سؤال عن القول الراجح في تفسير قوله تعالى: {منفكين}
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما هو القول الراجح في قوله تعالى: {منفكين} في سورة البينة؟ وعند تفسير السورة لغير المختصين هل أكتفي بما ذكر في كثير من المختصرات أن المعنى (تاركين لكفرهم)؟ أم أرجح ما ذكره صاحب أضواء البيان؟ أو التحرير والتنوير؟ |
اقتباس:
قول (لا ينفك ) يأتي في اللغة بمعنى لا يَتْرُك، ويأتي بمعنى لا يُتْرَك ؛ وبكل وجه منهما يحصل معنى الانفكاك، وسياق الكلام يرجّح المعنى المراد. فمن الأول قول ليلى الأخيلية: فأقسمت لا أنفكّ أبكيك ما دعت ... على فَننٍ ورقاءُ أو طار طائر أي: لا أترك بكائي عليك. ومن الثاني قول حصين بن الحمام المري: ولولا رجال من رزام بن مازن ... وآل سبيع أو أسوءك علقما لأقسمت لا تنفك مني محارب ... على آلة حدباء حتى تندما وحتى يروا قوما تضب لثاتهم ... يهزون أرماحا وجيشا عرمرما أي: لأقسمت أنهم ليسوا بمتروكين من حربنا حتى يتندّموا. فقول القائل: (لا تنفكّ حتى تفعل كذا) غير قولك: (لا تنفكّ حتى يُفعل بك كذا) ؛ فغاية الانفكاك في المثال الأول من قبل المخاطَب، وغاية الانفكاك في المثال الثاني من غيره. وعلى هذا فقوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البيّنة..} يحتمل وجوها من المعاني: الوجه الأول: لم يكونوا متروكين هكذا من غير إقامة الحجة عليهم حتى تأتيهم البيّنة، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو معنى ظاهر الصحة؛ موافق لنظائره من القرآن كما في قوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} وقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا}. الوجه الثاني: لم يكونوا تاركين ما هم عليه من الجهل والكفر والاختلاف حتى تأتيهم البينة، وهذه غاية شرعية، بمعنى أنهم لن يهتدوا إلا أن تأتيهم بينة من الله يهدي بها من يشاء منهم، ولا يقتضي ذلك انتهاؤهم جميعاً عن الكفر، وهذا معنى قول قتادة.
- قال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {منفكين} قال: (لم يكونوا لينتهوا حتى يتبيّن لهم أنه الحق). رواه ابن جرير. الوجه الرابع: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مفترقين في دينهم متزايلين أحزاباً ومتفرقين شيعاً كلّ يعظّم متبوعه حتى تأتيهم بيّنة من الله يجتمعون بها، كما قال الله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} وقريب منه ما رواه ابن وهب قال: أخبرني ابن لهيعة عن أبي الأسود قال: رأيت مصحف عبد اللّه بن مسعودٍ: (لم يكن أهل الكتاب والمشركين ذات اليهوديّة والنّصرانيّة والجّوسيّة وإنّ الدّين الحنيفيّة المسلمة غير المشركة لم يكونوا مفترقين حتّى تأتيهم البيّنة). الوجه الخامس: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين تاركين ما هم عليه من الاختلاف والتفرق والضلالة والتربّص بأولياء الله حتى تأتيهم البيّنة التي يتيقنون بها أنهم كانوا على ضلال مبين وأنّ الله ناصر دينه، ومتمّ نوره، ومعلي كلمته، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)} فقوله {ثمّ ينبّئهم} تحقيق لما كان الرسول يتلو عليهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}. ونظيره قول الله تعالى في شأن المنافقين: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)}. وينظر في هذه الرسالة القيّمة للأستاذة ليلى باقيس وفقها الله وهي رسالة في تفسير قول الله تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البيّنة}. |
الساعة الآن 09:49 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir