معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد

معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد (http://afaqattaiseer.net/vb/index.php)
-   الدعوة بالقرآن (http://afaqattaiseer.net/vb/forumdisplay.php?f=1016)
-   -   وقفات مع آيات (http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=45978)

صفية الشقيفي 2 رمضان 1444هـ/23-03-2023م 11:51 PM

وقفات مع آيات
 
روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).

في هذا الموضوع -بإذن الله- أضع وقفات تدبرية مع بعض الآيات، أسأل الله فيها التوفيق والسداد.

صفية الشقيفي 2 رمضان 1444هـ/23-03-2023م 11:59 PM

قال الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)}
وردت هذه الآية في بداية بيان قصة بقرة بني إسرائيل في سورة البقرة
وأصل القصة أن رجلا من بني إسرائيل قُتل، فتدافعوا فيما بينهم كل يتهم الآخر بقتله، واحتكموا إلى موسى عليه السلام
فأوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام، أن يأمرهم بذبح بقرة …
فكان ردُّهم: {أتتخذنا هُزُوا} وكان رد موسى عليه السلام: {أعوذُ بالله أن أكون من الجاهلين}
ووجه ردهم هو ما دور ذبح البقرة في القضية التي عرضناها عليك؟!
وهو رد يدل على جهلهم وسوء أدبهم مع الله ورسوله
ولو أنهم فقهوا لعلموا أنهم حين احتكموا فلم يحتكموا لمجرد قاض أو بشر عادي وإنما احتكموا إلى رسول الله، الذي يأتيه الوحي من الله عز وجل، الله علام الغيوب !
فكان ينبغي أن يأخذوا الأمر بإذعان وتسليم، وإيمان بأنه إذا كان هذا أمر الله، فله حكمة، ومؤكد أنه موصل للغاية التي قصدناها
لكن قوم بني إسرائيل قوم بهت، مع كثرة ما رأوه من آيات الله عز وجل
وقد علموا كيف جعل الله من عصا موسى حية حقيقية تسعى لتلقف إفك السحرة !
وكيف جعل منها سببا في فلق البحر، وليست العصا من فلق البحر وإنما الله عز وجل، ينصر بما شاء من أسباب، بل ويجعل بما يظنُّ بأنه سبب للهلاك، سببا للنجاة.
وبهذا تعلم فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اصطفاهم الله لرسوله، وأدبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لأمر الله ورسوله: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}

وفي هذا السياق نتذكر قصة يوسف عليه السلام، وكيف جعل من أسره وبيعه بثمن بخس، سببا في تمكينه حتى قال سبحانه:
(وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين. وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو تتخذه ولدا وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}
فكان هذا أول تمكينه في الأرض، وفهمنا القاصر يقول أنه ضياع وتشريد له.

وفي هذا السياق أيضا نتذكر قصة هاجر عليها السلام حين تركها إبراهيم عليه السلام في أرض لا زرع فيها ولا ماء فقالت: (يا إبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وتَتْرُكُنَا بهذا الوَادِي الَّذي ليسَ فيه إنْسٌ ولَا شَيءٌ؟ فَقالَتْ له ذلكَ مِرَارًا، وجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا، فَقالَتْ له: آللَّهُ الَّذي أَمَرَكَ بهذا؟ قالَ: نَعَمْ، قالَتْ: إذَنْ لا يُضَيِّعُنَا). رواه البخاري في صحيحه موقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما، وله حكم الرفع لأنه مما لا يُعرف إلا بوحي، والله أعلم.

والمواقف في هذا كثيرة، لتسليم الأنبياء والصديقين والصالحين لأمر الله عز وجل، وإن شقَّ عليهم، أو لم تظهر الحكمة منه لهم.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
الخميس
1 رمضان 1444هـ

صفية الشقيفي 3 رمضان 1444هـ/24-03-2023م 12:13 AM

(2)
قال الله عز وجل:
{وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمَّهن قال إنّي جاعلُك للناس إمامًا قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}

الكلمات هي كل ما ابتلاه الله عز وجل به، وقد استسلم إبراهيم لأمر ربه فيها جميعا، حتى أنه أقدم على ذبح ابنه إسماعيل عليه السلام، في القصة المعروفة.
فجعله الله عز وجل إماما وقدوة حسنة
وفي هذه الآية إخبار عن إبراهيم عليه السلام، حين أعلمه ربه أنه جعله للناس إماما أنه قال داعيا ربه: (ومن ذريتي)
فقال الله عز وجل: (لا ينال عهدي الظالمين)
وفيها إخبار من الله عز وجل لإبراهيم عليه السلام أنه سيكون من ذريته ظالمين، ورأيته ابتلاءً آخر شديدًا.
خصوصا مع ما عرفناه عن إبراهيم عليه السلام من حرصه على ذريته
وهو القائل: (اجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام)
وهو القائل -مع ابنه إسماعيل- (ربنا واجعلنا مسلمين لكَ ومن ذريتنا أمة مسلمة لك)

ومع هذا ... جاءت الآيات تُعلِمُنا باستسلام إبراهيم عليه السلام لأمر ربه، فقال الله عز وجل: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطرّه إلى عذاب النار وبئس المصير)
فخصّ إبراهيم عليه السلام من آمن بدعوته، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا به.

الخميس
1 رمضان 1444هـ

صفية الشقيفي 3 رمضان 1444هـ/24-03-2023م 05:33 AM

{ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }
{قُل لله المشرق والمغرب} !!
فالارض كلها ملك الله عز وجل، ووحده من يعين القِبلةَ لعباده المسلمين.
فما لم يدركه السفهاء
أن الصحابة حين اتخذوا المسجد الأقصى قبلة لهم؛ كان ذلك بأمر الله، ولم يكن فعلهم إلا امتثالا لأمره، على حبهم للتوجه للكعبة، ذلك البيت الذي نشأوا على حبه وتقديسه !
ثم ما كان تحولهم من المسجد الأقصى إلى الكعبة إلا لله وامتثالا لأمره.
فليس الشأن التوجه قبل المشرق والمغرب
الشأن كل الشأن أن تكون حيث أرادك الله

ومن عجائب القرآن أنه لا يرد فقط على شبهات المخالفين السفهاء، ويدحضها؛ بل يدعم المؤمنين ويشفي صدورهم بهذه الحجة، وبتقوية إيمانهم، ورجائهم في تحصيل الأجر ..
سبحان الله
فقد لا يفهم السفهاء معنى امتثال المؤمنين لربهم، لكن الأهم في رد هذه الشبهة القوية ألا تؤثر على عزيمة المؤمن وثباتِه.
وثباتُه أعظم رد على السفهاء!
ربي اجعلنا فيمن هديتهم إلى صراطك المستقيم

2 رمضان 1437 هـ
تعديل: 2 رمضان 1444 هـ

صفية الشقيفي 3 رمضان 1444هـ/24-03-2023م 07:15 AM

من أجمل المعاني التي قرأتها في قصص الاصطفاء وأثر صدق النية وإخلاصها لله عز وجل
معنى ذكره الزجاج في معاني القرآن عند بيانه لمعنى قول الله تعالى: {إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَ ٰ⁠نَ رَبِّ إِنِّی نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِی بَطۡنِی مُحَرَّرࣰا فَتَقَبَّلۡ مِنِّیۤۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ } [سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ: ٣٥]

حيث ذكر أن (إذ) في قوله تعالى: (إذ قالت امرأة عمران) متعلقة بالفعل (اصطفى) في قوله تعالى:
{إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰۤ ءَادَمَ وَنُوحࣰا وَءَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ وَءَالَ عِمۡرَ ٰ⁠نَ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ } [سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ: ٣٣]
والمقصود
أن الله اصطفى آل عمران حين قالت امرأت عمران (رب إني نذرت لك ما في بطني محرَّرا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم)

ومعنى (مُحرّر) أي نذرته خادما للمحراب وهو بيت المقدس على قول بعض المفسرين
وكانت هذه المهمة خاصة بالذكور دون الإناث
فأراد الله أن يكون ما في بطنها أنثى (مريم عليها السلام)
فظنت أنه قد فاتها أملها الذي ترجوه
فاعتذرت لربها في أدب وقالت:
{رَبِّ إِنِّی وَضَعۡتُهَاۤ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَیۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّی سَمَّیۡتُهَا مَرۡیَمَ وَإِنِّیۤ أُعِیذُهَا بِكَ وَذُرِّیَّتَهَا مِنَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ ٱلرَّجِیمِ } [سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ: ٣٦]

ولم تتصور حينها أن الله اصطفاها واصطفى آل عمران جميعا في تلك اللحظة التي نذرت فيها بصدق وإخلاص لله عز وجل
ما في بطنها لله رب العالمين
فكانت مريم ... أنثى
خادمة للمحراب
وسيدة نساء العالمين، اختصها الله بما لم يختص به سيدة من قبلها ولا بعدها، فخلق في رحمها ولدا من غير أب
ليكون عيسى عليه السلام
رسول الله وكلمته وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى). رواه البخاري.
وما أشد معالجة النوايا لتكون خالصة لله عز وجل من كل شائبة
لكن يقينا ... أن من أخلص النية لله عز وجل، وصدق في عمله وقوله وحاله فإن الله لن يضيعه مهما بدا أن ظاهر الأمور تسير في غير ما يرجو ويأمل.

إنه القلب يرفع أقواما ويضع آخرين.
27 ربيع الأول 1444 هـ
23 أكتوبر 2023

صفية الشقيفي 3 رمضان 1444هـ/24-03-2023م 12:28 PM

قال الله عز وجل:
{ليسَ لكَ من الأمرِ شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} [سورة آل عمران: 128]
عن سَالِم بن عبد الله بن عمر عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنَ الْفَجْرِ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا وَفُلاَنًا)). بَعْدَ مَا يَقُولُ: ((سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ)). فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}). رواه البخاري في صحيحه.

واحدة من أعظم الابتلاءات التي يمر بها الإنسان، هذه التي تتهذب بها نفسه ويستسلم بها لحقيقة أنه
(ليس له من الأمر شيء)
🔷 أن تكون عالما وداعية إلى الله عز وجل، يهدي بك الله العشرات، المئات، بل الآلاف، ثم لا تملك هداية ولدك!
نوحٌ عليه السلام واحد من أولي العزم من الرسل، لم يملك هداية ولده رغم حرصه الشديد عليه
(وحال بينهما الموج فكان من المغرقين)
(قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين. قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين)
إبراهيم عليه السلام، خليل الرحمن، ولم يملك هداية والده
وبعدما وعده بالاستغفار له، امتثل لأمر الله عز وجل حين نهاه عن ذلك
(قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا)
(وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواهٌ حليم)
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، خليل الله ومصطفاه، لم يملك هداية عمه أبي طالب وأحب الناس إليه
(إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)
وقنت النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الآخرة من صلاة الفجر ودعا (اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا) سماهم، فأنزل الله عز وجل: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون)
ولكَ أن تتصور، أسلمَ وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب، ومات أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم كافرا!
ليس لكَ من الأمر شيء !

⬅️ وعلى هذا فقس:
🔷 أن تكون معلمًا، تنير دروب عشرات ومئات الطلاب، ومع هذا يفشل ولدك في التعليم والتحصيل!
🔷 أن تكون طبيبا يشفي الله على يديك مئات وآلاف المرضى بل وينقذهم من الموت بك، ومع هذا تعجز كل العجز عن مجرد تخفيف آلام أحب الناس إليك، وتقف أمام مرضهم عاجزا !!
🔷 أن تكون ذا حكمة، يقصدك الناس لطلب النصح والإرشاد في مشاكلهم، ومع هذا تعجز عن الاهتداء إلى سبيل الخروج من هم ألمَّ بك
أن يكشف الله بك الكرب، ويسعد بك الناس ومع هذا يصيبك بكربة تعجز كل العجز عن معرفة سبيل الخلاص منها
ليس لك من الأمر شيء
فتبرأ من حولك وقوتك إلى حول الله وقوته
ليس بقوتك ولا بحكمتك فعلت ما فعلت
بل بحول الله وقوته، هو من هداك وأعانك ويسر لك كل سبيل للخير، ولما أصابك بما تعجز عنه فهو وحده قادر على كشف الضر عنك، إن شاء، سبحانه، فعال لما يريد.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

6شوال 1443
تعديل: 2 رمضان 1444 هـ

صفية الشقيفي 3 رمضان 1444هـ/24-03-2023م 10:44 PM

{وخُلِق الإنسانُ ضعيفا}
هكذا قال الله عز وجل، ومن أصدق من الله قيلا!
أنت ضعيف في جسمك، ضعيف في فكرك، ضعيف في إرادتك، ضعيف من كل وجه... إلا أن يجبرك الله برحمته وفضله، فإذا أردت جبر ضعفك فليس لك إلا أن تتبع ما أمرك به خالقك، لأن الله قال:
{يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهديكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبلكُمۡ وَيَتُوبَ عَليكمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم ٞ( ٢٦) وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَليكمۡ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيلا عَظِيمٗا (٢٧) يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلإنسَٰنُ ضَعِيفٗا (٢٨)} [سورة النساء: 26-28]


هل وعى قلبك هذه الآية الأخيرة؟
{يريد الله أن يُخفف عنكم وخُلق الإنسان ضعيفًا}
وهذا التخفيف حقيقته فيما بينه الله عز وجل في كتابه، وبما هدانا إليه، وشرعه لنا؛ وكل انحراف فكري أو أخلاقي عن أمر الله عز وجل ومراده، يؤدي بالإنسان إلى المشقة والعنت، سواء كان بالإفراط أو التفريط.

وتأمل ختام هذه الآية مرة أخرى:
{يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم}
الله العليم الذي أحاط علمًا بكل شيء، الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه ويدبر أمور خلقه جميعًا
الله الذي خلقك ضعيفا وهو أعلم بك وبما يصلحك
سبحانه الذي تكلم بهذا القرآن وأنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم نورًا وهدى وشفاء لما في الصدور
يريد سبحانه أن يخفف عنك بما بيَّنه لك...
فبأي وجه تظن أنّ الهدى فيما جاء به عقل مخلوق ضعيف مثلي ومثلك، وفيه مخالفة أمر ربك؟!
وبأي وجه تظن أن التخفيف عنك يكون بما تشتهيه نفسك وفيه معصية ربك؟!

وسبحان الله، كثيرًًا ما يبتلي الله عباده بما يظهر ضعفهم؛ فإذا أنابوا إليه وخضعوا له، وانقادوا لأمره، ووجدوا في قلوبهم ذلا وانكسارًا لله رب العالمين، وأقروا أن لا حول ولا قوة لهم إلا به، جبرهم بفضله وخفف عنهم ما يجدونه من مشقة -وإن لم تنكشف محنتهم-، بل يمنحهم قوة على تحمل ما يجدون، وكثيرًا ما يكون هذا الابتلاء الذي يضيق به العبد، سبيلا إلى عزه ونصره وتمكينه، إذا أحسن اتباع هدى الله عز وجل.

أما إذا أصر العبد على الاتكال على نفسه وأهوائها، وُكلَ إليها؛ فازداد بها شقاء وعنتًا !
وفي الحديث القدسي أن الله عز وجل قال: "يا عبادي كلكم ضالٌ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم". رواه مسلم من حديث أبي ذر الغفاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة.

وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمرٌ: "ياحي ياقيوم برحمتك أستغيث". رواه الترمذي وصححه الألباني.

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابنته فاطمة -رضي الله عنها-: "ما يمنعكِ أن تسمعي ما أوصيكِ به؟ أن تقولي إذا أصبحتِ وإذا أمسيتِ: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين". رواه النسائي وصححه الألباني.

ربنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، رب اهدنا لأحسن الأمور لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقنا سيئ الأمور لا يقي سيئها إلا أنت.

24 صفر 1443 هـ

صفية الشقيفي 3 رمضان 1444هـ/24-03-2023م 10:52 PM

قال الله عز وجل: { وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّیُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَـٰبَتۡكُم مُّصِیبَةࣱ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِیدࣰا (٧٢) وَلَىِٕنۡ أَصَـٰبَكُمۡ فَضۡلࣱ مِّنَ ٱللَّهِ لَیَقُولَنَّ كَأَن لَّمۡ تَكُنۢ بَیۡنَكُمۡ وَبَیۡنَهُۥ مَوَدَّةࣱ یَـٰلَیۡتَنِی كُنتُ مَعَهُمۡ فَأَفُوزَ فَوۡزًا عَظِیمࣰا (٧٣) ۞ فَلۡیُقَـٰتِلۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِینَ یَشۡرُونَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا بِٱلۡـَٔاخِرَةِۚ وَمَن یُقَـٰتِلۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ فَیُقۡتَلۡ أَوۡ یَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِیهِ أَجۡرًا عَظِیمࣰا (٧٤) }
[سُورَةُ النِّسَاءِ: ٧٢-٧٤]
لا يصلح لهذا الطريق المتردد الشاك
الذي يقف يترقب كيف يصنع الله عز وجل بكلا الفريقين!
بل لا يصلح له إلا أولو اليقين الذين باعوا أنفسهم لله عز وجل، ويقينهم أن العاقبة للمتقين في الدنيا قبل الآخرة.
غير أنهم يعلمون أن حظ الفرد منهم قد لا يجده في الدنيا، لكنه رضي أن يبيع نفسه ليحيا هذا الدين.
وهذه الصورة هي هي ... في جهاد النفس ضد شرورها وذنوبها وفتن الحياة الدنيا وزينتها
هي هي ...
لا يثبت في هذه المعارك إلا أولو اليقين
ستضيق على السالك إلى ربه الدروب
وسينقلب عليه كل رفيق أنيس
ربما يسير مستوحشا زمنا طويلا
ستزيغ الأبصار وتبلغ القلوب الحناجر
وسيأتيه المرجفون من كل مكان ... يقولون حتى متى وأنت مستمسك بالسير في هذا الطريق والقوم سبقوك لحظوظ الحياة الدنيا وزينتها
لكن متى كان همه الدنيا ليتحسر عليها؟
وكيف يفهمون أن مثله ما أراد الدنيا إلا ليستعين بها على سيره لله عز وجل، فلئن فقدها وهذه نيته، فالله يعينه بما شاء وكيفما شاء!
لن يفهموه... همهم الدنيا وهمه الآخرة
أما المترددون المتحيرون ... فسيبقون في حسرتهم أبدا
فمتى توقن أن الله عز وجل لا يضيع أجر المؤمنين؟
وأن التجارة مع الله رابحة أبدا؟!
{ إِنَّ ٱلَّذِینَ یَتۡلُونَ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُوا۟ مِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ سِرࣰّا وَعَلَانِیَةࣰ یَرۡجُونَ تِجَـٰرَةࣰ لَّن تَبُورَ (٢٩) لِیُوَفِّیَهُمۡ أُجُورَهُمۡ وَیَزِیدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦۤۚ إِنَّهُۥ غَفُورࣱ شَكُورࣱ (٣٠) }
[سُورَةُ فَاطِرٍ: ٢٩-٣٠]
صدق الله وكذب المرجفون!

7 صفر 1444 هـ

صفية الشقيفي 4 رمضان 1444هـ/25-03-2023م 08:05 PM

{ فَإِذَا قَضَیۡتُم مَّنَـٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَاۤءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرࣰاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ رَبَّنَاۤ ءَاتِنَا فِی ٱلدُّنۡیَا وَمَا لَهُۥ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ مِنۡ خَلَـٰقࣲ (٢٠٠) وَمِنۡهُم مَّن یَقُولُ رَبَّنَاۤ ءَاتِنَا فِی ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣰ وَفِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ حَسَنَةࣰ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ (٢٠١) }
[سُورَةُ البَقَرَةِ: ٢٠٠-٢٠١]
حذف المتعلق في دعاء المشركين، فذكر أنهم يسألون عطاء الدنيا مطلقا، وقيّده في دعاء المؤمنين بقولهم: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة)
وفي هذا بيان أن أهل الدنيا إنما يريدون متاع الدنيا على أي صفة كانت، وأما أهل الإيمان فيريدون الحَسَن منها
والحُسن وصف يجمع عدة معان مثل الطيب والجودة والجمال، وأهمها أن يكون حلالا، فما ليس بحلال فليس بحسن، وأهل الدنيا لا يبالون بمثل هذا.
والله أعلم.
السبت 3 رمضان 1444 هـ

صفية الشقيفي 4 رمضان 1444هـ/25-03-2023م 08:18 PM

قال الله عز وجل: {أَیَوَدُّ أَحَدُكُمۡ أَن تَكُونَ لَهُۥ جَنَّةࣱ مِّن نَّخِیلࣲ وَأَعۡنَابࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ لَهُۥ فِیهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِ وَأَصَابَهُ ٱلۡكِبَرُ وَلَهُۥ ذُرِّیَّةࣱ ضُعَفَاۤءُ فَأَصَابَهَاۤ إِعۡصَارࣱ فِیهِ نَارࣱ فَٱحۡتَرَقَتۡۗ كَذَ ٰ⁠لِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} [سورة البقرة: 266]

دلالة الفصل في وصف الجنة: (جَنَّةࣱ مِّن نَّخِیلࣲ وَأَعۡنَابࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ لَهُۥ فِیهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِ)

صفية الشقيفي 5 رمضان 1444هـ/26-03-2023م 12:50 AM

قال الله عز وجل: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)} سورة المائدة

اختُلف في الوقف والابتداء في هذه الآية على قولين:
الأول: الوقف على (وأخي)، وهو ظاهر تفسير ابن جرير الطبري وابن كثير، ورجحه ابن الأنباري في إيضاح الوقف والابتداء، واختاره أبو عمرو الداني.
والمعنى أن موسى عليه السلام يتضرع إلى الله عز وجل بأنه لا يملك إلا نفسه وأخيه يحملهما على طاعة الله عز وجل فيما أمرهم به من قتال الجبابرة في الأرض المقدسة، بعدما قال بنو إسرائيل
(قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24))


القول الثاني:
الوقف على (نفسي) والابتداء بـ (وأخي) ثم يقف عليها، ويبدأ بـ (فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين)
ذكره ابن الأنباري ونسبه إلى السجستاني (ولم أعرف من يقصد، أهو أبو بكر بن أبي داوود السجستاني؟)
ورد ابن الأنباري هذا القول وحجته أن القرآن يدل على أن هارون عليه السلام كان مطيعا لأخيه.
وذكره أبو عمرو الداني ونسبه لأحمد بن موسى اللؤلؤي، ورواه أبو عمرو بإسناده إلى الكلبي.
وذكره الزجاج وأبو جعفر النحاس وابن عطية وابن جُزي الكلبي احتمالا.

والمعنى على هذا الوقف:
لا أملك إلا نفسي، وأخي لا يملك إلا نفسه
وهذا الوقف أبلغ -والله أعلم- في بيان شدة الافتقار إلى الله عز وجل، والتبرؤ من الحول والقوة، وليس فيه ما يدل على عدم طاعة هارون لموسى -عليهما السلام-، لأنه جمع بينهما في الدعاء بقوله: (فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين)
والله أعلم.

السبت 3 رمضان 1444هـ

صفية الشقيفي 5 رمضان 1444هـ/26-03-2023م 02:31 PM

{ وَحَاۤجَّهُۥ قَوۡمُهُۥۚ قَالَ أَتُحَـٰۤجُّوۤنِّی فِی ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنِۚ وَلَاۤ أَخَافُ مَا تُشۡرِكُونَ بِهِۦۤ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ رَبِّی شَیۡـࣰٔاۚ وَسِعَ رَبِّی كُلَّ شَیۡءٍ عِلۡمًاۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ }
[سُورَةُ الأَنۡعَامِ: ٨٠]

اختُلِف في الاستثناء في هذه الآية على قولين:
الأول: أنه استثناء منقطع، والمعنى لا أخاف ما تشركون به لكن أخاف مشيئة ربي، وهو قول الجمهور.
الثاني: أنه استثناء متصل، لكنه مفرغ من المستثنى منه، فاحتيج إلى تقديره، وهو قول الزمخشري وأبي البقاء.
وقدَّره الزمخشري بالوقت، فيكون المعنى: لا أخاف ما أشركتم في أي وقت من الأوقات إلا وقت مشيئة ربي.
وقدره أبو البقاء بالحال، فيكون المعنى:
لا أخاف ما أشركتم في أي حال من الأحوال إلا حال مشيئة ربي.
ومعنى هذا القول أنه إذا قدرت معبوداتكم على الضر، في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال فهذا بمشيئة ربي، فأنا أخاف الله عز وجل وأتعلق به ليرفع هذا الضر عني.

والقول الأول أعم لأنه يشمل مشيئة الله في حصول الضر للعبد بأي سبب كان.
🔷 فيشمل حصول الضر بسبب المشركين.
ومن ذلك قوله تعالى: { إِنَّمَا ٱلنَّجۡوَىٰ مِنَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ لِیَحۡزُنَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَلَیۡسَ بِضَاۤرِّهِمۡ شَیۡـًٔا إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ }
[سُورَةُ المُجَادلَةِ: ١٠]

🔷 ويشمل حصول الضر بسبب معبوداتهم مما أقدرها الله -عز وجل على الضر- مثل النجوم والكواكب والجن.
وهذا مثل قوله تعالى: (وما هم بضآرِّين به من أحد إلا بإذن الله)
وقوله تعالى:
{ إِنَّمَا ذَ ٰ⁠لِكُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ یُخَوِّفُ أَوۡلِیَاۤءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ }
[سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ: ١٧٥]

🔷 ويشمل حصول الضر بأي سبب آخر.
فهذا الضر حصل بمشيئة الله عز وجل، ووحده القادر على كشفه، كما قال تعالى:
{ وَإِن یَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرࣲّ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥۤ إِلَّا هُوَۖ وَإِن یَمۡسَسۡكَ بِخَیۡرࣲ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ }
[سُورَةُ الأَنۡعَامِ: ١٧]
{ وَإِن یَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرࣲّ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥۤ إِلَّا هُوَۖ وَإِن یُرِدۡكَ بِخَیۡرࣲ فَلَا رَاۤدَّ لِفَضۡلِهِۦۚ یُصِیبُ بِهِۦ مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِیمُ }
[سُورَةُ يُونُسَ: ١٠٧]

فينبغي للعبد أن يتعلق بالله عز وجل، وألا يحصل له خوف بسبب مخلوق؛ فهذا المخلوق تحت ملك الله وتصرفه، وإنما يبتلي الله عباده بعضهم ببعض لينظر كيف يعملون.
فالأولى أن يخشى المشركون ومن خالفوا أمر الله عز وجل، عذاب الله وسخطه
لهذا قال إبراهيم عليه السلام بعد هذه الآية
{ وَكَیۡفَ أَخَافُ مَاۤ أَشۡرَكۡتُمۡ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمۡ أَشۡرَكۡتُم بِٱللَّهِ مَا لَمۡ یُنَزِّلۡ بِهِۦ عَلَیۡكُمۡ سُلۡطَـٰنࣰاۚ فَأَیُّ ٱلۡفَرِیقَیۡنِ أَحَقُّ بِٱلۡأَمۡنِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ (٨١) ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَلَمۡ یَلۡبِسُوۤا۟ إِیمَـٰنَهُم بِظُلۡمٍ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمُ ٱلۡأَمۡنُ وَهُم مُّهۡتَدُونَ (٨٢) }
[سُورَةُ الأَنۡعَامِ: ٨١-٨٢]

الأحد 4 رمضان 1444 هـ

صفية الشقيفي 5 رمضان 1444هـ/26-03-2023م 03:39 PM

قال الله عز وجل: {وَمَا ‌جَعَلَهُ ‌ٱللَّهُ ‌إِلَّا ‌بُشۡرَىٰ وَلِتَطۡمَئِنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمۡۚ وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10]

جاءت هذه الآية في سياق امتنان الله عز وجل على المؤمنين بإمدادهم بالملائكة في غزوة بدر، وفيها بيان عناية الله عز وجل بعباده المؤمنين من عدة أوجه، منها:
- تبشيرهم بالنصر بإمدادهم بالملائكة، فإذا يسر الله للعبد أسباب النصر، أو دفع عنه أسباب الهزيمة؛ فينبغي أن يستبشر بهذا في حصول النصر له بإذن الله.
- {ولِتطمئن به قلوبكم}، حصول الطمأنينة والسكينة مما يعينهم على الإقدام على عدوهم، غير مبالين بقلة عددهم وعتادهم، ومن مقاصد نزول الملائكة تثبيت المؤمنين كما قال الله عز وجل في الآيات التالية: {إذ يوحي ربك للملائكة أنّي معكم فثبتوا الذين آمنوا}
فإذا نزلت السكينة على العبد مع شدة ابتلائه، فهذا مما يبشره بحصول الفرج، وينبغي أن يستعين به على أداء واجب الوقت، وليس مجرد ترقب حصول الفرج.
- {وما النصر إلا من عند الله}
أسلوب حصر يفيد أن حقيقة النصر ليست حاصلة بما معكم من أسباب ولا بنزول الملائكة وإنما النصر من عند الله، وتفيد أن الغرض من نزول الملائكة هو البشرى وطمأنينة القلوب، لكن ينبغي أن تتعلق القلوب بالله العزيز الحكيم وحده، لا بالملائكة ولا بالأسباب، وهذا من كمال عناية الله عز وجل بقلوب عباده المؤمنين أن يذكرهم بتحقيق التوحيد وتجنب تعلق القلوب بغيره، فهو بداية الخذلان.

وفي سورة آل عمران جاء نظير هذه الآية
فقال الله عز وجل: {وَمَا ‌جَعَلَهُ ‌ٱللَّهُ ‌إِلَّا ‌بُشۡرَىٰ لَكُمۡ وَلِتَطۡمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِۦۗ وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ} [آل عمران: 126]
وبين آية آل عمران وآية الأنفال فروق بينها ابن عاشور في تفسيره والتمس الحكمة منها، أنقلها للفائدة:
"وتقدم القول في نظير هذه الآية في سورة آل عمران إلا لتعرض لما بين الآيتين من اختلاف في ترتيب النظم وذلك في ثلاثة أمور:
أحدها: أنه قال في آل عمران [126] : إلا بشرى لكم وحذف (لكم) هنا دفعا لتكرير لفظه لسبق كلمة لكم قريبا في قوله: فاستجاب لكم [الأنفال: 9] فعلم السامع أن البشرى لهم، فأغنت لكم الأولى، بلفظها ومعناها، عن ذكر لكم مرة ثانية، ولأن آية آل عمران سيقت مساق الامتنان والتذكير بنعمة النصر في حين القلة والضعف، فكان تقييد بشرى بأنها لأجلهم زيادة في المنة أي: جعل الله ذلك بشرى لأجلكم كقوله تعالى: ألم نشرح لك صدرك [الشرح: 1] وأما آية الأنفال فهي مسوقة مساق العتاب على كراهية الخروج إلى بدر في أول الأمر، وعلى اختيار أن تكون الطائفة التي تلاقيهم غير ذات الشوكة، فجرد بشرى عن أن يعلق به لكم إذ كانت البشرى للنبيء صلى الله عليه وسلم ومن لم يترددوا من المسلمين، وقد تقدم ذلك في آل عمران.
ثانيها: تقديم المجرور هنا في قوله: به قلوبكم وهو يفيد الاختصاص، فيكون المعنى: ولتطمئن به قلوبكم لا بغيره، وفي هذا الاختصاص تعريض بما اعتراهم من الوجل من الطائفة ذات الشوكة وقناعتهم بغنم العروض التي كانت مع العير، فعرض لهم بأنهم لم يتفهموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، حين استشارهم، وأخبرهم بأن العير سلكت طريق الساحل فكان ذلك كافيا في أن يعلموا أن الطائفة الموعود بها تمحضت أنها طائفة النفير، وكان الشأن أن يظنوا بوعد الله أكمل الأحوال، فلما أراد الله تسكين روعهم، وعدهم بنصرة الملائكة علما بأنه لا يطمئن قلوبهم إلا ذلك، وجعل الفخر: التقديم هنا لمجرد الاهتمام بذلك الوعد، وذلك من وجوه التقديم لكنه وجه تأخيره في آل عمران بما هو غير مقبول.
ثالثها: أنه قال في سورة آل عمران [126] العزيز الحكيم فصاغ الصفتين العليتين في صيغة النعت، وجعلهما في هذه الآية في صيغة الخبر المؤكد، إذ قال: إن الله عزيز حكيم فنزل المخاطبين منزلة من يتردد في أنه تعالى موصوف بهاتين الصفتين: وهما العزة، المقتضية أنه إذا وعد بالنصر لم يعجزه شيء، والحكمة، فما يصدر من جانبه غوص الأفهام في تبين مقتضاءه، فكيف لا يهتدون إلى أن الله لما وعدهم الظفر بإحدى الطائفتين وقد فاتتهم العير أن ذلك آيل إلى الوعد بالظفر بالنفير" اهـ.

وما زالت الآيتان بحاجة لتدبر سياق كل منهما خاصة وأن آية سورة آل عمران جاءت في سياق تذكير المؤمنين بنصر الله لهم ببدر وهم أذلة، بعد ما حصل منهم في أحد.

والله أعلم.

الأحد 4 رمضان 1444 هـ

صفية الشقيفي 5 رمضان 1444هـ/26-03-2023م 08:33 PM

{ إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ثَانِیَ ٱثۡنَیۡنِ إِذۡ هُمَا فِی ٱلۡغَارِ إِذۡ یَقُولُ لِصَـٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِینَتَهُۥ عَلَیۡهِ وَأَیَّدَهُۥ بِجُنُودࣲ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِیَ ٱلۡعُلۡیَاۗ وَٱللَّهُ عَزِیزٌ حَكِیمٌ }
[سُورَةُ التَّوۡبَةِ: ٤٠]
قالَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (نَظَرْتُ إلى أَقْدَامِ المُشْرِكِينَ علَى رُؤُوسِنَا وَنَحْنُ في الغَارِ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، لو أنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إلى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقالَ: «يا أَبَا بَكْرٍ ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟»). رواه البخاري ومسلم واللفظ له.

بداية السكينة ثم نزول النصر من اليقين !
فإن النبي صلى الله عليه وسلم علل نهيه عن الحزن لأبي بكر بتأكيده (إنّ الله معنا)
ثم جاء الإخبار بنزول السكينة معطوفا على هذه الجملة بالفاء التي تفيد التعقيب مع السرعة
(فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها)


وبالرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كل الأسباب الممكنة حتى لا يلحق به صناديد قريش؛
سلك طريقا غير الطريق المعروفة للمدينة ، كلف من يسير بالغنم خلفه حتى يمحو آثار الأقدام ، اختبأ في الغار ..
ومع ذلك أراد الله أن يلحقوا به، ليعجز المشركين، ويرينا لطفه وعزته!

وهذا المشهد يرينا كيف آوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ركن شديد؛ آوى إلى حسن توكله وإيمانه بربه، ويقينه أن ربه لن يضيعه
(ما ظنك باثنين الله ثالثهما)؟
(لا تحزن إن الله معنا)
وهكذا ينبغي أن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم كلما حصل لنا ما نخشاه رغم تحرينا العمل بكل ما شرعه الله لنا من أسباب.

سيحدث ما تخشاه
ومع ذلك ينجيك الله بفضله
حين نأوي إلى يقيننا بأن الله هو العليم الحكيم، ويقيننا برحمته ولطفه، وعزته وجبروته.
ونغترف من هذا اليقين ما يعيننا على الصبر لحكمه.

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

10 رمضان 1437
تعديل الأحد: 4 رمضان 1444

صفية الشقيفي 5 رمضان 1444هـ/26-03-2023م 09:09 PM

لما جاءت الملائكة إبراهيم عليه السلام بالبشرى بالولد
واستقبلت زوجته سارة البشرى، وتعجبت
كما قال الله عز وجل:
{ وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَاۤىِٕمَةࣱ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَـٰهَا بِإِسۡحَـٰقَ وَمِن وَرَاۤءِ إِسۡحَـٰقَ یَعۡقُوبَ (٧١) قَالَتۡ یَـٰوَیۡلَتَىٰۤ ءَأَلِدُ وَأَنَا۠ عَجُوزࣱ وَهَـٰذَا بَعۡلِی شَیۡخًاۖ إِنَّ هَـٰذَا لَشَیۡءٌ عَجِیبࣱ (٧٢)} سورة هود.

وجاء رد الملائكة عجيبا
فلم يقولوا (أتعجبين من أمر الله إن الله على كل شيء قدير)
بل قالوا:
(قَالُوۤا۟ أَتَعۡجَبِینَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَـٰتُهُۥ عَلَیۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَیۡتِۚ إِنَّهُۥ حَمِیدࣱ مَّجِیدࣱ (٧٣) }
[سُورَةُ هُودٍ]
فليس مثل سارة التي عاشت في بيت النبوة وعلمت بل ورأت رأي العين رحمات الله عليها وعلى زوجها إبراهيم عليه السلام، أن تتعجب اليوم أن تلد وهي عجوز وزوجها شيخ، فمثلها يعلم يقينا أن الله على كل شيء قدير.
أحيانا تحتاج أن تتذكر رحمات الله عز وجل وبركاته عليك في سنوات طويلة عشتها من قبل
ثم تتذكر عظمة الله وصفات جلاله وجماله
ليس فقط لتوقن أنه على كل شيء قدير وأنه لا يعجزه شيء في السماوات والأرض
بل لتوقن أيضا أنه رؤوف بك رحيم بقلبك وضعفك وعجزك، لطيف خبير لا يخفى عليه همك وغمك وفقرك وفاقتك
إنه حميد مجيد
فسبحانك ربي، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.

8 ربيع أول 1444 هـ
تعديل: 4 رمضان 1444هـ

صفية الشقيفي 6 رمضان 1444هـ/27-03-2023م 12:37 PM

(وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) [ سورة يوسف : 42]
{فلبث في السجن بضع سنين}
وقرأتها
فقرأت فيها عظيم فضل الله عز وجل على يوسف
الوجه الأول : من باب {واصطنعتك لنفسي}
الوجه الثاني : أن يخرج يوسف عليه السلام مرفوع الرأس مبرأ مما اتهموه به زورا
وليس بمجرد عفو من ملك مصر !

21 ذو الحجة 1435 هـ

صفية الشقيفي 6 رمضان 1444هـ/27-03-2023م 01:28 PM

قال الله عز وجل: { إِذۡ تَبَرَّأَ ٱلَّذِینَ ٱتُّبِعُوا۟ مِنَ ٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوا۟ وَرَأَوُا۟ ٱلۡعَذَابَ وَتَقَطَّعَتۡ بِهِمُ ٱلۡأَسۡبَابُ }
[سُورَةُ البَقَرَةِ: ١٦٦]

معنى الباء في قوله تعالى: (وتقطَّعَت بهم الأسباب)

قال ابن جرير الطبري: (حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وتقطعت بهم الأسباب" قال، أسباب أعمالهم، فأهل التقوى أعطوا أسبابَ أعمالهم وَثيقةً، فيأخذون بها فينجُون، والآخرون أعطوا أسبابَ أعمالهم الخبيثة، فتقطَّعُ بهم فيذهبون في النار). اهـ


قال ابن عاشور: (والتَّقَطُّعُ الِانْقِطاعُ الشَّدِيدُ لِأنَّ أصْلَهُ مُطاوِعُ قَطَّعَهُ بِالتَّشْدِيدِ مُضاعِفُ قَطَعَ بِالتَّخْفِيفِ.
والأسْبابُ جَمْعُ سَبَبٍ وهو الحَبْلُ الَّذِي يُمَدُّ لِيُرْتَقى عَلَيْهِ في النَّخْلَةِ أوِ السَّطْحِ، وقَوْلُهُ ﴿وتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ﴾ تَمْثِيلِيَّةٌ شَبَّهَتْ هَيْئَتَهم عِنْدَ خَيْبَةِ أمَلِهِمْ حِينَ لَمْ يَجِدُوا النَّعِيمَ الَّذِي تَعِبُوا لِأجْلِهِ مُدَّةَ حَياتِهِمْ وقَدْ جاءَ إبّانَهُ في ظَنِّهِمْ فَوَجَدُوا عِوَضَهُ العَذابَ، بِحالِ المُرْتَقِي إلى النَّخْلَةِ لِيَجْتَنِيَ الثَّمَرَ الَّذِي كَدَّ لِأجْلِهِ طُولَ السَّنَةِ فَتَقَطَّعَ بِهِ السَّبَبُ عِنْدَ ارْتِقائِهِ فَسَقَطَ هالِكًا، فَكَذَلِكَ هَؤُلاءِ قَدْ عَلِمَ كُلُّهم حِينَئِذٍ أنْ لا نَجاةَ لَهم فَحالُهم كَحالِ السّاقِطِ مِن عُلْوٍ لا تُرْجى لَهُ سَلامَةٌ، وهي تَمْثِيلِيَّةٌ بَدِيعَةٌ لِأنَّها الهَيْئَةُ المُشَبَّهَةُ تَشْتَمِلُ عَلى سَبْعَةِ أشْياءَ كُلُّ واحِدٍ مِنها يَصْلُحُ لِأنْ يَكُونَ مُشَبَّهًا بِواحِدٍ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْها الهَيْئَةُ المُشَبَّهُ بِها وهي: تَشْبِيهُ المُشْرِكِ في عِبادَتِهِ الأصْنامَ واتِّباعِ دِينِها بِالمُرْتَقِي بِجامِعِ السَّعْيِ، وتَشْبِيهُ العِبادَةِ وتَشْبِيهُ العِبادَةِ وقَبُولِ الآلِهَةِ مِنهُ بِالحَبْلِ المُوَصِّلِ، وتَشْبِيهُ النَّعِيمِ والثَّوابِ بِالثَّمَرَةِ في أعْلى النَّخْلَةِ لِأنَّها لا يَصِلُ لَها المَرْءُ إلّا بَعْدَ طُولٍ وهو مُدَّةُ العُمُرِ، وتَشْبِيهُ العُمُرِ بِالنَّخْلَةِ في الطُّولِ، وتَشْبِيهُ الحِرْمانِ مِنَ الوُصُولِ لِلنَّعِيمِ بِتَقْطِيعِ الحَبْلِ، وتَشْبِيهُ الخَيْبَةِ بِالبُعْدِ عَنِ الثَّمَرَةِ، وتَشْبِيهُ الوُقُوعِ في العَذابِ بِالسُّقُوطِ المُهْلِكِ. وقَلَّما تَأْتِي في التَّمْثِيلِيَّةِ صُلُوحِيَّةِ أجْزاءِ التَّشْبِيهِ المُرَكَّبِ فِيها لِأنْ تَكُونَ تَشْبِيهاتٍ مُسْتَقِلَّةٍ، والوارِدُ في ذَلِكَ يَكُونُ في أشْياءَ قَلِيلَةٍ كَقَوْلِ بِشارٍ الَّذِي يُعَدُّ مِثالًا في الحُسْنِ:
كَأنَّ مُثارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُءُوسِنا وأسْيافَنا لَيْلٌ تَهاوى كَواكِبُهُ

فَلَيْسَ في البَيْتِ أكْثَرُ مِن تَشْبِيهاتٍ ثَلاثَةٍ.
فالباءُ في بِهِمْ لِلْمُلابَسَةِ أيْ تَقَطَّعَتِ الأسْبابُ مُلْتَبِسَةٌ بِهِمْ أيْ فَسَقَطُوا، وهَذا المَعْنى هو مَحَلُّ التَّشْبِيهِ لِأنَّ الحَبْلَ لَوْ تَقَطَّعَ غَيْرَ مُلابِسٍ لِلْمُرْتَقِي عَلَيْهِ لَما كانَ في ذَلِكَ ضُرٌّ إذْ يُمْسِكُ بِالنَّخْلَةِ ويَتَطَلَّبُ سَبَبًا آخَرَ يَنْزِلُ فِيهِ، ولِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ وتَقَطَّعَتْ أسْبابُهم أوْ نَحْوَهُ، فَمَن قالَ: إنَّ الباءَ بِمَعْنى عَنْ أوْ لِلسَّبَبِيَّةِ أوِ التَّعْدِيَةِ فَقَدْ بَعُدَ عَنِ البَلاغَةِ، وبِهَذِهِ الباءِ تَقُومُ مَعْنى التَّمْثِيلِيَّةِ بِالصّاعِدِ إلى النَّخْلَةِ بِحَبْلٍ، وهَذا المَعْنى فائِتٌ في قَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ:
تَقَطَّعَ أسْبابُ اللُّبانَةِ والهَوى ∗∗∗ عَشِيَّةَ جاوَزْنا حَماةَ وشَيْزَرا). اهـ

صفية الشقيفي 6 رمضان 1444هـ/27-03-2023م 03:46 PM

تأملات في قصة يوسف عليه السلام

قصَّ يوسف رؤياه على أبيه يعقوب عليهما السلام؛ فأوصاه ألا يقصص رؤياه على إخوته لئلا يكيدوا له كيدا.
استجاب يوسف لوصية أبيه، ومع هذا كادوا له كيدا !
أخبر يعقوبُ بنيه أنه يحزنه ذهابهم بيوسف، ويخاف عليه الذئب، ومع هذا جاءوا على قميصه بدم كذب، وقالوا أكله الذئب!
باعوه بثمن بخس، وظنوا بذلك الخلاص منه، بينما قال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا
قال الله عز وجل: {كذلك مكنّا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}
اجتهد إخوة يوسف في الخلاص منه، فكانوا وسيلة لإيصاله لتمكينه وعزه!
أبعد إخوة يوسف، يوسف عن أبيهم يرجون بذلك غاية واحدة
{اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم}
فعلوا ما أرادوا، وعصوا بذلك ربهم وأحزنوا أباهم ...
لكن لم يتحقق مرادهم، فيعقوب يذكر يوسف طيلة الوقت
قال الله عز وجل: {قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين}
كادت زوجة العزيز بيوسف، وشهد شاهد من أهلها، وثبتت براءته ... ومع هذا دخل يوسف السجن!
فسّر يوسف عليه السلام لصاحبي السجن منامهما
أوصى الذي يظن نجاته أن يذكره عند الملك ... نسي صاحبه؛ فلبث يوسف في السجن بضع سنين، حتى أذن الله بأمره !
ليخرج يوسف من سجنه مرفوع الرأس، مبرأ على رؤوس الأشهاد، عزيزًا وليس بمجرد عفو من ملك مصر
يخرج ليكون عزيزَ مصر !

تحدث المجاعة ويأتي إخوة يوسف، ويطلب أخاه الأصغر ...
يأخذ يعقوب عليه السلام عليهم الميثاق أن يعودوا به
يأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة
قضى حاجة في نفسه
ورغم كل هذا، عادوا من غير أخيهم الأصغر والأكبر
يبكي يعقوب عليه السلام
يشكو بثه وحزنه إلى ربه
لا ينقطع رجاؤه أبدا فيه
يقول: {عسى الله أن يأتيني بهم جميعا}
ويأمرهم أن يعودوا فيتحسسوا من يوسف وأخيه ...
لا يعلم أن أمر الله عز وجل أن يأتي هو وزوجه وبنوه إلى يوسف ... يوسف الذي صار عزيز مصر ومكّن الله له في الأرض!

في النهاية
{ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنَّه هو العليم الحكيم}

كل ما مضى من أسباب بدا وكأنها لم تنفع، كانت في الحقيقة نافعة في اتجاه تحقيق الغاية التي يرجوها يوسف وأبوه:
{وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم}
وكل كيد كان بيوسف وأبيه، وبدا وكأنه يعوقه عن الوصول لمراده، كان في الحقيقة سببا موصلا له.
قال الله عز وجل: {وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير}
إنّ ربكم الذي يدبر الأمر هو العليم الحكيم
إنّ ربكم الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، عزيز حكيم!
والله غالبٌ على أمره ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون.
الإثنين
5 رمضان 1444 هـ

صفية الشقيفي 7 رمضان 1444هـ/28-03-2023م 03:28 PM

قال الله عز وجل:
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)}
[سُورَةُ مَرۡيَمَ: 64-65]

عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما، قال: (قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم لجبريل: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا» ، فنزلت: {وما نتنزّل إلّا بأمر ربّك له ما بين أيدينا وما خلفنا} [مريم: 64]). رواه البخاري ومسلم.
وكثر في هاتين الآيتين التذكير باسم الله الرب:
فجاء في رد جبريل وتعليله عدم نزوله: {وما نتنزلُ إلا بأمرِ ربك}
وجاء في ختام الآية: {وما كان ربُّك نسيا}
والربوبية المقصودة هنا هي الربوبية الخاصة
وهي كما عرّفها الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره: (تربيته لأوليائه, فيربيهم بالإيمان, ويوفقهم له, ويكمله لهم, ويدفع عنهم الصوارف, والعوائق الحائلة بينهم وبينه, وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير, والعصمة عن كل شر. ولعل هذا [المعنى] هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب. فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة). اهـ
وفيها إيماء للنبي صلى الله عليه وسلم أن تقدير نزول جبريل -عليه السلام- سواء في تعيين الوقت، أو تعيين الوحي الذي ينزل به، أو الهيئة التي ينزل بها ونحو ذلك، هذا هو عين ما يصلح للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته.
وفي هذين الموقعين أضيف اسم الرب لضمير الخطاب العائد على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مما يدل على عناية الله عز وجل بعبده محمد صلى الله عليه وسلم، وتشريفه.
ثم جاء في الآية التالية الإخبار عن عموم ربوبيته للسماوات والأرض وما بينهما: {رب السماوات والأرض وما بينهما}
ومعنى الربوبية هنا أعم فيشمل الربوبية العامة لجميع المخلوقات بما ييسر لهم معيشتهم والربوبية لخاصة لأوليائه، فإذا استقر في قلبك معنى صفة الربوبية لله عز وجل
فليس لك إلا الاستسلام لأمره: {فاعبده واصطبر لعبادته}
وزيادة فعل الصبر على وزن (افتعل) أي اصطبر، يدل على المشقة، هذا مع كون حرف الطاء من حروف الشدة
وعُدي الفعل باللام والأصل فيه التعدي بعلى مثل قوله تعالى: {وأمُر أهلك بالصلاة واصطبر عليها}
وهذا ليتضمن معنى الاستسلام والانقياد لأمر الله عز وجل.
وقال ابن عاشور رحمه الله أنه يتضمن معنى الثبات: (واثبت لعبادته)
وهو سبحانه ليس له شبيه أو نظير أو كفؤ، كما جاء في ختام الآية: {هل تعلم له سميا}
ومما يعين على هذا الاصطبار والاستسلام والثبات، الإيمان بمعنى اسم الله الرب، والإيمان أنه سبحانه لم يترك عباده هملا: {وما كان ربُّك نسيا. ربُّ السماوات والأرض وما بينهما}، والإيمان بأن له الأسماء الحسنى والصفات العليا، فأمره أمر من حكيم حميد.
سبحانك ربي لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
الثلاثاء
6 رمضان 1444

صفية الشقيفي 7 رمضان 1444هـ/28-03-2023م 03:59 PM

خذها ولا تخف

تملكتني مشاعرٌ مختلطة وأنا أقرأ كلمات هذا المشهد القرآني العظيم؛ ما بين رهبة وقشعريرة تهز جسدي ، وشعور بالسكينة والرضا.
كيف لا ، وهو حديثٌ بين الله - عز وجل - وكليمه موسى عليه السلام.

قال الله عز وجل: {وَمَا ‌تِلۡكَ ‌بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ . قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيۡهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَـَٔارِبُ أُخۡرَىٰ. قَالَ أَلۡقِهَا يَٰمُوسَىٰ . فَأَلۡقَىٰهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٞ تَسۡعَىٰ. قَالَ خُذۡهَا وَلَا تَخَفۡۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلۡأُولَىٰ} [طه: 17-21]
والسر في ذلك قوله : { فألقاها فإذا هي حيةٌ تسعى . قال خذها ولا تخف سنعيدُها سيرتها الأولى }
في ميزانِ البشرية؛ أي شيء يحمل موسى عليه السلام أن يمد يده إلى شيء يخاف منه بطبيعته البشرية؟، وقد حكى القرآن عنه في تلك اللحظة : {وَأَلۡقِ عَصَاكَۚ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهۡتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنّٞ ‌وَلَّىٰ ‌مُدۡبِرٗا وَلَمۡ يُعَقِّبۡۚ يَٰمُوسَىٰ لَا تَخَفۡ} [سورة النمل: 10]، بيانًا لخوفه حقيقة، ومع ذلك استجابَ لأمر ربه فمد يده وأخذ عصاه التي استحالت حيةً تسعى موقنًا بأنها ستعودُ لسيرتها الأولى كما وعده ربه.
وأنا أتأمل هذا المشهد ، وأتصور أنواع الابتلاءات التي تُمطر عليك من حيث تحتسب ومن حيث لا تحتسب فما بين مكروه يصيبك، أو محبوب تُحرمُ منه، أي شيء يدفعُنا للصبر، والمضي قدُمًا سوى اليقين بوعدِ الله أنه لن يضيعنا ؟!
وأن هذا الابتلاء بأمر الله، وما علينا إلا أن نطيعَ الله فيما أمرنا به حال ابتلائه لنا، وأن نوقن به وأن نعلمَ أن اليُسر قرينٌ للعسر الذي يحيط بنا، وأن الفرجَ لا شكَ قادمٌ بعد الكربِ، وأن النور سيشق سحب الظلمات لتشرق الشمس ولو بعدَ حين !
وليس هذا فحسب؛ بل عظيم الأجر على الاستسلام والرضا بأمر الله ...
كما قال الله عز وجل: {يستبشرون بنعمةٍ من الله وفضل وأن الله لا يضيعُ أجر المؤمنين . الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهمُ الناسُ إن الناسَ قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل . فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم} [سورة آل عمران: 171-174]

13 ربيع الآخر 1438 هـ

صفية الشقيفي 7 رمضان 1444هـ/28-03-2023م 04:05 PM

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ)
[سورة طه 42 - 43]

( ولا تنيا في ذكري )
ذكرُ اللهِ هو عدتك في اقتحام الأهوال !

12 جمادى الآخرة 1437

صفية الشقيفي 7 رمضان 1444هـ/28-03-2023م 04:21 PM

{ فَأَوۡجَسَ فِی نَفۡسِهِۦ خِیفَةࣰ مُّوسَىٰ (٦٧) قُلۡنَا لَا تَخَفۡ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡأَعۡلَىٰ (٦٨) وَأَلۡقِ مَا فِی یَمِینِكَ تَلۡقَفۡ مَا صَنَعُوۤا۟ۖ إِنَّمَا صَنَعُوا۟ كَیۡدُ سَـٰحِرࣲۖ وَلَا یُفۡلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَیۡثُ أَتَىٰ (٦٩) } سورة طه

مما يعينك على مواجهة الخوف عند اشتداد البأس -إذا كنت على الحق مستمسكا به في مواجهة الباطل-:
1. أن تعلم أنك -بما معك من الحق-، الأعلى، وهذا الاستعلاء من استعلاء الحق، فإذا حدت عنه إلى الباطل، أو ظننت العلو من نفسك وذاتك خسرت.
وهذا مستفاد من تذكير الله عز وجل لموسى عليه السلام: (قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى)
وهو رسول الله، وكليمه، خرج بأمر ربه لدعوة فرعون ومواجهته كما قال تعالى: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ)
[سورة طه 42 - 43]
تأمل: (بآياتي)

2. أن تلقي ما معك من الحق في مواجهة الباطل بثبات، ويقين أنه سيلقف كيد الكائدين
(وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا)
3. اليقين بضعف الباطل وما معه، وأن الله لا يصلح عمل المفسدين
(إنما صنعوا كيد ساحر ولا يُفلح الساحر حيث أتى)
وأذكر في هذا المعنى رسالة قيمة للشيخ عبد العزيز الداخل -حفظه الله-:
تأملات في قول الله تعالى:{بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}
https://www.afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=28532

الثلاثاء
6 رمضان 1444 هـ

صفية الشقيفي 7 رمضان 1444هـ/28-03-2023م 04:38 PM

قال الله عز وجل: {فاضرِبْ لهُم طريقًا في البحرِ يبسًا لا تخافُ دركًا ولا تخشى} [سورة طه: 77]

طريقًا في البحرِ يبسًا!!
وسبحان الله
جاءت [ لا تخافُ ] بالنفي لا بالنهي
كأنما يعلمه أن حالته ستكون على غيرِ خوفٍ ولا خشية !!
بالجملة هنا في موقع الحال من الضمير المستتر في (فاضرب) وهو عائد على موسى عليه السلام، وهذا من عاجل البشرى، ومن تمام نعمة الله على موسى عليه السلام، فلم يشق له البحر فقط، ولم ييسر له طريقا يبسا سهل للسير عليه فقط، بل أمنّه من الخوف من أن يدركه فرعون وملأه، بل وزاده أن بشّره بهذا قبل أن يضرب عصاه فينفلق البحر.
سبحانك ربي ما أرحمك!
28 محرم 1436
تعديل 6 رمضان 1444

صفية الشقيفي 7 رمضان 1444هـ/28-03-2023م 04:41 PM

قال الله عز وجل: {فاضرِبْ لهُم طريقًا في البحرِ يبسًا لا تخافُ دركًا ولا تخشى} [سورة طه: 77]

فائدة الجمع بين نفي الخوف والخشية؟
فائدة ذكر متعلق الخوف وحذف متعلق الخشية؟

صفية الشقيفي 8 رمضان 1444هـ/29-03-2023م 02:19 PM

إذا أردت أن تلتمس معنى الأمان من الخوف، والاستسلام لأمر الله عز وجل؛ فتدبر قصة موسى عليه السلام في كتاب الله.
منذ لحظات ولادته، وتجري أقداره بما يوازي في قوانين البشر (الخسارة والهلاك) لكن الله عز وجل الذي صنعه على عينه واصطنعه لنفسه لم يكن ليضيعه بل هو معه دائما بحفظه ورعايته يهديه سواء السبيل

تلده أمه في عام يطلب فرعون المواليد ليقتلهم...
تخاف بطبيعتها البشرية
فيوحي إليها الله عز وجل
«فإذا خفت عليه فألقيه في اليم»
وكلما تأملت هذا الأسلوب القرآني
أي مناسبة بين أن تخاف عليه، وإلقائه في اليم؟
ولفظ الإلقاء يوحي بالنبذ والترك
لم يقل خبئيه أو استودعيه بما يعني اتكال أم موسى على شيء من طاقتها وإنما قال: «فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين»
وألقته في اليم مصدقة وعد ربها ومطمئنة باستسلامها لأمره.
لا يمكن أن يكون الأمان هنا نابعا من محض قرار شخصي لها، فليس في فعلها وفق قوانين البشر ما يبعث على الطمأنينة!
ماذا لو ابتلعه اليم؟ ماذا لو هاجمته بعض الحيوانات؟ ماذا وماذا...
حتى حين أرسله اليم إلى قصر فرعون وأصبح فؤادها فارغا وكادت أن تبدي بسرها وسر وليدها
وإذن لهلكت وهلك موسى عليه السلام لكن الله ربط على قلبها فعادت لتطمئن لوعد الله عز وجل.
«إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين»

ويدخل موسى قصر فرعون مخالفا لكل القوانين البشرية التي وضعوها!
فرعون يقتل المواليد الذكور هذه السنة
ها هو أمامك ولد ذكر، لكنه لم يقتله بل بيده يرعاه ويسعى في توفير سبل الحياة له بالبحث عن مرضع
هنا يحدث أمر آخر مخالف لطبيعة البشر بأمر الله
طفل رضيع جائع ... كيف يرفض التقام أي ثدي يعرض عليه
لولا أن الله حرم عليه المراضع ليرده إلى أمه لتعلم ولنعلم أن وعد الله حق، ولا راد لفضله مهما تجبر المتجبرون، ومكر الماكرون!

ينشأ موسى في قصر فرعون
ويحصل ما يحصل من قتله لرجل من شيعة فرعون بوكزة منه
هو الان مطلوب للقتل فالملأ يأتمرون به ليقتلوه
فيخرج خائفا يترقب
الخوف مرة أخرى في قصته وطلب الأمان باللجوء إلى الله عز وجل والفرار إليه
«قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل»
فنزل مدين
وساق الله إليه رزقه من حيث لا يحتسب
ومرة أخرى أسمع «لا تخف»
تقال لموسى عليه السلام، على لسان الرجل الصالح الذي زوجه ابنته
«لا تخف نجوت من القوم الظالمين»
يقضي موسى سنواته العشر بجوار الرجل الصالح، ثم يخرج هو وزوجته عائدا إلى مصر
(فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر ياموسى)
يوحى إليه
ورغم أمان الوحي
حين وجد العصا تنقلب ثعبانا ولى مدبرا ولم يعقب
حتى أمنَّه ربه
{ وَأَنۡ أَلۡقِ عَصَاكَۚ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهۡتَزُّ كَأَنَّهَا جَاۤنࣱّ وَلَّىٰ مُدۡبِرࣰا وَلَمۡ یُعَقِّبۡۚ یَـٰمُوسَىٰۤ أَقۡبِلۡ وَلَا تَخَفۡۖ إِنَّكَ مِنَ ٱلۡـَٔامِنِینَ }
[سُورَةُ القَصَصِ: ٣١]

يدعو ربه أن يشد عضده بأخيه هارون فيستجيب له
{ قَالَ رَبِّ إِنِّیۤ أَخَافُ أَن یُكَذِّبُونِ (١٢) وَیَضِیقُ صَدۡرِی وَلَا یَنطَلِقُ لِسَانِی فَأَرۡسِلۡ إِلَىٰ هَـٰرُونَ (١٣) }
[سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: ١٢-١٣]

يذكر قتله للرجل المصري وخوفه من بطش فرعون وملئه فيعطيه ربه عهدا بالأمان مرة أخرى
{ وَلَهُمۡ عَلَیَّ ذَنۢبࣱ فَأَخَافُ أَن یَقۡتُلُونِ (١٤) قَالَ كَلَّاۖ فَٱذۡهَبَا بِـَٔایَـٰتِنَاۤۖ إِنَّا مَعَكُم مُّسۡتَمِعُونَ (١٥) }
[سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: ١٤-١٥]

مشاهد متتابعة من شكواه لربه
وفي كل مرة يؤمنه ربه ويربيه ويصطنعه لنفسه
حتى إذا ما وقف موسى بين البحر وجيش فرعون
ودبَّ الخوف في صفوف أصحابه وقالوا (إنا لمدركون)
قال موسى بثبات وأمان ويقين
(كلا إنَّ معيَ ربي سيهدين)

هل لجأت لربك من قبل خائفا وجلا فردك خائبا
حاشاه سبحانه
إنما يعظم الخوف في قلوبنا من الاتكال على نفوسنا وحولنا وقوتنا
ومن التوبة أن تتوب من هذا الفعل وتتبرأ من فكرك وحولك وقوتك وتهرع إلى ربك وتشكو إليه بكل صدق
(ربي إني أخاف أن .....)
ومنه سبحانه وحده الأمان
(واشدد يديك بحبل الله معتصمًا فإنه الركن إن خانتكَ أركان)

9 رمضان 1443 هـ

صفية الشقيفي 8 رمضان 1444هـ/29-03-2023م 02:28 PM

عاشوراء والفرجُ المُرتقب
عاشوراء ورحلة اليقين


ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى صيام يوم عاشوراء وهو العاشر من شهر محرم، واحتسب على الله عز وجل أن يكون صيامه سببا في تكفير ذنوب سنة مضت، وعلل صيامه صلى الله عليه وسلم بأنّ الله عز وجل نجَّى فيه موسى عليه السلام وقومه حين انفلق لهم البحر؛ فنجى الله المؤمنين وأغرق فرعون وملأه !
وإذ أستحضر هذا المشهد؛ أستحضر معه معاني الفرج رغم شدة الضيق واستحكام الحلقات، وأستحضر معه قوة اليقين، ومعنى الإيواء إلى ركن الله الشديد.
أتذكر موسى عليه السلام وكثيرا ما كان يناجي ربه: (رب إني أخاف أن ...)
{
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)} [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 12-14]
أتذكر حين أمره ربه بإلقاء العصا فاستحالت حية تسعى، فولى مدبرا ولم يعقب فناداه ربه:
{
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ}[سُورَةُ القَصَصِ: 31]

كلما استشعر الخوف، ناجى ربه، وفي كل مرة كان يستجيب لأمر الله عز وجل ويطمئن لوعده بأنه معه يسمع ويرى، وفي كل مرة كان يؤويه ربه وينجيه!
فكيف يخاف حين يقف بين البحر وبين جيش فرعون؟

وبالرغم من أن بعض مشاهد الخوف السابقة ظنية؛ مثل الخوف من تكذيب فرعون وملئه والخوف من أن يقتلوه، بينما مشهد وقوف موسى عليه السلام بين البحر من جهة، وجيش فرعون من جهة أخرى، مشهد حقيقي، مع ضعفِ أصحاب موسى إذ دبَّ الخوف بينهم حتى قالوا: {إنَّا لمدركون}
حصول الخوف أدعى مع كل هذا !
لكنَّ موسى عليه السلام -كليم الله عز وجل- يجني ثمرة اتباع هدى الله فيما سبق؛ فيقف ثابتا موقنا بالله عز وجل ويقول: {كلا إنّ معي ربي سيهدين}
فيأمره ربه بأن يلقي عصاه...عصاه التي ما كانت سوى وسيلة يتكئ عليها ويهش بها على غنمه!
حين أراد الله عز وجل، جعلها سببا في نجاة أمة مؤمنة، وهلاك أمة ظالمة؛ فانفلق البحر لموسى ومن معه، حتى إذا نجوا جميعا، عاد البحر ليغرق فرعون ومن معه!

هذا هو يوم عاشوراء
حين يقال غدا عاشوراء
أودّ أن أقول لكل منكسر القلب ... جبر الله قريب
لكل من ضاقت عليه الأرض بما رحبت ... فرج الله قريب
لكل من غلبه الهم والغم ... النجاة قريبة
فقط اشدد يديك بحبل الله، واعتصم بهداه وردَّ على كل مرجِفٍ لقلبك بيقين وثبات:
{كلا إنّ معيَ ربي سيهدين}

9 محرم 1444 هـ

صفية الشقيفي 8 رمضان 1444هـ/29-03-2023م 02:41 PM

{ وتوكل على العزيزِ الرحيم }
قال السعدي -رحمه الله- في تفسيره: " فإنه عزيز رحيم, بعزته يقدر على إيصال الخير, ودفع الشر عن عبده, وبرحمته به, يفعل ذلك). اهـ

قلتُ: (ومن أسرارِ اجتماع اسمي الله العزيز والرحيم أيضا، هو أن تؤمن أن رحمته إياك ليست كرحمة مخلوقاته، يرقون لحالِك، وقد يطيبون خاطرك ببضع كلمات ثم يمضون ليبقى الحال كما هو عليه ؛ فهم وإن رحموا إلا أنهم عاجزون عن تفريج كربك وإزالة همومك
لكن الله هو العزيز الرحيم
فهو يرحمك وبعزته قادر على تفريج الكرب وإزالة الهم، ونصرة المظلوم، وتحقيق الآمال التي تبدو وكأنها مستحيلة بالنسبة لك، بل ويعطيك ما هو أفضل منها)!

12 جمادى الآخرة 1437 هـ

صفية الشقيفي 8 رمضان 1444هـ/29-03-2023م 06:54 PM

{ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبۡلِ أَن یُنَزَّلَ عَلَیۡهِم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمُبۡلِسِینَ }
[سُورَةُ الرُّومِ: ٤٩]

الإبلاس يجمع بين اليأس والحزن والانكسار

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وكان هؤلاء الّذين أصابهم اللّه بهذا الغيث من عباده من قبل أن ينزّل عليهم هذا الغيث من قبل هذا الغيث {لمبلسين} يقول: لمكتئبين حزنين باحتباسه عنهم)
وفي مختار الصحاح: ( والإبلاس أيضا الانكسار والحزن يقال أبلس فلان إذا سكت غمًا)
وقال ابن كثير في بيان دلالة تكرار (من قبله) بعد قوله في أول الآية (وإن كانوا من قبل):
((ويحتمل أن يكون ذلك من دلالة التّأسيس، ويكون معنى الكلام: أنّهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله، ومن قبله -أيضًا- قد فات عندهم نزوله وقتًا بعد وقتٍ، فترقّبوه في إبّانه فتأخّر، فمضت مدّةٌ فترقّبوه فتأخّر، ثمّ جاءهم بغتةً بعد الإياس منه والقنوط، فبعد ما كانت أرضهم مقشعرةً هامدةً أصبحت وقد اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج؛ ولهذا قال: {فانظر إلى آثار رحمة اللّه} يعني: المطر {كيف يحيي الأرض بعد موتها}.))اهـ

فانظر إلى آثار رحمة الله في نفوسهم
كيف انقلب حالهم من هذه الحال إلى: (إذا هم يستبشرون)
سبحانك ربي، ما أرحمك!

صفية الشقيفي 8 رمضان 1444هـ/29-03-2023م 08:13 PM

أكثر المناهج التي تعتني بعلاج النفوس، تجعل المركزية للنفس ... فإذا تعرضتَ لأذى فانتصر لنفسك أو اعتزل ما يؤذيك - على سبيل المثال -
لكن القرآن، كلام الله الذي أنزله شفاء لما في الصدور
له منهج آخر،
فالمركزية دائما لله عز وجل
قال تعالى: { وَإِن جَـٰهَدَاكَ عَلَىٰۤ أَن تُشۡرِكَ بِی مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمࣱ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِی ٱلدُّنۡیَا مَعۡرُوفࣰاۖ وَٱتَّبِعۡ سَبِیلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَیَّۚ ثُمَّ إِلَیَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ }
[سُورَةُ لُقۡمَانَ: ١٥]

هذا المشهد عجيب حقا ...
شخص اختار أن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا
وأبواه يجاهدانه ويؤذيانه ليصدانه عن عبادة الله وحده لا شريك له
ومع هذا يقول الله عز وجل: {وصاحبهما في الدنيا معروفا}
كيف يصاحب بالمعروف من يؤذيه؟
إذا كانت المركزية لنفسي، إما أن أرد إساءتهم بالإساءة، أو أعتزلهم وأعرض عنهم
لكنك اخترت أن تعبد الله وحده
فعليك أن تطيعه في كل ما أمر، وتتبع هداه في كل ما يعترضك من أمور
وتبدو المعادلة صعبة فيمكن أن يحمله مجاهدتهم على ترك الدين
لكن هل اخترت ربك؟ أم اخترت أبويك؟
فإذا اخترت الله تحمل أذاهم ولا تطعهم
ومع هذا (وصاحبهما في الدنيا معروفا)
كيف يحسن إليهما وهما يجاهدانه ليشرك بالله ويؤذيانه؟
هل اخترت الله؟ أم اخترت نفسك؟
إذا اخترت الله، أطع أمره وصاحبهما في الدنيا معروفا
واتبع سبيل المحسنين الذين أنابوا إلى الله عز وجل
في قانون النفس يبدو هذا شاقا جدا
لكن من أخلص لله وحده هان عليه تحمل كل أذى في سبيله، بل هانت عليه نفسه وكل ما يحب في سبيل الله
وإذا فعلت سكنت نفسك واطمأنت واستحال الأذى في سبيل الله نعيما، لأنك ترى عاقبته وحسن الجزاء من رب العالمين.
وبهذا الإخلاص
هان على الصحابة أن يصلوا آباءهم المشركين في حال السِّلم
وهان عليهم أيضا محاربة بل وقتل آبائهم المشركين وقت الحرب
لأنهم في كل مرة اختاروا الله عز وجل وآثروه على كل شيء
ويمكنك أن تقيس على هذا الأمر كل أذى تتعرض له
وتسأل نفسك
ما هدى الله الذي أمرني به لأدفع عني هذا الأذى؟
وما حظ نفسي وهواها؟
افعل أمر الله مخلصا له الدين، وخالف هوى نفسك، تنجو وتسعد.

7 رمضان 1443 هـ

صفية الشقيفي 10 رمضان 1444هـ/31-03-2023م 02:23 PM

مَعينُ الصابرين

اليقين هو المعين الذي يغترف منه الصابر؛ فكلما أوشك صبره على النفاد تزود باليقين، وذكر الله هو زاد اليقين.
دلَّ على هذا المعنى-والله أعلم- قول الله تعالى : {واصبِر لحُكمِ ربِّك فإنَّكَ بأعيننا وسبح بحمد ربِّك حين تقوم. ومن الليل فسبِّحه وإدبار النُّجومِ}. [سورة الطور: 48-49]
{واصبر لحكم ربِّك}: أمر بالصبر والاستسلام لحكم الله عز وجل، ودلَّ على معنى الاستسلام؛ تعدية الفعل {اصبر} بحرف الجر اللام، فقال: {واصبر لحكم ربك} ولم يقل: (واصبر على حكم ربك)
وحكم الله عز وجل يشمل الأمر بالطاعات، والنهي عن المحرمات، والصبر على الأقدار المؤلمة.
ومعنى الربوبية هنا من المعنى الخاص الذي فيه حفظ الله لأوليائه وتربيتهم بالإيمان والتوفيق لكل خير.
ثم علل هذا الأمر بالصبر بقوله: {فإنّك بأعيننا}: وهذا مما يبعث على اليقين بالله عز وجل ووعده؛ فإنّ من علم أن الله عز وجل يحفظه ويتولى أمره ومطلِّع عليه ولا يخفى عليه مجاهدته للصبر لحكم الله عز وجل، زاد صبره واحتسب عند الله أجره.

قال ابن جرير الطبري: (يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم {واصبر لحكم ربّك} يا محمّد الّذي حكم به عليك، وامض لأمره ونهيه، وبلّغ رسالاته {فإنّك بأعيننا} يقول جلّ ثناؤه: فإنّك بمرأًى منّا نراك ونرى عملك، ونحن نحوطك ونحفظك، فلا يصل إليك من أرادك بسوءٍ من المشركين).


واذا تتبعت أمر الله عز وجل لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بهذا الذكر، ستجد أنه جاء مقرونا بالأمر بالصبر، والتوكل عليه.
قال الله عز وجل : {فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ۖ وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ}[سورة طه: 130]
وتأمل ختام هذه الآية: (لعلك ترضى)
وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)}[سورة الحجر: 97-98]

وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ۚ وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [سورة الفرقان:58]

وقال: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [سورة غافر 55]

وقال: {فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [سورة ق 39]

وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}[سورة الطور 48 - 49]

ولعل السر في ذلك هو اجتماع التسبيح مع الحمد؛ والتسبيح تنزيه الله عن كل نقص مع تعظيمه، والحمد فيه إثبات صفات الكمال له.
فتستشعر أنه ما ابتلاكَ عن نقصٍ فيه، وما أخرَّ الفرجَ عليك عن عجز - سبحانه ، والحمد يثبت عكس ذلك من تمام حكمته وقدرته ، وعزته ، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؛ أوامره كلها عدل وإحسان، وأخباره صدق، وأحكامه حكمة محكمة.
فسبحانه، لم يأمر عباده بما لا طاقة لهم به، وما كان ابتلاؤه لهم ليحرجهم، ولا يعجزه تفريج الكرب، ولا يغفل عن خلقه، يعلم بأمرك، وهمك، ويسمع دعاءك الذي خفي عن جلسائك، ويؤخر إجابتك لحكمة له فهو العليم الحكيم، البر الرحيم.

وإذا كان هذا أمر الله لخير الخلق -محمد صلى الله عليه وسلم-، فكيف بنا نحن!
فتأمل كيف أمر بهذا الذكر في مواضع الأمر بالصبر والتوكل عليه، كأنما هو عدة الصابرين في طريقهم.
قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: {واصبر لحُكم ربك فإنّك بأعيننا}: "وهذه الآية ينبغي أن يقررها كل مؤمن في نفسه، فإنها تفسح مضايق الدنيا".
تدبر
وتفكر
وإذا عرفت فالزم !
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.


مجموعة من أكثر من فقرة؛ أولها بتاريخ 26 صفر 1436 هـ، وآخرها بتاريخ 27 شوال 1443 هـ
تعديل: 9 رمضان 1444هـ

صفية الشقيفي 11 رمضان 1444هـ/1-04-2023م 10:14 PM

{ قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِی تُجَـٰدِلُكَ فِی زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِیۤ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ یَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَاۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعُۢ بَصِیرٌ }
[سُورَةُ المُجَادلَةِ: ١]

هذه الآية فيها بيان فضل هذه الصحابية الجليلة (خولة بنت ثعلبة) -رضي الله عنها-، ليس فقط لأنها تسعى لحفظ أسرتها، والاستفتاء من أجل تحري الحلال، والانتهاء عن الحرام، ولكن لأن الله عز وجل أخبرنا بخبيئة قلبها في تحاورها مع النبي صلى الله عليه وسلم
فقال الله عز وجل: {وتشتكي إلى الله}
ولك أن تتخيل أنها تقف أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشتكي، لكن ليس إليه، وإنما إلى الله عز وجل!
كأنها حين وقفت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لتخبره أمرها، فهي إنما تخبره لأنه رسول رب العالمين، فهي تنتظر الفرج من ربها أن يحكم الله في أمرها بما ييسر عليها !
وهذا بيان لتمام تعلقها بالله عز وجل، حتى وهي أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم!

تصور هذا المشهد، ثم تصور من غلوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوى محبته، وخالفوا هديه، وأمره!
وتصور من تعلقت قلوبهم بأسباب لا تنفع بل تضر.
وكفى بالله هاديا ونصيرا.
السبت
10 رمضان 1444 هـ

صفية الشقيفي 11 رمضان 1444هـ/1-04-2023م 10:46 PM

{ وَأَلَّوِ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟ عَلَى ٱلطَّرِیقَةِ لَأَسۡقَیۡنَـٰهُم مَّاۤءً غَدَقࣰا (١٦) لِّنَفۡتِنَهُمۡ فِیهِۚ وَمَن یُعۡرِضۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِۦ یَسۡلُكۡهُ عَذَابࣰا صَعَدࣰا (١٧) }
[سُورَةُ الجِنِّ: ١٦-١٧]
المراد بالطريقة هي طريق الحق والطاعة، على أحد القولين في تفسير هذه الآية.
فوعدهم الله عز وجل إذا استقاموا على الحق أن يسقيهم ماء غدقا، وفيه دلالة على النعيم في هذه الدنيا جزاء لهم على طاعتهم.
كما قال تعالى:
{وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰۤ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّقَوۡا۟ لَفَتَحۡنَا عَلَیۡهِم بَرَكَـٰتࣲ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُوا۟ فَأَخَذۡنَـٰهُم بِمَا كَانُوا۟ یَكۡسِبُونَ}
[سُورَةُ الأَعۡرَافِ: ٩٦]

ولكن في آية سورة الجن قال تعالى:
(لأسقيناهم ماء غدقا. لنفتنهم فيه)
أي نبتليهم بهذا النعيم، تأكيدا على أنّ الحياة الدنيا ابتلاء بكل صورها، ولا ينفك المرء فيها عن الابتلاء أبدا.
وكم من أناس ابتلوا بالضراء فصبروا، ثم ابتلوا بالسراء ففُتنوا، والعياذ بالله.

لهذا كان ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على المؤمن في الحديث:
بأن قال: «عجبا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له». رواه مسلم.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
السبت
10 رمضان 1444 هـ.

صفية الشقيفي 11 رمضان 1444هـ/1-04-2023م 10:55 PM

قال الله عز وجل: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)}

نتعلم من سورة الشرح بعضا من آداب الابتلاء
منها:
1. استحضار نعم الله عز وجل على العبد، فمها اشتد بلاء الإنسان فهو غارق في نعم لا يستطيع إحصاءها ولا أن يوفي شكرها، كما ذكَّر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بما أنعم عليه من انشراح صدره للطاعات والهداية، وغفران ذنبه ما تقدم منه وما تأخر، ورفع ذكره، فلا يُذكرُ الله عز وجل إلا وذُكِر معه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الشهادتين والأذان.
قال الله عز وجل: (ألم نشرح لك صدرك. ووضعنا عنك وزرك. الذي أنقض ظهرك. ورفعنا لك ذكرك)
2. أن نعلم أن النعم الدينية أفضل ما يحصل للإنسان، فانشراح الصدر للطاعات وقبول الهداية والقرب من الله عز وجل، أعظم نعيم يمكن أن يحصل للمرء في الدنيا وبه أنسه وطمأنينة قلبه، ولا يعوضه عنه كل ملذات الدنيا، فإذا كانت خسارته في مصلحة دنيوية، فينبغي أن تهون عليه مقابل ما هو فيه من نعم دينية.
3. أن نعلم أن ما أصابنا من بلاء إنما هو بتقدير الله، ثم نعلم أن الله عز وجل هو العليم الذي لا يخفى عليه أمرنا، وهو اللطيف الخبير الذي يعلم السر وأخفى، وهو الحكيم الذي يقدر كل شيء بحكمة، فينبغي التسليم لأمره.
ومن لطفه أن جعل اليسر مقارنا للعسر
فما من عسر قدَّره على الإنسان إلا وصاحبته ألطاف علام الغيوب.

4. اليقين بأن مع العسر يسرا، وقد جاءت الآيات مؤكدة ب(إنَّ) وكُررت مرتين زيادة في التأكيد، فلا يحيط العسر بك أبدا
قال الله عز وجل: {فإنَّ مع العسر يسرا. إنّ مع العسر يسرا}
فإذا عجزت عن تلمس مواطن اليسر فيما ألمَّ بك، فينبغي التسليم لله عز وجل، واليقين بوجود اليسر وإن لم تره.
والعسر جاء معرفا في الآيتين، بينما جاء اليسر نكرة، فدلّ على أن العسر مفرد، واليسر اثنين، لهذا قالوا: (لن يغلبَ عسرٌ يسرين)
وفي التمرن على عبادة التسليم لله عز وجل، نعيم كبير، يزيد القلب إيمانا وطمأنينة وثباتا مع كل ابتلاء يصيبه.
5. الانشغال بعبادة الله عز وجل، كل ما يستطيعه من العبادات
مع الجِّد في تحصيل الأسباب التي تدفع عنك العسر، فإذا فرغت من ذلك فانصب في بقية العبادات من الصلاة والذكر وكل ما تستطيعه، فهذا مما يهون عليك.
6. كمال تعلق القلب بالله عز وجل، فتقديم الجار والمجرور في قوله: {وإلى ربك فارغب} يفيد الحصر.
أي لا ترغب في غير ربك، والرب هو الذي يدبر أمور عباده بما تقتضيه الحكمة
فإذا علمت ذلك، كيف يتعلق قلبك بغيره؟

7 شعبان 1444هـ

صفية الشقيفي 12 رمضان 1444هـ/2-04-2023م 04:04 PM

{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَشۡرِی نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ }
[سُورَةُ البَقَرَةِ: ٢٠٧]
تأمل خاتمة الآية
إن لله عبادا باعوا أنفسهم وبذلوها خالصة لله - عز وجل -
نذروا أنفاسهم لله
فأخبر المولى أنه الرؤوف
ومن رأفته بهم أن يتقبلهم ولا يضيع أعمالهم
فإذا تجرعوا خيبات الرجاء من البشر
فأبدا والله لا يخيب رجاؤهم عند رب البشر
إنه رؤوف بالعباد !!

قال السعدي -رحمه الله- في تفسيره: (وفي هذه الآية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها، وأخبر برأفته الموجبة لتحصيل ما طلبوا، وبذل ما به رغبوا، فلا تسأل بعد هذا عن ما يحصل لهم من الكريم، وما ينالهم من الفوز والتكريم) اهـ.

2 رمضان 1437 هـ

صفية الشقيفي 12 رمضان 1444هـ/2-04-2023م 04:36 PM

{ وَقُلۡنَا یَـٰۤـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَیۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّیۡطَـٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِیهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُوا۟ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوࣱّۖ وَلَكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرࣱّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِینࣲ (٣٦) }
[سُورَةُ البَقَرَةِ: ٣٥-٣٦]

عجيبٌ هذا المشهد الذي يتكرر في حياتنا كل يوم، وبالرغم من أن الله - عز وجل - قصَّ علينا ما حدث مع أبينا آدم عليه السلام لنعتبر ونتعظ، إلا أننا -وبكل حمق- نُصِرُّ على تكرار الخطأ نفسه !
وإذا كان آدم عليه السلام فعله مرة واحدة، ثم تاب عليه ربه ، فاجتباه وهدى ، فنحن نكرره في كل يوم مرات ومرات !!

ولازالت حيلةُ الشيطان واحدة، يشغلُنا بما نفقدُ عما نملك، حتى نفقدَ ما نملك، ولا نحظى بما نفقد، وهذا هو الشقاء بكل ما تحمله الكلمة من المعنى….
ولو أننا انشغلنا بشكر نعم الله علينا قولا وعملا، مع بذل ما أقدرنا الله عليه من أسباب لتحصيل ما ينفعنا ودفع ما يضرنا، والتسليم لأمره بعد ذلك، لما وجدنا أسى على ما نفقد، بل علمنا عظيم فضل الله علينا وما اختصنا به من نعم، لا نستطيع أن نوفي شكرها.
وتأمل لو أن آدم عليه السلام لم ينشغل بوسواس الشيطان له، ولم يقترب من الشجرة التي نهاه الله عنها
وانشغل بما أنعم الله به عليه في هذه الجنة كما قال له:
{اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة}
معه الجنة كلها إلا شجرة!
وقال الله عز وجل:
{ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِیهَا وَلَا تَعۡرَىٰ (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظۡمَؤُا۟ فِیهَا وَلَا تَضۡحَىٰ (١١٩) }
[سُورَةُ طه: ١١٨-١١٩]
ومع هذا استمع لوسواس الشيطان:
{قال يآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى}
ولعله مثل كتبه الله على أبينا آدم لنعتبر به، فنحن نكرر القصة نفسها كل يوم!
ولكل منا جنته التي رزقه الله بها، ولكل منا شجرته التي منعه إياها
فلا يزال المرء ينشغل بالشجرة وينسى شكر نعمة الجنة
حتى يفقد جنته فيشقى ويتحسر على ما فقد بعد فوات الأوان!
والشيء بالشيء يُذكر، فكثيرا ما يطلب الإنسان من ربه من نعم الدين والدنيا، ويُلح على ربه في المسألة أنه يريد شيئا صفته كذا وكذا، فيأتيه الله بما يحب كما سأل لكنه محفوف بما يكره، أو مشوب بصفة يكرهها، فيزهد فيه للصفة التي كرهها، ويغفل عما يحب ناسيا أنه كان يلح على ربه بالمسألة ليأتيه بهذا الشيء!
وهذا من كفران النعمة، والغفلة عن حقيقة أن الدنيا دار ابتلاء ولابد فيها من الابتلاء!
وإذا كان سؤاله هذا في نعمة من نعم الدين، أو النعم التي تعينه على طاعة الله عز وجل، ثم يسَّره الله له، وابتلاه بشيء واحد يكرهه، فزهد في النعمة لما يكرهه، فهذا بلاء أعظم، ومن أسباب الحرمان من الخير.
قال مالك بن دينار: «مَا مِنْ أَعْمَالِ ‌الْبِرِّ شَيْءٌ إِلَّا وَدُونَهُ عَقَبَةٌ فَإِنْ صَبَرَ صَاحِبُهَا أَفْضَتْ بِهِ إِلَى رَوْحٍ وَإِنْ جَزَعَ رَجَعَ». رواه أبو نُعيم في حلية الأولياء.
وفي الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات». رواه مسلم.
وهكذا جنة الدنيا ونارها!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

25 جمادى الأولى 1437
تعديل: 11 رمضان 1444 هـ

صفية الشقيفي 12 رمضان 1444هـ/2-04-2023م 10:13 PM

قال الله عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)}
[سُورَةُ البَقَرَةِ]

اختُلف في معنى قوله تعالى:(وتثبيتا من أنفسهم)
وذلك بحسب الخلاف في معنى تثبيتا، ومعنى حرف الجر (مِن)، ومتعلق الجار والمجرور، على أقوال تدل على سعة معاني آيات القرآن، وحكمتها.
ويمكن تصنيف الأقوال بحسب الخلاف في معنى حرف الجر (مِن)، وجاء فيها عدة أقوال:
القول الأول: أنها ابتدائية، ذكره الزمخشري والبيضاوي وأبو حيان احتمالا، واختاره النسفي.🔻
وعليه يكون الجار والمجرور متعلقا بـابتغاء، و(تثبيتا) معطوف على (ابتغاء) ويحتمل فيهما أنهما بمعنى المفعول لأجله، أو الحال، وسأقتصر في بيان المسألة على معنى المفعول لأجله.
والمقصود أنهم ينفقون أموالهم لأجل ابتغاء مرضات الله وتثبيتا حاصلا من أصل أنفسهم، وهو دلالة على تحقيقهم الإخلاص لله عز وجل، يقينًا في الثواب من عند الله عز وجل.
فيكون اليقين أيضا متحققا في أنفسهم، وهو يقين بوعد الله عز وجل أنه يثيب المنفقين ويخلفهم خيرا، واليقين باليوم الآخر.
ونظير هذا قول الله عز وجل: (فأما من أعطى واتقى. وصدَّق بالحسنى)
فهم يصدقون بجزاء الله عز وجل لهم، بعكس المنافقين الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، وذكر الله مثلهم في الآية السابقة: (كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر)
وتثبيتا على هذا القول يحتمل أن تكون بمعنى تصديقا ويقينا في الثواب، أو احتسابًا لله عز وجل، وسيأتي تفصيل الأقوال أدناه.
ويحتمل أن تكون على بابها بمعنى التثبيت، وحُذف متعلق هذا المصدر، والمقصود: من يثبتون؟
‏ فيحتمل أنهم يثبتون بنفقتهم غيرهم من المؤمنين الفقراء، ويثبتون المؤمنين عموما بحثهم على النفقة وأعمال البر، ويثبتون أنفسهم بهذه النفقة.
وهذا لا يتعارض مع ما سبق تقريره من معنى التثبيت، بل يثبتون أنفسهم وغيرهم احتسابًا لله عز وجل ويقينًا في ثوابه.
والقول بأن معنى (مِن) ابتدائية، ومعنى الآية على هذا القول، يفيد أن نفوسهم زاكية، وقلوبهم عامرة بالإخلاص، وهم يزدادون من الطاعات بأثر صلاح قلوبهم.
ومن أقوال السلف الدالة على هذا المعنى:
القول بأن التثبيت بمعنى تحري الإخلاص في العمل:
قال أشهل عن على بن على، عن الحسن: "{الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم}، قال: إذا أراد أن ينفق تثبت، فإن كان لله مضى، وإلا أمسك". رواه ابن وهب.
قال سعيدٌ، عن قتادة: {وتثبيتًا من أنفسهم} يقول: احتسابًا من أنفسهم. رواه ابن جرير.

القول بأن التثبيت بمعنى اليقين في الثواب من عند الله عز وجل:
قال معمر عن قتادة في قوله تعالى وتثبيتا من أنفسهم قال ثقة من أنفسهم". رواه عبد الرزاق وابن جرير.
قال سفيان، عن أبي موسى، عن الشّعبيّ: "{وتثبيتًا من أنفسهم} قال: تصديقًا وتيقينًا". رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
قال يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فى قوله: {وتثبيتًا من أنفسهم} يقينًا من أنفسهم قال: التّثبيت اليقين". رواه ابن جرير.
قال يونس، قال: حدّثنا عليّ بن معبدٍ، عن أبي معاوية، عن إسماعيل، عن أبي صالحٍ، في قوله: "{وتثبيتًا من أنفسهم} يقول: يقينًا من عند أنفسهم". رواه ابن جرير.
قال ابن كثير: "وَهَذَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْفِقِينَ ﴿أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه﴾ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ ﴿وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أَيْ: وَهُمْ مُتَحَقِّقُونَ مُثَبتون أَنَّ اللَّهَ سَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ، وَنَظِيرُ هَذَا فِي الْمَعْنَى، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَى صِحَّتِهِ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا. . . " أَيْ: يُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَهُ، وَيَحْتَسِبُ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابَهُ". اهـ


القول الثاني في معنى (مِن) أنها للتعدية، وعليه يكون الجار والمجرور متعلقا بـتثبيتا.
والمقصود أنهم ينفقون أموالهم لأجل ابتغاء مرضات الله عز وجل، ولأجل تثبيت أنفسهم.
وهذا القول يفيد أنهم يفعلون الطاعات لتزكية نفوسهم.
فهو بمعنى قول الله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)
وعلى أحد القولين في معنى قوله تعالى: (الذي يؤتي ماله يتزكى)
والإنسان مأمور بالسعي لتزكية نفسه بفعل الطاعات وتجنب المحرمات، والتوبة من ذنوبه
كما قال الله عز وجل: (ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه)
وقال: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها)، على أحد القولين في مرجع الضمير في (زكاها).
ويلحق بهذا القول قول من قال أن مِن بمعنى اللام؛ أي تثبيتا لأنفسهم، ذكره البيضاوي وأبو حيان احتمالا.
ويلحق به قول الزمخشري أنها للتبعيض أي يثبتون بعض أنفسهم، وهو يرى أن النفس لها أحوال كل حال يستدعي عمل معين لتثبيته فبعض النفس يتثبت ببذل المال وبعضه ببذل الروح في سبيل الله.
قال الزمخشري: ( فإن قلت: فما معنى التبعيض؟ قلت: معناه أن من بذل ماله لوجه اللَّه فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) ).اهـ
ومعنى الآية - والله أعلم - يحتمل جميع هذه المعاني.
قال ابن جُزي الكلبي: " ﴿وَتَثْبِيتاً﴾ أي تيقناً وتحقيقاً للثواب لأن أنفسهم لها بصائر تحملهم على الإنفاق، ويحتمل أن يكون معنى التثبيت أنهم؛ يثبتون أنفسهم على الإيمان باحتمال المشقة في بذل المال" اهـ.
ويستفاد من هذه المسألة:
1. أثر الإخلاص في قبول العمل، وسيأتي بيانه مع بيان الأقوال في معنى المثل الوارد في الآية بإذن الله.
2. على قدر زكاة النفوس يكون البركة في النية، وفي العمل، فهم لا يكتفون بإخراج النفقة احتسابًا لله عز وجل، وإنما يرجون بها ثباتًا لنفوسهم ولغيرهم من المؤمنين، ويرجون بها الثواب عند الله عز وجل.
قال الله عز وجل: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشدَّ تثبيتا. وإذا لآتيناهم من لدنا أجرًا عظيمًا. ولهديناهم صراطًا مستقيمًا}
3. أثر الاستزادة من الطاعات في تزكية النفوس، على القول بأن معنى (مِن) للتعدية.
4. أنَّ العمل داخل في معنى الإيمان.
5. أن الإيمان يزيد بالطاعات.

والله أعلم.

صفية الشقيفي 13 رمضان 1444هـ/3-04-2023م 08:41 PM

{وَٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُوا۟ بِهِۦ شَیۡـࣰٔاۖ وَبِٱلۡوَ ٰ⁠لِدَیۡنِ إِحۡسَـٰنࣰا وَبِذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱلۡجَارِ ذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالࣰا فَخُورًا }
[سُورَةُ النِّسَاءِ: ٣٦]
قال ابن عطية في مناسبة ختام الآية بقوله: (إنّ الله لا يحب من كان مختالا فخورا):
" هاتَيْنِ الصِفَتَيْنِ هُنا إذْ مُقْتَضاهُما العُجْبُ والزَهْوُ، وذَلِكَ هو الحامِلُ عَلى الإخْلالِ بِالأصْنافِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ أمْرُ اللهِ بِالإحْسانِ إلَيْهِمْ. ولِكُلِّ صِنْفٍ نَوْعٌ مِنَ الإحْسانِ يَخْتَصُّ بِهِ، ولا يَعُوقُ عَنِ الإحْسانِ إلَيْهِمْ إلّا العُجْبُ أوِ البُخْلُ، فَلِذَلِكَ نَفى اللهُ مَحَبَّتَهُ عَنِ المُعْجَبِينَ والباخِلِينَ عَلى أحَدِ التَأْوِيلَيْنِ". اهـ

يعني الآية التالية:
{ ٱلَّذِینَ یَبۡخَلُونَ وَیَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ وَیَكۡتُمُونَ مَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابࣰا مُّهِینࣰا }
[سُورَةُ النِّسَاءِ: ٣٧]
فعلى أحد القولين في تفسيرها أن (الذين يبخلون) بدل من (مختالا فخورا)

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت وقنا سيئ الأخلاق لا يقي سيئها إلا أنت.

صفية الشقيفي 14 رمضان 1444هـ/4-04-2023م 01:29 AM

قال الله عز وجل: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا (70)} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 69-70]
بيّن سبحانه في هاتين الآيتين عظيم فضله على عباده، أن يرزقهم رفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة، جزاء على طاعتهم لله ورسوله، هذا مع كون بعضهم لم يلحقوا بهم في العمل !
ثم قال الله عز وجل: {ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما}
وفي هذه الآية بيان لعظيم فضل الله على عباده ورأفته بهم، وفيها ما يؤنس السالك في طريقه إلى ربه، ويهون عليه مجاهدة العوائق، وقطع العلائق.
وهذا بعض ما وقفت عليه، وأسأل الله التوفيق:
1. اسم الإشارة (ذلك) للبعيد، مع قرب مرجعه، أفاد عظيم هذا الفضل وعلو مرتبته وقدره، وهو مما يحث العبد على تحصيله بتحقيق موجبه (طاعة الله ورسوله)، ويستوجب الشكر أن بشّر الله عباده في كتابه بمثل هذا الفضل.
2. اسم الإشارة (ذلك) مبتدأ، واختُلف في خبره:
- فقيل الخبر هو (الفضل)، و (من الله) حال، أو صفة للفضل.
وعلى هذا القول يكون المبتدأ والخبر معرفتين، وهو مما يفيد الحصر أنّ هذا الفضل من الله وحده.
- وقيل (الفضل) صفة لاسم الإشارة، والخبر (من الله).
وعلى كل حال ففي هذه الجملة بيان لأن هذا الفضل من الله ابتداء، وهذا مما يوجب كمال تعلق القلب بالله عز وجل، وألا يطلب هذا الفضل من غيره !
3. والمقصود بالفضل يحتمل أن يكون التوفيق للطاعة؛ فيستحقون عليها الجزاء.
ويحتمل أن يكون الفضل هو الجزاء برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة، وكلا القولين صحيح؛ فالله سبحانه هو المتفضل على عباده بالتوفيق للطاعات ابتداء وهو المتفضل عليهم بعظيم الثواب.
4. كلمة (الفضل) تفيد أنهم لم يبلغوا هذه الدرجة في الجنة بعملهم؛ وإنما هو فضل الله عليهم، وهذا يستوجب مزيدا من الشكر، والاجتهاد في الثبات على الطاعة.
وفي الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
"جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المرء مع من أحب))".
وروى البخاري نحوه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
وروى أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ: ((وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا)).
قَالَ لاَ شَيْءَ إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: ((أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)). قَالَ أَنَسٌ فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)). قَالَ أَنَسٌ فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ.
5. جاء ختام الآية: (وكفى بالله عليما)
وفيها حثٌ أيضا على الثبات على طاعة الله ورسوله؛
- فإن من أيقن أن الله عليم به، مطلع على حاله وعمله، يستحي أن يراه الله عز وجل حيث نهاه، ويجتهد أن يراه حيث أمره.
- ثم من أيقن أن الله هو العليم، واكتفى به عليما أخلص عمله لله عز وجل، وثبت عليه غير مبال بمدح أحد أو ذمه.
- وإذا أيقن أن الله هو العليم واكتفى به عليما، علم أنه لا يخيب عند الله سعيه وهو مكافئه عليه.
كما قال تعالى:
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)} [سورة الغاشية: 8-10]
وقال:
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)}[سُورَةُ الأَنبِيَاءِ: 94]

- وفي هذه الجملة: (وكفى بالله عليما) إظهار في موضع الإضمار، فكان يمكن أن يقول: (ذلك الفضل من الله وكفى به عليما)
ولعل الحكمة منه والله أعلم- ، التأكيد على هذه المعاني السابق ذكرها؛ الإخلاص لله عز وجل، واحتساب الأجر عنده، واستحضار مراقبته واطلاعه على عمل العبد.
- وحذف متعلق العلم ليشمل ذلك كله؛ علمه بحالهم، وما في قلوبهم من الإخلاص واليقين واحتساب الأجر عند الله، وعلمه بطاعتهم لله ورسوله، وعلمه بالجزاء الذي يتفضل به عليهم.
كما قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [سُورَةُ الأنعام: 53]
وقال: {
إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)} [سورة الأنفال: 70]
والله أعلم.

12 رمضان 1444 هـ

صفية الشقيفي 15 رمضان 1444هـ/5-04-2023م 05:56 PM

قال الله عز وجل:
{ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن تَتَّقُوا۟ ٱللَّهَ یَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانࣰا وَیُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَیِّـَٔاتِكُمۡ وَیَغۡفِرۡ لَكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِیمِ }
[سُورَةُ الأَنفَالِ: ٢٩]

جاءت هذه الآية مبشرة للمتقين أن الله يجعل لهم فرقانا، وحُذف متعلقه.
قال ابن عاشور:
((والفُرْقانُ أصْلُهُ مَصْدَرٌ كالشُّكْرانِ والغُفْرانِ والبُهْتانِ، وهو ما يُفَرِّقُ أيْ يُمَيِّزُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَشابِهَيْنِ، وقَدْ أُطْلِقَ بِالخُصُوصِ عَلى أنْواعٍ مِنَ التَّفْرِقَةِ فَأُطْلِقَ عَلى النَّصْرِ، لِأنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ حالَيْنِ كانا مُحْتَمَلَيْنِ قَبْلَ ظُهُورِ النَّصْرِ، ولُقِّبَ القُرْآنُ بِالفُرْقانِ لِأنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، قالَ - تَعالى - ﴿تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان: ١] ولَعَلَّ اخْتِيارَهُ هُنا لِقَصْدِ شُمُولِهِ ما يَصْلُحُ لِلْمَقامِ مِن مَعانِيهِ، فَقَدْ فُسِّرَ بِالنَّصْرِ، وعَنِ السُّدِّيِّ، والضَّحّاكِ، ومُجاهِدٍ، الفُرْقانُ: المَخْرَجُ، وفي أحْكامِ ابْنِ العَرَبِيِّ، عَنِ ابْنِ وهْبٍ وابْنِ القاسِمِ وأشْهَبَ أنَّهم سَألُوا مالِكًا عَنْ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿يَجْعَلْ لَكم فُرْقانًا﴾ قالَ: مَخْرَجًا، ثُمَّ قَرَأ ”﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٢] ﴿ومَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهو حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: ٣]“ . وفُسِّرَ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَهم وبَيْنَ الكُفّارِ في الأحْوالِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ فِيها التَّمايُزُ في أحْوالِ الدُّنْيا، فَيَشْمَلُ ذَلِكَ أحْوالُ النَّفْسِ: مِنَ الهِدايَةِ، والمَعْرِفَةِ، والرِّضى، وانْشِراحِ القَلْبِ، وإزالَةِ الحِقْدِ والغِلِّ والحَسَدِ بَيْنَهم، والمَكْرِ والخِداعِ وذَمِيمِ الخَلائِقِ.
وقَدْ أشْعَرَ قَوْلُهُ ”لَكم“ أنَّ الفُرْقانَ شَيْءٌ نافِعٌ لَهم، فالظّاهِرُ أنَّ المُرادَ مِنهُ كُلُّ ما فِيهِ مَخْرَجٌ لَهم ونَجاةٌ مِنَ التِباسِ الأحْوالِ وارْتِباكِ الأُمُورِ وانْبِهامِ المَقاصِدِ، فَيَئُولُ إلى اسْتِقامَةِ أحْوالِ الحَياةِ، حَتّى يَكُونُوا مُطْمَئِنِّي البالِ مُنْشَرِحِي الخاطِرِ، وذَلِكَ يَسْتَدْعِي أنْ يَكُونُوا مَنصُورِينَ، غالِبِينَ، بُصَراءَ بِالأُمُورِ، كَمَلَةَ الأخْلاقِ، سائِرِينَ في طَرِيقِ الحَقِّ والرُّشْدِ، وذَلِكَ هو مِلاكُ اسْتِقامَةِ الأُمَمِ، فاخْتِيارُ الفُرْقانِ هُنا لِأنَّهُ اللَّفْظُ الَّذِي لا يُؤَدِّي غَيْرُهُ مُؤَدّاهُ في هَذا الغَرَضِ وذَلِكَ مِن تَمامِ الفَصاحَةِ)) اهـ.

صفية الشقيفي 15 رمضان 1444هـ/5-04-2023م 06:45 PM

قال تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}
وفي قوله تعالى: {وكونوا مع الصادقين} معنى بديع؛ فهو لم يقل (وكونوا من الصادقين) بل جاءت (مع) لتتضمن معنيين:

الأول: الأمر بأن نكون مع الصادقين يستلزم صحبتهم في الحال ، وأن نتصف بما اتصفوا به؛ فهو بمعنى (وكونوا من الصادقين)، وذكر نحو هذا المعنى ابن عطية وابن عاشور.
الثاني: تأييدهم ونصرهم؛ فيأتي على هذا المعنى معاتبة الثلاثة الذين خُلفوا بأن يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين نصروه في غزوة تبوك، وهو كذلك دعوة لعموم المؤمنين أن يؤيدوا وينصروا الصادقين ومنهم الثلاثة الذين خُلفوا.
وبهذه الفائدة يتضح لنا وجه الجمع بين الأقوال الثلاثة في تفسير المراد بالذين آمنوا، والصادقين في الآية.

ولابن جرير الطبري في تفسيره بيان لمعنى بديع في تفسير الآية، وفائدة التعبير بـ (مع الصادقين)؛ فالمعنى عنده: (اتقوا الله فافعلوا أمره واجتنبوا نهيه لتكونوا مع الصادقين في الآخرة في جنة الخلد)

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره للمؤمنين معرّفهم سبيل النّجاة من عقابه والخلاص من أليم عذابه: يا أيّها الّذين آمنوا باللّه ورسوله، اتّقوا اللّه وراقبوه بأداء فرائضه وتجنّب حدوده، وكونوا في الدّنيا من أهل ولاية اللّه وطاعته، تكونوا في الآخرة مع الصّادقين في الجنّة. يعني مع من صدق اللّه الإيمان به فحقّق قوله بفعله ولم يكن من أهل النّفاق فيه الّذين يكذب قيلهم فعلهم.
وإنّما معنى الكلام: وكونوا مع الصّادقين في الآخرة باتّقاء اللّه في الدّنيا، كما قال جلّ ثناؤه: {ومن يطع اللّه والرّسول فأولئك مع الّذين أنعم اللّه عليهم من النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين})

وها هنا رسالة في تفسير هذه الآية:
http://afaqattaiseer.net/vb/showthre...581#post211581

رب أدخلنا مدخل صدق وأخرجنا مخرج صدق واجعل لنا من لدنك سلطانا نصيرا.


الساعة الآن 07:16 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir