤُوا كلَّهُم" لكانَ حَسَنًا.

530 - وَمَا مِنَ التوكيدِ لفْظِيُّ يَجِي = مُكَرَّرًا كقولِكَ: "أَدْرُجِي أَدْرُجِي"
(وَمَا مِنَ التوكيدِ لفظيٌّ يَجِي * مُكَرَّرًا) "مَا": مُبْتدَأٌ موصولٌ و"لفظيٌّ": خَبَرُ مبتدأٍ محذوفٍ، هو العائدُ والمبتدأُ معَ خبرِه صلةُ "مَا" وجازَ حذفُ صدرِ الصلةِ -وهو العائدُ- للطولِ بالجارِّ والمجرورِ وهو متعلِّقٌ باستقرارٌ على أنَّهُ حالٌ من الضميرِ المستترِ في الخبرِ، إذ هو في تأويلِ المشتقِ و"مكرَّرًا": حالٌ من فاعلِ "يجي" المستترِ, وجملةُ "يَجِي" خبرُ الموصولِ: أي النوعِ الثاني من نوعي التوكيدِ وهو التوكيدُ اللفظيُّ هو: إعادة ُاللفظِ أو تقويتُه بموافقةِ معنَى كذا، عرَّفَهُ في (التسهيل) فالأوَّلُ يكونُ في الاسمِ والفعلِ والحرفِ والمركَّبِ غيرِ الجملةِ، والجملةِ، نحوُ: "جاءَ زيدٌ زيدٌ". "ونِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ". وقولُه [من الطويل]:
803 - فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ المِرَاءَ فَإِنَّهُ = إِلَى الشَرِّ دَعَّاءٌ وللشَّرِ جَالِبُ
ونحو: "قامَ قامَ زيدٌ"، ونحو: "نِعْمَ نِعْمَ". وكقولِه [من الطويل]:
804 - فَتِلْكَ وُلاَةُ السُّوءِ قَدْ طَالَ مُكْثُهُمْ = فَحَتَّامَ حَتَّامَ العَنَاءُ المُطَوَّلُ؟
والجملةُ (كقولِكَ ادْرُجِي ادْرُجِي) وقولِه [من الهزج]:
805 - لَكَ اللَّهُ على ذَاكَ = لَكَ اللَّهُ لَكَ اللَّهُ
والثاني كقولِه [من الرمل]:
806 - أَنْتَ بِالخَيْرِ حَقِيقٌ قَمِنُ

وقولِه [من الطويل]:
807 - وَقُلْنَ عَلَى الفِرْدَوْسِ أَوَّلُ مَشْرَبٍ = أَجَلْ جَيْرِ إِنْ كانَتْ أُبِيحَتْ دَعَاثُرُهْ
وقولِه [من الكامل]:
808 - فَرَّتْ يَهُودُ وَأَسْلَمَتْ جِيرَانُهَا = صَمِّي لِمَا فَعَلَتْ يَهُودُ صَمَامِ
ومنه توكيدُ الضميرِ المتَّصِلِ بالمنفصلِ.
تنبيهٌ: الأكثرُ في التوكيدِ اللفظيِّ أنْ يكونَ في الجُمَلِ، وكثيرًا ما يقترِنُ بعاطفٌ، نحوُ: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} الآيةَ، ونحوُ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} ونحوُ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} الآيةَ، ويأتي بدونِه، نحوُ: قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: ((وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا)) ثلاثَ مرَّاتٍ، ويجِبُ التركُ عندَ إيهامِ التعدُّدِ نحوُ: "ضربْتُ زيدًا ضربْتُ زيدًا"، ولو قيلَ: "ثم ضربْتُ زيدًا" لتُوُهِّمَ أنَّ الضربَ تكرَّرَ مِنْكَ مَرَّتَيْنِ تَرَاخَتْ إحدَاهما عنِ الأخرى، والغرضُ أنَّهُ لم يقَعْ منك إلا مرَّةً واحدةً اهـ.

531 - ( وَلاَ تُعِدْ لَفْظَ ضَمِيرٍ مُتَّصِلْ = إِلاَّ معَ اللفظِ الذي به وُصِلَ)
فتقول: "قُمْتُ قُمْتُ" و"عجِبْتُ منك منك". لأن إعادتَه مجرَّدًا تخرِجُه عن الاتصالِ.
532 - (كَذَا الحُرُوفُ غَيرُ مَا تَحَصَّلاَ = بِهِ جَوَابٌ كنَعَمْ وكبَلَى)
و"أَجَلْ"، و"جَيْرِ"، و"إِي"، و"لا"َ لكونِها كالجزءِ من مصحوبِها.
فيُعادُ مع المؤكِّد ما اتصلَ بالمؤكِّد إنْ كانَ مضمرًا نحو: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مُتُمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} ويُعَادُ هو أو ضميرُه إنْ كانَ ظاهرًا، نحوُ: "إِنَّ زيدًا إِنَّ زيدًا فاضلُ"، أو "إِنَّ زيدًا إنه فاضلُ"، وهو الأَوْلى، ولابدَّ مِنَ الفصلِ بينَ الحرفينِ كما رأيْتَ.
وشذَّ اتصالُهما كقولِه [من الخفيف]:
809 - إِنَّ إِنَّ الكريمَ يحلُمُ مَا لَمْ = يَرَيَنْ مَنْ أَجَارَهُ قَدْ ضِيمَا
وأسهلُ منه قولُه [من الرجز]:
810 - حتَّى تَرَاهَا وَكَأَنَّ وَكَأَنَّ = أَعْنَاقَهَا مُشَدَّدَاتٌ بِقَرَنْ
وقولُه [من الخفيف]:
811 - لَيْتَ شِعْرِي هَلْ ثُمَّ هَلْ آتِيَنْهُمْ = أَمْ يَحُولَنَّ دونَ ذاكَ الحِمَامُ
وقوله [من الرجز]:
812 - لا يُنْسِكَ الأَسَى تـَأَسِّيًا فَمَا = مَا مِنْ حِمَامٍ أحدٌ مُعْتَصِمَا
للفصلِ فِي الأَوَّلَيْن بالعاطفِ وفي الثالثِ بالوقفِ.
وأشذُّ منه قولُه [من الوافر]:
813 - فَلا واللَّهِ لا يَلْفَى لِمَا بِيْ = وَلاَ لِِمَا بِهِمْ أَبَدًا دَوَاءُ
لكونِ الحرفِ المُؤَكَّدِ، وهو اللامُ موضوعًا على حرفٍ واحدٍ.
وأسهلُ من هذا قولُه [من الطويل]:
814 - فَأَصْبَحْنَ لاَ يَسْأَلْنَهُ عَنْ بمَا بِهِ = أَصَعَّدَ فِي عُلُوِّ الهوى أَمْ تَصَوَّبَا؟
لأنَّ المؤكَّد على حرفينِ، ولِاخْتِلاَفِ اللَّفْظَيْنِ.
أمَّا الحروفُ الجوابيَّةُ فيجوزُ أن تُؤَكَّدَ بإعادةِ اللفظِ مِنْ غيرِ اتصالِها بشيءٍ ؛ لأنَّها لصحَّةِ الاستغناءِ بها عن ِذكْرِ المجابِ به هي كالمستقِلِّ بالدلالةِ على معناه، فتقولُ: نَعَمْ نَعَمْ، وبَلَى بَلَى، ولاَ لاَ ومنه قوله [من الكامل]:
815 - لاَ لاَ أَبُوحُ بِحُبِّ بَثْنَةَ، إِنَّها = أَخَذَتْ عَلَيَّ مَوَاثِقًا وَعُهُودًا
533 - ( وَمُضْمَرِ الرَّفْعِ الذي قدِ انْفَصَلَ = أَكِّدْ بِهِ كُلَّ ضَمِيرٍ اتَّصَلْ)
نحو: قُمْ أَنْتَ، ورأيتُكَ أنتَ، ومررْتُ بك أنتَ، وزيدٌ جاءَ هُو، ورأيتَنِي أَنَا.
تنبيهٌ: إذا أَتْبَعْتَ المتَّصِلَ المنصوبَ بمنفصلٍ ٍمنصوبٍ، نحوُ: "رأيتُكَ إيَّاكَ"، فمذهبُ البصريِّينَ أنَّهُ بدلٌ ومذهبُ الكوفيِّينِ أنَّهُ توكيدٌ، قالَ المصنِّفُ: وقولُهم عندي أصحُّ، لأن نسبةَ المنصوبِ المنفصلِ مِنَ المنصوبِ المُتَّصِلِ كنسبةِ المرفوعِ المُنْفَصِلِ مِنَ المرفوعِ المتصلِ في نحوِ: "فَعَلْتَ أَنْتَ" والمرفوعُ تأكيدٌ بإجماعٍ.
خاتمةٌ: في مسائلَ منثورةٍ: الأُولَى: لا يُحْذَفُ المُؤَكَّدُ ويقامُ المؤكِّدُ مقامَه على الأصحِّ، وأجازَ الخليلُ، نحوُ: "مررْتُ بزيدٍ وأتاني أخوه أنفسُهما" وقدَّرَهُ: هما صاحباي أنفسُهما.
الثانيةُ: لا يُفْصَلُ بينَ المؤكِّدِ والمؤكَّدِ بـ "إما" على الأصحِّ، وأجازَ الفرَّاءُ: "مررْتُ بالقومِ إما أجمعينَ وإما بعضُهم".
الثالثة: لا يلي العاملَ شيءٌ مِنْ ألفاظِ التوكيدِ، وهو على حالِه في التوكيدِ إلا "جميعًا" و"عامَّةً" مطلقًا فتقولُ: "القومُ قامَ جميعُهُمْ وعامَّتُهُمْ" و"رأيتُ جميعَهُمْ وعامَّتَهُمْ" و"مررْتُ بجميعِهِمْ وعامَّتِهِمْ" وَإِلاَّ "كُلاًّ" و"كِلاَ" و"كِلْتَا": معَ الابتداءِ بكثرةٍ ومعَ غيرِه بِقِلَّةٍ، فالأَوَّلُ، نحوُ: "القومُ كلُّهُمْ قائمٌ"، و"الرجلانِ كلاهما قائمٌ" و"المَرْأَتَانِ كِلْتَاهُمَا قائمةٌ"، والثاني كقولِه: [من الطويل]:
816 - يَمِيدُ إِذْا وَالَتْ عَلَيْهِ دِلاَؤُهُمْ = فَيَصْدُرُ عَنْهُ كُلُّهَا وَهُوَ نَاهِلُ
وقولُهم: "كِلَيْهِمَا وَتَمْرًا"، أي: أَعْطِنِي كِلَيْهِمَا،
وأما قولُه [من الطويل]:
817 - فَلَمَّا تَبَيَّنَّا الهُدَى كَانَ كُلُّنَا = عَلَى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَالحَقِّ وَالتُّقَى
فاسمُ "كانَ" ضميرَ الشأنِ لا "كلُّنَا".
الرابعةُ: يلزمُ تابِعِيَّةُ "كلّ" بمعنى كاملٍ، وإِضَافَتُهُ إلى مثلِ متبوعِهِ مطلقًا نعتًا لا توكيدًا، نحو: "رأيتُ الرجلَ كلَّ الرجلِ"، و"أكلْتُ شاةً كلَّ شاةٍ".
الخامسةُ: يلزمُ اعتبارُ المعنى في خبرِ "كلّ" مضافًا إلى نكرةٍ، نحو: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ}، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ولا يلزمُ مضافًا إلى معرفةٍ، فتقولُ: "كُلُّهُمْ ذَاهِبٌ، وَذَاهِبُونَ"، واللَّهُ أعلمُ.

محمد أبو زيد 25 ذو الحجة 1429هـ/23-12-2008م 02:36 PM

دليل السالك للشيخ: عبد الله بن صالح الفوزان
 

التَّوْكِيدُ

التوكيدُ الْمَعنوِيُّ وألفاظُهُ
520- بِالنَّفْسِ أوْ بِالْعَيْنِ الاِسْمُ أُكِّدَا = مَعَ ضَمَيرٍ طَابَقَ المُؤكَّدَا
521 وَاجْمَعْهُمَا بِأَفْعُلٍ إنْ تَبِعَا = مَا لَيْسَ وَاحِداً تَكُنْ مُتَّبِعاً
522- وَكُلاًّ اذْكُرْ فِي الشُّمُولِ وَكِلا = كِلْتَا جَمِيعاً بِالضَّمِيرِ مُوصَلا
523- وَاسْتَعْمَلُوا أَيْضاً كَكُلٍّ فَاعِلَهْ = مِنْ عَمَّ فِي التَّوْكِيدِ مِثْلَ النَّافِلَهْ
هذا النوعُ الثاني مِن التوابِعِ، وهوَ التوكيدُ، والمرادُ بهِ: المُؤَكِّدُ، بكسْرِ الكافِ مِنْ إطلاقِ المصدَرِ مُراداً بهِ اسْمُ الفاعلِ.

والتوكيدُ نوعانِ:
1- مَعنويٌّ: وهوَ المرادُ هنا.
2- لَفظيٌّ: وسيأتي إنْ شاءَ اللَّهُ.

تعريفُ التوكيدِ المعنويِّ:
فالتوكيدُ المعنويُّ: تابِعٌ يُذْكَرُ لرفْعِ احتمالِ تقديرِ مُضَافٍ إلى المتبوعِ، أوْ إرادةِ الخصوصِ بما ظاهِرُهُ العمومُ.
فالأوَّلُ: يكونُ بـ(النَّفْسِ والعَيْنِ)؛ نحوُ: حَادَثَنِي الأميرُ نفْسُهُ. فلو اقتَصَرَتْ على المُؤَكَّدِ - بفتحِ الكافِ - لاحتُمِلَ أنْ يكونَ هناكَ مُضَافٌ محذوفٌ، وأنَّ الذي حَادَثَكَ وَكِيلُهُ أوْ أَمينُ سِرِّهِ أوْ رَجُلٌ آخَرُ مِنْ مُساعِدِيهِ، فإذا ذُكِرَ التوكيدُ ارتَفَعَ ذلكَ الاحتمالُ، فـ(نفْسُهُ): توكيدٌ مَعنوِيٌّ مرفوعٌ، والهاءُ: مُضافٌ إليهِ.
ويُشْتَرَطُ اتِّصالُهما بضميرٍ عائدٍ على المُؤَكَّدِ مُطَابِقٍ لهُ في الإفرادِ والتذكيرِ وفُرُوعِهما؛ لِيَحْصُلَ الربْطُ بينَ التابِعِ والمتبوعِ.
ويَجِبُ إفرادُهما معَ المُفرَدِ كما في الْمِثالِ، وأمَّا معَ التثنيَةِ والجمْعِ فَيُجْمَعَانِ جَمْعَ تكسيرٍ للقِلَّةِ على وزْنِ (أَفْعُلٍ). وهذا الجمْعُ معَ الجماعةِ واجبٌ، ومعَ الاثنينِ أرْجَحُ مِن الإفرادِ، تقولُ: جاءَ المُحَمَّدانِ أَنْفُسُهُما وأعْيُنُهما، وجاءَ المُحَمَّدونَ أنفسُهُمْ وأعينُهُمْ، وجَاءَت الفَاطِماتُ أَنْفُسُهُنَّ أوْ أَعْيُنُهُنَّ.
أمَّا النوعُ الثاني مِن التوكيدِ الْمَعنويِّ، فهوَ ما يُرادُ بهِ رفْعُ احتمالِ إرادةِ الخصوصِ بلَفْظِ العمومِ، ولهُ الألفاظُ الآتيَةُ:
أوَّلاً: كُلٌّ، وجميعٌ؛ نحوُ: قَرَأْتُ (بُلوغَ الْمَرامِ) كُلَّهُ أوْ جَميعَهُ. فَلَوْ لَمْ يُؤْتَ بكَلِمَةِ (كُلَّ) أوْ (جَمِيعَ) لَكَانَ مِن المحتَمَلِ أنَّ المرادَ مِن الْمَقروءِ هوَ الأكثَرُ أو الأقَلُّ أو النِّصْفُ، فإذا أرَدْنَا رفْعَ هذا الاحتمالَ، زِدْنَا كلمةَ (كُلَّهُ). ولا يُؤَكَّدُ بِهِمَا إلاَّ بثلاثةِ شُروطٍ:
الأوَّلُ: أَنْ يَكُونَ المُؤَكَّدُ بهما غَيْرَ مُثَنًّى، وهوَ المفرَدُ والجمْعُ.
الثاني: أنْ يكونَ المؤكَّدُ بهما جَمْعاً لهُ أَفرادٌ، أوْ مُفْرَداً يَتجزَّأُ بنَفْسِهِ أوْ بعامِلِهِ.
فالأوَّلُ نحوُ: حَضَرَ الضيوفُ كُلُّهم، والثاني نحوُ: قَرَأْتُ الكتابَ كُلَّهُ، والثالثُ نحوُ: اشترَيْتُ الْحِصانَ كُلَّهُ؛ لأنَّ الْحِصانَ يَتجزَّأُ باعتبارِ الشِّرَاءِ، ولا يَجوزُ: جاءَ الضَّيْفُ كُلُّهُ؛ لعَدَمِ الفائدةِ مِن التوكيدِ؛ إذْ يَستحيلُ نِسبةُ المجيءِ إلى جُزْءٍ منهُ دُونَ الآخَرِ.
الشرْطُ الثالثُ: أنْ يَتَّصِلَ بهما ضميرٌ عائدٌ على المؤكَّدِ كما في الأمثِلَةِ.
ثانياً: كِلا وكِلْتَا، وهما لتوكيدِ الْمُثَنَّى، فـ(كِلا) للمثنَّى المذكَّرِ، و(كِلتا) للمؤنَّثِ؛ نحوُ: نَجَحَ الأخوانِ كِلاهُما، وفازَت البِنتانِ كِلْتَاهُما. فلولا التوكيدُ لكانَ مِن المحتمَلِ اعتبارُ التثنيَةِ غيرَ حَقيقيَّةٍ، وأنَّ الذي نَجَحَ هوَ أحَدُهما.
ويُؤَكَّدُ بهما بِشُروطٍ ثلاثةٍ:
1- أنْ يَصِحَّ حُلولُ المفرَدِ مَحَلَّهما؛ لِيُمْكِنَ تَوَهُّمُ إرادةِ البعْضِ بالكلِّ كما في المثالَيْنِ، بخِلافِ: اختَصَمَ المحمَّدانِ كِلاهما، فلا يَصِحُّ لِعَدَمِ صِحَّةِ حُلُولِ المُفْرَدِ مَحَلَّهُما؛ لأنَّ الاختصامَ لا يَكُونَ إلاَّ بينَ اثْنَيْنِ. ومِن النُّحَاةِ مَنْ يُجيزُ ذلكَ مُحْتَجًّا بأنَّ التوكيدَ قدْ يَأتِي للتقويَةِ، لا لرَفْعِ الاحتمالِ.
2- أَنْ يَتَّحِدَ مَعْنَى المُسْنَدِ إلى المُؤَكَّدِ، فإن اختَلَفَ المُسْنَدُ لم يَصِحَّ؛ نحوُ: ماتَ هشامٌ وعاشَ بَكْرٌ كِلاهُمَا.
3- أنْ يَتَّصِلَ بهما ضميرٌ عائدٌ على المؤكَّدِ بهما، كما في المثالَيْنِ.
ثالثاً: لَفْظُ عَامَّةٍ، وهيَ مِثْلُ (كُلٍّ وجميعٍ) في إفادةِ العمومِ، والتاءُ في آخِرِها زائدةٌ لازِمَةٌ لا تُفَارِقُها، فتكونُ معَ المؤنَّثِ والمذكَّرِ؛ لأنَّها للمبالَغَةِ ولَيْسَتْ للتأنيثِ؛ نحوُ: حَضَرَ الجيشُ عامَّتُهُ، وحَضَرَ الطلاَّبُ عامَّتُهم، وحَضَرَت الفِرقةُ عامَّتُها، وحَضَرَت الفِرَقُ عامَّتُهُنَّ، وحضَرَ الْجَيشانِ عامَّتُهُما، وحضَرَت الفِرقتانِ عامَّتُهُما.
وإلى ما تَقَدَّمَ أشارَ ابنُ مالِكٍ بقولِهِ: (بالنَّفْسِ أوْ بالعَيْنِ الاسمُ أُكِّدَا.. إلخ)؛ أيْ: أُكِّدَ الاسمُ بلَفْظِ: النفْسِ أو العينِ، بشَرْطِ اتِّصالِهما بضميرٍ يُطابِقُ المؤكَّدَ. ثمَّ ذَكَرَ أنَّ هَذَيْنِ اللفْظَيْنِ إنْ كَانَا تابِعَيْنِ؛ أَيْ: مُؤَكِّدَيْنِ لغيرِ الواحدِ، وهوَ المثنَّى والجمْعُ، فَجِئْ بهما مَجْمُوعَيْنِ على وزْنِ (أَفْعُلٍ) تَكُنْ مُتَّبِعاً المنهَجَ الصحيحَ، وَقَوْلُهُ: (بِأَفْعُلٍ)؛ أيْ: على أفْعُلٍ.
ثمَّ بَيَّنَ أنَّهُ عندَ إرادةِ الشمولِ يُستعمَلُ لفْظُ التوكيدِ الدالُّ على ذلكَ، وهوَ (كُلٌّ) و(كِلا) و(كِلتا) و(جميعٌ). ولا بُدَّ مِنْ وَصْلِ لفْظِ التوكيدِ بضميرٍ مُطابِقٍ للمُؤَكَّدِ.
ثمَّ ذَكَرَ أنَّ العرَبَ استَعْمَلَتْ في الدَّلالةِ على الشمولِ لَفْظاً آخَرَ يُفيدُ ما يُفيدُهُ (كُلٌّ)، وهوَ لفظٌ على وزْنِ (فَاعِلَهْ) مِن الفعْلِ (عَمَّ)، وهوَ (عَامَّةٌ)، وأصلُهُ: عَامِمَةٌ، فاجتمَعَ مِثلانِ، فأُدْغِمَ الأوَّلُ في الثاني، وأرادَ بقولِهِ: (مِثْلَ النافِلَهْ)؛ أيْ: في الوَزْنِ، ولُزُومِ التاءِ معَ المُذَكَّرِ والمؤنَّثِ.

تقويَةُ التَّوْكِيدِ
524- وَبَعْدَ كُلٍّ أَكَّدُوا بِأَجْمَعَا = جَمْعَاءَ أَجْمَعِينَ ثُمَّ جُمَعَا
525- وَدُونَ كُلٍّ قَدْ يَجِيءُ أَجْمَعُ = جَمْعَاءُ أجْمَعُونَ ثُمَّ جُمَعُ
يُجاءُ بعدَ (كُلٍّ) بأَجْمَعَ وما بعدَها؛ لتقويَةِ قَصْدِ الشُّمُولِ. فيُؤْتَى بـ(أَجْمَعَ) بعدَ (كُلِّهِ) نحوُ: جاءَ الرَّكْبُ كُلُّهُ أَجْمَعُ، قالَ تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}. فـ (كُلُّهُمْ): توكيدٌ مَعنوِيٌّ لـ (الْمَلائِكَةُ) مرفوعٌ مِثلُهُ، والهاءُ: مضافٌ إليهِ، والميمُ: علامةُ الجمْعِ، (أَجْمَعُونَ): توكيدٌ مَعنوِيٌّ ثانٍ مرفوعٌ بالواوِ. ويُؤْتَى بـ(جُمَعَ) بَعْدَ (كُلِّهِنَّ) نحوُ: جَاءَت الفَتياتُ كُلُّهُنَّ جُمَعُ.
ويَجوزُ استعمالُ (أَجْمَعَ) وما بعدَهُ في التوكيدِ غَيْرَ مَسبوقةٍ بكلمةِ (كُلٍّ)؛ نحوُ: جاءَ الجيشُ أَجْمَعُ، وجاءَت القَبيلةُ جَمْعَاءُ، وجاءَ القومُ أَجْمَعونَ، وجاءَ النِّساءُ جُمَعُ، قالَ تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}، {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}.
وهذا معنى قولِهِ: (وبعدَ كُلٍّ أَكَّدُوا بأَجْمَعَا..)؛ أيْ: بعْدَ لفْظَةِ (كُلٍّ) التي للتوكيدِ استَعْمَلَ العرَبُ الألفاظَ التي تَجيءُ بعدَها لتقويَةِ التوكيدِ. وقولُهُ: (بِأَجْمَعَا)، ممنوعٌ مِن الصرْفِ للعَلَمِيَّةِ والوزْنِ، والألفُ للإطلاقِ. (جَمْعَاءَ): ممنوعٌ مِن الصرْفِ لألِفِ التأنيثِ الممدودةِ. (ثُمَّ جُمَعَا): ممنوعٌ مِن الصرْفِ للعَلَمِيَّةِ والعَدْلِ؛ لأنَّها جَمْعُ (جَمْعَاءَ)، وحَقُّهَا (جُمْعُ)؛ كـ(حَمْرَاءَ) و(حُمْرَ)، والألِفُ للإطلاقِ.
ثمَّ بَيَّنَ أنَّ هذهِ الألفاظَ قدْ تُستعمَلُ وَحْدَها، فلا تَجِيءُ بعدَ لفظةِ (كُلٍّ). وفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: (قدْ يَجِيءُ..) أنَّ ذلكَ قليلٌ، ولكنَّها قِلَّةٌ نِسبيَّةٌ لا قِلَّةٌ ذاتيَّةٌ تَمْنَعُ القِياسَ، فهيَ قِلَّةٌ بالنِّسبةِ لإِتيانِها معَ (كُلٍّ)؛ لأنَّهُ جاءَ في القرآنِ التَّوْكِيدُ بهِ دُونَ (كُلٍّ) كثيراً.

حكْمُ توكيدِ النكِرَةِ
226- وَإنْ يُفِدْ تَوْكِيدُ مَنْكُورٍ قُبِلْ = وَعَنْ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ المَنْعُ شَمِلْ
اختَلَفَ النَّحْوِيُّونَ في جَوازِ توكيدِ النكِرَةِ، فقالَ البَصْرِيُّونَ: لا يَجُوزُ تَوْكِيدُها مُطْلَقاً، سَوَاءٌ كانتْ مَحدودةً، وهيَ التي تَدُلُّ على زمَنٍ محدودٍ بابتداءٍ وانتهاءٍ مُعَيَّنَيْنِ، أوْ على شيءٍ معلومِ الْمِقدارِ؛ كـ(شهْرٍ وَحَوْلٍ وأُسبوعٍ ويومٍ ودِرْهَمٍ ودِينارٍ)، أوْ كانتْ غيرَ مَحدودةٍ؛ كـ(وَقْتٍ وزمَنٍ وحِينٍ). قَالُوا: لأنَّ ألفاظَ التوكيدِ مَعَارِفُ، فيَلْزَمُ التخالُفُ بينَ المُؤَكَّدِ والمؤكِّدِ.
وقالَ الكُوفِيُّونَ: يَجوزُ توكيدُ النَّكِرَةِ إذا اجتمَعَ فيها أَمْرَانِ:
الأوَّلُ: أنْ تَكُونَ النَّكِرَةُ محدودةً كما تَقَدَّمَ.
الثاني: أنْ يكونَ لفْظُ التوكيدِ مِنْ أَلْفُظِ الإحاطةِ والشُّمولِ.
وذلكَ لِوُرودِ السماعِ عن العرَبِ، ولحصولِ الفائدةِ؛ لأنَّ التوكيدَ يُفيدُ النكِرَةَ شيئاً مِن التحديدِ والتخصيصِ يُقَرِّبُها مِن التعريفِ، فتقولُ: خَرَجْتُ إلى الريفِ يَوماً كُلَّهُ، سافرْتُ إلى مكَّةَ أُسبوعاً جَميعَهُ، تَصَدَّقْتُ بدِينارٍ كُلِّهِ. بخِلافِ: عَمِلْتُ زَمَناً كُلَّهُ، أَنْفَقْتُ مالاً كُلَّهُ؛ لِتَخَلُّفِ الأمْرِ الأوَّلِ. وبخِلافِ: عَمِلْتُ يَوماً نفْسَهُ؛ لِتَخَلُّفِ الأمْرِ الثاني، فلا يُتَكَلَّمُ بذلكَ.
وممَّا وَرَدَ عن العرَبِ قولُ الشاعرِ:
لَكِنَّهُ شَاقَهُ أنْ قِيلَ ذا رَجَبُ = يا لَيْتَ عِدَّةَ حَوْلٍ كُلِّهِ رَجَبُ
فأكَّدَ الشاعرُ النكِرَةَ وهيَ قولُهُ: (حَوْلٍ) بـ(كُلٍّ).
وهذا القولُ هوَ الصحيحُ، وهوَ اختيارُ ابنِ مالِكٍ في الأَلْفِيَّةِ، وقالَ في (شَرْحِ الكافيَةِ): وإجازَتُهُ أَوْلَى بالصوابِ؛ لصِحَّةِ السماعِ بذلكَ.
وهذا معنى قولِهِ: (وإنْ يُفِدْ تَوكيدُ مَنكورٍ قُبِلْ.. إلخ)؛ أيْ: إنْ كانَ توكيدُ النكِرَةِ يُفيدُ فهوَ مَقبولٌ وجائزٌ. وتَقَدَّمَ أنَّ الإفادةَ تَحْصُلُ بالنكِرَةِ المحدودةِ إذا كانَ لفْظُ التوكيدِ مِنْ أَلْفُظِ الشمولِ. والبَصْرِيُّونَ يَمنعونَ توكيدَها (مُطْلَقاً)؛ أخْذاً مِنْ قولِهِ: (شَمِلْ).
لا يُثَنَّى (أَجْمَعُ وجَمْعَاءُ) استغناءً بـ(كِلا وكِلْتَا)
527- وَاغْنَ بكِلْتَا فِي مُثَنًّى وَكِلا = عَنْ وَزْنِ فَعْلاءَ وَوَزْنِ أَفْعَلا
يَعنِي أنَّ العرَبَ استَغْنَتْ بـ(كِلتا) في الْمُثَنَّى الْمُؤَنَّثِ عنْ وزْنِ (فَعلاءَ)، وهوَ (جَمعاءُ)، وبـ(كِلا) في الْمُثَنَّى المذكَّرِ عنْ وَزْنِ (أفْعَلَ)، وهوَ (أَجمَعُ)، فتقولُ: قامَت البِنْتَانِ كِلْتَاهُما، وقامَ الرَّجُلانِ كِلاهُما، ولا تقولُ: قَامَت البِنْتَانِ جَمْعَاوَانِ، ولا قامَ الرَّجُلانِ أَجْمَعَانِ.
وقولُهُ: (وَاغْنَ)، فعْلُ أمْرٍ مِنْ (غَنِيَ) كفَرِحَ؛ أي: اسْتَغْنَى. والمعنى: اسْتَغْنِ في توكيدِ المثنَّى بـ(كِلتا) و(كِلا) عنْ تثنيَةِ وَزْنِ (فَعلاءَ)، وهوَ (جَمعاءُ)، ووَزْنِ (أفْعِلاءَ)، وهوَ (أَجمَعُ). وحقُّ هذا البيتِ أنْ يكونَ قبلَ قولِهِ: (وإنْ يُفِدْ تَوكيدُ مَنكورٍ قُبِلْ..)؛ لأنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بـ(أَجمَعَ) و(جَمعاءَ) المذكورَيْنِ قَبْلُ.

توكيدُ الضميرِ الْمُتَّصِلِ
528- وَإنْ تُؤَكِّدِ الضَّمِيرَ المُتَّصِلْ = بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنِ فَبَعْدَ المُنْفَصِلْ
529- عَنَيْتُ ذَا الرَّفْعِ وَأكَّدُوا بِمَا = سِوَاهُمَا وَالْقَيْدُ لَنْ يُلْتَزَمَا
إذا أُريدَ توكيدُ الضميرِ الْمُتَّصِلِ المرفوعِ (المُسْتَتِرِ أو البَارِزِ) بالنفْسِ أوْ بالعَيْنِ، جِيءَ بفاصِلٍ بينَ لفْظِ التوكيدِ والمُؤَكَّدَ، وهوَ الضميرُ المنفَصِلُ المرفوعُ، تقولُ: أَدَّيْتَ أَنْتَ نَفْسُكَ الواجبَ. فـ(التاءُ): فاعِلٌ، و(أنتَ): توكيدٌ لفْظِيٌّ للضميرِ قَبْلَهُ، (نفْسُكَ): نفْسُ: توكيدٌ مَعنويٌّ للتاءِ، والكافُ: مضافٌ إليهِ. وتقولُ في توكيدِ الضميرِ الْمُسْتَتِرِ: تَصَدَّقْ أَنْتَ نَفْسُكَ بما يَنْفَعُكَ. فـ(أنتَ): توكيدٌ لَفْظِيٌّ للضميرِ الْمُسْتَتِرِ الذي هوَ فاعلُ (تَصَدَّقْ)، و(نفْسُكَ): توكيدٌ مَعنوِيٌّ للضميرِ الْمُسْتَتِرِ.
أمَّا الضميرُ المرفوعُ المُنْفَصِلُ فلا يَحتاجُ إلى فاصِلٍ، بلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الاسمِ الظاهِرِ، تقولُ: أَنْتَ نفْسُكَ المسؤولُ عنْ أُسْرَتِكَ.
وإذا كانَ الضميرُ مُتَّصِلاً غيرَ مرفوعٍ جازَ الفصْلُ وعَدَمُهُ، تقولُ: المُدَرِّسُونَ أكرَمْتُهم هم أنْفُسَهم، أوْ: أَكْرَمْتُهم أَنْفُسَهم، بغيرِ توكيدٍ بالضميرِ.
وكذا لوْ كانَ لفْظُ التوكيدِ غيرَ (النفْسِ والعَيْنِ)؛ نحوُ: المُحَمَّدونَ قَامُوا كُلُّهم.
وهذا معنى قولِهِ: (وإنْ تُؤَكِّدِ الضميرَ الْمُتَّصِلْ.. إلخ)؛ أيْ: إنْ أَرَدْتَ توكيدَ الضميرِ الْمُتَّصِلِ بالنفْسِ والعَيْنِ فأَكِّدْهُ بهما بعدَ الإتيانِ بالضميرِ المنفَصِلِ. ولَمَّا كانَ قولُهُ: (الضميرَ الْمُتَّصِلْ) لا يُبَيِّنُ نوعَ الضميرِ، أهوَ المرفوعُ أمْ غيرُ المرفوعِ، تَدارَكَ الأمرَ فقالَ: (عَنَيْتُ ذَا الرَّفْعِ)؛ أيْ: قَصَدْتُ بالضميرِ الْمُتَّصِلِ صاحِبَ الرفْعِ؛ أي: الضميرَ الْمُتَّصِلَ المرفوعَ. ثمَّ صرَّحَ بالمفهومِ فقالَ: (وأَكَّدُوا بِمَا سِوَاهُمَا والقَيْدُ لَنْ يُلْتَزَمَا)، والمعنى: أنَّهُ إذا أُكِّدَ الضميرُ الْمُتَّصِلُ المرفوعُ بغيرِ (النفْسِ والعَيْنِ)؛ فإنَّ القيْدَ، وهوَ التوكيدُ بالضميرِ المنفَصِلِ، لا يَلْزَمُ. وأفادَ قولُهُ: (لنْ يُلْتَزَمَا)، أنَّ توكيدَهُ بالضميرِ جائزٌ.

التوكيدُ اللَّفْظِيُّ
530- وَمَا مِن التَّوْكِيدِ لَفْظِيٌّ يَجِي = مُكَرَّراً كَقَوْلِكَ ادْرُجِي ادْرُجِي
هذا النوعُ الثاني مِنْ نَوْعَيِ التوكيدِ، وهوَ التوكيدُ اللفظيُّ، ويكونُ بإعادةِ اللفْظِ، اسماً نحوُ: إيَّاكَ إيَّاكَ وَالنَّمِيمَةَ. فـ(إيَّاكَ): ضميرٌ منفصِلٌ مَبنيٌّ على الفتْحِ في مَحَلِّ نَصْبٍ مفعولٍ بهِ لِفِعْلٍ محذوفٍ تقديرُهُ: بَاعِدْ، (إيَّاكَ): توكيدٌ لَفْظِيٌّ. أوْ فِعْلاً نحوُ: غَرَبَتْ غَرَبَتِ الشمْسُ. أوْ جُملةً نحوُ: أَنْتَ الْمَلُومُ أَنْتَ الْمَلُومُ. ويَكْثُرُ اقترانُ الجملةِ بالعطْفِ؛ كقولِهِ تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}. ويَجِبُ ترْكُ العَطْفِ عندَ إيهامِ التَّعَدُّدِ؛ نحوُ: أَكْرَمْتُ عَلِيًّا أكْرَمْتُ عَلِيًّا.
وأمَّا توكيدُ الضميرِ أو الحرْفِ فسيأتي إنْ شاءَ اللَّهُ.
وهذا معنى قولِهِ: (وما مِن التوكيدِ لَفْظِيٌّ يَجِي مُكَرَّراً..)؛ أيْ: والذي هوَ لَفْظِيٌّ مِن التوكيدِ يَجِيءُ مُكَرَّراً، ثمَّ ذَكَرَ الْمِثالَ، وهوَ مِنْ توكيدِ الجملةِ.

تَوْكِيدُ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ والحُرُوفِ تَوكيداً لَفْظِيًّا
531- وَلا تُعِدْ لَفْظَ ضَمِيرٍ مُتَّصِلْ = إلاَّ مَعَ اللَّفْظِ الَّذِي بِهِ وُصِلْ
532- كَذَا الْحُرُوفُ غَيْرُ مَا تَحَصَّلا = بِهِ جَوَابٌ كَنَعَمْ وَكَبَلَى
إذا أُريدَ توكيدُ الضميرِ الْمُتَّصِلِ تَوكيداً لَفظيًّا بضميرٍ يُماثِلُهُ في اللفْظِ والمعنى، فلا بُدَّ مِن اتِّصالِ المُؤَكِّدِ بما اتَّصلَ بالمُؤَكَّدِ، فتقولُ: أَنْتَ قُمْتَ قُمْتَ بِوَاجِبِكَ، أكْرَمَكَ أكْرَمَكَ خالِدٌ، كِتَابُكَ كِتَابُكَ على الدُّرْجِ، فرِحْتُ بكَ بكَ، وهذا الكتابُ رَغِبْتُ فيهِ فيهِ.
وأمَّا توكيدُ الحرْفِ، فإنْ كانَ حَرْفاً غيرَ جَوَابِيٍّ فإنَّهُ يُعادُ معَ الحرْفِ المُؤَكِّدِ ما اتَّصَلَ بالمُؤَكَّدِ؛ نحوُ: إنَّ الصِّدْقَ إنَّ الصِّدْقَ لَفَضِيلَةٌ، في المسجِدِ في المسجِدِ خالدٌ.
وإنْ كَانَ الحرْفُ حَرْفَ جوابٍ فتوكيدُهُ اللفظيُّ يكونُ بإعادتِهِ وحْدَهُ؛ نحوُ: هلْ كَتَبْتَ المُحاضَرَةَ؟ فتقولُ: نَعَمْ نَعَمْ. ونحوُ: ألَمْ تَكتُب المحاضَرَةَ؟ فتقولُ: بَلَى بَلَى.
وهذا معنى قولِهِ: (لا تُعِدْ لَفْظَ ضَميرٍ مُتَّصِلْ.. إلخ)؛ أيْ: إذا أَعَدْتَ لفْظَ الضميرِ الْمُتَّصِلِ لِغَرَضِ التوكيدِ اللفظيِّ فيَجِبُ أنْ تَأْتِيَ معهُ باللفْظِ الذي اتَّصَلَ بهِ.
وكذا حُكْمُ التوكيدِ اللفظيِّ في الحروفِ التي لا يُطْلَبُ بها الجوابُ، أمَّا حروفُ الجوابِ كَنَعَمْ وكَبَلَى فتُعادُ وَحْدَها.

توكيدُ الضميرِ الْمُتَّصِلِ بضميرِ الرفْعِ
533- وَمُضْمَرَ الرَّفْعِ الَّذِي قَدِ انْفَصَلْ = أَكِّدْ بِهِ كُلَّ ضِمِيرٍ اتَّصَلْ
يَجُوزُ أنْ يُؤَكَّدَ بضميرِ الرفْعِ الْمُنْفَصِلِ كُلُّ ضميرٍ مُتَّصِلٍ، سواءٌ كانَ بارزاً أوْ مُسْتَتِراً، وسواءٌ كانَ مَرفوعاً أوْ مَنصوباً أوْ مَجروراً؛ نحوُ: قُمتَ أنتَ بواجبِكَ. ومنهُ قولُهُ تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ}. فـ(نَا): نائبُ فاعِلٍ، و(نحنُ): تَوْكِيدٌ للضميرِ قبْلَهُ مَبنيٌّ على الضَّمِّ لا مَحَلَّ لهُ. ومثالُ المنصوبِ: أَعْطَيْتُكَ أنتَ الكتابَ. ومنهُ قولُهُ تعالى: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى}. فـ(الكَافُ): اسْمُ (إنَّ)، و(أَنْتَ) تَوْكِيدٌ لَفظيٌّ مَبنيٌّ على الفتْحِ لا مَحَلَّ لهُ. ومثالُ المجرورِ: هذهِ المَسْأَلَةُ تَعلَّمْتُها منكَ أنتَ. فـ(أَنْتَ): توكيدٌ لَفظيٌّ للكافِ.
ومِثالُ الْمُسْتَتِرِ: اجْتَهِدْ أنتَ في صِلَةِ الأرحامِ. ومنهُ قولُهُ تعالى: {لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى}. فـ (نحنُ): توكيدٌ للضميرِ الْمُسْتَتِرِ في (نُخْلِفُهُ). وقولُهُ تعالى: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ}. فـ(أنتَ) توكيدٌ للضميرِ المستَتِرِ في (تَعْلَمُهَا).


الساعة الآن 02:38 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir