معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد

معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد (http://afaqattaiseer.net/vb/index.php)
-   الدعوة بالقرآن (http://afaqattaiseer.net/vb/forumdisplay.php?f=1016)
-   -   وقفات مع آيات (http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=45978)

صفية الشقيفي 17 رمضان 1444هـ/7-04-2023م 12:50 AM

قال الله عز وجل: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [سورة إبراهيم: 27]
والقول الثابت هو كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) وهي المرادة في بالمثل المذكور في الآيات السابقة، في قوله تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون} [سورة إبراهيم: 24-25]
وهو المستفاد من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا أُقعد المؤمن في قبره أتي، ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} )). رواه البخاري ومسلم.
وفي الحديث إشارة إلى تثبيت الله عز وجل للمؤمنين بالقول الثابت في الآخرة.
وأفادتنا الآية سبيل تحصيل الثبات في الحياة الدنيا وهو بتحقيق كلمة التوحيد، وتحقيقها على درجات كما هو في مراتب الدين؛ فمن الناس من يحقق مرتبة الإسلام فيجتنب نواقض الإسلام، ومن الناس من يحقق مرتبة الإيمان فيأتي بالطاعات ويجتنب المحرمات، ومن الناس من يحقق مرتبة الإحسان فيكون أكثر مراقبة لله عز وجل وإخلاصا واحتسابا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل الطويل: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)). رواه مسلم.
والمرء بحاجة إلى الثبات أمام ما يعترضه من مِحن وكربات، وما يعرض له من فتن الشبهات والشهوات، وسبيل الثبات أمامها جميعًا هو تحقيق كلمة التوحيد.
والمتأمل للذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم لكشف الكرب يجد أنه متضمن لكلمة التوحيد
عن ابن عباس، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم». رواه مسلم.
عن عبد الله بن جعفر، عن أمه أسماء بنت عميس قالت: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولها عند الكرب: " ‌الله ‌ربي ‌لا ‌أشرك ‌به ‌شيئا . رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
قال إبراهيم بن محمد بن سعد، عن أبيه، عن جده، قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم، أو أحدثكم، بشيء إذا نزل برجل منكم كرب أو بلاء من بلاء الدنيا دعا به فرج عنه؟» فقيل له: بلى، قال: " دعاء ذي النون: ‌لا ‌إله ‌إلا ‌أنت ‌سبحانك إني كنت من الظالمين". رواه النسائي في السنن الكبرى وصححه الألباني.
وتذكر كلمة التوحيد عند الكرب مما يذكر المرء أنه عبد لله عز وجل، وأن عليه الصبر لحكمه، واتباع هديه فيما أمره به، كما يطهر القلب من الشرك الأصغر خاصة التعلق بغير الله عز وجل؛ فيصدق المرء في توكله على ربه، لعل الله يكشف عنه كربه.

وأما فتن الشبهات والشهوات فمرجعها في الغالب إلى اتباع الهوى، كما قال تعالى: {وإن كثيرًا ليضلون بأهوائهم بغير علم}، أي بسبب أهوائهم، واتباع الهوى ينافي كمال تحقيق التوحيد فهو من الشرك الخفي؛ لأنه يقدم هواه على أمر الله وأمر رسوله، والعياذ بالله.
فمن قال بلسانه صادقًا محتسبًا (لا إله إلا الله)، فهو يقر أن الله وحده هو المستحق للعبادة، وإذا أقر بهذا لم يكن له أن يتبع هواه فيأتي بطريقة للعبادة لم يشرعها الله عز وجل، ومخالفة لهدي رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وكذا لم يكن له أن يستزل لفتن المعاصي والشهوات مخالفا أمر الله عز وجل ورسوله باجتنابها.
فعُرف من هذا أن السبيل للثبات أمام الفتن، وأمام الكربات هو تحقيق كلمة التوحيد.
وعُلم كذلك أن ضرورة سؤال الله عز وجل الثبات، لأن الله عز وجل هو الذي يثبت عباده كما جاء في الآية: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت}
روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: " ‌يا ‌مقلب ‌القلوب، ثبت قلبي على دينك ". قال: فقلنا يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: فقال: " نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها ". اهـ، ورُوي نحو هذا الخبر عن عائشة وأم سلمة وأنس بن مالك والنواس بن سمعان رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من هذا الدعاء؛ فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا به.

صفية الشقيفي 17 رمضان 1444هـ/7-04-2023م 01:13 AM

قال الله عز وجل: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)} سورة النحل.

مسألة: دلالة التفريق بين الذين آمنوا والمسلمين؛ فجعل التثبيت للذين آمنوا، والهداية والبشرى للمسلمين.
هل يُراد بالإيمان والإسلام هنا مراتب الدين أو هما بمعنى واحد؟


قال ابن عاشور (ت:1393): "وفِي التَّعْلِيلِ بِحِكْمَةِ التَّثْبِيتِ والهُدى والبُشْرى بَيانٌ لِرُسُوخِ إيمانِ المُؤْمِنِينَ، وسَدادِ آرائِهِمْ في فَهْمِ الكَلامِ السّامِي، وأنَّهُ تَثْبِيتٌ لِقُلُوبِهِمْ بِصِحَّةِ اليَقِينِ، وهُدًى وبُشْرى لَهم.
وفِي تَعَلُّقِ المَوْصُولِ وصِلَتِهِ بِفِعْلِ التَّثْبِيتِ إيماءٌ إلى أنَّ حُصُولِ ذَلِكَ لَهم بِسَبَبِ إيمانِهِمْ؛ فَيُفِيدُ تَعْرِيضًا بِأنَّ غَيْرَ المُؤْمِنِينَ تَقْتَصِرُ مَدارِكُهم عَنْ إدْراكِ ذَلِكَ الحَقِّ فَيَخْتَلِطُ عَلَيْهِمُ الفَهْمُ، ويَزْدادُونَ كُفْرًا، ويَضِلُّونَ، ويَكُونُ نِذارَةً لَهم.
والمُرادُ بِالمُسْلِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا، فَكانَ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يُقالَ: وهُدًى وبُشْرى لَهم، فَعَدَلَ إلى الإظْهارِ؛ لِزِيادَةِ مَدْحِهِمْ بِوَصْفٍ آخَرَ شَرِيفٍ".

صفية الشقيفي 18 رمضان 1444هـ/8-04-2023م 12:28 AM

قال الله عز وجل: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)} (سورة طه)
اللام في (لتشقى) تحتمل معنى التعليل، ومعنى لام العاقبة.
و (تذكرة) مصدر منصوب على الاستثناء المنقطع ويحتمل أن يكون بمعنى: (لكن لتُذكِّر به من يخشى)، ومعنى: (لكن ليتذكر من يخشى)، والتذكر هو العمل بالعلم، والخشية هي الخوف المصحوب بالعلم.

🔷 فعلى معنى التعليل يكون المعنى -والله أعلم-، ما كلَّفناك بأعباء الرسالة لتشقى لكن لتُذكِّر من يخشى؛ فيتذكروا به.
ففيه- والله أعلم- توجيه أن عليه البلاغ لعموم الناس، ولن يتذكر بهذا البلاغ إلا من يخشى، فلا تذهب نفسك على من أعرض حسرات، فلا يكلف نفسه ما لم يكلفه الله به من هداية التوفيق، وإنما عليه هداية الإرشاد والدلالة.

كما قال تعالى: {وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ إِلَّا لِتُبَیِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِی ٱخۡتَلَفُوا۟ فِیهِ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ}
[سُورَةُ النَّحۡلِ: ٦٤]
وقال: {لَعَلَّكَ بَـٰخِعࣱ نَّفۡسَكَ أَلَّا یَكُونُوا۟ مُؤۡمِنِینَ (٣) إِن نَّشَأۡ نُنَزِّلۡ عَلَیۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ ءَایَةࣰ فَظَلَّتۡ أَعۡنَـٰقُهُمۡ لَهَا خَـٰضِعِینَ (٤)}
[سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: ٣-٤]

وقال: {وَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَیۡهِمۡ وَلَا تَكُ فِی ضَیۡقࣲ مِّمَّا یَمۡكُرُونَ}
[سُورَةُ النَّحۡلِ: ١٢٧]
ونستفيد منه أن التكاليف الشرعية التي يكلف الله بها عباده، والابتلاءات التي يُقدّرها عليهم لا توقعهم في حرج ومشقة وعنت، وإنما يحصل الشقاء بمخالفة أمر الله ورسوله في هذا الابتلاء
كما قال تعالى: { وَجَـٰهِدُوا۟ فِی ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَیۡكُمۡ فِی ٱلدِّینِ مِنۡ حَرَجࣲۚ مِّلَّةَ أَبِیكُمۡ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ مِن قَبۡلُ وَفِی هَـٰذَا لِیَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِیدًا عَلَیۡكُمۡ وَتَكُونُوا۟ شُهَدَاۤءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُوا۟ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِیرُ }
[سُورَةُ الحَجِّ: ٧٨]

🔷 وعلى معنى لام العاقبة يكون المعنى:
ما أنزلنا عليك القرآن لتكون عاقبة أمرك شقاء لكن لتذكر به من يخشى فيتذكروا به
وهو بمعنى: {وللآخرة خير لك من الأولى. ولسوف يعطيك ربك فترضى}
ويفيدنا أن من تمسك بهذا القرآن وتذكَّر به لا تكون عاقبة أمره شقاء.
قال ابن جزي الكلبي:
" والمعنى أنه نفى عنه جميع أنواع الشقاء في الدنيا والآخرة، لأنه أنزل عليه القرآن الذي هو سبب السعادة".

وفي قوله تعالى: {إلا تذكرة لمن يخشى}
دلَّ على أنه إنما ينتفع بالقرآن فيتذكر به، من يخشى، والخشية خوف من الله مصحوب بالعلم به؛ علم بصفات جلاله وكماله، وعلم بنعيمه وعذابه، وعلم بعاقبة اتباع أمره، وعاقبة مخالفته في الدنيا والآخرة.
والله أعلم.

صفية الشقيفي 18 رمضان 1444هـ/8-04-2023م 03:36 PM

عبادُ الله المخبتون



الإخبات عمل قلبي ورد في القرآن في ثلاثة مواضع:

قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)} [سورة هود:23]
وقال: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)} [سورة الحج: 34-35]
وقال: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)} [سورة الحج: 54]

وأصل معنى الإخبات في اللغة هو التخشع والتواضع، وهو مأخوذ من الأرض الخبت أي الأرض المنخفضة، ومن صفة هذه الأرض أن تكون صالحة للاستطراق ولغير ذلك من المنافع.
قال الخليل بن أحمد (ت:170 هـ): "الخَبْتُ: ما اتسع من بطون الأرض، وجمعه خُبُوت. والمُخْبِتُ: الخاشع المتضرع، يخبت إلى الله ويخبت قلبه لله" [العين: 4-241]
وتفسير السلف لمعناه يبدو كأن فيه شيئا من التناقض -وليس كذلك-:
قال عبد اللّه بن صالحٍ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {وأخبتوا إلى ربّهم} يقول: "خافوا". رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
قال معمرٌ، عن قتادة: "{وأخبتوا إلى ربّهم} الإخبات: التّخشّع والتّواضع". رواه عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم.
قال ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: "{وأخبتوا إلى ربّهم} قال: اطمأنّوا". رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
قال سُنيد: ثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، "{وأخبتوا إلى ربّهم} قال: اطمأنّوا". رواه ابن جرير.
قال عطية العوفي عن ابن عباس: قوله: {إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات وأخبتوا إلى ربّهم} قال: "الإخبات: الإنابة". رواه ابن جرير.
قال سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {وأخبتوا إلى ربّهم} يقول: "وأنابوا إلى ربّهم". رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

وأقوال السلف متلازمة، لكن فسر بعضهم بالمعنى المطابق مثل تفسير قتادة أنه التخشع والتواضع، وفسره بعضهم بلازم معناه إما بسبب التخشع وهو الخوف وإما بنتيجته وهو الإنابة والطمأنينة.
وبيان هذا في قوله تعالى:
{فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) [سورة الحج: 34-35]
جاء بيان معنى المخبتين في هذه الآيات ببيان أعمالهم، مع اختلاف في التعبير اللغوي لوصف كل عمل:
فأول وصفهم أنهم إذا ذُكر الله وجِلت قلوبهم، والوجل هو استشعار الخوف، وجاء هذا المعنى في صيغة الشرط (إذا) الدال على تكرره كلما حصل فعل الشرط وهو ذكر الله، يحصل جوابه وهو وَجَلُ قلوبهم، لكن هذا الخوف ليس خوف المضطرب القلق وإنما هو الخوف الذي يُترجم إلى عمل ثابت راسخ؛ فجاءت الأوصاف التالية معبرة عن ذلك:
{والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}
التعبير باسم الفاعل عن الصبر وإقامة الصلاة يدل على ملازمتهم لهذا الفعل حتى صار وصفًا لهم، والتعبير بالفعل المضارع عن النفقة مما رزقهم الله يدل على التجدد والاستمرار، و "ما" في و {ومما رزقناهم} تدل على العموم، أي ينفقون من كل ما رزقهم الله.
وكذلك قوله: {والصابرين على ما أصابهم} يدل على العموم، فهم صابرون على كل ما يصيبهم من أمر الله عز وجل، والصبر حبس النفس عن السخط، والسخط موجب للجزع والقلق والاضطراب؛ فإذا صبروا كان هذا أول طريقهم للطمأنينة، وكذلك إذا كانوا ممن يحافظون على إقامة الصلاة والنفقة مما رزقهم الله؛ فإن الله قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)} [المعارج: 19-25]
فإذا كان هذا وصف فعلهم، فهو منبئ عن المعنى القائم بقلوبهم وهو الخشوع والخضوع لله عز وجل، فإذا انقادت قلوبهم لأمر الله عز وجل، ركنت إليه فاطمأنت، لأنها إنما تركن لأمر العليم الحكيم، الشكور الحليم، تعلم أن أمره حكمة وفي الإتيان به عين المصلحة للعبد، وتعلم أن الله لا يضيع عنده أجر المؤمنين.
ولعل تعدية الفعل بحرف الجر (إلى) في قوله تعالى: {وأخبتوا إلى ربهم} ليتضمن معنى التضرع إلى الله والركون إليه، وتعديته بحرف الجر اللام في قوله: {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم} على أصله من الخضوع لأمر الله عز وجل.

ولعل هذا المعنى يبين لنا وجه الجمع بين قوله تعالى:
{ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِیثِ كِتَـٰبࣰا مُّتَشَـٰبِهࣰا مَّثَانِیَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِینَ یَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِینُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَ ٰ⁠لِكَ هُدَى ٱللَّهِ یَهۡدِی بِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ وَمَن یُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ }
[سُورَةُ الزُّمَرِ: ٢٣]
وقوله تعالى: {وَیَهۡدِیۤ إِلَیۡهِ مَنۡ أَنَابَ (٢٧) ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَتَطۡمَىِٕنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَىِٕنُّ ٱلۡقُلُوبُ (٢٨) }
[سُورَةُ الرَّعۡدِ: ٢٧-٢٨]
أنهم لما وجلت قلوبهم من ذكر الله خشعوا وخضعوا لربهم فأنابوا إليه فحصلت لهم الطمأنينة؛ آية سورة الرعد أثبتت الطمأنينة لمن أنابوا، وآية سورة الزمر فيها وصف الذين يخشون ربهم، والخشية وصف أخص من الخوف لأنه خوف مقرون بعلم بالله عز وجل وأمره ونهيه، ومن أثر خشيتهم أنهم يتذكرون بالذكر فينتفعون به ويعملون به.
وباختصار فالخبتُ هي الأرض المنخفضة الواسعة، التي يسهل إنشاء الطرق والبناء عليها، بعكس الأرض الوعرة التي تحتاج لكثير من الإصلاح قبل استعمالها.
وكذلك قلوب عباد الله المخبتين لما خشعت لله عز وجل تواضعت وانقادت لأمره؛ فركنت إلى جنابه واطمأنت.
ويحصل هذا الخشوع مع ذكر الله عز وجل، بالقلب واللسان والعمل؛ فإذا ذُكر الله وجلت قلوبهم تعظيما له وخوفا منه، فتخشع، فتخضع، فتركن لأمره؛ فتنيب إلى ربها وتطمئن.

اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن دعوة لا يستجاب لها.
والله أعلم.

صفية الشقيفي 19 رمضان 1444هـ/9-04-2023م 12:53 AM

قال الله عز وجل: {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)} [سورة الأحزاب]
اختُلِف في إعراب الذين في قوله تعالى: (الذين يبلغون رسالاتِ الله):
القول الأول: صفة للذين خلوا من قبل، في الآية السابقة.
وعلى القول بأن المراد بهم الأنبياء، ففي هذا إيماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم، كما قال تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}
القول الثاني: منصوب على المدح، أمدح الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله، وفي مدحهم حث على الاتصاف بوصفهم.
القول الثالث: مرفوع على الابتداء، وإذا فخبره محذوف، ولعل ختام الآية: {وكفى بالله حسيبا} يدل عليه.
و{حسيبا} تحتمل معنيين محاسبا، ومحسِبا أي كافيا لهم.
قال أبو السعود: "﴿وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ كافِيًا لِلْمَخاوِفِ فَيَنْبَغِي أنْ لا يُخْشى غَيْرُهُ، أوْ مُحاسِبًا عَلى الصَّغِيرَةِ والكَبِيرَةِ، فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ حَقُّ الخَشْيَةِ مِنهُ تَعالى".
والمقصود أنه على القول برفع (الذين) على الابتداء يحتمل -والله أعلم- أن يكون المقصود:
الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله يكفيهم ربهم مخاوفَهم ولا يضيع أجرهم.
والله أعلم.

صفية الشقيفي 19 رمضان 1444هـ/9-04-2023م 09:17 PM

قال الله عز وجل: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} [سورة فاطر]
جاءت (رحمة) نكرة في سياق الشرط فأفادت العموم؛ فمهما يكن من رحمة يفتحها الله على خلقه فلا يقدر أحد على منعها عنهم.
وقال: {وما يمسك فلا مرسل له}
ذكر المتعلق في الفتح وهو الرحمة وحذفه في المسك؛ فلم يقل ماذا يمسك؟
أكثر المفسرين على أن المتعلق المحذوف هو الرحمة، وحُذِف لأنه ذُكر في الجملة قبلها.
ويظهر -والله أعلم- أن الحذف هنا للعموم أيضا، عموم ما يمسكه الله عن عباده من الخير والشر، وقال بالعموم أبو حيان وتبعه أبو السعود.
ولا يخلو حال العبد في كل وقت من النعيم برحمة الله عليه في نعم لا تعد ولا تحصى، وكذا يمسك عنه شرورا كثيرة مما يعلمه العبد وما لا يعلم.
لهذا جاء ختام الآية: (وهو العزيز الحكيم)
فاسم الله العزيز يدل على كمال قدرته وقهره وامتناع كل نقص وعجز عنه، واسم الله الحكيم يدل على أن أفعاله كلها من منع وعطاء حكمة محكمة، والحكمة وضع الشيء في موضعه.

فلئن أمسك الله عن عبده أمرا يطلبه فقد أعطاه الكثير الكثير، وفي إمساكه حكمة لئن تبصَّر بها العبد لَعلِم أن ما يمسكه الله عنه -مما يحسبه العبد خيرا له- هو رحمة به، وإذ لم يهتد العبد للحكمة من المنع، فعليه أن يركن لإيمانه بأن الله هو العزيز الحكيم، ويستسلم لأمره.
ولئن أصابه الله بأمرٍ يراه العبد شرا له، يؤلمه ويزعجه، فليعلم أنه بأمر الله، وحده كان يمنع هذا الشر عنه ووحده أرسله، فينبغي أن يتضرع إلى الله عز وجل مخلصا لينجيه منه.
كما قال تعالى: {وَمَا لِیَ لَاۤ أَعۡبُدُ ٱلَّذِی فَطَرَنِی وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ (٢٢) ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِۦۤ ءَالِهَةً إِن یُرِدۡنِ ٱلرَّحۡمَـٰنُ بِضُرࣲّ لَّا تُغۡنِ عَنِّی شَفَـٰعَتُهُمۡ شَیۡـࣰٔا وَلَا یُنقِذُونِ (٢٣) إِنِّیۤ إِذࣰا لَّفِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینٍ (٢٤)}
[سُورَةُ يسٓ: ٢٢-٢٤]
وقال تعالى:
{ وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلۡ أَفَرَءَیۡتُم مَّا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنۡ أَرَادَنِیَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلۡ هُنَّ كَـٰشِفَـٰتُ ضُرِّهِۦۤ أَوۡ أَرَادَنِی بِرَحۡمَةٍ هَلۡ هُنَّ مُمۡسِكَـٰتُ رَحۡمَتِهِۦۚ قُلۡ حَسۡبِیَ ٱللَّهُۖ عَلَیۡهِ یَتَوَكَّلُ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ }
[سُورَةُ الزُّمَرِ: ٣٨]

فإذا استسلم العبد لحكمة الله في منعه، وحكمته فيما أصابه بما يكره، علم أن كل ما أصابه خير له، وإنما يأتي الشر في حق العبد من سخطه وجزعه ومخالفته لأمر الله عز وجل.
وبعض الناس لا يرون وقت البلاء إلا ما هم فيه من كرب شديد، لكن إذا استحضروا ما هم فيه من النعم والرحمات التي فتحها الله عليهم، والشرور التي أمسكها عنهم، هان عليهم ما يجدون من الضر والأذى، وسارعوا بحمد الله عز وجل وشكره.
وبهذا نفهم مناسبة هذه الآية، للآية قبلها من بيان استحقاق الله عز وجل للحمد كله، والآية بعدها وفيها الأمر بذكر نعمة الله عز وجل وتوحيد الله عز وجل.
قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)}
والله أعلم.
اللهم افتح لنا أبواب فضلك ورحمتك وبركاتك، ربنا هب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

صفية الشقيفي 21 رمضان 1444هـ/11-04-2023م 12:05 AM

قال الله عز وجل: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) }

قال ابن القيم: " ثُمَّ أخْبَرَ - سُبْحانَهُ - أنَّهُ أنْزَلَ في قَلْبِ رَسُولِهِ وأوْلِيائِهِ مِنَ السَّكِينَةِ ما هو مُقابِلٌ لِما في قُلُوبِ أعْدائِهِ مِن حَمِيَّةِ الجاهِلِيَّةِ، فَكانَتِ السَّكِينَةُ حَظَّ رَسُولِهِ وحِزْبِهِ، وحَمِيَّةُ الجاهِلِيَّةِ حَظَّ المُشْرِكِينَ وجُنْدِهِمْ، ثُمَّ ألْزَمَ عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ كَلِمَةَ التَّقْوى، وهي جِنْسٌ يَعُمُّ كُلَّ كَلِمَةٍ يُتَّقى اللَّهُ بِها، وأعْلى نَوْعِها كَلِمَةُ الإخْلاصِ، وقَدْ فُسِّرَتْ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وهي الكَلِمَةُ الَّتِي أبَتْ قُرَيْشٌ أنْ تَلْتَزِمَها، فَألْزَمَها اللَّهُ أوْلِياءَهُ وحِزْبَهُ، وإنَّما حَرَمَها أعْداءَهُ صِيانَةً لَها عَنْ غَيْرِ كُفْئِها، وألْزَمَها مَن هو أحَقُّ بِها وأهْلُها، فَوَضَعَها في مَوْضِعَها ولَمْ يُضَيِّعْها بِوَضْعِها في غَيْرِ أهْلِها، وهو العَلِيمُ بِمَحالِّ تَخْصِيصِهِ ومَواضِعِهِ". اهـ

قال السعدي: "يقول تعالى: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ حيث أنفوا من كتابة ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ وأنفوا من دخول رسول الله ﷺ والمؤمنين إليهم في تلك السنة، لئلا يقول الناس: ﴿دخلوا مكة قاهرين لقريش﴾ وهذه الأمور ونحوها من أمور الجاهلية، لم تزل في قلوبهم حتى أوجبت لهم ما أوجبت من كثير من المعاصي، ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ فلم يحملهم الغضب على مقابلة المشركين بما قابلوهم به، بل صبروا لحكم الله، والتزموا الشروط التي فيها تعظيم حرمات الله ولو كانت ما كانت، ولم يبالوا بقول القائلين، ولا لوم اللائمين.
﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ وهي ﴿لا إله إلا الله﴾ وحقوقها، ألزمهم القيام بها، فالتزموها وقاموا بها، ﴿وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا﴾ من غيرهم ﴿و﴾ كانوا ﴿أهلها﴾ الذين استأهلوها لما يعلم الله عندهم وفي قلوبهم من الخير، ولهذا قال: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا". اهـ

صفية الشقيفي 21 رمضان 1444هـ/11-04-2023م 05:31 PM

قال الله عز وجل في سورة العصر:
{وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}
فجعل شرط التواصي أن يكون بالحق، فإذا كان بغير الحق فهو من البلاء، وفي القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يفرق به المرء بين الحق والباطل.

وها هنا رسالة في تفسير سورة العصر:
http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=45944

صفية الشقيفي 22 رمضان 1444هـ/12-04-2023م 03:49 PM

قال الله عز وجل: (واذكر اسم ربك وتبتّل إليه تبتيلا. رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا)

قال ابن القيم :(وَمَصْدَرُ بَتَّلَ تَبَتُّلًا كالتَّعَلُّمِ والتَّفَهُّمِ، ولَكِنْ جاءَ عَلى التَّفْعِيلِ - مَصْدَرُ تَفَعَّلَ - لِسِرٍّ لِطَيْفٍ.
فَإنَّ في هَذا الفِعْلِ إيذانًا بِالتَّدْرِيجِ والتَّكَلُّفِ والتَّعَمُّلِ والتَّكَثُّرِ والمُبالَغَةِ.
فَأتى بِالفِعْلِ الدّالِّ عَلى أحَدِهِما، وبِالمَصْدَرِ الدّالِّ عَلى الآخَرِ. فَكَأنَّهُ قِيلَ: بَتِّلْ نَفْسَكَ إلى اللَّهِ تَبْتِيلًا، وتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبَتُّلًا. فَفُهِمَ المَعْنَيانِ مِنَ الفِعْلِ ومَصْدَرِهِ. وهَذا كَثِيرٌ في القُرْآنِ. وهو مِن أحْسَنِ الِاخْتِصارِ والإيجازِ). اهـ


قال السعدي: (﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ شامل لأنواع الذكر كلها ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ أي: انقطع إلى الله تعالى، فإن الانقطاع إلى الله والإنابة إليه، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق، والاتصاف بمحبة الله، وكل ما يقرب إليه، ويدني من رضاه). اهـ

صفية الشقيفي 23 رمضان 1444هـ/13-04-2023م 04:34 PM

قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيامُ كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون. أيامًا معدودات}
كلمة "أيامًا" منصوبة على الظرف، ومتعلقة بالصيام.
والمعنى كما قاله الزجاج: "كُتب عليكم أن تصوموا أيامًا معدودات"

وفي ختام آيات الصيام قال الله عز وجل: {يُريدُ الله بكم اليسرَ ولا يُريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولِتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}
وهذا المعنى وإن كان نزل في أحكام الصيام لكن ينبغي للعبد أن يستشعره في كل التكاليف التي كلفه الله بها والابتلاءات التي قدّرها عليه، ومن ذلك:
1. بيّن الله عز وجل لنا أن فرض الصيام في أيام معدودات، بيانًا لتخفيفه على عباده خاصة إذا شقّ عليهم الصوم، فإذا استشعر العبد أنها أيام معدودة وتنقضي، هان عليه الصبر على مشقة هذه العبادة، وهكذا كل ابتلاء يبتلي الله به عباده له مدة محددة، وينقضي، فعلى العبد الصبر على مراد الله عز وجل فيه، وتحري هدى الله عز وجل في هذا الابتلاء والعمل به.
2. اليقين بأن الله عز وجل يريد بعباده اليسر، ولا يريد بهم العسر، وشرع لهم من الرخص ما يخفف به عليهم ويرفع عنهم الحرج، كما رخص الفطر للمسافر والمريض.
وفعل العبادة على وجهها لغير المعذور هو في ذاته اليسر على العباد، والعسر في مخالفة أمر الله بالفطر في رمضان، أو العمل بالرخصة لغير ذي عذر حقيقي، كالذي يدعي العجز عن الصيام لمرضه، ومرضه يسير لا يحتاج معه إلى الفطر.
ووجه كون العسر في مخالفة أمر الله عز وجل أن العبد يأثم بذلك، فيستحق العقاب في الدنيا والآخرة.
ومن ذلك أيضًا أنه يفوته حظ من اتبعوا هدى الله عز وجل من الأجر العظيم في الدنيا والآخرة.
ومن الأجر في الدنيا حصول المقصود من التكليف، ولكل تكليف كلفنا الله عز وجل به، وكل ابتلاء قدّره علينا مقصد، في تحقيقه عظيم اليسر على عباده.
ومن مقاصد الصيام تحقيق التقوى، فإذا تدرب العبد في خلال أيام رمضان المعدودة على التزام أمر الله عز وجل واجتناب نهيه، كان في ذلك عونٌ له على تحقيق التقوى في سائر العام.
ومن مقاصد الرخص التي رخصها الله لنا أيضًا تحقيق التقوى، فإن العبد يتحرى أن يقوم بالرخصة في موضعها؛ فلا يُعرِضُ عنها فيقع في العنت وبالتالي يقع في الحرام، ولا يقوم بها في غير موضعها فيقع في الحرام.
والعبد إذا حقق التقوى فهو موعود من الله عز وجل ببشريات عظيمة في الدنيا والآخرة:
منها أن يكون من المفلحين وهم الفائزون بمطلوبهم الناجون مما يرهبون، كما قال الله تعالى: {واتقوا الله لعلكم تفلحون}
ومنها أنه موعود بنيل البركة والرزق الوفير كما قال تعالى: {ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}
والفوز بمعية الله عز وجل ونصره وتأييده كما قال: {واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين}
ومنها النجاة من استزلال الشيطان له كما قال تعالى: {إنّ الذين اتقوا إذا مسّهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون. وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يُقصرون}
ومنها أن الله وعد المتقين بأن يكون لهم نورا ورحمة ووعدهم بالمغفرة كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم}
ومنها أنه وعد المتقين بأن يكون لهم فرقانًا يفرقون به بين الحق والباطل، وفرقانًا يكون لهم نصرًا وعزة كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم}
ومنها أن الله وعد بتعليم المتقين كما قال تعالى: {واتقوا الله ويُعلمكم الله}
ومنها أنهم موعودون بالنجاة في الآخرة من كل سوء وحزن كما قال تعالى: {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين. ويُنجّي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون}
والأيات والأحاديث التي فيها بيان فضل المتقين وجزائهم في الدنيا والآخرة كثيرة وإنما قصدتُ التمثيل.
وإذا استشعر العبد أنَّ تحريه اتباع هدى الله عز وجل في كل ما كلفه به، وقدره عليه من ابتلاءات أن هذا مما يورثه التقوى، ثم استحضر عظيم فضل المتقين، هان عليه ما يجد من ألم ومشقة، وعلم أن حقيقة اليسر في اتباع الهدى، وحقيقة العسر في مخالفة هدى الله عز وجل، فمن حُرم كل هذا الفضل وقع في المشقة والحزن والأكدار وإن كان غارقًا في ملذات الدنيا.

3. {ولِتُكملوا العدّة ولتكبروا الله على ما هداكم}
أي يريد بكم اليسر لتُكملوا العدة ثم عطف الله عليها: {ولتكبروا الله على ما هداكم}
وهو متعلق أيضًا بقوله: {يريد الله بكم اليسر} أي يريد الله بكم اليسر لتكبروا الله على ما هداكم
والتكبير هو تعظيم الله عز وجل بالقلب، ولهذا أثره على عمل المؤمن، وتعظيمه أيضًا باللسان بقول: (الله أكبر) كما هو في تكبيرات العيد
وهنا قال الله عز وجل: {ولتكبروا الله على ما هداكم} فهذا المعنى من مقاصد تكليف الله عز وجل عباده بالصيام، وتيسيره عليهم
وذكر الشيخ عبد العزيز الداخل - حفظه الله - لحرف الجر "على" في هذا الموضع ثلاثة معانٍ؛ التعليل، والتعدية، وتضمين فعل التكبير معنى الحمد، وذكر لـ "ما" في (ما هداكم) معنيين؛ المصدرية أي على هدايته، والموصولية أي على الذي هداكم.
وتفصيل هذه المعاني وبيانها كالآتي:
الأول: بمعنى التعليل: أي تكبروه وتعظموه لأجل هدايته لكم، ولأجل الذي هداكم إليه من الطاعات واجتناب المحرمات.
وتعظيم الله عز وجل يورث في العبد مزيدًا من التقوى، ويأخذ بيده لمرتبة أعلى وهي مرتبة الإحسان، ويورث في قلبه عبادات جليلة من الشكر والخضوع لله عز وجل ولأمره وقوة التوكل عليه والاستعانة به والصبر لحكمه وغير ذلك من العبادات الجليلة التي إذا قامت في قلب العبد شعر بالسكينة والثبات مهما اشتد به البلاء.
الثاني: بمعنى التعدية: أي تعظموا هدايته لكم وتعظموا الذي هداكم إليه، فإذا وقر في قلب العبد تعظيم ما هو فيه من الهداية سهل عليه الثبات عليها وشكر نعمة الله عز وجل عليه واستشعر الأمان بأنه على الحق.
الثالث: تضمين الفعل معنى الحمد: أي تكبروه وتحمدوه على ما هداكم؛ فيأتي على هذا المعنى جميع المعاني السابقة.

وهكذا مع كل تكليف وابتلاء يقدره الله على العبد، إذا تحرى العبد هدى الله عز وجل، حتى يأذن الله له بالفرج، فإنه يجد في قلبه فرحة أكبر من فرحة انقضاء الابتلاء، وهي فرحة منة الله عز وجل عليه بالثبات والهداية خلال أيام هذا الابتلاء، فيستشعر تعظيم الله عز وجل على ما هداه ويمتلئ قلبه حمدًا لربه، وسكينة وأمانا.
وفي هذا المعنى يقول ابن القيم في منظومته الميمية: "وصُم يومك الأدنى لعلك في غدٍ ... تفوزُ بعيد الفطرِ والناس صومُ"
ولعل فقه هذه المعاني يبين لنا فائدة ختام الآية بقوله تعالى: {لعلكم تشكرون}

فإذا امتنّ الله على عباده باستشعار هذه المعاني -ولو لمرة واحدة-، فعليه تذكرها مع كل ابتلاء يُقدره الله عليه، ليعلم أن عاقبة أمره خيرًا ما دام متبعا لهدى الله عز وجل، مهما ضاقت واستحكمت حلقاتها، فلكل ابتلاء مدة وينقضي، وله مقصد إذا تحقق كان الفرح بتحققه أعظم من الفرح بانجلاء الابتلاء، ولعلكم تشكرون.
فكيف ونحنُ نصوم رمضان كل عام، وفيه تدريب على استشعار هذه المعاني، كما جاء في الحديث: "للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرِح وإذا لقي ربه فرِح بصومه"

وفي هذا المقطع بيّن الشيخ عبد العزيز الداخل المعاني البيانية لقوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم} ودلالاتها:
https://www.youtube.com/watch?v=cIGf3D9eWPA

والحمد لله رب العالمين.

صفية الشقيفي 26 رمضان 1444هـ/16-04-2023م 12:51 AM

قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة المائدة: 35]
جاء في هذه الآية أمر المؤمنين بتقوى الله عز وجل، والتقوى هي فعل الطاعات واجتناب المحرمات، ثم عطف على الأمر بالتقوى لوازم تحقيق التقوى، وبيانها فيما يلي:
قال الله عز وجل: {وابتغوا إليه الوسيلة}
والوسيلة هي كل ما يُتقرب به إلى الله عز وجل.
قال معمر عن الحسن في قوله تعالى: {وابتغوا إليه الوسيلة}، قال: القربة. رواه عبد الرزاق وابن جرير.
وروى نحوه ابن جرير عن مجاهد وعطاء والسدي وأبي وائل وعبد الله بن كثير.
وروى ابن جرير عن قتادة قوله: {وابتغوا إليه الوسيلة} أي: تقرّبوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه.
فمعنى قوله تعالى: {وابتغوا إليه الوسيلة}: اطلبوا بعملكم الطاعات واجتنابكم المحرمات التقرب إلى الله عز وجل.
وأصل ترتيب الجملة: وابتغوا الوسيلة إليه، وتقديم الجار والمجرور {إليه} في الآية أفاد الحصر، وهذا يفيد معنى الإخلاص لله عز وجل وحده.
وقال يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن ابن زيد قوله: {وابتغوا إليه الوسيلة} قال: المحبّة، تحبّبوا إلى اللّه. وقرأ: {أولئك الّذين يدعون يبتغون إلى ربّهم الوسيلة}". رواه ابن جرير.
وتفسير ابن زيد من لوازم التقرب إلى الله عز وجل، وقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه أنه يحب المتقين.
جاءت في ثلاثة مواضع من كتاب الله عز وجل مؤكدة: {إن الله يحب المتقين}
وفي الحديث القدسي أن الله عز وجل قال: "من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحبتته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره التي يبصر بها ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته". رواه البخاري.
والمقصود أن من لوازم تحقيق التقوى أن يبتغي العبد بعمله التقرب إلى الله عز وجل، وإذا كانت مرتبة التقوى هي في فعل الواجبات واجتناب المحرمات؛ فإن الوصول إليها وسيلة لبلوغ درجة الإحسان والمسارعة بالخيرات، فينتقل من مرتبة فعل أحب الأعمال التي يتقرب بها إلى الله (الفرائض)، إلى مرتبة فعل الأعمال التي ينال بها محبة الله عز وجل وولايته (النوافل).

ثم عطف على الأمر بابتغاء الوسيلة إليه قوله تعالى: {وجاهدوا في سبيله}
والمجاهدة في سبيل الله عز وجل من لوازم تحقيق ما سبق من فعل الطاعات واجتناب المحرمات وإخلاص النية لله عز وجل، واستحضار نية التقرب إلى الله عز وجل بالعمل الصالح؛ فلابد وأن يعترض السائر إلى الله عوائق، ولابد أن يقطع علائق تحول بينه وبين التقرب إلى الله عز وجل.
وللمؤمن أعداء يعترضون طريقه أولهم: نفسه التي بين جنبيه، ثم الشيطان والدنيا والهوى، وشياطين الإنس الذين يصدونه عن سبيل الله عز وجل، ومنهم الكفار الذين لا يكفون عن المكر والكيد لصد الناس عن دين الله عز وجل بكل سبيل وحيلة وليس بالسلاح فقط، والله المستعان.
والمقصود أن من لوازم تحقيق التقوى:
1. ابتغاء التقرب إلى الله عز وجل بالعمل الصالح وبالانتهاء عن المحرمات.
2. الإخلاص لله عز وجل.
3. مجاهدة كل العوائق التي تصد المؤمن عن سبيل الله عز وجل، والعلائق التي تحول بينه وبين الله عز وجل.


فمن فعل هذا فهو موعود بالفلاح، كما جاء في ختام الآية: {لعلكم تُفلحون}؛ والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، وليس للمؤمن مطلوب أعظم من تحقيق الثبات على الدين في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة ولذة النظر إلى وجه الله الكريم، وليس له مرهوب يرجو النجاة منه أعظم من الزيغ عن الهدى في الدنيا والنار في الآخرة.

ربنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهاب.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.



صفية الشقيفي 26 رمضان 1444هـ/16-04-2023م 01:20 AM

بعض حجج القرآن في سورة الحجر


في سورة الحجر بيان لكثير من حجج القرآن على المشركين المكذبين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن، ومحاولة معارضته وصد الناس عنه باتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون كما قالوا:
{وقالوا يا أيها الذي نُزل عليه الذكر إنّك لمجنون}
واشتراط نزول آيات ليؤمنوا وما كانوا ليؤمنوا !
ورد الله عز وجل عليهم على ما اشترطوه من نزول الملائكة للتصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأكدّ أنه وحده المتكفل بحفظ القرآن، فقال: {إنَّا نحنُ نزَّلنا الذَِكرَ وإنّا له لحافظون}
ثمّ بين لهم أن سبب تكذيبهم في نفوسهم لا في ضعف حجة القرآن، ولا لجنون النبي صلى الله عليه وسلم كما زعموا؛ بل الحقيقة أنه لو جاءتهم الآيات لكذبوا بها، كما قال: {ولو فتحنا عليهم بابًا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سُكرت أبصارنا بل نحن قومٌ مسحورون}
ثم جاءت الآيات بعد ذلك لتبين لهم عجزهم من كل وجه عن تحصيل النفع لهم ولذويهم، وعجزهم عن دفع الضر عن أنفسهم، مع كمال قدرة الله عز وجل وعلمه وحكمته، فحقيق بهم أن يؤمنوا بالله عز وجل ويخضعوا لأمره، ومن هذا:
1. أن الله عز وجل هو الذي خلق السماء التي تعلوهم، وزينها بالنجوم التي يهتدون بها في ظلمة الليل، كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)}
وهو سبحانه من يحفظ هذه السماء من كل شيطان رجيم، ومن الشياطين من يسترق السمع ليعلم بأمر الله عز وجل وبوحيه، كما قال سبحانه في سورة الجن، حكاية عنهم: {وأنَّا لمسنا السماء فوجدناها مُلئت حرسًا شديدًا وشهبًا. وأنّا كنا نقعدُ منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابًا رصدًا}
ومع هذا فوحده رب العالمين من يأذن لهذه الشهب؛ فإما أن تدرك الشيطان فتهلكه قبل أن يلقي بما سمع إلى أوليائه من الإنس،؛ مثل الكهنة والسحرة، وإما أن لا يُدركه الشهاب، فيلقي بما سمع إليهم، فتنة لعباده، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: " إذا قضى اللّه الأمر في السّماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كالسّلسلة على صفوانٍ فإذا فزّع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربّكم، قالوا للّذي قال: الحقّ، وهو العليّ الكبير، فيسمعها مسترقو السّمع، ومسترقو السّمع هكذا واحدٌ فوق آخر فربّما أدرك الشّهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه، وربّما لم يدركه حتّى يرمي بها إلى الّذي يليه، إلى الّذي هو أسفل منه، حتّى يلقوها إلى الأرض فتلقى على فم السّاحر، فيكذب معها مائة كذبةٍ، فيصدّق فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا، يكون كذا وكذا، فوجدناه حقًّا؟ للكلمة الّتي سمعت من السّماء ". رواه البخاري.
كل هذا بأمر الله عز وجل، ولا حيلة لهم في استراق السمع إلا بإذنه، فكيف يصدقون كهنتهم، ويُكذبون الله عز وجل ورسله !


2. هذه الأرض التي يسيرون عليها،
وثبتها الله عز وجل بالرواسي أي الجبال، وأخرج لهم من نباتها بحكمة وميزان كما قال الله عز وجل: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)}
ووصف الشيء بموزون يفيد أنه مُقدّر بقدر من عند الله عز وجل، والخلق عاجزون عن التحكم فيه بزيادة أو نقصان، ولا يمكنهم ادّعاء أنهم الذين خلقوا الأرض ممددة أو أنهم من ثبتها بالرواسي!

3. قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)}
فيه احتجاج على المشركين أن الله عز وجل هو الذي يسر سبل العيش على الأرض لهم، ولمن تحت أيديهم من أولادهم وعبيدهم والأنعام والحيوانات التي يملكونها؛ فحقيقة الأمر أنهم ليسوا هم الرازقين بل وحده الله عز وجل يرزقهم، فبأي شيء يكفرون به وبرسوله!


4. قال الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)}
الخزائن هي التي يحفظ فيها نفائس الأموال، لتكون بعيدة عمن ينالها من اللصوص وغيرهم.
والتعبير عن ملك الله عز وجل هنا بالخزائن يفيد عجز الخلق عن الوصول لشيء من ملك الله عز وجل إلا أن يأتيهم الله به، والله عز وجل ينزله بقدر معلوم يفيد سعة علمه وحكمته.


5. قال الله عز وجل: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)}
جاء في تفسير: {وما أنتم له بخازنين} معنيان:
الأول: لا تقدرون على منع نزول الماء من السماء، والثاني: لا تقدرون على تخزينه في الأرض لينتفع به العباد.
وفي هذا بيان لعجزهم عن تحصيل الماء وعن حفظه.

6. قال الله عز وجل: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)}
في هذه الآيات بيان أن الله عز وجل هو الذي بيده الحياة والموت، وهم لا يملكون أن يعيشوا لحظة واحدة بعد أجلهم الذي كتبه الله لهم، ثم في النهاية يُحشرون إلى ربهم فيحاسبهم على ما قدّموا.

فإذا كان هذا هو حقيقة أمرهم، فكيف يظنون أن بإمكانهم معارضة القرآن، والصد عنه !
وحجج القرآن من أقوى الحجج التي يمكن أن يستعملها الداعي إلى الله عز وجل في إقامة الحجة على خصمه، فالقرآن هو كلام الله الحكيم العليم.

صفية الشقيفي 26 رمضان 1444هـ/16-04-2023م 04:21 PM

قال الله عز وجل: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)} [سُورَةُ الحَجِّ: 75-76]
في هذه الآية، تأخر المعطوف (الناس)؛ فلم يقل الله عز وجل: (الله يصطفي من الملائكة ومن الناس رسلا)
وذلك -والله أعلم- ليعم المعنى المصطفين من الرسل وأتباعهم من المؤمنين؛ فيحتمل تقدير المعنى بأن الله يصطفي من الملائكة رسلا، ويصطفي من الناس رسلا، وأتباع الرسل، والله أعلم.
وفي ختام الآية تأكيد على أن الله سميع بصير ثم بيان إحاطة علمه بخلقه، وأن إليه ترجع الأمور:
فهو عليم بتكذيب المشركين، يحصي أعمالهم، وإليه يرجعون فيحاسبهم، وهو عليم بعباده المؤمنين، رؤوف بهم، لا يضيع أجرهم.

وحمل معنى اصطفاء الناس على العموم (الرسل وأتباعهم) أنسب -والله أعلم- لمعنى الآيات التاليات، ففيها أمر للمؤمنين بالتزام أمر الله عز وجل والمجاهدة في سبيله، وعلل ذلك بقوله تعالى: {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج؛ ومن معاني الاجتباء الاصطفاء.
قال الله عز وجل:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)}[سُورَةُ الحَجِّ: 77-78]

وسبحان الله
جاءت السورة التالية، سورة المؤمنون، وأولها:
{قد أفلح المؤمنون}
اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.

صفية الشقيفي 28 رمضان 1444هـ/18-04-2023م 12:56 PM

قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)}[سُورَةُ الأحزاب: 41-44]

- صلاة الله عز وجل على عباده رحمته بهم، والثناء عليهم، وصلاة الملائكة بمعنى الدعاء للمؤمنين والاستغفار لهم.
- قال ابن كثير: " وَقَوْلُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ﴾ : هَذَا تَهْيِيجٌ إِلَى الذِّكْرِ، أَيْ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَذْكُرُكُمْ فَاذْكُرُوهُ أَنْتُمْ"
وقال:"وَقَوْلُهُ: ﴿لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ أَيْ: بِسَبَبِ رَحْمَتِهِ بِكُمْ وَثَنَائِهِ عَلَيْكُمْ، وَدُعَاءِ مَلَائِكَتِهِ لَكُمْ، يُخْرِجُكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ إِلَى نُورِ الْهُدَى وَالْيَقِينِ. ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا: فَإِنَّهُ هَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي جَهِلَهُ غَيْرُهُمْ، وبَصّرهم الطَّرِيقَ الَّذِي ضَلَّ عَنْهُ وَحَادَ عَنْهُ مِنْ سِوَاهُمْ مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى الْكَفْرِ أَوِ الْبِدْعَةِ وَأَشْيَاعِهِمْ مِنَ الطَّغَامِ. وَأَمَّا رَحْمَتُهُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ: فَآمَنَهُمْ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَأَمَرَ مَلَائِكَتَهُ يَتَلَقَّوْنَهُمْ بِالْبِشَارَةِ بِالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَحَبَّتِهِ لَهُمْ وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ". اهـ
- عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ يقول:"لا يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدًّا معلوما، ثم عذر أهلها في حال عذر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدًّا ينتهي إليه ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، قال ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ بالليل والنهار في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال. وقال: ﴿وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا﴾ فإذا فعلتم ذلك؛ صلى عليكم هو وملائكته، قال الله عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ﴾" . رواه ابن جرير.

اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شاء الله من شيء بعد.

صفية الشقيفي 5 ذو الحجة 1444هـ/23-06-2023م 01:28 AM

عبادُ الله المُخلَصون

جاء وصف (المُخلصين) في عدة مواضع من القرآن؛ مع اختلاف صيغتها بالتعريف والتنكير، والإفراد والجمع.
وورد في قراءة (المُخلصين) -المعرّفة بالألف واللام- في جميع القرآن، و (مُخلصا) في سورة مريم قراءتان صحيحتان:
- فقرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح اللام (المُخلَصين) في جميع القرآن، و(مخلَصا) بفتح اللام في سورة مريم.
- وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامربكسر اللام (المخلِصين) في جميع القرآن و (مُخلِصا) بكسر اللام في سورة مريم.
- وقرأ نافع (المُخلَصين) بفتح اللام في جميع القرآن، و(مُخلِصا) بكسر اللام في سورة مريم.

وأما ما جاء مقترنا بكلمة (الدين) فقُرئ بكسر اللام في جميع القرآن.
مثل قول الله تعالى: { فَٱدۡعُوا۟ ٱللَّهَ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ }
[سُورَةُ غَافِرٍ: ١٤]

وقراءة (المخلِصين) بكسر اللام، من أخلص يُخلص إخلاصا، وهو اسم فاعل يدل على تحقيقهم الإخلاص لله عز وجل وحده.
وقراءة (المخلَصين) بفتح اللام، من أخلص أيضا، لكنه اسم مفعول ومعناه: أن الله عز وجل أخلصهم؛ فأخلصهم لنفسه كما قال الله عز وجل لموسى عليه السلام: {واصطنعتك لنفسي}
ومن معانيها أيضا أن الله عز وجل اختصهم بفضله ومن هذا فضل الله عز وجل على رسله بالنبوة والرسالة، وفضل الله على عموم عباده بالإيمان والهدى والتقوى.

ومن معانيها أن الله عز وجل ينجيهم من الكربات.
ولعل الجمع بين القراءتين يفيد أن من حقق الإخلاص لله عز وجل وحده بالعبادة ولم يشرك به شيئا؛ فهو موعود بأن يُخلّصه الله عز وجل من كربات الدنيا والآخرة، ويصطفيه لنفسه وهذا هو الفضل العظيم.
وبتأمل المواضع التي وردت فيها هذه المفردة، نجد دلالتها على هذه المعاني، والله أعلم.
- فجاءت في موضعين في وصف يوسف وموسى عليهما السلام:
قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [سورة يوسف: 24]
وفي ختام الآية بوصف يوسف -عليه السلام- بأنه من المُخلصين تعليل لصرف السوء والفحشاء عنه.
قال الله عز وجل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [سورة مريم: 51]
والمتأمل لسيرتهما - عليهما السلام- يرى كربات كثيرة، نجاهما الله منها، فيما كان يظن أعداؤهم أنهم كادوا يتمكنون من إهلاكهم أو إبعادهم.
- وورد وصف المُخلصين أيضًا في النجاة من غواية الشيطان، إذ توعد بغواية بني آدم، ثم استثنى عباد الله المخلصين!
قال الله عز وجل: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)}[سورة الحجر: 39-40]
قال الله عز وجل:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [سورة ص: 82-83]


- وورد وصف المُخلصين في خمسة مواضع من سورة الصافات:
قال الله عز وجل: {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ (36) بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ (42)}[سورة الصافات: 34-42]
ففي هذه الآيات استثناء منقطع.
فجاء وصف المجرمين وعملهم وما ينالهم من العذاب ثم قال تعالى: {إلا عباد الله المخلصين}
و(إلا) هنا بمعنى (لكن) أي ولكن عباد الله المخلصين لهم رزق معلوم، ثم جاءت الآيات بعدها بوصف ما وعدهم الله عز وجل من النعيم.
وفي هذا الاستثناء بيان نجاتهم من العذاب الأليم.

وقال الله عز وجل:{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ (72) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)} [سورة الصافات: 62-74]
في هذه الآيات استثناء لعباد الله المخلصين من (المنذَرين) الذين حلَّ بهم العذاب لعصيانهم لرسلهم، وتدل أيضًا على نجاتهم من عاقبة المنذَرين بعذاب الآخرة الموصوف في الآيات قبلها، وعاقبتهم بالعذاب في الدنيا.

وقال الله عز وجل:{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128} [سورة الصافات: 123-128]
ومعنى الآية أن الذين كذبوا نبي الله إلياس محضرون للعذاب يوم القيامة، لكن عباد الله المُخلصين ينجيهم الله عز وجل فلا يعذبهم.

وقال الله عز وجل:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنْ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)} [سورة الصافات: 158-170]
أما الموضع الأول فهو بالمعنى السابق؛ أن عباد الله المخلصين ليسوا بمحضرين للعذاب يوم القيامة.
وأما الموضع الثاني فهو حكاية عن قول المشركين؛ أنهم زعموا لو جاءهم ما جاء الأمم السابقة من الذكر ونزل عليهم مثل ما نزل عليهم من كتب الله عز وجل لكانوا من عباد الله المخلِصين الموحدين له العبادة، ولكانوا ممن أخلصهم الله عز وجل له، لكنهم كذبة في زعمهم هذا لأن الله عز وجل أرسل إليهم خير الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليهم أفضل الكتب (القرآن) ومع هذا كفروا به!
وفي هذا إيماء لنا أن من أراد أن يكون من عبادِ الله المُخلِصين المُخلَصين فعليه باتباع ما أنزله الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة.

فتلخص لنا مما سبق بيانه أن من أخلص العبادة لله عز وجل فهو موعودٌ أن يصطفيه الله عز وجل لنفسه، وأن ينجيه من السوء والفحشاء وغواية الشيطان ومن كربات الدنيا والآخرة.
والمسلم الموحد الذي أتى بأصل التوحيد، مُخلص لله عز وجل لا يشرك به في عبادته شيئا ولا يرتكب ناقضا من نواقض الإسلام، قد يقدح في كمال إخلاصه أمور منها:
الشرك الأصغر: وهو ما لم يكن فيه صرف العبادة لغير الله عز وجل، لكن كان وسيلة للشرك الأكبر وسُمي في النصوص شركًا، وهذا النوع من الشرك لا يخرج من الملة لكنه يقدح في كمال الإخلاص.
ومن أمثلته التعلق بغير الله عز وجل؛ حتى يترك فعل الواجبات ويرتكب المحرمات لأجل ما تعلق به، أو يتعلق بالأسباب يرجو نفعها مع إيمانه بأن النفع والضر لله عز وجل. ومن أمثلته أيضا تحسين العمل ليرائي به الناس وإن كان قد أتى بأصله لله عز وجل.
وفي الحديث عن معقل بن يسار قال: انطلقت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: "يا أبا بكر! للشرك فيكم أخفى من دبيب النمل". فقال أبو بكر: وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلها آخر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، للشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره؟ ". قال: "قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم". رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.
البدعة غير المكفرة:
والمبتدع ليس بمخلص مهما ادّعى أنه مخلص لله في عبادته - التي أتى بها على خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم- لأنه ما ابتدع إلا اتباعا لهواه، ولو أخلص لله عز وجل لما خالف أمره في قوله سبحانه: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}[سورة آل عمران: 31]
والخطاب بـ (قل) للنبي صلى الله عليه وسلم.
أي: إن كنتم صادقين في دعواكم بمحبة الله عز وجل فاتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {وإن تطيعوه تهتدوا}[سورة النور: 54]؛ أي: وإن تطيعوا الرسول صلى الله عليه وسلم تهتدوا، ومن مفهوم الشرط دلالة ضلال من يعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسأل الله السلامة لي ولكم.
اللهم ارزقنا صدق الإخلاص لك في القول والعمل، واجعلنا من عبادك المُخلَصين.

صفية الشقيفي 13 محرم 1445هـ/30-07-2023م 11:13 PM

عبادُ الرحمن

لمَّا أخبر الله -عز وجل- عن جحود المشركين واستكبارهم وإنكارهم لاسم الله الرحمن، كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)} سورة الفرقان.
جاء الرد عليهم في الآيات بعدها في محورين:
الأول: بيان بعض مظاهر رحمة الله في الكون والتي لا ينكرها أحد، كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)}
فمن أراد أن يتذكر أو أراد شكر الله عز وجل على آلائه بتوحيده في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ومنها اسم الله الرحمن، يكفيه النظر في هذه الآيات.

الثاني: بيان صفات عباد الرحمن، الذين أضافهم إليه تشريفا وتكريما لهم، كما قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} وحتى قول الله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)}
وفي الآيات وصف عباد الرحمن؛ نفوسهم زاكية وقلوبهم مخبتة وآمالهم عالية، ترفعوا عن مواطن السوء وتعلقوا بالرحمن فجزاهم بما صبروا أعالي الجنان!
وأي شرف أعظم من أن يجعلهم الله عز وجل دليلا عليه !
فإذا كان المشركون يسألون -جحودا واستكبارا-: (وما الرحمن)
جاءهم الرد ... انظروا في آلاء الله عز وجل، وانظروا إلى عباد الرحمن، تتعرفون إلى الرحمن - سبحانه-!

فأي شرف بعد هذا ؟!
وفي مثل هذا يقول ابن القيم -رحمه الله-
" وحسبي انتسابي من بعيدٍ إليكم *** ألا إنّه حظ عظيم مفخمُ
إذا قيلَ هذا عبدُهُم ومُحِبُّهُم *** تَهَلَّلَ بِشْراً وجهُـهُ يَتَبَسَّمُ
وها هو قد أبدَى الضراعةَ سائلاً *** لكمْ بِلِسانِ الحالِ والقـال مُعْلِمُ
أحِبَّتَهُ عَطْفًا عليهِ فإنهُ *** لَفِي ظمأٍ والمورد العَذْبُ أنْتُمُ "

اللهم بلغنا.

صفية الشقيفي 18 رجب 1445هـ/28-01-2024م 10:15 PM

﴿إِنَّمَا المُؤمِنونَ الَّذينَ آمَنوا بِاللَّهِ وَرَسولِهِ ثُمَّ لَم يَرتابوا وَجاهَدوا بِأَموالِهِم وَأَنفُسِهِم في سَبيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقونَ﴾ [الحجرات: ١٥]

لا يصح الإيمان إذا خالطه الشك، كما دل عليه أدلة كثيرة.
لكن في هذه الآية قال الله عز وجل: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا)
ولم يقل (ولم يرتابوا)
والعطف بحرف (ثم) يفيد التراخي، أي نفى عنهم الشك بعد مدة من الإيمان، وهذا يفيد معنى آخر، أنه توالت عليهم السنون، ومعها شدائد ومحن تبتلي صدق إيمانهم، ومع هذا لم يرتابوا ولكن جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، لهذا خُتِمت الآية ب (وأولئك هم الصادقون)، ذك، نحو هذا المعنى أبو حيان في تفسيره.

رب أدخلنا مدخل صدق وأخرجنا مخرج صدق واجعل لنا من لدنك سلطانا نصيرا.


الساعة الآن 02:29 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir