معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد

معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد (http://afaqattaiseer.net/vb/index.php)
-   العقيدة الواسطية (http://afaqattaiseer.net/vb/forumdisplay.php?f=35)
-   -   تضمن سورة الإخلاص للنفي والإثبات في صفات الله جل وعلا (http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=1085)

عبد العزيز الداخل 13 ذو القعدة 1429هـ/11-11-2008م 01:33 PM

تضمن سورة الإخلاص للنفي والإثبات في صفات الله جل وعلا
 
وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الإِخْلاَصِ الَّتِي تَعدِلُ ثُلُثَ القُرآنِ حَيْثُ يَقُولُ : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}

فاطمة 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م 04:12 PM

شرح العقيدة الواسطية للشيخ : عبد الله بن عبد العزيز بن باز
 
وقد دخل في هذه الجُملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص التي تَعدِلُ ثُلُث القُرآنِ() حيثُ يقولُ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ)

() " وجه كون سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن: أن القرآن خبر، وإنشاء.
والخبر ينقسم في كلام الله إلى قسمين:
1 خبر عن الله، وعن أسمائه وصفاته.
2 وخبر عن خلقه من الجنة أو النار وأشراط الساعة، وجميع ما تضمنه الكتاب من وعد ووعيد، ومما كان أو سيكون.
وهذه السورة تمحضت للخبر عن الله سبحانه، فكانت ثلث القرآن بهذا الاعتبار.
ولقد دلت هذه السورة على أصول عظيمة: يستفاد منها: إثبات جميع صفات الكمال لله ونفي جميع صفات النقائص والعيوب.
كما دلت على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الذات والصفات على سبيل المطابقة، وعلى توحيد الربوبية وذلك على طريق التضمن، وتوحيد العبادة بالالتزام.
إذ أن دلالة الشيء على كل معناه يُسمَّى: مطابقة، ودلالته على بعضه يُسمَّى: تَضَمُّنًا، وعلى ما يلزم من جهة الخارج يسمى التزاماً" ا هـ.

فاطمة 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م 04:16 PM

التنبيهات اللطيفة للشيخ : عبد الرحمن بن ناصر السعدي
 
وقد دخل في هذه الجُملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص التي تَعدِلُ ثُلُث القُرآنِ حيثُ يقولُ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ)().

() (وقد دخل في هذه الجُملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص التي تَعدِلُ ثُلُث القُرآنِ حيثُ يقولُ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ) ). هذا شروع في تفصيل النصوص الواردة في الكتاب والسُّنة الداخلة في الإيمان بالله، وأنه يجب فيها إثباتها، ونفي التعطيل والتحريف والتكييف والتمثيل عنها، فثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أن هذه السورة تعدل ثلث القرآن، وذلك كما قال أهل العلم: إن القرآن يحتوي على علوم عظيمة كثيرة، وهي ترجع إلى ثلاثة علوم.
أحدها: علوم الأحكام والشرائع الداخل فيها علوم الفقه كلها عبادات ومعاملات وتوابعهما.
الثاني: علوم الجزاء على الأعمال والأسباب التي يجازى بها العاملون على ما يستحقون من خير وشرّ، وبيان تفصيل الثواب والعقاب.
الثالث: علوم التوحيد وما يجب على العباد من معرفته والإيمان به، وهو أشرف العلوم الثلاثة، وسورة الإخلاص كفيلة باشتمالها على أصول هذا العلم وقواعده، فإن قوله: (اللَّهُ أَحَدٌ) أي الله متفرِّد بالعظَمةِ والكمال، ومتوحِّد بالجلال والجمال والمجد والكبرياء، يحقق ذلك، قوله: (اللَّهُ الصَّمَدُ) أي الله السيد العظيم الذي قد انتهى في سؤدده ومجده وكماله، فهو العظيم الكامل في عظمته، العليم الكامل في علمه، الحكيم الكامل في حكمه، فهو الكامل في جميع نعوته وأسمائه وصفاته، ومن معاني الصمد أنه الذي تصمد إليه الخلائق كلها وتقصده في جميع حاجاتها ومهماتها، فهو المقصود، وهو الكامل المعبود.
فإثبات الوحدانية لله ومعاني الصمدية كلها يتضمن إثبات تفاصيل جميع الأسماء الحُسنى والصِّفات العُلى، فهذا أحد نوعي التوحيد وهو الإثبات وهو أعظم النوعين،
والنوع الثاني: التنزيه لله عن الولادة والنِّد والكفو والمثل وهذا داخل في قوله: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي ليس له مكافئ ولا مماثل ولا نظير، فمتى اجتمع للعبد هذه المقامات المذكورة في هذه السورة بأن نزّه الله وقدسه عن كل نقص وندّ وكُفؤ ومثيل، وشهد بقلبه انفراد الرّب بالوحدانية والعظمة والكبرياء وجميع صفات الكمال التي ترجع إلى هذين الاسمين الكريمين وهما الأحد الصمد، ثم صمد إلى ربّه وقصده في عبوديته وحاجته الباطنة والظاهرة، متى كان كذلك تم له التوحيد العلمي الاعتقادي، والتوحيد العملي، فحُقّ لسورة تشتمل على هذه المعارف أن تعدِل ثُلُث القرآن.

فاطمة 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م 04:18 PM

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد خليل هراس
 
وقَدْ دَخَلَ في هذهِِ الجُمْلَةِ مَا وَصَفَ اللهُ بهِ نَفْسَهُ في سُورَةِ الإِخْلاَصِ التي تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ، حَيْثُ يَقُولُ: ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ. ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ )(16).

(16) قولُهُ: (وقَدْ دخلَ.. إلخ). شروعٌ في إيرادِ النُّصوصِ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ المتضمِّنةِ لِمَا يجبُ الإِيمانُ بهِ مِن الأسماءِ والصفاتِ في النَّفيِ والإِثباتِ.
وابتدأَ بتلكَ السُّورةِ العظيمةِ؛ لأنَّهَا اشتملَتْ مِن ذلكَ على ما لمْ يشتملْ عليهِ غيرُهَا، ولهذا سُمِّيَتْ سورةُ الإِخلاصِ؛ لتجريدِهَا التَّوحيدَ مِن شوائبِ الشِّرْكِ والوثنِيَّةِ.
رَوَى الإمَامُ أحمدُ في (مُسْنَدِهِ) عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في سبَبِ نزولِهَا: أَنَّ المُشْرِكِينَ قالَوا: يا مُحَمَّدُ! انْسِبْ لَنَا رَبَّكَ. فأنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ} … إلخ السُّورةِ.وقَدْ ثَبتَ في الصَّحيحِ أَنَّهُا تعدِلُ ثُلُثَ القرآنِ.
وقَدِ اختلَفَ العلماءُ في تأويلِ ذلكَ على أقوالٍ، أقربُهَا ما نقلَهُ شيخُ الإِسلامِ عن أَبِي العبَّاسِ، وحاصلُهُ أنَّ القرآنَ الكريمَ اشتملَ على ثَلاثةِ مقاصِدَ أساسِيَّةٍ:
أَوَّلُهَا: الْأَوَامِرُ والنَّواهِي المتضمِّنَةُ لِلأَحكامِ والشَّرَائِعِ العملِيَّةِ التَّي هيَ موضوعُ علمِ الفقهِ والأخلاقِ.
ثانيهَا: القصصُ والأخبارُ المتضمِّنَةُ لِأَحْوَالِ الرُّسلِ عليهِِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ معَ أُمَمِهِمْ، وأنواعُ الهلاكِ التَّي حاقتْ بالمكذِّبينَ لهمْ، وأحوالُ الوعدِ والوعيدِ، وتفاصيلُ الثَّوَابِ والعقابِ.
ثَالثُهَا: علمُ التَّوحيدِ، وما يجبُ على العبادِ مِن معرفةِ اللهُ بأسمائِهِ وصفاتِهِ، وهذا هوَ أشرفُ الثلاثةِ.
ولمَّا كانَتْ سورةُ الإِخلاصِ قدْ تضمَّنتْ أُصولَ هذا العلمِ، واشتملتْ عليهِ إجمالاً؛ صحَّ أنْ يُقالَ: إنَّهَا تَعدلُ ثُلثَ القرآنِ.
وأَمَّا كيفَ اشتملتْ هذهِ السُّورةُ على علومِ التَّوحيدِ كلِّهَا، وتَضَمَّنَتِ الأصُولَ التَّي هيَ مجامعُ التَّوحيدِ العلمِيِّ الاعتقادِيِّ؟ فنقولُ: إنَّ قولَهُ تعالى: {اللهُ أَحَدٌ}دلَّتْ على نفيِ الشَّرِيكِ مِن كلِّ وجهٍ: في الذَّاتِ، وفي الصِّفاتِ، وفي الأفعالِ؛ كمَا دلَّتْ على تفرُّدهِ سبحانَهُ بالعظمةِ والكمَالِ والمجدِ والجلالِ والكبرياءِ، ولهذا لا يُطْلَقُ لفظُ { أَحَدٌ } في الإِثباتِ إلاَّ على اللهِ عزَّ وجلَّ، وهوَ أبلغُ مِن واحدٍ.
وقولُهُ: { اللهُ الصَّمَدُ } قدْ فسَّرَهَا ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بقولِهِ: ((السَّيِّدُ الذي قدْ كَمُلَ في عظمتِهِ وسُؤْدُدِهِ، والشَّرِيفُ الذي قدْ كَمُلَ في شرفِهِ, والعظيمُ الذي قدْ كَمُلَ في عظمتِهِ، والحليمُ الذي قدْ كمُلَ في حِلمِهِ، والغَنِيُّ الذي قدْ كَمُلَ في غِنَاهُ، والجبَّارُ الذي قدْ كَمُلَ في جَبَرُوتِهِ، والعليمُ الذي قدْ كمُلَ في علمِهِ، والحكيمُ الذي قدْ كَمُلَ في حكمتِهِ، وهوَ الذي قدْ كَمُلَ في أنْواعِ الشَّرَفِ والسُّؤدُدِ، وهوَ اللهُ عزَّ وجلَّ، هذهِ صفتُهُ، لا تنبغي إلاَّ لهُ، ليسَ لهُ كُفءٌ، وليسَ كمثلِهِ شيءٌ)).
وقَدْ فُسِّرَ الصَّمَدُ أيضًا بأنَّهُ الذي لا جوفَ لهُ، وبأنَّهُ الذي تَصْمُدُ إليهِ الخليقةُ كلُّهَا وتقصدُهُ في جميعِ حاجاتِهَا ومهمَّاتِهَا.
فإثباتُ الأحَديَّةِ للهِ تَتَضَمَّنُ نَفيَ المُشاركَةِ والمُمَاثلةِ,وإثباتُ الصَّمديَّةِ بكلِّ معانِيهَا المتقدِّمَةِ تَتَضَمَّنُ إثباتَ جميعِ تفاصيلِ الأسماءِ الحُسنى والصفاتِ العُلى, وهذا هوَ توحيدُ الإِثباتِ.
وأَمَّا النَّوعُ الثَّاني – وهوَ توحيدُ التَّنْزيهِ -: فيُؤخذُ مِن قولِهِ تعالى: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ }, كمَا يُؤخذُ إجمالاً مِن قولِهِ: ] اللهُ أَحَدٌ [؛ أي: لمْ يتفرَّعْ عنهُ شيءٌ، ولمْ يتفرَّعْ هوَ عن شيءٍ، وليسَ لهُ مُكَافِئٌ ولا مُمَاثِلٌ ولا نَظيرٌ.
فانْظرْ كيفَ تَضَمَّنَتْ هذهِ السُّورةُ توحيدَ الاعتقادِ والمعرفةِ، وما يجبُ إثباتُهُ للرَّبِّ تعالى من الأحَدِيَّةِ المُنَافيَةِ لمطلقِ المُشاركَةِ، والصمَدِيَّةِ المُثْبِتَةِ لهُ جميعَ صفاتِ الكمَالِ الذي لا يلحقُهُ نقصٌ بوجهٍ مِن الوُجوهِ، ونَفيَ الولدِ والوالدِ الذي هوَ مِن لوازمِ غِنَاهُ وصمَدِيَّتِهِ وأحديَّتِهِ، ثمَّ نفيَ الكُفءِ المتضمِّنُ لنَفيِ التَّشبِيهِ والتَّمثيلِ والنَّظيرِ؟
فحُقَّ لسورةٍ تضمَّنتْ هذهِ المعارفَ كلَّهَا أنْ تَعدِلَ ثُلثَ القرآنِ.

فاطمة 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م 04:29 PM

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
 
وَقَدْ دَخَلَ في هذه الجُمْلَةِ ما وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ في سُورَةِ الإخْلاصِ، التي تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ، حَيْثُ يَقولُ: (قُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَم يَلِدْ وَلَم يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ).(14)

(14)(وَقَدْ دَخَلَ في هَذِهِ الْجُمْلَةِ) أي التي تقدَّمت، وهي قولُه: (وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَمَعَ فِيما وَصَفَ وَسَمَّى بِه نَفْسَهُ بَيْنَ النَّفْيِ والإثْبَاتِ) فأراد هنا أن يوردَ ما يدلُّ عَلى ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ، وبدأ بسورةِ الإخلاصِ لفضْلِهَا، وسمِّيت بذلك؛ لأنَّها أُخْلِصَت في صِفاتِ اللهِ؛ ولأنَّها تُخَلِّصُ قارئَها مِن الشِّرْكِ.
قولُه (التي تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ) أي تُسَاويه، وذلك لأنَّ معانيَ القرآنِ ثلاثةُ أنواعٍ:
توحيدٌ، وقَصصٌ، وأحكَامٌ. وهذه السُّورةُ فيها صِفةُ الرَّحمنِ، فهي في التَّوحيدِ وحدَه، فصارت تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآنِ. والدَّليلُ عَلى أنَّ هذه السورةَ تعدِلُ ثُلُثَ القرآنِ: ما رواه البخاريُّ عَن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رجُلاً سمِع رجلاً يقرأُ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) يردِّدُها، فلما أصبح جاء إلى النَّبيِّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ فذكر له ذلك، وكأنَّ الرجلَ يتقالُّها! فقال النبيُّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّها لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ)) قال الإمامُ ابنُ القيِّمِ: والأحاديثُ بكونِهَا تعدلُ ثُلُثَ القرآنِ تكادُ تَبْلغُ مبْلغَ التَّواترِ.
(حَيْثُ يَقُولُ) اللهُ جلَّ شأنُه: (قُلْ) أي: يا محمّدُ، وفي هذا دليلٌ عَلى أنَّ القرآنَ كَلامُ اللهِ، إذ لو كان كَلامَ محمدٍ أو غيِره؛ لم يقلْ (قُلْ)، (اللهُ أَحَدٌ) أي: واحِدٌ لا نظيرَ له ولا وزيرَ ولا مثيلَ ولا شريكَ له. (اللهُ الصَّمَدُ) أي: السَّيِّدُ الذي كَمُلَ في سُؤْدَدِه وشَرَفِه وعَظمتِه، وفيه جميعُ صفاتِ الكمالِ، والذي تَصْمُدُ إليه الخلائقُ وتقصِدُه في جميعِ حَاجَاتِها ومُهِمَّاتِهَا.
(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) أي ليس له ولدٌ ولا والدٌ، وفيه الرَّدُّ عَلى النَّصارى ومشركي العَرَبِ الَّذين نسبوا للهِ الولَدَ. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي ليس له مُكافِئٌ ولا مماثلٌ ولا نَظِيرٌ.
والشَّاهدُ مِن هذه السُّورةِ: أنَّها تضمَّنت وجمعَت بين النَّفيِ والإثباتِ، فقولُه: (اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ) إثباتٌ. وقوله: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) نَفْيٌ.

فاطمة 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م 04:36 PM

شرح العقيدة الواسطية للشيخ ابن عثيمين رحمه الله
 
قوله: ((وَقَدْ دَخَلَ في هذه الجُمْلَةِ ما وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ في سُورَةِ الإخْلاصِ، التي تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ، حَيْثُ يَقولُ: (قُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَم يَلِد وَلَم يُولَد وَلَم يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدُ) ))(20).

(20) قولُهُ: ((دَخَلَ فِي هذِهِ الجملةِ)): يحتملُ أنَّهُ يريدُ بِها قولَهَ: ((وَهُوَ قَدْ جمعَ فيمَا وصفَ وسمَّى بِهِ نَفْسَهُ بينَ النَّفيِ والإثباتِ))، ويحتملُ أنْ يُريدَ مَا سَبَقَ مِنْ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ يَصِفونَ اللَّهَ - تَعَالَى - بمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ومَا وصَفَهُ بِهِ رسولُهُ، وأيًّا كانَ فإنَّ هذِهِ السُّورةَ ومَا بعدَها داخلةٌ فِي ضِمْنِ مَا سَبَقَ، مِنْ أنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - جَمعَ فيمَا وَصَفَ وسمَّى بِهِ نَفْسَهُ بينَ النَّفيِ والإثباتِ، وأنَّ أهلَ السُّنَّةِ يُؤمِنونَ بذلِكَ.
قولُهُ: ((فِي سورةِ الإخلاصِ)): (السُّورةُ): هِيَ عبارةٌ عنْ آياتٍ مِنْ كتابِ اللَّهِ مسوَّرةٍ، أيْ: منفصلةٍ عمَّا قَبْلَهَا وعمَّا بعدَها، كالبناءِ الَّذِي أحاطَ بِهِ السُّورُ.
وقولُهُ: ((سورةُ الإخلاصِ)): إخلاصُ الشيءِ، بمعنى: تنقيتُهُ، يعني: الَّتِي نُقِّيَتْ ولَمْ يَشُبْهَا شيءٌ، وسُمِّيتْ بذلِكَ، قِيلَ: لأنَّها تتضمَّنُ الإخلاصَ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -، وأنَّ مَنْ آمَنَ بِها فَهُوَ مُخْلِصٌ، فتكونُ بمعنى مُخْلِصةٍ لقارئِها، أيْ أنَّ الإنسانَ إِذَا قرأَهَا مؤمنًا بِهَا فَقَدْ أخلصَ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -، وقِيلَ: لأنهَّا مُخْلَصَةٌ –بفتح اللاَّمِ-؛ لأنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أخْلَصَها لنَفْسِه، فلَمْ يَذْكُرْ فِيهِا شيئًا مَنَ الأحكامِ ولاَ شيئًا مِنَ الأخبارِ عَنْ غَيْرِهِ، بلْ هِيَ أخبارٌ خاصَّةٌ باللَّهِ، والوجهانِ صحيحانِ، ولاَ منافاةَ بَيْنَهُمَا.
وقولُهُ: ((الَّتِي تعدلُ ثُلُثَ القرآنِ)): الدَّليلُ قولُ النبيِّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - لأصحابِهِ: ((أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرأَ ثُلُثَ القُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ؟)). فَشقَّ ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رَسُولُ اللهِ؟ قال: ((" اللَّهُ الواحد الصَّمَدُ" ثُلُثَ القُرْآنِ)).
فهذِهِ السُّورةُ تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآنِ فِي الجزاءِ لاَ فِي الإجزاءِ، وذلِكَ كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّ: ((مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ، لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ، عَشْرَ مَراتٍ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ بَنِي إِسَماعِيلَ))، فهلْ يُجْزِئُ ذلِكَ عَنْ إعتاقِ أربعِ رقابٍ مِمَّنْ وجبَ عليْهِ ذلِكَ وقَالَ هَذَا الذِّكْرَ عَشْرَ مرَّاتٍ؟ فنقولُ: لاَ يُجزئُ. أمَّا فِي الجزاءِ فتَعدِلُ هَذَا، كَمَا قَالَ النَّبيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -، فلاَ يَلْزَمُ مِنَ المعادَلة فِي الجزاءِ المعادَلةُ فِي الإجزاءِ، ولِهَذَا لو قرأَ سُورةَ الإخلاصِ فِي الصَّلاَةِ ثلاثَ مرَّاتٍ، لَمْ تُجْزِئْهُ عَنْ قراءةِ الفاتحةِ.
قَالَ العُلماءُ: ووجهُ كَوْنهِا تعدلُ ثُلُثَ القرآنِ: أنَّ مباحِثَ القُرآنِ خَبَرٌ عَنِ اللَّهِ، وخبرٌ عَنِ المخلوقاتِ، وأحكامٌ، فهذِهِ ثلاثةٌ:
1 – خبرٌ عنِ اللَّهِ: قالُوا: إنَّ سُورةَ: (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ): تتضمَّنُهُ.
2 – خبرٌ عَنِ المخلوقاتِ، كالإخبارِ عن الأممِ السَّابِقَةِ، والإخبارِ عَنِ الحوادثِ الحاضرةِ، وعنِ الحوادثِ المستقبَلَةِ.
3 – والثَّالثُ: أحكامٌ، مِثلُ: أَقِيموا، آتُوا، لاَ تُشرِكوا … ومَا أشْبَهَ ذلِكَ.
وَهَذَا هُوَ أحسنُ مَا قِيلَ: فِي كَوْنِها تعدلُ ثلثَ القرآنِ.
قولُهُ: ((حَيْثُ يقولُ: (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) )):
(قُلْ): الخطابُ لكُلِّ مَنْ يَصحُّ خطابُهُ.
وسببُ نزولِ هذِهِ السُّورةِ: أنَّ المشركينَ قالُوا للرَّسولِ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: صِفْ لَنا ربَّكَ؟ فأنزلَ اللَّهُ هذِهِ السُّورةَ. وقِيلَ: بلْ اليهودُ هُمُ الذينَ زَعَمُوا أنَّ اللَّه خُلِقَ مَنْ كذا ومِنْ كذا ممَا يقولونَ مِنَ الموادِّ، فأنزلَ اللَّهُ هذِهِ السُّورةَ، وسواءٌ صحَّ السَّببُ أَمْ لَمْ يَصِحَّ، فعلَيْنا إِذَا سُئِلْنا أيَّ سُؤالٍ عَنِ اللَّهِ أنْ نقولَ: (اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ).
قولُهُ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ): (هُوَ): ضميرٌ، وأيْنَ مَرجِعُهُ؟ قِيلَ: إنَّ مَرجِعَهُ المسئولُ عَنْهُ، كأنَّهُ يقولُ: الَّذِي سَألتُمْ عَنْهُ اللَّهَ. وقِيلَ: هُوَ ضميرُ الشَّأنِ، و(اللَّهُ): مبتدأٌ ثانٍ، و(أَحَدٌ): خبرُ المبتدأِ الثَّاني، وعَلَى الوجْهِ الأوَّلِ تكونُ (هُوَ): مبتدأً، (اللَّهُ): خَبرُ المبتدأِ، (أَحَدٌ): خبرٌ ثانٍ.
(اللَّهُ): هُوَ العَلَمُ عَلَى ذاتِ اللَّهِ، المختصُ باللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، لاَ يتسمَّى بِهِ غيرُهُ، وكُلُّ مَا يأتي بَعدَهُ مِن أسماءِ اللَّهِ فَهُوَ تابعٌ لَهُ، إِلاَّ نادرًا.
ومعنى (اللَّهُ): الإلَهُ، وإلَهٌ بمعنى مألوهٍ، أيْ: معبودٍ، لكنْ حُذِفَتِ الَهَمزةُ تخفيفاً لكثرةِ الاستعمالِ، كَمَا فِي (النَّاسِ)، وأَصْلُها: الأُناسُ، وكَمَا في: هَذَا خيرٌ مِنْ هَذَا، وأصلُهُ: أخيرُ مِنْ هَذَا، لكنْ لكثرةِ الاستعمالِ حُذِفَتِ الَهَمزةُ، فاللَّهُ - عزَّ وجلَّ - (أَحَدٌ).
(أَحَدٌ): لاَ تأتي إلاَّ فِي النَّفيِ غالباً، أوْ فِي الإثباتِ فِي أيامِ الأسبوعِ، يُقالُ: الأحدُ، الاثنينِ… لكنْ تأتِي فِي الإثباتِ مَوصوفاً بها الرَّبُّ - عزَّ وجلَّ -؛ لأنَّهُ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - أحدٌ، أيْ: متوحِّدٌ فيمَا يختصُّ بِهِ فِي ذاتِهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، (أَحَدٌ)، لاَ ثانيَ لَهُ، ولاَ نظيرَ لَهُ، ولاَ نِدَّ لَهُ.
قَوْلَهُُ: (اللَّهُ الصَّمَدُ): هذِهِ جملةٌ مستأنفةٌ، بَعْدَ أنْ ذكرَ الأحديَّةَ ذكَرَ الصَّمديَّةَ، وأتى بِها بجملةٍ مُعرَّفةٍ فِي طرفَيْها، لإفادةِ الحصرِ، أيْ: اللَّهُ وحدَهُ الصَّمدُ.
فمَا معنى الصَّمَدِ؟
قِيلَ: إنَّ (الصَّمَدُ): هُوَ الكاملُ فِي علمِهِ، فِي قدرتِهِ، فِي حكمتِهِ، فِي عزَّتِهِ، فِي سُؤْدُدِهِ، فِي كُلِّ صفاتِهِ، وقِيلَ: (الصَّمَدُ): الَّذِي لاَ جَوْفَ لَهُ، يعني: لاَ أمعاءَ ولاَ بَطْنَ، وَلِهَذَا قِيلَ: الملائكةُ صُمدٌ؛ لأنَّهم ليسَ لَهُم أَجوافٌ، لاَ يأكلونَ ولاَ يَشربونَ، هَذَا المَعْنَى رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، ولاَ ينافِي المَعْنَى الأوَّلَ؛ لأنَّهُ يدلُّ عَلَى غِناهُ بنَفْسِهِ عَنْ جميعِ خَلْقِهِ، وقِيلَ: (الصَّمَدُ) بمعنى المفعولِ، أيْ: المَصمودُ إليْهِ، أيْ الَّذِي تَصمدُ إِلَيْهِ الخلائقُ فِي حوائجِهِا، بمعنى: تميلُ إِلَيْهِ وتنتهِيَ إِلَيْهِ وترفعُ إِلَيْهِ حوائِجَهَا، فَهُوَ بمعنى الَّذِي يحتاجُ إِلَيْهِ كُلُّ أحدٍ.
هذِهِ الأقاويلُ لاَ يُنافِي بعضُها بعضاً فيمَا يَتعلَّقُ باللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، وَلِهَذَا نقولُ: إنَّ المعانِي كلَّها ثابتةٍ، لعَدمِ المنافاةِ فيمَا بَيْنَها.
ونَفْسِّرُهُ بتفسيرٍ جامعٍ، فنَقولُ: (الصَّمَدُ): هُوَ الكامِلُ فِي صفاتِهِ، الَّذِي افْتَقَرتْ إِلَيْهِ جميعُ مخلوقاتِهِ، فهِيَ صامدةٌ إِلَيْهِ.
وحينئذٍ يتبينُ لكَ المَعْنَى العظيمُ فِي كلمةِ (الصَّمَدُ): أنَّهُ مستغنٍ عَنْ كُلِّ مَا سواهُ، كاملٌ فِي كُلِّ مَا يُوصفُ بِهِ، وأنَّ جميعَ مَا سواهُ مفتقرٌ إِلَيْهِ.
فَلَوْ قَالَ لكَ قائلٌ: إنَّ اللَّه استوى عَلَى العرشِ، هَلْ استواؤُه عَلَى العرشِ بمعنى أنَّهُ مفتقرٌ إِلَى العرشِ بحَيْثُ لو أُزيلَ لسقطَ؟ فالجوابُ: لا، كلاَّ؛ لأنَّ اللَّهَ صمدٌ كاملٌ غيرُ محتاجٍ إِلَى العرشِ، بَلِ العرشُ والسَّماواتُ والكرسيُّ والمخلوقاتُ كلُّها محتاجةٌ إِلَى اللَّهِ، واللَّهُ فِي غِنًى عَنْها، فنأخذُهُ مِنْ كلمةِ (الصَّمَدُ).
لو قَالَ قائلٌ: هَل اللَّهُ يأكلُ أوْ يشربُ؟ أقولُ: كلاَّ؛ لأنَّ اللَّهَ صمدٌ.
وبهَذَا نعرفُ أنَّ (الصَّمَدُ) كلمةٌ جامعةٌ لجميعِ صفاتِ الكمالِ لِلَّهِ، وجامعةٌ لجميعِ صفاتِ النَّقصِ فِي المخلوقاتِ، وأنَّها محتاجةٌ إِلَى اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
ثُمَّ قالَ: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ): هَذَا تأكيدٌ للصَّمديَّةِ والوحدانيَّةِ، وقُلْنَا: توكيدٌ لأنَّنا نَفْهَمُ هَذَا ممَّا سَبَقَ، فيكونُ ذِكْرُهُ تَوكِيداً لمعنَى مَا سَبَقَ، وتقريراً لَهُ، فَهُوَ لأحديَّتِهِ وصمديَّتِهِ لَمْ يَلِدْ؛ لأنَّ الوَلدَ يكونُ عَلَى مِثلِ الوالدِ فِي الخِلقةِ، وَفِي الصِّفةِ، وحَتَّى الشَّبهِ.
لمَّا جاءَ مجززٌ المُدلجيُّ إِلَى زيدِ بنِ حارثةَ وابنِهِ أُسامةَ، وهمَا ملتحفانِ برداءٍ، قدْ بَدَتْ أقدامُهُما، نظرَ إِلَى القَدَمَيْنِ، فَقَالَ: إنَّ هذِهِ الأقدامَ بعضُها مَنْ بَعضٍ، فعَرفَ ذلِكَ بالشَّبهِ.
فلِكَمالِ أحديَّتِهِ وكمالِ صمديَّتِهِ (لَمْ يَلِدْ)، والوالدُ محتاجٌ إِلَى الولدِ بالخدمةِ والنَّفقةِ، ويعينُهُ عِنْدَ العجزِ، ويُبْقِي نَسْلَهُ.
(وَلَمْ يُولَدْ)؛ لأنَّهُ لو وَلَدَ لكَانَ مَسبوقاً بوالدٍ، مَعَ أنَّهُ - جلَّ وعَلاَ - هُوَ الأوَّلُ الَّذِي ليسَ قَبْلَهُ شيءٌ، وهُوَ الخالِقُ، ومَا سِواهُ مخلوقٌ، فكَيْفَ يُولدُ؟
وإنكارُ أنَّهُ وُلِدَ أبلغُ فِي العقولِ مِن إنكارِ أنَّهُ والِدٌ، وَلِهَذَا لَمْ يدَّعِ أحدٌ أنَّ اللَّهَ والِداً، وادَّعى المفترونَ أنَّ لَهُ ولداً.
وقَدْ نَفَى اللَّهُ هَذَا وهَذَا، وبدأ بنفِي الولدِ، لأهميةِ الردِّ عَلَى مُدَّعِيهِ، بلْ قالَ: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ) ، حَتَّى وَلَو بالتَّسمِّي، فَهُوَ لَمْ يَلِدْ ولَمْ يتَّخِذْ وَلداً، بنو آدمَ قدْ يَتَّخِذُ الإنسانُ مِنْهُمْ ولداً وهُوَ لَمْ يَلِدْهُ بالتَّبنِّي أوْ بالولايةِ أوْ بغيرِ ذلِكَ، وإنْ كَانَ التَّبنِّي غيرَ مشروعٍ، أمَّا اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -، فلمْ يَلِدْ ولَمْ يولَدْ، ولمَا كَانَ يَرِدُ عَلَى الذِّهنِ فَرضُ أنْ يكونَ الشَّيءُ لاَ والداً ولاَ مولوداً، لكنَّهُ متولِّدٌ، نَفَى هَذَا الوَهمَ الَّذِي قَدْ يَرِدْ، فَقَالَ: (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ)، وإِذَا انْتَفَى أنْ يكونَ لَهُ كُفُواً أحدٌ، لزمَ أنْ لاَ يكونَ متولِّداً، (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ)، أيْ: لاَ يكافِئُهُ أحدٌ فِي جميعِ صفاتِهِ.
فِي هذِهِ السُّورةِ: صفاتٌ ثُبوتيَّةٌ، وصفاتٌ سلبيَّةٌ:
الصِّفاتُ الثُّبوتيَّةُ: (اللَّهُ) الَّتِي تتضمَّنُ الألوهِيَّةَ، (أَحَدٌ) تتضمَّنُ الأحديَّةَ، (الصَّمَدُ) تتضمَّنُ الصَّمدِيَّةَ.
والصِّفاتُ السَّلبيَّةُ: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدُ).
ثلاثٌ إثباتٌ، وثلاثٌ نفيٌ، وَهَذَا النَّفيُ يتضمَّنُ مِن الإثباتِ كمالَ الأحديَّةِ والصَّمديَّةِ.

فاطمة 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م 11:21 PM

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض
 
وقَدْ دَخَلَ في هذهِ الجُمْلَةِ مَا وَصَفَ بهِ نَفْسَهُ في سُورَةِ الإِخْلاَصِ التي تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ، حَيْثُ يَقُولُ :{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ * ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} .
الإشارةُ في قولِه " هذه الجملةِ ". يعني الَّتي تقدَّمَتْ مِن قولِه :((وهو سُبْحَانَهُ قد جَمَعَ فيما وَصَفَ وسمَّى به نفْسَه بين النَّفْيِ والإثباتِ )) .
وقدْ روى أحمدُ في "مُسْندِهِ" عن أُبَيِّ بنِ كعْبٍ في سَبَبِ نُزُولِ هذه السُّورَةِ : أنَّ المشركينَ، قالوا للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يا مُحَمَّدُ ، انْسُبْ لنا ربَّكَ ، فأنْزَلَ اللَّهُ هذه السُّورَةَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}. وزادَ الطبَريُّ - في روايتِه . قَالَ : الصَّمَدُ الَّذِي لم يلِدْ ولم يُولَدْ، لأنَّه لَيْسَ شيءٌ يُوَلَدُ إلا سيمُوتُ ، ولَيْسَ شيءٌ يموتُ إلا سيُورَثُ ، وأنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يموتُ ولا يُورَثُ ولم يكُنْ له كفواً أحدٌ ، ولم يكُنْ له شَبِيهٌ ولا عَدْلٌ ، ولَيْسَ كمِثْلِه شيءٌ . وقَالَ قتادةُ والضَّحَّاكُ ومقاتلٌ : جَاءَ ناسٌ من أحبارِ اليهودِ إلى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ ، فقالوا : يا مُحَمَّدُ صِفْ لنا ربَّك لعلَّنا نُؤْمِنُ بكَ فإنَّ اللَّهَ أنْزلَ نعْتَهُ في التَّوراةِ ، فأخْبِرْنَا به مِن أيِّ شيءٍ هو ؟ ومِن أيِّ جِنْسٍ ؟ أمِن ذَهَبٍ أَمْ مِن نُحاسٍ هو، أم مِن صُفْرٍ أَمْ مِن حديدٍ أَمْ مِن فِضَّةٍ ؟ وهلْ يأكُلُ ويَشْرَبُ ؟ ومَن وَرِثَ الدُّنْيَا ومِمَّن سيُورِثُها ؟ فأَنْزَلَ اللَّهُ هذه السُّورَةَ ، وهي نسبةُ اللَّهِ خاصَّةً . وقِيلََ في سَبَبِ نُزُولِها غيرُ هذا . وسُورَةُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآنِ ، والأحاديثُ بذلك تكادُ تبلُغُ مبْلغَ التَّواتُرِ .
فقدْ روى البُخاريُّ في "صحيحِه" عن أبي سعيدٍ أنَّ رجُلاً سمعَ رجُلاً يقْرَأُ :{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. يُردِّدُها ، فلمَّا أصبحَ جَاءَ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذَكَرَ ذلك له وكأنَّ الرجُلَ يَتَقالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ)) .
وفي البُخاريِّ عن أبي سعيدٍ أيضاً . أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ ؟ " فَشَقَّ ذلك عليهم وقالوا : أيُّنا يُطِيقُ ذلك يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : " اللَّهُ الْواحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ " . وعن عائشةَ في شَأْنِ الرَّجُلِ الَّذِي بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سريَّةٍ فكان يقرأُ لأصحابِه في صلاتِهم فيَخْتِمُهُم بِقُلْ هو اللَّهُ أحدٌ ، فأَخْبَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : سَلُوه لِأَيِّ شَيْءٍ صَنَعَ ذَلِكَ ؟ فسألوه ، فَقَالَ : لأنَّها صِفَةُ الرَّحْمَنِ ، وأنا أُحِبُّ أنْ أقرأَ بها، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ " . رواه البُخاريُّ ومُسْلمٌ .
والأحاديثُ في فضْلِها كثيرةٌ جدًّا - قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : لم يَصِحَّ في فضْلِ سُورةٍ أكْثَرُ مما صَحَّ في فَضْلِهَا . اهـ (( والثَّناءُ أَفْضَلُ مِن الدُّعَاءِ )) ولهذا كانتْ سُورةُ الإخلاصِ تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرآنِ ؛ لِأَنَّها أَُخْلِصَتْ لِوَصْفِ الرَّحْمَنِ . وفي كَوْنِهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآنِ وُجوهٌ أحْسَنُها : أنَّ معانِيَ القرآنِ ثلاثةُ أنواعٍ : توحيدٌ ، وقَصصٌ ، وأحكامٌ . وهذه السُّورَةُ صفةُ الرَّحْمَنِ فيها التَّوْحِيدُ وحْدَه ، وذلك ؛ لأنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ ، والكلامُ نَوْعانِ : إمَّا إنشاءٌ ، وإمَّا أَخْبارٌ ، والأخبارُ : إمَّا خبَرٌ عن الخالِقِ ، وإمَّا خبَرٌ عن المخلوقِ . فالإنْشاءُ : هو الأحكامُ ، كالأمْرِ ، والنَّهْيِ ، والخبَرُ عن المخلوقِ هو القَصصُ . والخبَرُ عن الخالِقِ : هو ذِكْرُ أسمائِه وصفاتِه . ولَيْسَ في القرآنِ سُورَةٌ هي وصْفُ الرَّحْمَنِ مَحْضاً إلا هذه السُّورَةُ )) .
والتَّوْحِيدُ نَوْعانِ : عِلمِيٌّ قَوْلِيٌّ، وعَمَلِيٌّ قَصْدِيٌّ، فـ{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} اشتَمَلَتْ على التَّوْحِيدِ العَمَليِّ القَوْليِّ نصًّا، وهي دالَّةٌ على التَّوْحِيدِ العِلْميِّ لُزوماً ، و" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " اشتمَلَتْ على التَّوْحِيدِ العِلْميِّ القَوْليِّ نصًّا ، وهي دالَّةٌ على التَّوْحِيدِ العَمَليِّ لُزوماً ؛ ولِهذا كانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقرأُ بها في ركعتَيِ الطَّوَافِ ورَكعتيِ الفَجْرِ وغيرِ ذلك .
وقَالَ ابنُ القيِّمِ : فسُورةُ الإخلاصِ متضمِّنةٌ لِتوحيدِ الاعتقادِ والمعرفةِ ، وما يجِبُ إثباتُه للربِّ تَعَالَى مِن الأَحَدِيَّةِ المُنافِيَةِ لمُطْلَقِ المُشارَكةِ بِوَجْهٍ مِن الوُجوهِ ، والصَّمَدِيَّةِ المُثْبِتَةِ له جميعَ صِفَاتِ الكَمالِ الَّذِي لا يَلحَقُهُ نَقْصٌ بوَجْهٍ مِن الوُجوهِ ، ونَفْيِ الوَلَدِ والوالِدِ الَّذي هو مِن لوازمِ الصَّمَدِيَّةِ ، وغِناهُ وأحَدِيَّتِه ، ونفْيِ الكُفُؤِ المتضَمِّنِ لنَفْيِ التَّشبيهِ والتَّمثيلِ والتَّنظيرِ ، فتضمَّنَتْ هذه السُّورَةُ إثباتَ كُلِّ كَمَالٍ له، ونَفْيَ كُلِّ نَقصٍ عنه، ونفْيَ إثباتِ شبيهٍ أو مثيلٍ له في كمالِه، ونفْيَ مُطْلَقِ الشَّريكِ عنه .
وهذه الأُصولُ هي مَجامِعُ التَّوْحِيدِ العِلْميِّ الاعتقادِيِّ الَّذِي يُبايِنُ صاحبُه جميعَ فِرَقِ الضَّلالِ والشِّرْكِ .
ولذلك كانتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآنِ، فأخلصَتْ سُـورَةُ الإخـلاصِ الخبَرَ عن اللَّهِ وأسمائِه وصفاتِه، فعَدَلَتْ ثُلُثَ القرآنِ، وخلَّصَتْ قارِئَها المُؤْمِنَ مِن الشِّرْكِ العِلْميِّ، كما خلَّصَتْ سُـورَةُ {قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} مِن الشِّرْكِ العَمَليِّ الإراديِّ القَصْديِّ . اهـ .
وتفْضِيلُ أحدِ الكلامَيْنِ بأحكامٍ تُوجِبُ تشريفَهُ يدُلُّ على أنَّه أفْضَلُ في نفْسِه ، وإلاَّ كان ذلك ترجيحاً لأَحدِ المتماثِلَيْنِ بلا مُرَجِّحٍ . وهذا خِلافُ ما عُرِفَ مِن سُنَّةِ الرَّبِّ تَعَالَى في شَرْعِه ، بلْ وفي خَلْقِه ، وخِلافُ ما تدُلُّ عليه الدلائلُ العقليَّةُ مَعَ الشرعيةِ . وأيضاً فقد قَالَ تَعَالَى :{اتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ}. وقَالَ :{فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وقَالَ :{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} فدَلَّ على أنَّ فيما أنْزَلَ حَسَناً وأحْسَنَ . والقولُ بأنَّ كلامَ اللَّهِ بعْضُه أفْضَلُ من بَعْضٍ هو القولُ المأثورُ عن السَّلَفِ وهو الَّذِي عليه أئمةُ الفقهاءِ مِن الطوائفِ الأربعةِ وغيرِهم ، وكلامُ القائلينَ بذلك كثيرٌ مُنْتَشِرٌ في كتُبٍ كثيرةٍ .
والمَقصودُ أنْ نُبيِّنَ أنَّ مِثلَ هذا مِن العِلمِ المُستقِرِّ في نُفوسِ الأُمَّةِ السَّابقينَ والتَّابِعِينَ ، ولم يُعْرَفْ قطُّ أحدٌ مِن السَّلَفِ رَدَّ مِثْلَ هذا ، ولا قَالَ : لا يكونُ كلامُ اللَّهِ بعْضُه أشْرَفُ مِن بعضٍ ، فإنَّه كُلَّه مِن صِفَاتِ اللَّهِ ونحوِ ذلك . إنَّما حدَثَ هذا الإنكارُ لمَّا ظهرَتْ بِدَعُ الجَهْمِيَّةِ الَّذِين اختلَفوا في الكتابِ وجعلُوه عِضِينَ .
ومَعلومٌ أنَّ الكلامَ له نِسْبتانِ : نسبةٌ إلى المْتكلِّمِ به، ونِسبةٌ إلى المتكَلَِّمِ فيه، فهو يتفاضَلُ باعتبارِ النِّسْبَتَيْنِ، وباعتبارِ نفْسِه أيضاً، مِثْلُ الكلامِ الخبَريِّ له نِسبتانِ نِسبةٌ إلى المتكلِّمِ المُخْبِرِ، ونِسبةٌ إلى المُخْبَرِ عنه المتكَلَّمِ فيه فـ{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}و{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} كِلاهما كلامُ اللَّهِ، وهما مُشْترِكانِ مِن هذه الجِهةِ، لكنَّهما مُتَفاضلانِ مِن جِهةِ المتكلَّمِ فيه المُخْبَرِ عنه، فهذه كلامُ اللَّهِ وخَبَرُه الَّذِي يُخْبِرُ به عن نفْسِه وصِفَتُه الَّتِي يصِفُ بها نفْسَه وكلامُه الَّذِي يتكلَّمُ به عن نفْسِه ، وهذه كلامُ اللَّهِ الَّذِي يتكلَّمُ به عن بعضِ خَلْقِه ويُخْبِرُ به عنه ، ويَصِفُ به حالَه ، وهما في هذه الجِهةِ مُتفاضِلانِ بِحَسبِ المعنى المقصودِ بالكَلامَيْنِ . أَلاَ تَرَى أنَّ المخلوقَ يتكلَّمُ بكلامٍ هو كلامُه .
لكِنَّ كلامَه الَّذِي يذْكُرُ به ربَّهُ أَعْظَمُ مِن كلامِه الَّذِي يذْكُرُ به بعضَ المخلوقاتِ، والجميعُ كلامُه . وقد عُلِمَ أنَّ تفاضُلَ القرآنِ وغيرِه مِن كلامِ اللَّهِ لَيْسَ باعتبارِ نِسْبَتِهِ إلى المتكلمِ فإنه سُبْحَانَهُ واحِدٌ، ولكن باعتبارِ مَعانيهِ الَّتِي يُتَكلَّمُ بها، وباعتبارِ ألفاظهِ المُبَيِّنةِ لِمَعانِيه . فإذا كانت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآنِ لم يَلزَمْ مِن ذلك أنَّها أفضلُ مِن الفاتحةِ، ولا أنها يُكْتَفَى بِتِلاَوَتِها ثلاثَ مرَّاتٍ، عن تلاوةِ القرآنِ، بلْ قد كَرِهَ السَّلَفُ أنْ تُقْرَأَ إِذَا قُرِئَ القرآنُ كلُّه إلا مرَّةً واحدةً كما ثبتَتْ في المُصْحَفِ ، فإنَّ القرآنَ يُقْرَأُ كما كُتِبَ في المصحفِ لا يُزادُ على ذلك ولا يُنْقَصُ منه . ولكنْ إذا قُرِئَتْ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مُفْرَدَةً تُقْرَأُ ثلاثَ مرَّاتٍ وأكثرَ مِن ذلك ، ومَن قرَأَها فله مِن الأجرِ ما يَعْدِلُ ثُلُثَ أجْرِ القرآنِ . لكنَّ عَدْلَ الشَّيْءِ بالفتحِ قد يكونُ مِن غيرِ جِنْسِه ، والثَّوابُ أجناسٌ مختلِفةٌ ، كما أنَّ الأموالَ أجناسٌ مختلِفةٌ مِن مَطْعومٍ ، ومَشْروبٍ ، ومَلْبوسٍ ، ومَسْكونٍ ، ونَقْدٍ ، وغيرِ ذلك .
وإذا مَلَكَ الرَّجُلُ مِن أجناسِ المالِ ما يَعْدِلُ ألْفَ دينارٍ مَثَلاً لم يَلْزمْ مِن ذلك أنْ يَسْتغنِيَ عن سائرِ أجناسِ المالِ . بلْ إذا كان عنده مالٌ وهو طعامٌ فهو مُحتاجٌ إلى لِباسٍ ومَسْكَنٍ وغيرِ ذلك . وكذلك إذا كان مِن جِنْسٍ غيرِ النَّقْدِ فهو مُحتاجٌ إلى غيرِه . وإنْ لم يكن معه إلا النَّقْدُ فهو مُحتاجٌ إلى جميعِ الأنواعِ الَّتِي يُحتاجُ إلى أنواعِها ومنافِعِها .
فالقرآنُ يَحتاجُ النَّاسُ إلى ما فيه مِن الأمرِ والنَّهْيِ والقَصصِ ، وإنْ كان التَّوْحِيدُ أَعْظمَ مِن ذلك . وإذا احتاجَ الإنسانُ إلى معرفةِ ما أُمِرَ به وما نُهِيَ عنه مِن الأفعالِ ، أوِ احتاجَ إلى ما يُؤْمَرُ به ويَعْتَبِرُ به مِن القَصَصِ والوَعْدِ والوعيدِ لم يَسُدَّ غيرُه مَسَدَّهُ ، فلا يَسُدُّ التَّوْحِيدُ مَسَدَّ هذا ، ولا يَسُدُّ القَصصُ مَسَدَّ الأمرِ والنهيِ ، ولا الأمرُ والنهيُ مَسَدَّ القَصصِ . بلْ كُلُّ ما أنزلَ اللَّهُ يَنْتفِعُ به النَّاسُ ويَحتاجُونَ إليه ، فإذا قَرأَ الإنسانُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حَصَلَ له ثوابٌ بقَدْرِ ثوابِ ثُلُثِ القرآنِ ، لكنْ لا يجِبُ أنْ يكونَ الثَّوابُ مِن جنسِ الثَّوابِ الحاصِلِ ببَقِيَّةِ القرآنِ بلْ قد يَحتاجُ إلى جِنْسِ الثَّوابِ الحاصِلِ بالأمـرِ والنَّهْيِ والقَصصِ ، فلا تَسُدُّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مَسَدَّ ذلك ولا تقومُ مَقامَه .فلهذا لو لم يَقرأْ إلا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فإنه وإنْ حصَلَ له أجرٌ عظيمٌ لكنَّ جِنْسَ الأجرِ الَّذِي يحصُلُ بقراءةِ غيرِها لا يحصُلُ له بقراءتِها ، بل يَبقَى فقيراً مُحتاجاً إلى ما يتِمُّ به إيمانُه مِن معرفةِ الأمرِ والنَّهْيِ والوَعْدِ والوعيدِ .
ولو قام بالواجِبِ عليه فالمَعارِفُ الَّتِي تحصُلُ بقراءةِ سائرِ القرآنِ لا تحصُلُ بمُجَرَّدِ قراءةِ هذه السُّورَةِ ، فيكونُ مَن قرأَ القرآنَ كلَّه أفْضَلَ ممن قرَأها ثلاثَ مراتٍ مِن هذه الجِهةِ لتَنَوُّعِ الثوابِ ، وإنْ كان قارئُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثلاثاً يحصُلُ له ثوابٌ بقَدْرِ ذلك الثوابِ ، لكنَّهُ جِنْسٌ واحدٌ لَيْسَ فيه الأنواعُ الَّتِي يَحتاجُ إليها العبدُ .
قولُه تَعَالَى :{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يعني هو الواحدُ الأَحدُ الَّذِي لا نَظِيرَ له، ولا وَزِيرَ، ولا نَدِيدَ، ولا شَبيهَ، ولا عَدِيلَ . ولا يُطْلَقُ هذا اللَّفْظُ على أَحدٍ في الإثباتِ إلا عَزَّ وَجَلَّ ؛ لأنَّه الكامِلُ في جميعِ صِفَاتِه وأفعالِه ، وقَالَ ابنُ القيِّمِ : قولُه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} توحيدٌ منه لنَفْسِه ، وأمْرٌ للمخاطَبِ بتوحيدِه . فإذا قَالَ العبدُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} كان قد وَصَفَ اللَّهَ بما وصَفَ به نفْسَه ، وأَتَى بلفظةِ ( قُلْ ) تحقيقاً لهذا المعنى ، وأنَّه مُبَلِّغٌ مَحْضٌ ، قائِلٌ لِمَا أُمِرَ بقَوْلِه اهـ . اللَّهُ الصَّمدُ . تنوَّعَتْ عِباراتُ السَّلَفِ في معنى الصَّمَدِ ، وتقارَبَتْ في المعنى ، فقِيلَ : هو السَّيِّدُ الَّذِي كمُلَ في سُؤْدُدِه ، والشَّريفُ الَّذِي كَمُلَ في شَرَفِه ، والعظيمُ الَّذِي كمُلَ في عظمَتِه ، والحليمُ الَّذِي كمُلَ في حِلْمِه ، والعليمُ الَّذِي كمُلَ في عِلْمِه ، والحكيمُ الَّذِي كمُلَ في حِكْمَتِه . وهو الَّذِي قد كمُلَ في كُلِّ أنواعِ الشَّرَفِ والسُّؤْدُدِ، وهو اللَّهُ سُبْحَانَهُ هذه صفَتُه لا تنبغي إلاَّ له. لَيْسَ كمِثْلِه شيءٌ، ولَيْسَ له كُفُؤٌ سبحانَ اللَّهِ الواحدِ القَهَّارِ . وقِيلَ الصَّمَدُ الَّذِي قد انتهى سُؤْدُدُه . والصَّمدُ الحيُّ القَيُّومُ الَّذِي لا زَوالَ له . والصَّمدُ الَّذِي لم يَخْرُجْ منه شيءٌ ولا يُطْعَمُ . والصَّمدُ الَّذِي لا جَوْفَ له . والصَّمدُ نورٌ يَتَلألأُ .
قَالَ الشَّيْخُ : والاسمُ الصَّمدُ فيه للسَّلَفِ أقوالٌ متعدِّدةٌ قد يُظَنُّ أنَّها مختلِفةٌ ، ولَيْسَ كذلك ، بل كلُّها صوابٌ . والمشهورُ منها قَوْلانِ ( أحدُهما ): أنَّ الصَّمَدَ هو الَّذِي لا جَوْفَ له. ( والثَّاني ): أنه السَّيِّدُ الَّذِي يُصْمَدُ إليه في الحوائجِ ، والأَوَّلُ هو قولُ أَكثرِ السَّلَفِ مِن الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ وطائفةٍ من أهلِ اللُّغَةِ. والثَّاني قولُ طائفةٍ من السَّلَفِ والخلَفِ وجمهورِ اللُّغَوِيِّينَ .
((والاشْتِقاقُ يشهَدُ للقولين جميعاً))، قولِ مَن قَالَ : إنَّ الصَّمَدَ الَّذِي لا جَوْفَ له . وقولِ مَن قَالَ : إنه السَّيِّدُ ، وهو على الأَوَّلِ أَدَلُّ ، فإنَّ الأَوَّلَ أَصْلٌ للثَّاني ، ولفظُ الصَّمَدِ يُقالُ على ما لا جَوْفَ له في اللُّغَةِ .
((والمقصُودُ أنَّ لفظَ الأَحدِ لم يُوصَفْ به شيءٌ مِن الأعيانِ إلاَّ اللَّهُ وحدَه))، وإنَّما يُسْتَعملُ في غيرِ اللَّهِ في النَّفْيِ . قَالَ أهلُ اللُّغَةِ : تقولُ لا أَحَدَ في الدَّارِ، ولا تَقُلْ فيها أَحَدٌ، ولهذا لم يَجِئْ في القرآنِ إلا في غيرِ المُوجَبِ كقولِه تَعَالَى :{فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}. وكقولِه :{لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ}، وقوله :{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ}. وفي الإضافةِ {فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ}. و{جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ}. وأمَّا الصَّمدُ فقدِ استعملَه أهلُ اللُّغَةِ في حَقِّ المخلوقينَ كما تقدَّمَ . فلم يقُلْ : اللَّهُ صَمَدٌ ، بل قَالَ : اللَّهُ الصَّمَدُ .
فَبَيَّنَ أنَّه المُسْتَحِقُّ لأنْ يكونَ هو الصَّمدَ دُونَ ما سِواه فإنه المُسْتَوْجِبُ لِغايَتِه على الكمالِ ، والمخلوقُ وإنْ كان صَمَداً مِن بعضِ الوجوهِ ، فإنَّ حقيقةَ الصَّمَدِيَّةِ مُنْتَفِيَةٌ عنه ، فإنه يَقْبَلُ التَّفَرُّقَ والتَّجزِئةَ . .
وهو أيضاً مُحتاجٌ إلى غيرِه ، فإنَّ كُلَّ ما سِوى اللَّهِ مُحتاجٌ إليه مِن كُلِّ وجهٍ ، فلَيْسَ أَحَدٌ يَصْمُدُ إليه كُلُّ شيءٍ ولا يَصْمُدُ هو إلى شيءٍ إلاَّ اللَّهُ ، ولَيْسَ في المخلوقاتِ إلا ما يَقْبَلُ أنْ يَتَجَزَّأَ ويَتَفَرَّقَ ويَنْقَسِمَ ويَنْفَصِلَ بعضُه مِن بعضٍ .
واللَّهُ سُبْحَانَهُ هو الصَّمَدُ الَّذِي لا يَجوزُ عليه شيءٌ مِن ذلك بل حقيقةُ الصَّمَدِيَّةِ وكمالُها له وحْدَهُ واجِبةٌ لازِمةٌ لا يُمْكِنُ عَدَمُ صمَدِيَّتِه بوجهٍ مِن الوجوهِ، كما لا يمْكنُ تَثْنِيَةُ أحَدِيَّتِه بوجهٍ مِن الوُجوهِ . فهو أحدٌ لا يُماثِلُه شيءٌ مِن الأشياءِ بوجهٍ مِن الوجوهِ، كما قَالَ في آخِرِ السُّورَةِ :{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}. استعْمَلَها هنا في النفيِ- أي لَيْسَ شيءٌ مِن الأشياءِ كُفُؤاً له في شيءٍ مِن الأشياءِ؛ لأنَّه أحدٌ. وقَالَ رجُلٌ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أنتَ سيِّدُنا، فَقَالَ : "السَّيِّدُ اللَّهُ" ودَلَّ قولُه : {اللَّهُ الصَّمَدُ} على أنَّه لم يَلِدْ ولم يُولَدْ ، ولم يَكُنْ له كُفُؤاً أحدٌ . فإنَّ الصَّمَدَ هو الَّذِي لا جَوْفَ له ، ولا أحْشاءَ ، فلا يدخُلُ فيه شيءٌ ، فلا يأكُلُ ، ولا يشْرَبُ سُبْحَانَهُ ، كما قَالَ تَعَالَى :{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ}. وفي قِراءةِ الأعْمَشِ وغيرِه ( وَلاَ يَطْعَمُ ) بالفتْحِ ، وقَالَ تَعَالَى :{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} ومِن مخلوقاتِه الملائكةُ وهم صمدٌ لا يأكلونَ ولا يَشْربونَ .
فالخالقُ لهم جَلَّ وعَلاَ أحقُّ بكُلِّ غِنًى وكمالُه جُعِلَ لبعضِ مخلوقاتِه . فلهذا فسَّرَ بعضُ السَّلفِ الصَّمدَ بأنه الَّذِي لا يأكُلُ ولا يَشْرَبُ . والصَّمدُ المُصْمَدُ الَّذِي لا جَوْفَ له ، فلا يَخرُجُ منه عَيْنٌ مِن الأعيانِ .
فلا يَلِدُ ، ولذلك قَالَ مَن قَالَ مِن السَّلَفِ : هو الَّذِي لا يَخرُجُ منه شيءٌ ، لَيْسَ مُرادُهُم أنه لا يتكلَّمُ ، وإنْ كان يُقالُ في الكلامِ أنه خـَرَجَ منه فخُروجُ كُلِّ شيءٍ بِحَسَبِه . ومِنْ شأنِ العِلْمِ والكلامِ إذا استُفِيدَ مِن العالِمِ والمتكَلِّمِ أنْ لا يَنْقُصَ مِن مَحَلِّه . ولهذا شُبِّهَ بالنُّورِ الَّذِي يَقْتَبِسُ منه كُلُّ أَحدٍ الضَّوْءَ وهو باقٍ على حالِه لم يَنقُصْ ، فقولُ مَن قَالَ مِن السَّلَفِ : الصَّمدُ هو الَّذِي لا يَخرُجُ منه شيءٌ كلامٌ صحيحٌ بمعنى أنَّه لا يُفارِقُه شيءٌ منه . ولهذا امْتَنَعَ عليه أن يَلِدَ وأنْ يُولَدَ، وذلك أنَّ الوِلادَةَ والمُتَوَلَّدَ وكُلَّ ما يكونُ مِن هذه الألفاظِ لا يكونُ إلاَّ مِن أصلَيْنِ ، وما كان مِن المُتَوَلَّدِ عيناً قائمةً بنَفْسِها فلا بُدَّ لها مِن مادَّةٍ تَخرُجُ منها ، وما كان عَرَضاً قائماً بغيرِه فلا بُدَّ له مِن مَحَلٍّ يقومُ به .
فالأَوَّلُ نَفاهُ بقولِه :{أَحَدٌ} فإنَّ الأحَدَ هو الَّذِي لا كُفُؤَ له ولا نَظِيرَ ، فيمتنِعُ أن تكونَ له صاحِبَةٌ . والتَّوَلُّدُ إنما يكونُ بين شيئَيْنِ . قَالَ تَعَالَى :{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. فنَفَى سُبْحَانَهُ الوَلَدَ بامتِناع لازمِه عليه ، فإنَّ انتفاءَ اللازمِ يدُلُّ على انتفاءِ المَلْزُومِ ؛ وبأنَّه خالِقُ كُلِّ شيءٍ وكُلُّ ما سِواه مخلوقٌ لَيْسَ فيه شيءٌ مَوْلُودٌ له .
و(الثَّاني): نَفاهُ بكَوْنِه سُبْحَانَهُ {الصَّمَدُ} وهذا المتولِّدُ مِن أصْلَيْنِ يكونُ بجُزْئَيْنِ يَنْفَصِلانِ مِن الأصلَيْنِ ، كتَوَلُّدِ الحيوانِ مِن أبيه وأُمِّه بالمنيِّ الَّذِي ينفصِلُ مِن أبيه وأُمِّه ، فهذا التَّوَلُّدُ يفتقِرُ إلى أصلٍ آخَرَ وإلى أنْ يَخرُجَ منهما شيءٌ . وكُلُّ ذلك ممتنِعٌ في حقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فإنه أَحدٌ فلَيْسَ له كُفُؤٌ يكونُ صاحبةً ونَظيراً ، وهو صمَدٌ لا يَخرُجُ منه شيءٌ ، فكُلُّ واحدٍ مِن كَوْنِه أحداً ومِن كَوْنِه صمداً يَمْنَعُ أن يكونَ والِداً ، ويَمْنَعُ أنْ يكونَ مَوْلوداً بطريقِ الأوْلى والأَحْرَى ((فإسمُه الأحدُ دَلَّ على نَفْيِ المشارَكةِ والمُماثَلةِ ، واسمُه الصَّمدُ دَلَّ على أنه المستَحِقُّ لِجَميعِ صِفاتِ الكمالِ 0 وصفاتُ التَّنزيهِ كُلّها ، بل وصفاتُ الإثباتِ يجمَعُها هذانِ المَعْنيانِ .
والمَقصودُ هنا : أنَّ صِفَاتِ التَّنزيهِ يجمَعُها هذانِ المَعْنيانِ المَذكورانِ في هذه السُّورَةِ :
(أحدُهما): نَفْيُ النقائصِ عنه . وذلك مِن لَوازِمِ إثباتِ صِفَاتِ الكمالِ ، فَمَنْ ثَبَتَ له الكمالُ التَّامُّ انْتَفى عنه النُّقْصانُ المُضَادُّ له . وهذا مَدْلُولُ اسمِه الصَّمَدِ .
(والثَّاني): أنه لَيْسَ كمِثْلِه شيءٌ في صِفَاتِ الكمالِ الثَّابتةِ له . وهذا مِن مَدْلولِ اسمِه الأَحدِ، فهذانِ الاسْمَانِ العظيمانِ (الأَحدُ . الصَّمَدُ) يتضمَّنانِ تنزيهَهُ عَن كُلِّ نَقْصٍ وعَيْبٍ . وتنزيهُهُ في صِفَاتِ الكمالِ :
أنْ لا يكونَ له مُماثِلٌ في شيءٍ منها ، واسمُهُ الصَّمَدُ يتضمَّنُ إثباتَ جميعِ صِفَاتِ الكمالِ ، فتضمَّنَ ذلك إثباتَ جميعِ صِفَاتِ الكمالِ ، ونفْيَ جميعِ صِفَاتِ النقصِ ، فالسُّورَةُ تضمَّنَتْ كُلَّ ما يجِبُ نَفْيُه عن اللَّهِ ، وتضمَّنَتْ أيضاً كُلَّ ما يجِبُ إثباتُه مِن وَجْهَيْنِ مِن اسمِه ( الصَّمَدِ ) ومِن جِهةِ أنَّ ما نُفِيَ عنه مِن الأُصولِ والفُروعِ والنُّظَراءِ مُسْتَلْزِمٌ ثُبوتَ صِفَاتِ الكمالِ أيضاً . فإنَّ كُلَّ ما يُمْدَحُ به الرَّبُّ مِن النَّفيِ فلا بُدَّ أنْ يتضمَّنَ ثُبوتاً ، بل وكذلك كُلُّ ما يُمْدَحُ به شيءٌ مِن الموجوداتِ مِن النَّفيِ ، فلا بُدَّ أنْ يتضَمَّنَ ثُبوتاً ؛ وإلاَّ فالنَّفْيُ المَحْضُ معناه عَدَمٌ مَحْضٌ ، والعَدَمُ المَحْضُ لَيْسَ بشيءٍ فَضْلاً عن أنْ يكونَ صفةَ كمالٍ .
وفي الصَّحيحِ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ : " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ ، وَشَتَمنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ : اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدْ ، وَلَمْ أُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُواً أَحَدٌ " .

فاطمة 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م 11:26 PM

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد
 
وقَدْ دَخَلَ في هذهِ الجُمْلَةِ مَا وَصَفَ اللهُ بهِ نَفْسَهُ في سُورَةِ الإِخْلاَصِ، التي تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ.( 28)
حَيْثُ يَقُولُ: ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ( 29)
اللهُ الصَّمَدُ.( 30)
لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ. ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ).( 31)

(28) قولُه: (وقد دخلَ في هذه الجملةِ): أي المتقدِّمةِ من قولِهِ: (وقد جمعَ فيما وصفَ وسمَّى به نفسَهُ).
قولُه: (في سورةِ الإخلاصِ): أي سورةِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فإنَّها اشتملتْ على النَّفي والإثباتِ: إثباتِ صفاتِ الكمالِ ونفيِ التَّشبيهِ والمثالِ، ومعاني التنـزيهِ ترجعُ إلى هذين الأصلين، وهذا عكسُ ما عليه أهلُ البدعِ من الجهميَّةِ والمعتزلةِ وغيرِهم. فإنَّهم يَنْفُونَ صفاتِ الكمالِ، ويُثبتون ما لا يوجدُ إلا في الخيالِ.
قولُه: (الجملةِ): وهي لغةً: جماعةُ الشَّيءِ وما تركَّبَ من مُسْنَدٍ ومُسْنَدٍ إليه، جمعُه جُملٌ.
قولُه: (سورةِ): السُّورةُ: القطعةُ من القرآنِ معلومةُ الأوَّلِ والآخرِ.
قولُه: (الإخلاصِ): أي سورةُ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) سُمِّيتْ بسورةِ الإخلاصِ لأنَّها أخلصتْ في صفةِ اللهِ، ولأنَّها تُخَلِّصُ قارِئَها من الشِّركِ العلميِّ الاعتقاديِّ.
قوله: (تَعدلُ): عَدلُ الشَّيءِ بالفتحِ: ما سِوَاه من غَيرِ جِنْسِه، وبالكسرِ ما سواه من جِنْسِه).
قولُه: (ثُلُثَ القُرْآنِ): وذلك لأنَّ معانِيَ القرآنِ ثلاثةُ أنواعٍ: توحيدٌ، وقَصصٌ، وأحكامٌ، وهذه السُّورةُ صفةُ الرَّحمنِ فيها التَّوحيدُ وحدَهُ، وفي صحيحِ البخاريِّ عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلا سمِعَ رَجُلا يقرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يردِّدُها، فلمَّا أصبح جاء إلى النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فذكرَ له ذلك، وكأنَّ الرجلَ يَتَقالُّها، فقال النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِه إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ))، الحديثَ. والأحاديثُ بِكونِها تعدلُ ثلثَ القرآنِ تكادُ تبلغُ مبلغَ التَّواترِ، انتهى مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ رحمه اللهُ.

(29) قال القسطلانيُّ: وذلك لأنَّ القرآنَ على ثلاثةِ أنحاءٍ: قَصَصٍ، وأحكامٍ، وصفاتِ اللهِ، و(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) متضمِّنةٌ للتَّوحيدِ والصِّفاتِ، فهي ثلثُه. قال: وفيه دليلٌ على شرفِ علمِ التَّوحيدِ، وكيف لا والعلمُ يُشْرفُ بشرفِ المعلومِ، ومعلومُ هذا العلمِ هو اللهُ وصفاتُه وما يجوزُ عليه وما لا يجوزُ، فما ظنُّك بشرفِ منـزلتِه وجلالةِ محَلِّهِ. انتهى.
وفي هذا الحديثِ دليلٌ على تفاضلِ القرآنِ، وكذلك تفاضلِ آياتِ الصِّفاتِ، وأنَّ علمَ التَّوحيدِ أفضلُ العلومِ، إذ شَرَفُ العلمِ بشرفِ موضوعِه.
وسببُ نزولِ هذه السُّورةِ: هو ما رواه أحمدُ، عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ، أنَّ المشركين قالُوا للنَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: انسبْ لنا ربَّك، فأنزلَ اللهُ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وأخرجَه التِّرمذيُّ والطَّبريُّ، فالمُشركون سألوا رسولَ اللهِ عن حقيقةِ ربِّه من أيِّ شيءٍ، فدلَّهم على نفسِه بصفاتِه فلم يجعلْ لهم سبيلاً إلى معرفةِ الذَّاتِ والكُنهِ، فحقيقةُ الذَّاتِ والكُنْهِ غيرُ معلومةٍ للبشرِ، فقال -سُبْحَانَهُ وتعالى: (قُلْ) يا محمَّدُ، لهؤلاءِ المُشركين (اللهُ أَحَدٌ) أي منفردٌ في ذاتِه، وأسمائِه، وصفاتِه، وأفعالِهِ، لا شريكَ له، ولا مثيلَ، ولا نظيرَ، (أَحَدٌ) بمعنى واحدٍ، ولا يُطلقُ هذا اللفظُ في الإثباتِ إلا عليه سُبْحَانَهُ، لأنَّه الكاملُ في جميعِ صفاتِه وأحكامِه، وفي هذا دليلٌ على أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ، إذ لو كانَ كلامَ النَّبيِّ أو غيرِه لم يقلْ (قُلْ) ففيه الرَّدُّ على المعتزلةِ القائلينَ إنَّ القرآنَ كلامُ محمَّدٍ أو جبريلَ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى: فدلَّ على أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- مُبَلِّغٌ عن اللهِ، فكان مُقتضى البلاغِ التَّامِّ أنْ يقولَ: (((قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ففيه الرَّدُّ على الجهميَّةِ والمعتزلةِ وإخوانِهم ممَّن يقولُ هو كلامُه ابْتدَأَهُ من قِبَلِ نفسِه، ففي هذا أبلغُ ردٍّ لهذا القولِ، وأنَّه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بَلَّغَ ما أُمِرَ بتبليغهِ، على وجههِ ولفظهِ، فقيلَ له: (قُلْ) فقال: (قُلْ) لأنَّه مبلِّغٌ محضٌ، فما على الرَّسولِ إلا البلاغُ المبينُ، وفيه دليلٌ على الجهرِ بالعقيدةِ والتَّصريحِ بِها.

(30) قولُه: (اللهُ الصَّمَدُ): قال أبو وائلٍ: الصـَّمدُ: السـَّيـِّدُ الَّذي انتهى سُؤدُده، والعربُ تـُسمِّي أشرافَها: الصَّمدَ، لكثرةِ الأوصافِ المحمودةِ للمسمَّى به، قال الشَّاعرُ:
ألا بكَّرَ النَّاعي بخيرِ بني أسدٍ بعمرِ بنِ مسعودٍ وبالسَّيِّدِ الصَّمَدِ
فإنَّ الصَّمدَ مَن تُصمدُ إليه القلوبُ بالرَّغبةِ والرَّهبةِ، وذلك لكثرةِ خصالِ الخيِرِ فيه. انتهى. وقال عكرمةُ عن ابنِ عبَّاسٍ: معنى الصَّمدِ: هو الَّذي يصمدُ إليه الخلائقُ في حوائِجهم ومسائِلهم.
وقال الرَّبيعُ بنُ أنسٍ: هو الَّذي لم يلدْ ولم يولدْ، كأنَّه جعلَ ما بعدَهُ تفسيرًا له، وهو تفسيرٌ جيِّدٌ، وقد تقدَّمَ الحديثُ من روايةِ ابنِ جريرٍ عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ في ذلك وهو صريحٌ في ذلك. انتهى. من ابنِ كثيرٍ.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمهُ اللهُ تعالى: ومَن قالَ: إنَّ الصَّمَدَ هو الَّذي لا جوفَ له، فقولُه لا يُناقضُ هذا التَّفسيرَ، فإنَّ اللفظةَ من الاجتماعِ، فهو الَّذي اجتمعَتْ فيه صفاتُ الكمالِ ولا جوفَ له، فإنَّما لم يكنْ أَحَدٌ كفوًا له لمَّا كان صَمَدًا كاملاً في صمدانيَّتِه، فلو لم يكنْ له صفاتُ كمالٍ ونعوتُ جلالٍ ولم يكنْ له علمٌ ولا قدرةٌ ولا سمعٌ ولا بصرٌ ولا يقومُ به فعلٌ ولا يفعلُ شيئًا ألبتَّةَ ولا له حياةٌ ولا كلامٌ ولا وجهٌ، ولا يدٌ ولا فوقَ عرشِه ولا يَرضى ولا يغضبُ ولا يُرى ولا يمكنُ أنْ يُرى ولا يُشارُ إليه لكان العَدَمُ المحضُ كفوًا له، فإنَّ هذه الصِّفةَ منطبقةٌ على المعدومِ، فلو كان ما يقولُه المعطِّلونَ هو الحقَّ لم يكنْ صمدًا وكان العدمُ كفوًا له، فاسمُه الأحدُ دلَّ على نفيِ المشاركةِ والمماثلةِ، واسمُه الصَّمدُ دلَّ على أنَّه مُستحقٌّ لصفاتِ الكمالِ، فصفاتُ التَّنـزيهِ ترجعُ إلى هذين المَعْنيين: نفيِ النَّقائصِ عنه، وذلك من لوازمِ إثباتِ صفاتِ الكمالِ، فمَن ثبتَ له الكمالُ التَّامُّ انتفى عنه النُّقصانُ المضادُّ له، والكمالُ من مدلولِ اسمِهِ الصَّمدِ.
والثَّاني: أنَّه ليسَ كمثلِه شيءٌ في صفاتِ الكمالِ الثَّابتةِ له، وهذا من مدلولِ اسمهِ الأحدِ، فهذان الاسمانِ العظيمانِ يتضمَّنان تنـزيهَهُ عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ، وتنـزيهَه في صفاتِ الكمالِ أنْ يكونَ له مُماثِلٌ في شيءٍ منها، فالسُّورةُ تضمَّنَتْ كُلَّ ما يجبُ نفيُه عن اللهِ، وما يجبُ إثباتُه للهِ من وجهَيْنِ: من جهةِ اسمهِ الصَّمدِ، ومن جهةِ أنَّ كلَّ ما نُفِيَ عنهُ من الأصولِ والفروعِ والنَّظيِرِ استلزمَ ثُبوتَ صفاتِ الكمالِ، فإنَّ ما يمدحُ به من النَّفي فلابدَّ أن يتضمَّنَ ثبوتًا، وإلا فالنَّفيُ المحضُ عَدَمٌ محضٌ، والعدمُ المحضُ ليس بشيءٍ، فضلاً عن أنْ يكونَ صفةَ كمالٍ. انتهى مِن كلامِ الشَّيخِ تقيِّ الدِّينِ بنِ تيميةَ بتصرُّفٍ.

(31) قولُه: (لَمْ يَلِدْ): فيه الرَّدُّ على اليهودِ والنَّصارى والمُشركين، فإنَّ اليهودَ قالُوا: عُزيرٌ ابنُ اللهِ، وقالَتِ النَّصارى: المسيحُ ابنُ اللهِ، ومشركوا العربِ زعموا: أنَّ الملائكةَ بناتُ اللِه، تعالى اللهُ عن قولِهم.
قولُه: (ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) الكفوُ: المثلُ والشَّبيهُ، فهذه السُّورةُ تضمَّنت توحيدَ الاعتقادِ والمعرفةِ وما يجبُ إثباتُه للرَّبِّ من الأحديَّةِ المنافيةِ لمطلقِ المشاركةِ بوجهٍ من الوجوهِ، والصمديَّةِ المثبتةِ له جميعَ صفاتِ الكمالِ الَّذي لا يلحقُه فيها نقصٌ بوجهٍ من الوجوهِ، ونفيِ الولدِ والوالدِ الَّذي هو من لزومِ صمديَّتِه وغِناهُ وأحديَّتهِ، ونفيِ الكفؤِ المتضمِّنِ لنفيِ التَّشبيهِ والتَّمثيلِ، فتضمَّنتْ هذه السُّورةُ إثباتَ كلِّ كمالٍ، ونفيَ كلِّ نقصٍ عنه، ونفيَ إثباتِ مثلٍ له، أو شبيهٍ له في كمالِه، ونفيَ مطلقِ الشَّريكِ عنه، فهذه الأصولُ هي مَجامِعُ التَّوحيدِ العلميِّ الاعتقاديِّ، الَّذي يباينُ به صاحبُه جميعَ فرقِ الضَّلالِ والشِّركِ، ولهذا كانتْ تعدلُ ثلثَ القرآنِ، فأخلصتْ سورةُ الإخلاصِ الخبرَ عنه، وعن أسمائهِ وصفاتهِ، فعدلتْ ثلثَ القرآنِ، وخلَّصتْ قارئَها المؤمنَ بها من الشِّركِ العلميِّ.اهـ.، مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ رحمه اللهُ تعالى ملخَّصًا.
وفي هذهِ السُّورةِ الجمعُ بين النَّفيِ والإثباتِ، وفيها الإجمالُ في النَّفيِ، والتَّفصيلُ في الإثباتِ، وهذه طريقةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ خلافًا لأهلِ الكلامِ المذمومِ، وتضمَّنتْ هذه السُّورةُ أنواعَ التَّوحيدِ الثَّلاثةَ.


الساعة الآن 01:41 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir