باب بيان الإيمان وفرضه وأنّه تصديقٌ بالقلب وإقرارٌ باللّسان وعملٌ بالجوارح والحركات، لا يكون العبد مؤمنًا إلّا بهذه الثّلاث.
قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): (باب بيان الإيمان وفرضه وأنّه تصديقٌ بالقلب وإقرارٌ باللّسان وعملٌ بالجوارح والحركات، لا يكون العبد مؤمنًا إلّا بهذه الثّلاث. قال الشّيخ: اعلموا رحمكم اللّه أنّ اللّه جلّ ثناؤه، وتقدّست أسماؤه [الإبانة الكبرى: 2/760] فرض على القلب المعرفة به، والتّصديق له ولرسله ولكتبه، وبكلّ ما جاءت به السّنّة، وعلى الألسن النّطق بذلك والإقرار به قولًا، وعلى الأبدان والجوارح العمل بكلّ ما أمر به، وفرضه من الأعمال لا تجزئ واحدةٌ من هذه إلّا بصاحبتها، ولا يكون العبد مؤمنًا إلّا بأن يجمعها كلّها حتّى يكون مؤمنًا بقلبه، مقرًّا بلسانه، عاملًا مجتهدًا بجوارحه، ثمّ لا يكون أيضًا مع ذلك مؤمنًا حتّى يكون موافقًا للسّنّة في كلّ ما يقوله ويعمله، متّبعًا للكتاب والعلم في جميع أقواله وأعماله، وبكلّ ما شرحته لكم نزل به القرآن، ومضت به السّنّة، وأجمع عليه علماء الأمّة، فأمّا فرض المعرفة على القلب، فما قاله اللّه عزّ وجلّ في سورة المائدة: {يا أيّها الرّسول لا يحزنك الّذين يسارعون في الكفر من الّذين قالوا آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الّذين هادوا سمّاعون للكذب سمّاعون لقومٍ آخرين لم يأتوك يحرّفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد اللّه فتنته فلن تملك له من اللّه شيئًا أولئك الّذين لم يرد اللّه أن يطهّر قلوبهم لهم في الدّنيا خزيٌ ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ} [المائدة: 41] . [الإبانة الكبرى: 2/761] وقال في سورة النّحل: {من كفر باللّه من بعد إيمانه إلّا من أكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا} [النحل: 106]، الآية. وقال عزّ وجلّ: {إنّ السّمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسئولًا} . فهذا بيان ما لزم القلوب من فرض الإيمان لا يردّه ولا يخالفه ويجحده إلّا ضالٌّ مضلٌّ. وأمّا بيان ما فرض على اللّسان من الإيمان، فهو ما قال اللّه عزّ وجلّ في سورة البقرة: {قولوا آمنّا باللّه وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النّبيّون من ربّهم لا نفرّق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا} . وقال في سورة آل عمران: {قل آمنّا باللّه وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب} . إلى آخر الآية، وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: " أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا: لا إله إلّا اللّه، وأنّي رسول اللّه " [الإبانة الكبرى: 2/762] 1063 - حدّثنا أبو شيبة عبد العزيز بن جعفرٍ، قال: حدّثنا محمّد بن إسماعيل بن البختريّ الواسطيّ، قال: حدّثنا وكيعٌ، قال: حدّثنا سفيان، عن أبي الزّبير، عن جابرٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: " أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا: لا إله إلّا اللّه، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها، وحسابهم على اللّه ". وأمّا الإيمان بما فرضه اللّه عزّ وجلّ من العمل بالجوارح تصديقًا لما أيقن به القلب ونطق به اللّسان فذلك في كتاب اللّه تعالى يكثر على الإحصاء وأظهر من أن يخفى، قال اللّه عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربّكم وافعلوا الخير لعلّكم تفلحون} [الحج: 77] وقال: {وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة} [البقرة: 43] في مواضع كثيرةٍ من القرآن أمر اللّه فيها بإقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة وصيام شهر رمضان والجهاد في سبيله وإنفاق الأموال وبذل الأنفس في ذلك، والحجّ بحركة الأبدان ونفقة الأموال، فهذا كلّه من الإيمان، والعمل به فرضٌ لا يكون المؤمن إلّا بتأديته، وكلّ من تكلّم بالإيمان وأظهر الإقرار بالتّوحيد وأقرّ أنّه مؤمنٌ بجميع الفرائض غير أنّه لا يضرّه تركها ولا يكون خارجًا من إيمانه إذا هو ترك العمل بها في وقتها مثل الصّلاة والزّكاة وصوم شهر رمضان وحجّ البيت مع الاستطاعة وغسل الجنابة، ويرى أنّ صلاة [الإبانة الكبرى: 2/763] النّهار إن صلّاها باللّيل أجزأه، وصلاة اللّيل إن صلّاها بالنّهار أجزأته، وأنّه إن صام في شوّالٍ أجزأه وإن حجّ في المحرّم أو صفرٍ أجزأه وإنّه متى اغتسل من الجنابة لم يضرّه تأخيره، ويزعم أنّه مع هذا مؤمنٌ مستكمل الإيمان عند اللّه على مثل جبريل، وميكائيل، والملائكة المقرّبين. فهذا مكذّبٌ بالقرآن مخالفٌ للّه، ولكتابه، ولرسله ولشريعة الإسلام، ليس بينه وبين المنافقين الّذين وصفهم اللّه تعالى في كتابه فرقٌ، قد نزع الإيمان من قلوبهم بل لم يدخل الإيمان في قلوبهم كما قال اللّه عزّ وجلّ فيهم: {ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم} [الحجرات: 14] فكلّ من ترك شيئًا من الفرائض الّتي فرضها اللّه عزّ وجلّ في كتابه أو أكّدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في سنّته على سبيل الجحود لها والتّكذيب بها، فهو كافرٌ بيّن الكفر لا يشكّ في ذلك عاقلٌ يؤمن باللّه واليوم الآخر. ومن أقرّ بذلك وقاله بلسانه، ثمّ تركه تهاونًا ومجونًا أو معتقدًا لرأي المرجئة ومتّبعًا لمذاهبهم، فهو تارك الإيمان ليس في قلبه منه قليلٌ ولا كثيرٌ وهو في جملة المنافقين الّذين نافقوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فنزل القرآن بوصفهم وما أعدّ لهم، وإنّهم في الدّرك الأسفل من النّار، نستجير باللّه من مذاهب المرجئة الضّالّة [الإبانة الكبرى: 2/764] 1064 - حدّثنا أبو شيبة عبد العزيز بن جعفرٍ، قال: حدّثنا محمّد بن إسماعيل الواسطيّ، قال: حدّثنا وكيعٌ، قال: حدّثنا الأعمش، وسفيان، عن أبي المقدام ثابت بن هرمز، عن أبي [الإبانة الكبرى: 2/764] يحيى، قال: سئل حذيفة: ما النّفاق؟ قال: الّذي يصف الإسلام ولا يعمل به [الإبانة الكبرى: 2/765] 1065 - حدّثنا أبو شيبة عبد العزيز بن جعفرٍ، قال: حدّثنا محمّد بن إسماعيل، قال: المنافقون الّذين فيكم اليوم شرٌّ من المنافقين الّذين كانوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قلنا: يا أبا عبد اللّه، وكيف ذاك؟ قال: إنّ أولئك كانوا يسرّون نفاقهم، وإنّ هؤلاء أعلنوه [الإبانة الكبرى: 2/765] 1066 - حدّثنا أبو شيبة عبد العزيز بن جعفرٍ، قال: حدّثنا محمّد بن إسماعيل، قال: حدّثنا وكيعٌ، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائلٍ، عن حذيفة، قال: المنافقون فيكم اليوم شرٌّ من المنافقين الّذين كانوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قلنا: يا أبا عبد اللّه وكيف ذاك؟ قال: إنّ أولئك كانوا يسرّون نفاقهم وإنّ هؤلاء أعلنوه قال الشّيخ: وفرض اللّه الإيمان على جوارح ابن آدم، وقسّمه عليها وفرّقه فيها، فليس من جوارحه جارحةٌ إلّا وهي موكلةٌ من الإيمان بغير ما وكّلت به صاحبتها، فمنها قلبه الّذي يعقل به ويتّقي به ويفهم به، وهو أمير بدنه الّذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلّا عن رأيه وأمره، ومنها لسانه الّذي ينطق به، ومنها عيناه اللّتان ينظر بهما، وسمعه الّذي يسمع به، ويداه اللّتان يبطش بهما، ورجلاه اللّتان يخطو بهما وفرجه الّذي الباءة. . . . .، فليس من هذه جارحةٌ إلّا وهي موكّلةٌ من الإيمان بغير ما وكّلت به صاحبتها بفرضٍ من اللّه تعالى ينطق به الكتاب ويشهد به علينا. [الإبانة الكبرى: 2/765] ففرض على القلب غير ما فرض على اللّسان، وفرض على اللّسان غير ما فرض على العينين، وفرض على العينين غير ما فرض على السّمع، وفرض على السّمع غير ما فرض على اليدين، وفرض على اليدين غير ما فرض على الرّجلين، وفرض على الرّجلين غير ما فرض على الفرج، وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه. وأمّا ما فرض على القلب فالإقرار، والإيمان، والمعرفة، والتّصديق، والعقل، والرّضا، والتّسليم، وأن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له أحدًا صمدًا لم يتّخذ صاحبةً ولا ولدًا، وأنّ محمّدًا عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند اللّه تعالى من رسولٍ أو كتابٍ. فأمّا ما فرض على القلب من الإقرار والمعرفة فقد ذكرناه في أوّل هذا الكتاب ونعيده هاهنا، فمن ذلك قوله تعالى: {إلّا من أكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا} [النحل: 106] وقال: {ألا بذكر اللّه تطمئنّ القلوب} [الرعد: 28] وقال: {الّذين قالوا آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم} [المائدة: 41] فذلك ما فرضه على القلب من الإقرار، والمعرفة، والتّصديق، وهو رأس الإيمان وهو عمله. وفرض على اللّسان القول والتّعبير عن القلب، وما عقد عليه وأقرّ به، قال اللّه عزّ وجلّ: [الإبانة الكبرى: 2/766] {قولوا آمنّا باللّه وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب}، وقال: {وقولوا للنّاس حسنًا} [البقرة: 83] فهذا ما فرض على اللّسان من القول بما عقد عليه وذلك من الإيمان وهو عمل اللّسان. وأمّا ما فرض على السّمع أن يتنزّه عن الاستماع إلى ما حرّم اللّه تعالى، فممّا فرض على السّمع قوله تعالى: {وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتّى يخوضوا في حديثٍ غيره} [النساء: 140] وقال: {فبشّر عباد الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه} [الزمر: 18] . وقال: {قد أفلح المؤمنون الّذين هم في صلاتهم خاشعون والّذين هم عن اللّغو معرضون} [المؤمنون: 1] وقال: {وإذا سمعوا اللّغو أعرضوا عنه} [القصص: 55] وقال: {وإذا مرّوا باللّغو مرّوا كرامًا} [الفرقان: 72] [الإبانة الكبرى: 2/767] فهذا ما فرض على السّمع التّنزّه عن الاستماع إلى ما لا يحلّ له، وهو عمل السّمع، وذلك من الإيمان. وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرّم اللّه، وأن يغضّ بصره عمّا لا يحلّ له ممّا نهى اللّه عنه، فقال تعالى: {قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} [النور: 30] وفرض على الرّجال والنّساء أن لا ينظروا إلى ما لا يحلّ لهم، وكلّ شيءٍ في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزّنا إلّا هذه الآية فإنّه من النّظر. ثمّ أخبر تعالى ما فرض على القلب واللّسان والسّمع والبصر في آيةٍ واحدةٍ، فقال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علمٌ إنّ السّمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسئولًا} فهذا ما فرض على العينين والسّمع والبصر والفؤاد، وهو عملهنّ، وهو من الإيمان، وفرض على الفرج أن لا يهتك ما حرّم اللّه عليه، فقال تعالى: {والّذين هم لفروجهم حافظون} [المؤمنون: 5] وقال تعالى: {والحافظين فروجهم والحافظات} [الأحزاب: 35] [الإبانة الكبرى: 2/768] ثمّ أخبر بمعصية السّمع والبصر والفؤاد والأيدي والأرجل والجلود في آيةٍ واحدةٍ فقال: {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم} [فصلت: 22] . فعنى بالجلود الفروج، فهذا ما فرض على الفروج من الإيمان، وهو عمله، وفرض على اليدين أن لا يبطش بهما فيما حرّم اللّه عليهما، وأن يبطش بهما فيما أمره اللّه تعالى به من الصّدقة، وصلة الرّحم، والجهاد في سبيل اللّه، والوضوء للصّلوات فقال: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} . فهذا ما فرض على اليدين، لأنّ الطّهور نصف الإيمان، وهو من عمل اليدين، وقال: {فإذا لقيتم الّذين كفروا فضرب الرّقاب} [محمد: 4]، فهذا ما فرض على اليدين، وصلة الرّحم، والضّرب في سبيل اللّه، وهو من الإيمان. وفرض على الرّجلين أن لا يمشي بهما في شيءٍ من معاصي اللّه، وأن يستعملا فيما أمر اللّه تعالى من المشي إلى ما يرضيه فقال: [الإبانة الكبرى: 2/769] {ولا تمش في الأرض مرحًا} [الإسراء: 37]، وقال: {واقصد في مشيك} [لقمان: 19] . وقال فيما شهدت به الأيدي والأرجل على أنفسهما يوم القيامة من تضييعها وتركها فرض اللّه عليها، وتعدّيها ما حرّمه عليها: {اليوم نختم على أفواههم وتكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} [يس: 65] . فهذا ما فرض اللّه على اليدين والرّجلين من العمل، وهو من الإيمان. وفرض على الوجه السّجود آناء اللّيل والنّهار في مواقيت الصّلوات، فقال: {يا أيّها الّذين آمنوا اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] . . الآية. فهذه فريضةٌ من اللّه تعالى جامعةٌ على الوجه، واليدين، والرّجلين، وقال في موضعٍ آخر: {وأنّ المساجد للّه فلا تدعوا مع اللّه أحدًا} [الجن: 18] . [الإبانة الكبرى: 2/770] يعني بالمساجد ما سجد عليه ابن آدم في صلاته من الجبهة، والأنف، واليدين، والرّجلين، والرّكبتين، وصدور القدمين. وقال فيما فرض اللّه تعالى على الجوارح كلّها من الصّلاة والطّهور، وذلك أنّ اللّه تعالى سمّى الصّلاة إيمانًا في كتابه، وذلك أنّ اللّه تعالى لمّا صرف نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الصّلاة إلى بيت المقدس، وأمره أن يصلّي إلى الكعبة، قال المسلمون للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: أرأيتك صلاتنا الّتي كنّا نصلّي إلى بيت المقدس ما حالها وما حالنا فيها، وحال إخواننا الّذين ماتوا وهم يصلّون إلى بيت المقدس؟ فأنزل اللّه تعالى في ذلك قرآنًا ناطقًا فقال: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] . يعني صلواتكم إلى بيت المقدس، فسمّى اللّه الصّلاة إيمانًا. فمن لقي اللّه حافظًا لجوارحه، موفّيًا كلّ جارحةٍ من جوارحه ما فرض اللّه عليه، لقي اللّه مؤمنًا مستكمل الإيمان، ومن ضيّع شيئًا منها وتعدّى ما أمر اللّه به فيها، لقي اللّه تعالى ناقص الإيمان، وهو في مشيئة اللّه، إن شاء غفر له، وإن شاء عذّبه، ومن جحد شيئًا كان كافرًا. قال الشّيخ: فقد أخبر اللّه تعالى في كتابه في آيٍ كثيرةٍ منه أنّ هذا الإيمان لا يكون إلّا بالعمل، وأداء الفرائض بالقلوب والجوارح، وبيّن ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وشرحه في سنّته، وأعلمه أمّته، وكان ممّا قال اللّه تعالى في كتابه ممّا أعلمنا أنّ الإيمان هو العمل، وأنّ العمل من الإيمان ما قاله في سورة البقرة: {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن باللّه [الإبانة الكبرى: 2/771] واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنّبيّين وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل والسّائلين وفي الرّقاب وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصّابرين في البأساء والضّرّاء وحين البأس أولئك الّذين صدقوا وأولئك هم المتّقون} [البقرة: 177] . فانتظمت هذه الآية أوصاف الإيمان وشرائطه من القول والعمل والإخلاص. ولقد سأل أبو ذرٍّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن الإيمان، فقرأ عليه هذه الآية [الإبانة الكبرى: 2/772] 1067 - حدّثنا أبو ذرٍّ أحمد بن محمّدٍ الباغنديّ قال: حدّثنا الحسن بن أبي الرّبيع الجرجانيّ، قال: حدّثنا عبد الرّزّاق، وحدّثنا إسحاق بن أحمد الكاذيّ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبلٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن عبد الكريم الجزريّ، عن مجاهدٍ، أنّ أبا ذرٍّ، سأل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن الإيمان فقرأ عليه: {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} [البقرة: 177] . . . . . . . . حتّى ختم الآية [الإبانة الكبرى: 2/772] 1068 - حدّثنا أبو شيبة عبد العزيز بن جعفرٍ، قال: حدّثنا [الإبانة الكبرى: 2/772] محمّد بن إسماعيل، قال: حدّثنا جعفر بن عونٍ، قال: أخبرنا عبد الرّحمن بن عبد اللّه المسعوديّ، عن القاسم، عن أبي ذرٍّ، قال: جاء رجلٌ فسأله عن الإيمان، فقرأ عليه: {ليس البرّ} [البقرة: 177] أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب. فقال الرّجل: ليس عن البرّ سألتك، فقال له أبو ذرٍّ: جاء رجلٌ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فسأله كما سألتني، فقرأ عليه كما قرأت عليك، فأبى أن يرضى كما أبيت أن ترضى، فقال: " ادن منّي، فدنا منه، فقال: المؤمن الّذي يعمل حسنته فتسرّه فيرجو بها، وإن عمل سيّئةً فتسوءه، ويخاف عاقبتها ". قال الشّيخ: فقد أنبأنا اللّه عزّ وجلّ في كتابه عن معرفة الإيمان بدلالات القرآن أنّه قولٌ وعملٌ وتصديقٌ ويقينٌ، وأنّ جميع ما فرضه اللّه في القرآن شفاءٌ لما في الصّدور من الشّكّ والشّبهة والرّيب لما فيه من البيان، والبرهان، والحقّ المبين، ولكنّ اللّه عزّ وجلّ جعله شفاءً ورحمةً للمؤمنين: {ولا يزيد الظّالمين إلّا خسارًا} [الإسراء: 82] . فمن لم يشفه القرآن، ولم تنفعه السّنّة وما فيهما من النّور والبيان والهدى والضّياء، وتنطّع وتعمّق، وقال برأيه، وقاس على اللّه وعلى رسوله بفعله وهواه داخل اللّه في عمله، ونازعه في غيبه، ولم يقنع بما كشف له عنه، حتّى خالف الكتاب والسّنّة، وخرق إجماع الأمّة، وضلّ ضلالًا بعيدًا، وخسر خسرانًا مبينًا، واتّبع غير سبيل المؤمنين، وولّاه اللّه ما تولّى، وأصلاه جهنّم، وساءت مصيرًا [الإبانة الكبرى: 2/773] 1069 - حدّثنا أبو شيبة، قال: حدّثنا محمّد بن إسماعيل، قال: حدّثنا وكيعٌ، قال: حدّثنا سفيان، عن بيان بن بشرٍ، عن الشّعبيّ، قال: {هذا بيانٌ للنّاس} [آل عمران: 138] قال: " من العمى، {وهدًى} [آل عمران: 138] قال: من الضّلالة، {وموعظةٌ} [آل عمران: 138] قال: من الجهل " [الإبانة الكبرى: 2/774] 1070 - حدّثنا أبو حفصٍ عمر بن محمّدٍ، وأبو القاسم مليح بن أحمد بن مليحٍ قالا: حدّثنا عبد الوهّاب بن عمرٍو، قال: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثيرٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، عن خالد بن عبد اللّه، عن بيانٍ، عن الشّعبيّ، قال: {هذا بيانٌ للنّاس وهدًى وموعظةٌ للمتّقين} [آل عمران: 138] قال: «بيانٌ من العمى، وهدًى من الضّلالة، وموعظةٌ من الجهل» قال الشّيخ: فأيّ عبدٍ أتعس جدًا، ولا أعظم نكدًا، ولا أطول شقاءً وعناءً من عبدٍ حرم البصيرة بنور القرآن، والهداية بدلالته، والزّجر بموعظته، قال اللّه عزّ وجلّ {بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ} [الشعراء: 195]، وقوله الحقّ والصّدق قال: [الإبانة الكبرى: 2/774] {هو الّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون} [التوبة: 33] . فالهدى هدى الإيمان وهو القول، والدّين هو العمل، وجميع الفرائض والشّرائع والأحكام، ومجانبة الحرام والآثام. فالدّين ليس هو خصلةً واحدةً، ولكنّه خصالٌ كثيرةٌ من أقوالٍ وأفعالٍ من فرائض وأحكامٍ، وشرائع وأمرٍ ونهيٍ، فقوله عزّ وجلّ: {بالهدى ودين الحقّ} [التوبة: 33] يجمع ذلك كلّه، حتّى صار دينًا قيمًا، فمن كان من أهل الدّين عمل بجميع ما فيه، ومن آمن ببعضه وكفر ببعضه لم يكن من أهله. ومن قال: الإيمان قولٌ بلا عملٍ فليس هو من أهل دين الحقّ ولا مؤمنٌ ولا مهتدٍ، ولا عاملٌ بدينٍ الحقّ، ولا قابلٌ له، لأنّ اللّه عزّ وجلّ قد أعلمنا أنّ كمال الدّين بإكمال الفرائض، قال اللّه عزّ وجلّ: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} [المائدة: 3] . وذلك أنّه لمّا علم اللّه عزّ وجلّ الصّدق منهم في إيمانهم، والعمل بجميع ما افترضه عليهم من إقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، وصيام رمضان، وحجّ البيت، وما بذلوه من مهج أنفسهم، ونفقات أموالهم، والخروج عن ديارهم، وهجران آبائهم، وقطيعة أهليهم، وهجران شهواتهم ولذّاتهم ممّا حرّمها عليهم، وعلم حقيقة ذلك من قلوبهم بما زيّنه اللّه تعالى في قلوبهم، وحبّبه إليهم [الإبانة الكبرى: 2/775] من طاعته والعمل بأوامره والانتهاء عن زواجره، سمّى هذه الأفعال كلّها إيمانًا، فقال: {ولكنّ اللّه حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الرّاشدون فضلًا من اللّه ونعمةً} [الحجرات: 8] . فاستحقّوا اسم الرّشاد بإكمال الدّين. وذلك أنّ القوم كانوا في فسحةٍ وسعةٍ، ليس يجب عليهم صلاةٌ، ولا زكاةٌ، ولا صيامٌ، ولا كان حرّم عليهم كثيرًا ممّا هو محرّمٌ، وكان اسم الإيمان واقعًا عليهم بالتّصديق ترفّقًا بهم لقرب عهدهم بالجاهليّة وجفائها، فجعل الإقرار بالألسن والمعرفة بالقلوب الإيمان المفترض يومئذٍ، حتّى إذا حلّت مذاقة الإيمان على ألسنتهم، وحسنت زينته في أعينهم، وتمكّنت محبّته من قلوبهم، وأشرقت أنوار لبسته عليهم، وحسن استبصارهم فيه، وعظمت فيه رغبتهم تواترت أوامره فيهم، وتوكّدت فرائضه عليهم، واشتدّت زواجره ونواهيه. فكلّما أحدث لهم فريضةً عبادةً وزاجرةً عن معصيةٍ ازدادوا إليه مسارعةً وله طاعةً، دعاهم باسم الإيمان، وزادهم فيه بصيرةً، فقال: {فأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة واعتصموا باللّه هو مولاكم فنعم المولى ونعم النّصير} [الحج: 78] . وقال: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] ... الآية. [الإبانة الكبرى: 2/776] وقال: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه} [الجمعة: 9]، ثمّ قال في فرض الجهاد: يا أيّها الّذين آمنوا {كتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم} [البقرة: 216] . وقال: {يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثّاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38] . ونظائر لهذا في القرآن كثيرةٌ، وقال في النّهي: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا الرّبا} [آل عمران: 130]، و {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرمٌ} [المائدة: 95]، و {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان} [المائدة: 90]، فعلى هذا كلّ مخاطبةٍ، كانت منه لهم فيما أمر ونهى، وأباح وحظر، وكان اسم الإيمان واقعًا بالإقرار الأوّل إذا لم يكن هناك فرضٌ غيره، فلمّا نزلت [الإبانة الكبرى: 2/777] الشّرائع بعد هذا وجب عليهم التزام فرضها، والمسارعة إليها كوجوب الأوّل سواءً لا فرق بينهما، لأنّهما جميعًا من عند اللّه، وبأمره وإيجابه. ولقد فرضت الصّلاة عليهم بمكّة، فصلّوا نحو بيت المقدس، فلمّا هاجروا إلى المدينة أقاموا بها يصلّون نحوه ثمانية عشر شهرًا، ثمّ حوّلت القبلة نحو الكعبة، فلو لم يصلّوا نحو الكعبة كما أمروا لما أغنى عنهم الإقرار الأوّل، ولا الإيمان المتقدّم. ولقد بلغ بهم الإشفاق في الطّاعة والمسارعة إليها أن خافوا على من مات، وهو يصلّي نحو بيت المقدس قبل تحويل القبلة، حتّى قال قائلهم: يا رسول اللّه فكيف بإخواننا الّذين ماتوا وهم يصلّون نحو بيت المقدس؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ قرآنًا أزال عنهم ذلك الإشفاق، وأعلمهم به أيضًا أنّ الصّلاة إيمانٌ. فقال عزّ وجلّ: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم إنّ اللّه بالنّاس لرءوفٌ رحيمٌ} [الإبانة الكبرى: 2/778] 1071 - حدّثنا أبو شيبة عبد العزيز بن جعفرٍ الخوارزميّ، قال: حدّثنا أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل الواسطيّ قال: حدّثنا وكيعٌ، قال: حدّثنا إسرائيل، عن سماك بن حربٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: لمّا توجّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الكعبة، قالوا: يا رسول اللّه فكيف بإخواننا الّذين ماتوا يصلّون إلى بيت المقدس؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] [الإبانة الكبرى: 2/778] 1072 - وبلغني عن يعقوب الدّورقيّ، من غير رواية المحامليّ [الإبانة الكبرى: 2/778] قال: بلغني عن سفيان أنّه قال: " ما علمت أنّ الصّلاة من الإيمان حتّى قرأت هذه الآية، فاللّه عزّ وجلّ قد جعل الصّلاة من الإيمان، وسمّي العالمين بها مؤمنين، فقال: {قد أفلح المؤمنون الّذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 2]، ثمّ نعت وصف الإيمان فيهم، ثمّ ذكر ما وعدهم به عند آخر وصفهم، فقال: {أولئك هم الوارثون الّذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} [المؤمنون: 10] . والمرجئة تزعم أنّ الصّلاة والزّكاة ليستا من الإيمان، فقد أكذبهم اللّه عزّ وجلّ، وأبان خلافهم. واعلموا رحمكم اللّه أنّ اللّه عزّ جلّ لم يثن على المؤمنين، ولم يصف ما أعدّ لهم من النّعيم المقيم، والنّجاة من العذاب الأليم، ولم يخبرهم برضاه عنهم إلّا بالعمل الصّالح، والسّعي الرّابح، وقرن القول بالعمل، والنّيّة بالإخلاص، حتّى صار اسم الإيمان مشتملًا على المعاني الثّلاثة لا ينفصل بعضها من بعضٍ، ولا ينفع بعضها دون بعضٍ، حتّى صار الإيمان قولًا باللّسان، وعملًا بالجوارح، ومعرفةً بالقلب خلافًا لقول المرجئة الضّالّة الّذين زاغت قلوبهم، وتلاعبت الشّياطين بعقولهم، وذكر اللّه عزّ وجلّ ذلك كلّه في كتابه، والرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم في سنّته [الإبانة الكبرى: 2/779] |
الساعة الآن 01:50 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir